** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
العبور الى الجسد I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 العبور الى الجسد

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هذا الكتاب
فريق العمـــــل *****
هذا الكتاب


عدد الرسائل : 1296

الموقع : لب الكلمة
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

العبور الى الجسد Empty
25102010
مُساهمةالعبور الى الجسد

أ - مكان الجسد.
العبور الى الجسد 26-1-4للجسد في الفكر الإنساني حضور خالق لإدراك الكائن للمكان والزمان. فالكائن يدرك ذاته وغيره بالجسد. بل إن تصور العوالم الغيبية نفسها لم يحد عن منظومة الجسد. فآلهة الميثولوجيا مثلا اتخذت صورة الجسد البشري وتوارثت سلالاته.
الجسد مكان تناقضات لامنتهى لها. مكان العفة والشهوة، الحجب والسفور، الخطيئة والتوبة، الكمال والنقص، الخطأ والصواب،اللذة والألم، الحرية والعبودية، الأسر والانعتاق، المادة والروح، المتعة والزهد...
في بدئه خلق الجسد كاملا في أحسن صورة، ثم آل إلى نقص فانبثق القبح من جماله. وهذا سبب بحث الكائن الدؤوب عن الجمال لأنه يبحث عن كماله المفقود. خلق الجسد الأول كاملا في الصورة ناقصا في العلم برغباته جاهلا بعواقبها. ووعيه برغباته هو ما أوقعه في الخطيئة. ولذلك يمثل انحرافه الدائم نحو الخطايا انتقاما من الجهل الذي ولد به. الخطايا ليس بمعناها الأخلاقي ولكن بوصفها انتهاكا لأقاصي الرغبات واندفاعا لتلبية هتافات الجسد القصية.
خلق الجسد الأول كامل الصورة ناقص العلم نافرا من التعاليم فائض الوجود. ثم تحول فيضه الوجودي الجسدي إلى جسد جديد هو جسد الأنثى. لم يتعلق الأمر باستخراج نسخة غير مؤثرة على الأصل. بل ببتر في الجسد الذي لم يكن فيضه زائدا عليه. لقد تم إحداث فجوة وفراغ في كينونته. لكن الجزء المقتطع وهو المعلوم عنده، بدا كائنا مجهولا لا يعرف منه إلا مادته التي يتحسس فيها جسده الأصلي ممسكا بالفراغ الضائع فيه ساعيا لاسترجاع كماله بالتوحد بطرفه الآخر. إنه كمال مؤقت وليس أبديا. إدراكه أن المرأة لا تحقق له ديمومة الكمال المفقود، قد يكون بسبب تعميمه صورة الجسد الأنثوي على كينونات كثيرة واقعية وغيبية ومتخيلة واضعا تعاليم للاستفراد بها.
المرأة نفسها كثيرا ما تجد مناسبا أن تتقمص تعاليم الصون بأن تصون جسدها وتحجبه قابلة بالتعاليم التي وضعها الرجل. لكن الرجل وضع تعاليم الصون إما لتأكيد الحيازة والملكية التي بها يثبت دوام وجود الجسد المنذور لردم الهوة القائمة فيه، أو وضعها للحد من اندفاعاته ورغباته لأن ذلك يؤدي في آخر المطاف إلى صراع حول الحيازة.
لكن المرأة في صونها الجسد تنتقم من التبعية للأصل مدافعة عن صورة وجود خاص بها، ولا يسمح لها في كثير من الثقافات الذكورية حتى بالجهر بحبها. ولا ترغم على صيانة الجسد وحده، بل أيضا على صيانة الرغبة والنظر والكلام. ويحدث أن ترضى المرأة بهذا الوضع وتنتظر طويلا إلى أن تتأكد أنها الجسد المناسب لسد فراغ معين في جسد رجل ما. حينئذ تندفع بكامل انخطافاتها لحضنها الأول. الأصل في المرأة أن لا تبيح جسدها للجميع، لأن ذلك يفقدها الاطمئنان على الهوية التي من أجلها وجدت، أي أن ترجع لأصل الجسد، أما حين تختار خلاف ذلك، فبدافع الانتقام من التبعية لذلك الأصل.
