شبقية المحرّم في الإيروتيكا العربية
مفيد نجم
القارئ لأدب الإيروتيكا العربية لا بد أن يتساءل عن الأسباب التي جعلت موضوع الجنس وأدب اللذة في الثقافة العربية الراهنة، يتحول إلى أحد التابوهات التي يصعب اختراقها، ومن يغامر بمحاولة كهذه تلحقه النعوت والاتهامات، في حين أن أجدادنا لم يكن هناك أي مانع يحول بينهم وبين الكتابة في هذا الموضوع المحرم راهنا، خاصة أن الذين كتبوا واستفاضوا في هذا الشأن كانوا شيوخا بالمعنى الديني كالشيخ النفزاوي في كتابه “الروض العاطر في نزهة الخاطر”، والشيخ أحمد بن سليمان بن كمال في “رجوع الشيخ إلى صباه”، أو الشيخ الرئيس ابن سينا، أو الشيخ محي الدين بن عربي في كتابه “رسالة الروح القدس”، أو القاضي ابن حزم في كتابه “طوق الحمامة”، إضافة إلى الأصفهاني في كتاب الأغاني الشهير، أو كتاب ألف ليلة وليلة وغيرها. فهل كانت الثقافة العربية في ماضيها أفضل حالا مما نحن عليه الآن من حيث الحرية، وإذا كان الأمر كذلك، ما الذي يجعل هذه الثقافة تتنكر لتراثها وتحاصر نفسها بالمحرمات، وكأن شيوخ الإسلام الذين أفاضوا في الحديث عن الجنس وأنواعه وكتبوا فيما يحرِّض على الشهوة، وفي تفاصيل ما ترغبه النساء من الرجال لم يكونوا من المسلمين؟
الفلاسفة والنساء
ما أعادني إلى طرح تلك الاسئلة هو كتاب الباحث المغربي عزيز الحدادي الفلاسفة والنساء الصادر عن دار رياض الريس، والذي يحاول فيه تقديم قراءة شبقية للمسكوت عنه في نصوص الفلاسفة العرب والمتصوفة والفقهاء والأدبيات الشعبية تتغيا الكشف عن دلالات هذه الشبقية ومعناها، مبينا حدود سعيه في هذه القراءة التي تقع عند حدود الإصغاء لنداء الجسد، والإنصات لمقولات فن النكاح من أجل تفجير هيرمونطيقا الذات، ذلك أن تقنية الذات تقع عند الفيلسوف على تخوم المطلق الذي تتقاسمه الرغبة بين فن التأويل وفن الجماع، أو ما يسميه الحدادي بفن الحياة.
انطلاقا من هذه القراءة يرى الباحث أن الحياة الجنسية عند هؤلاء الفلاسفة كانت تختفي وراء حجب اللوغوس وعنف الميتافيزيقا، وهو ما جعل فيلسوفا مثل سقراط يدعو إلى مشايعة النساء بين حراس جمهوريته، من أجل تحقيق النظام والاستقرار لهذه الجمهورية. لقد ظلت الحياة الجنسية لهؤلاء الفلاسفة بعيدة عن التداول بعد أن غدت من المحظورات التي شكلت قطيعة بين ماضي هذه الثقافة وحاضرها.
اللوغوس واللذة
في قراءته لمفهوم اللذة عند الفلاسفة وعلاقة العقل اللوغوس بالجسد يتوقف الحدادي عند ما يقوله سقراط حول الكيفية التي يمكن أن يحقق فيها اللوغوس كماله وغايته، من خلال انفصاله عن الجسد، باعتبار الجسد مصدرا للقلق وللذة والنشوة الحارقة لكيمياء الروح، وفعلا مقاوما للشيخوخة والموت؛ حيث تتحول اللذة وسيلة للتوحد مع الأبدية، ذلك أن الأنا التي تفكر وتتغيا هذا الانشطار الذي يجعل من الفرح عبادة وتكريما لشبقية الجسد من خلال بهجة الشهوة والذوبان فيه، هي الأنا التي تخضع لسلطة اللوغوس. لكن سقراط الذي كان يحتقر لذة الجماع ويراها لا ترتقي إلى مرتبة لذة الحكمة كان يسعى لتخليص الجماع من رمزيته الوجودية الساحرة.
على العكس من هذا يرى الباحث أن الشيخ الفيلسوف ابن سينا قد تمرد على تعاليم سقراط وأفلاطون وأرسطو عندما اعترف في سيرته الذاتية بشغفه في الجماع إلى درجة أنه كان السبب الحقيقي في موته. في حين أن الشيخ محي الدين بن عربي رأى فيه فاكهة سوق الجنة وبرهان العسل.
تفجير لهيرمونطيقا الذات
سر الأسرار
يفرد الحدادي للحديث عن كتاب سر الأسرار لأرسطو حيزا مهما يكشف فيه عن الكيفية التي استطاع من خلالها المترجم يوحنا بن البطريق اكتشاف هذا الكتاب وترجمته إلى العربية، ثم يبين أن هذا الكتاب المنحول لا علاقة له بأرسطو نظرا لاختلاف الأسلوب والمفاهيم واللغة عنه في كتب أرسطو.
رغم ذلك لا يخفي احتفاءه بالكتاب بوصفه يقدم كشفا للقارئ بالحياة الخاصة لأمير المؤمنين من حيث المأكل والمشرب والحياة الجنسية والفصول التي تساير مزاجه وأصناف النساء اللواتي يستهويهن على مدار الفصول، التي يفرد لها أبوابا يفيض في الحديث فيها عن علاقتها بالشهوة وأحوال الجنس.
وفي النهاية يؤكد الباحث أن هذا الكتاب هو كتاب المتناقضات لأنه يجمع بين الحكمة والشعوذة والسياسة والسحر وحفظ الصحة وتدميرها وشبقية الجماع وتفاهته. أما ما يتعلق بكتاب الروض العاطر الذي ينسب لمؤلف مجهول لا أحد يعرفه فهو موسوعة مختصرة وشاملة لكل فنون القول، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كتاب رجوع الشيخ إلى صباه. هنا يتوقف الباحث للكشف عن العلاقة المفترضة بين كتاب سر الأسرار المنسوب لسقراط وكتب الإيروتيكا في الإسلام، خاصة وأن مؤلف ذلك الكتاب يتعامل بمكر مع موضوع الشهوة إذ ينقل القارئ من صخب اللذة الجسدية ومتعتها إلى اعتبارها مدمرة لبراءة الوجود وملتهمة للأحلام الجميلة.
الجسد كهدية
يروي الباحث سيرة الشيخ الرئيس ابن سينا وعلاقته بالعلم كما رواها هو لتلميذه ورفيقه أبو عبيد الجوزجاني، حتى إنه كان يكتب في النهار ما كان يحلم به في الليل، إضافة إلى إقباله النهم على ملذات الحياة، وهو ما يدفع بالبحث في علاقته مع المرأة التي كان مغرما بالعلاقة الجسدية معها حتى استهلك جل حياته بعد أن أصبح ضحية لذلك الوحش الذي يلهب جسده العليل، ويعود به للبحث عن اللذة.
ولعل المفارقة التي وسمت تلك الحياة أن صاحبها الذي كان يعد الفيلسوف العبقري الذي أبهر الجميع كان في الآن نفسه عليلا هشا حيث لا يساير جسده قوة نفسه. ويرى الحدادي أن هذا الفيلسوف الذي (اضطر للإقامة في الليل الروحاني الممتلئ بالرموز ظل يبحث له عن سر أسراره فلم يجد غير اقتسام عمره بعومة فائقة بين ميتافيزيقا الروح وخيمياء الجسد الذي يقضي نصف عمره في النوم).
استعان ابن سينا بالطب في كل مرة كان يشعر فيها بالصراع بين النفس والجسد لكي يحقق التوازن لحياة قلقة، ما كان يضطره كثيرا لحقن نفسه مرات عديدة في اليوم بالأدوية حتى تهالك جسده من كثرة الكتابة والجنس.
نساء الأندلس
يعد ابن عربي ظاهرة روحية خاصة كان الحب عنوانها الأكبر، لكن الدخول إلى شخصيته من أجل فهمها وعناصر التأثير بها تدفع بالحدادي إلى البحث في علاقته باثنين من فلاسفة الأندلس، هما ابن حزم وابن رشد على الرغم من التعارض الذي يجده بين هذه الشخصيات الثلاث، التي تنتمي روحيا إلى التصوف والفقه والفلسفة، ولكنها تعيش تحت سقف واحد. يبدأ أولا بدراسة ابن حزم من حيث علاقته بالمرأة التي تتجلى في لاوعيه كالحمامة، بعد أن تربى في طفولته وشبابه بين النساء ما جعله شغوفا بالنساء ولكن علاقته الحسية معهن كانت تتسم بالبرودة، في حين أن ابن رشد الذي كان يقدس مذهب أرسطو قد اتسم بالبرودة حتى إنه لم يجد في الجماع سوى بذور ينتج عنها الجنين، وهو ما جعل سعادته الحقيقية أبدا في الكتابة والعقل. أما المتصوف ابن عربي فكان يفيض بالرؤية له وللآخرين حتى أنه بشر بالجنة في حياته. لقد جعله ذلك منتشيا بالجمال حتى الثمالة وفي مقدمته جمال المرأة في الأرض والجنة، حتى قال من لا قلب له لا يعول عليه.
لقد اعتبر ابن عربي أن سحر الجمال هو سحر الفناء وأن فتنة المرأة هي فتنة الإغماء حتى أصبحت المرأة عنده فتنة “يستخرج الحق بهن ما خفي عنا وفينا” كما يقول.