أما انصهار الطرفين فهو ما يمنحهما الإحساس باسترداد الذات الأولى وبجوهر الخليقة. غير أن هذا الانصهار لا يحدث في العادة حدوث الكمال الذي وجد من أجله الكائن بل حدوث النقص الذي ظل يلازمه منذ أن ربط جسده بالخطر وخراب العالم، فحوله إلى منطقة محظورة عن البصر مقننة في الاستعمال، مدربة على الحدود.
لا يواجه فعل الجسد وحده بتلك الحدود، بل تواجه بها لغته أيضا. فما أن يقترب الجسد من مناطق الذكورة والأنوثة حتى يصطدم بجدار الصون، فيتحدث بلغته ماعدا في بعض حميميات السر. وقد يجهر بحالاته الحميمة متحديا سلط الوصايا. وليست الأهمية في التحدي في حد ذاته، بل في تحويل الجسد إلى حقل كتابة وتحويل الكتابة إلى حقل جسد. الكتابة بما هي افتراع للبكارة وعطش للبياض وانطلاق للغة وتلبس بالمتخيل. ويكون الشعر في هذه الحالة سكنا مناسبا لرغبات الكائن، إذ يمنحه حميمية البوح والوجدان ويفتحه على مجاهل المعنى والمجاز، فيقول ما تعجز سطحية اللغة عن قوله.
الشعر مقترن عامة بالجسد. يمدحه أو يهجوه، يصف تفاصيله أو حركاته، تعاسته أو سعادته، لذته أو ألمه، وجوده أو غيابه، مادته أو روحه. الأنا نفسه الذي نواجهه كثيرا في الشعر جسد في حد ذاته.
لسنا معنيين على كل حال في هذا السياق بتاريخ الجسد في الشعر، ولا بتجلياته المختلفة. نهتم أساسا بتمثلاته الكبرى في ديوان "سر من رآك". ثم إن الجسد لا يعنينا هنا سوى باعتباره متأمكنا أو دالا على المكان، ولا نهتم من تأمكنه في هذه الحالة سوى بوصفه تجليا للرؤية العبورية الراسخة في صورة أمجد ناصر عن نفسه وعن المكان. نقصد الرؤية العبورية التي يبدو فيها الكائن منذورا للرحيل الدائم ولقلق مكان يسعى لامتلاكه والانملاك به. فلا يواجه منه سوى بالفقد لأنه ليس مكانه الخاص المحلوم به. فالكائن العبوري في شعرية أمجد ناصر كائن بلا مكان ولا وطن، يحمل زمانه الذاتي والغيري على كتفيه أو في أغواره ماضيا نحو الاغتراب في الترحل والإقامة، وفي الذاكرة والمصير.
في ضوء ذلك نربط بين الجسد والمكان والعبور. إن الجسد يتحول إلى مكان لأنه يختزل كل الأصقاع التي يمر بها الكائن حاملا معه أصداء الماضي. إنه مكان الرغبات وأصل الخلق وهتاف المصائر. يتسع بالرمز فيحتوي الكائنات والأعالي والمغاور والتخوم النائية وشساعة الجغرافيا. إنه أيضا المكان البسيط والحميم الذي يحضن الكائن بالدفء.
إن المكان يتحول أيضا إلى جسد باستعارته للرغبات والأعضاء والحالات، ولأنه في آخر المطاف لا يتحدد إلا بالجسد، بميوله نحوه أو نفوره منه، بألفته معه أو غرابته عنه، بامتلاكه أو افتقاده، بكل القيم التي يسكنها الجسد في صوره.
إن الجسد غير منذور للإقامة إذا كان متصدعا بشقاء وعيه. لأن إقامته تعني موته. وموته يعني ولوجه عبورا جديدا. يعبر الجسد في المكان ويعبر المكان في الجسد. يعبر الجسد نحو الجسد وفيه. يعبر الجسد في الزمان، وتعبر في الجسد الأصداء الغابرة ومصائر الحاضر والمستقبل.
إن الكائن في شعرية أمجد ناصر يعبر نحو الجسد كعبوره في المكان الجغرافي. إنه العبور المتاهي الذي يواجه العالم باليتم فيسترجع فيه الكائن طفولته وربما حيوانيته هائما يقتفي أثر رائحة الجسد المبحوث عنه. يصبح هذا البحث بمثابة طقس جمعي لقطيع من الأجساد، بينما يتحول الجسد المبحوث عنه إلى حالة احتجاب تنيب عن حضورها رائحة ثيابها. بين الرائحة بحسيتها والثياب برمزيتها، والبحث بجمعيته، والاستنشاق بتشبعه، والأشجار بخباياها، والمرأة بحضورها وغيابها، تشكلت لغة العبور في هذا المقطع:
" بين الأشجار شممناك
ركضنا وراء الرائحة
فأوصلتنا إلى ثيابك
مرغنا وجوهنا
واستنشقنا بالمجامع" (ص 59)تتحول الذات الباحثة أحيانا إلى ما يشبه الكائن النبوي الذي كلما اكتشف كوكبا أو نجما ظنه الخالق. الكائن مثيل له في الجنوح بالمغامرة والعبور باليتم والفقد :
" جنحت إليك بلا دليل
قلت يا بشرى هذه أرضك لاحت". (ص 99).إن الكائن منذور للعبور الدائم سواء في حالة بحثه عن الجسد الأنثوي بماديته ورمزيته، أو في حالة مواجهته له. في الحالة الثانية يصبح الجسد مكانا لمهاوي الأعماق والارتطام بأرجائها، بينما الكائن الباحث عن إقامة عارية من الأقنعة يظل غريبا هناك كما في الجغرافيا:
" مركبي جنح في مضيق الشهقات
وطفقت أبحث عن مستقر
ليدي العمياء" ( ص 105) وسواء أكانت اليد عمياء أم كان الكائن نفسه أعمى، فليست الرؤية البصرية في حالة عبور ظلمات المكان الجسدي هي المصدر الوحيد للمعرفة. لأن الكائن يرى باشراقات حسه ومجامع مادته. إن مفارقات الكائن تنشأ ههنا بالذات. فبقدر انغماسه في المادة يقهر كثافته ويذوب لحد التحول لأنفاس متصاعدة في مرتقيات الجسد. فبصيرورته أنفاسا يستعيد خفته ويلبي هتافات الأعالي بما هي رمز للحرية والقداسة. من التلاشي في المادة تنفتح إذن فجوات العبور للمقدس. وفي مناطق الشبق المثيرة بشكلها ولونها واستجابتها تلمع مصائر العابر وتواريخ أسلافه. غير أن هذا ليس متاحا للكائن إلا إذا كان مدركا أن ذاته منذورة للصيرورة في حالة اختراق دائمة لا ترضى بسطح المكان، بل تنقذف في تيهه ومجاهله.
في ديوان " سر من رآك" انعطاف لافت للقراءة من جهة انشداد النصوص لموضوع الجسد. الجسد ههنا جامع أحوال وعلاقات، انخطافات الفتن الشبقية، شتات الرغبات، تعارض القيم، تيه المصائر، تصدعات الأزمنة، فقدان الجغرافيا، سراب الامتلاك...
يتأمكن الجسد بكلمات الخصوبة: الندى، الماء، الزيتون، العشب، القطاف، الحقل...وبكلمات المعابر: السفح، الشقوق، الحافة...وبكلمات الشكل: الاستدارة، الخاتم، تكور...وبأفعال الحيز: الأفعى تنزلق في النداوة، الصهباء ترشح من العطفات، القطار يعبر صفين من الأشجار. السهم يشق طائر الأكمة...
لقد تأمكن الجسد بكلمة العبور ذاتها وما تحدد بها ككلمات الوصول والعودة والارتقاء. يبدأ نص "معراج العاشق" بهذا المقطع :
" ولدت بهذا الاسم لتكون لك ذكرى
ترددها أمطار
طويلة
صامتة.
بهذا الاسم ليأتي إليك عابرون
سيماهم من ليلك، على وجوههم
مستوحشين
خاسرين" (ص 53)نلاحظ بدءا أن المتكلم تعمد إخفاء اسم المخاطبة مع استعمال اسم الإشارة إليه. إن معرفة الاسم خاصة به، بتجربة عبوره وعبور من شاركه المعرفة بالاسم. فالمخاطبة تصبح محجا للعابرين الذين يعرفونها بجوانيتهم ويمتلكونها باللغة. إن الاسم وحده هو ما أضفى الخلود على الجسد ونقله إلى امتداد كوني تتصادى فيه اللغة (الاسم) بالصمت. أما العابرون الآتون عزلا سوى من الخسارة والوحشة، فمنخطفون بالاسم. كأن اللغة هي التي تتصاعد بالنداء على أغوارهم السحيقة في الماضي.
ب - رؤية الليل.
في المقطع السالف ارتباط واضح بين العبور وبين الليل. واللافت للقراءة أن الارتباط المشار إليه لم يحدث في المقطع المذكور وحده، بل في سياقات مختلفة وردت فيها كلمة العبور وما اقترن بها مجاورة لكلمة الليل ومادل على الظلمة. لقد تحولت الكائنات العابرة في المقطع أعلاه إلى كائنات ليلية بامتياز مادامت سيماها من ليلك بادية على وجوهها وكأنها علامة هوية. بلوغ الجسد في هذه الحالة يمثل عبورا بالمكان المظلم إلى مكان جديد ينجذب الكائن إلى سلطته الاسمية. قد يكون المكان الجديد مكان ضوء أو ظلمة أخرى تشهد على خسارات العابرين طوعا أو قسرا طالبين اللجوء إليه مع أنه لاينطوي سوى على ألم:
" نعود إلى يديك لنروي اطلاعهما على الحطام
وغلبتهما على الحب
الذي تلمسين جرحه فيندى''. ( ص 54)ولننظر في هذه النماذج المتفرقة من الديوان:
- يعبران سياج الوحش.
فيضيئان ظلمة قلبه.
- بأبواقهم عبروا الليل
يلمعون بزيت المهن
- تتبعه النيازك
عبر قبورا بيضاء.
- يرمي حطبا في جوف الليل
ويعطي العابر أوصافا.
- سيمرون على أنفاسي يقظانة في المعابر.
أنا الذي أعطي الغرباء كلمة ليفتحوا قلب الليل.لاشك أن القراءة لا تخطئ في ملاحظة العلاقة بين العبور وبين الليل والضوء. فالعبور يمثل هوية وجودية يتغلب بها الكائن على الظلام. بالعبور تضاء ظلمة الليل ويوصف جوفه ويفتح قلبه، وبالضوء يتم إخضاع الوحش وتخترق الظلمة وبياض القبر.
للغة فعل في هذا العبور لإنها هنا كلام الواصل بمعنى صوفي جديد. الواصل الذي ارتقى في أحوال الجسد حتى غدا أنفاسا. الكائن الواصل الذي يسهر على إنارة جوف الليل لأجل رؤية ما يعجز الآخرون عن رؤيته، فيصبح مرشدا لهم بالوصف ليعرفوا ما مور به الأعماق المظلمة. وبالقوة التي يودعها في سحر الكلام يتمكن الغرباء من اقتحام جسد الظلمة.
إن الحطب الذي يلقى في جوف الليل، ليس رمز أيروسيا فحسب، بل أيضا رمزا تطهير وعنصر وجود. إنه مأوى لضوء المقدس ونار المدنس. لكن ليل الجسد حاجب لرؤية البصر، حتى أن فعل الرؤية يصبح في حد ذاته اختبارا للبداهة. فمن أقوال الكائن الشعري :
" أرينيه ناهضا من نومه
مغمورا بالوعود
على غرته ندى
وفي أقراطه رمان.
أريد
أن أراه
خارجا من خدره
جاذبا إليه.
ريق الصباح" (ص 50)ما موضوع الرؤية؟ ههنا احتمالات، واحد منها قد يكون هو جسد المتكلم في حضور الجسد الأنثوي، وآخر منها قد يكون جسد الأنثى. يؤشر الاحتمال الأول إلى أن يقظة جسد الكائن وهي علامة وجود بالنسبة له، تظل محتجبة كامنة ما لم يعبر إليها الجسد الأنثوي. فبعبوره إليها يدرك الكائن المتكلم، طالب الرؤية، أن وجود الجسد في هذا الاحتمال متوقف على الآخر بوصفه خارق حجب وكمون، باعث حياة وحركة وإخصاب.
ويؤشر الاحتمال الثاني إلى أن الكائن المتكلم مندفع للاكتمال برؤية الغامض المحتجب، المتستر الخصيب، الممتنع الذي يجر إليه بدء الحياة وطفولة النهار والضوء. وربما احتمل المقطع السالف وقوع الرؤية على موضوعي الجسد الذكوري والأنثوي في حركتين تقع كل واحدة مفعولة بإرادة الرؤية. فالرؤية الأولى تخرج الجسد من النوم، وتخرج الثانية الجسد من الخدر. فالنوم والخدر فضاءان لتكون الجسد واحتجابه. أما الرؤية فتخرق ليل هذين الفضاءين ناقلة الجسد إلى المرئي الفاعل بالتواصل المادي.
الإلحاح على الرؤية يمثل تحديا للمحظور، فعلا في الظاهر لا الباطن، تحديا للعمى الذي جعلته الوصايا يصيب من يتجرأ على النظر في المفاتن، وتحديا للعين التي اعتبرت زانية كي تحجب عن الرائي إحساسه بالخوف الفادح من الجسد.
للعين حضور بارز في خلق صور المتخيل، حتى أن النصوص تتحول إلى مشاهد حركية مفعمة بالتفاصيل الصغيرة والألوان. إن عنوان الديوان ذاته يؤكد مركزية النظر في شعرية هذه النصوص. إذ أن رؤية الأنثى سواء أكانت مادية أو رمزية هو ما يبعث السرور في الرائي. السرور بوصفه لذة وافتتانا يتحققان بالتواصل البصري والتشبع بجماليات المرئي واندفاع الرغبات الخبيئة نحوه. أما الإحالة الواقعية التي يتضمنها العنوان فتؤكد ما رمناه. لأن المدينة العراقية التي حملت اسم " سر من رأى"، وصفت بذلك لجمال معمارها وحدائقها. ما حدث في شعرية أمجد ناصر هو نقل المرئي من المكان التاريخي الواقعي إلى المكان الجسدي بآنيته وتاريخه معا. وهو أيضا تعيين المجهول في عنوان المدينة إلى المعلوم في عنوان الديوان.
الفرق بين رائي " سر من رأى" ورائي " سر من رآك"، أن فتنة الأول فتنة بصر يظل فيها الرائي منفصلا عن المرئي ولا يملك منه سوى الصورة. إن المدينة ليست ملكه، بل ملكا للخليفة العباسي. أما الرائي فليس له سوى التشبع بصورة الجمال الفائض عن فعل الآخر لا عن فعله هو.
أما رائي " سر من رآك" فليس صائد صور أو عابرا بالعين. بل عابرا بالجسد. فليس يرى الأشكال والألوان والحدائق منفصلة عنه، بل يراها في حيازتها والالتحام بها وعبورها في وجودها. ليست الرؤية إشباعا منفصلا عن المرئي، بل تحريرا لرغبات متزاحمة وجعلها تندفع نحو خرائط الجسد وأسراره. وفي المقطع السالف عبرت الرؤية عن إرادة ظهور المنحجب ودفع مكانيته للارتواء بالزمان. ونقرأ من نص " معراج العاشق":
" سر من رآك
من وضع يدا على صابونة الركبة
من غط إصبعا في السرة
واشتم سرا
سر من أسدل مرفقا
على ضمور الأيطل
من شارف النبع وشاف" ( ص 63)يتأسس هذا المقطع بواسطة العلاقة بين الكل والجزء. فالكل يدرك بالرؤية والجزء يدرك بمتوالية من الأفعال ذات المرجع الحسي. أما السرور فلا يتحقق سوى بالحيازة والامتلاك، سواء في ذلك الحيازة بالعين، أو الحيازة بالمرفق. إن الرائي لا يكتفي بالصورة وإنما يتعداها أيضا إلى الفعل في الجسد. فليس الجسد كالمدينة. لأن علاقة الرائي بالجسد علاقة تداخل، فهو يحوله إلى موضوع خاص به يخترقه نحو مجاهله.
وإذا كان مكان الجسد كمكان المدينة من حيث كونه مكان حدائق أيضا، فإن رائي الجسد بخلاف رائي " سر من رأى" يرى ما لا يرى، يرى في المجاهل والعتمات. إنه الرائي الأعمى أيضا، ولص أعالي الصيف الذي يتحدى الحراس، مستجيبا لنداء الجسد الذي تبذخ حدائقه واهبة ثمارها للأعمى( ص117).
إن الرائي قد يتعدى رؤية البصر إلى أشكال أخرى من الرؤية الحسية كالرؤية بالرائحة التي يتغلب بها الكائن على العمى:" كأننا عمي نراك بالرائحة"(ص 56). بل أن العمى حين يتعلق باليد العمياء (ص 105) يصبح مقوم فحولة تائهة في أوج مجدها وتطلعها. فالذكورة تتحول استعاريا إلى يد، وتتحول اليد بدورها استعاريا إلى عين، ثم يتشاكلان في العمى بوصفه حجابا، يخترقه الجسد بحواسه المختلفة. فالعين البيضاء من الفرح (ص 56) عمياء أيضا بسبب اللذة.
إن بياض الجسد يصبح مركزا لإدراك الكائنات والأشياء، حيث يتحول السواد نفسه إلى بياض: " أبيض هذا الليل بقلب أسود". (ص 29) فالسواد ينغرس في صلب الظلام فيتحول الليل إلى بياض كما لو أنه يتصدع بهذا الاختراق الذي يحدث في أغواره. البياض يقهر الليل لأنه ضوء شبيه بنار الحطب التي يلقيها الكائن في جوف الليل (ص 98).
البياض بصيرة أيروسية تنقلب بواسطتها معادلات العبور الجسدي من النور إلى الظلمة. تغدو معادلات لمعابر تنمحي فيها الحدود بين البياض والسواد. فبياض نور الرؤية يصبح سوادا. وسواد الفتنة الأنثوية يصبح بياضا. كذلك يتولد البياض من سواد الذكورة. ومن ليل الأنوثة :" المرأة تنشر أبيضها" (ص 27).
ومن بصيرة الأيروتيكا تتصاعد الفجائع بارتجاجاتها التي تجعلها منفلقة بالمفارقات. هكذا تواجهنا في لغة أمجد ناصر لغة لجسد البياض بدلالات متصارعة : بياض الفرح، بياض القبر، بياض الكفن، بياض الليل، بياض الزبد، بياض الموت، بياض الاستدارة، بياض الغيم الممطر، بياض الندم والنوم، بياض الطاعة، بياض الضراعة، بياض الرائحة...الخ
وبقدر ما يمثل البياض المحو والعدم وارتفاع الحواجز واختراق الحدود، فإن العبور به أو إليه يتأسس في شكل حركة صدامية تبدو فيها العلاقة بالجسد علاقة عنيفة شبيهة بمخاض ترتج فيه أطراف الكون وهي تتحد ببعضها في فعل صهر وانصهار
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

العبور الى الجسد :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

العبور الى الجسد

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: تـــــــــاء التأنيث الـــــمتحركة زائر 745-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: