عبد ا
خطاب الموت في جدارية محمود درويش
كتبه
الأزمنة · 2015 - 05 - 12
كتبها: د.
مصطفى الغرافي – باحث في البلاغة وتحليل الخطاب.تثير قصيدة « الجدارية » لمحمود درويش سيلا جارفا من الأسئلة الحارقة التي تخص الوجود الفردي والمصير الجماعي. إنها رثاء استباقي لذات رقيقة حساسة حدقت طويلا في الموت واكتوت على نحو فاجع بالتواري والعدم. وهو ما سمح بتشكيل فضاء نصي يتسم بجدل متوتر بين الذاتي والكوني، الواقعي والخيالي، السردي والدرامي، الغنائي والملحمي، الغرائبي والفجائعي؛ فهذه القصيدة الأغنية والنشيد تتكئ على شرعية جمالية نسغها الحيوي سيرة شعرية تطمح إلى القبض على المستقبل/ المستحيل الذي يحتضن سؤال الوجود عبر لوعة الغياب وفجيعة الرحيل الكبير والأخير.
لقد أدت تجربة درويش الأولى مع قلبه العليل في منتصف الثمانينات إلى إنتاج نصوص غنائية ضمنها ديوانه « هي أغنية. هي أغنية » الصادر عام 1986 ويمكن أن نشير هنا الى قصيدتيه « حجرة العناية الفائقة » و « أنا العاشق السيئ الحظ ». أما في الجدارية فقد حاول الشاعر أن يتجاوز القصائد القصيرة والخاطفة ليبني قصيدة مركبة تقوم على الانفتاح النصي والاستفادة من الأسطورة والتصوف من أجل بناء مشاهد تزاوج بين الواقعي والخيالي، الشخصي والكوني، السردي والدرامي. وقد مكنتها هذه الاستراتيجية الجمالية من نقل التجربة الإنسانية والانفعالية في قالب فني وجمالي فاتن وأخاذ، حيث صاغت قصيدة الجدارية تجربة شاعر رقيق وحساس وضعته الأقدار في مواجهة مع الموت بكل أسلحته وجبروته في حين تقف الذات وحيدة في عزلتها القصية لا تملك سوى الجماليات تتحصن بها من أجل تأجيل موتها وتأبيد وجودها. لقد شيد درويش قصيدة خضراء عالية هي فردوسه التي يطل منها على الهاوية؛ فالجدارية عودة إلى الذات في أقصى لحظات الانتباه الوجودي وهي تواجه مصيرها الفاجع والأليم. وقد عبر درويش عن هذا الفهم الخاص لجوهر العملية الإبداعية بالقول: « أنا كشاعر مطالب بأن أقدم شهادة شعرية هي تراجيدية سواء تعاملت مع الخارق أم مع المألوف ». فكيف تعامل درويش جماليا مع موضوعة الموت؟ وما هي أهم الملامح الجمالية التي وسمت قصيدة الجدارية التي أرادها الشاعر رثاء استباقيا للذات؟
انكسار الروح:
« الجدارية » قصيدة طويلة، تكاد تقترب من شعر الملاحم أو الأناشيد الطويلة، وقد سبقتها مجموعة من القصائد التي تنزع إلى الطول، ويغلب عليها النفس الملحمي، كأداة فنية للتعبير عن نضال الشعب الفلسطيني، وتروي مأساة خروجه من أرضه. ولذلك تبدو هذه القصائد مسكونة بهاجس البطولة وتقديس البطل الذي تبشر بظهوره، ليخلص شعبه من محنة التيه والتشرد. ويمكن اعتبار هذه القصائد مقدمات فنية وتمرينات يجرب من خلالها، درويش أدواته الإبداعية تمهيدا للنشيد الطويل، الذي أعلن غير ما مرة عن طموجه لكتابته. لكي يكون بمثابة مسيرة شعرية، تستدعي شعر الملاحم وقصص البطولة، وتستحضر كل أشكال التعبير الشعري وأكثر الموضوعات خصوصية.
وقد كانت البداية عام (1975م) عندما كتب محمود قصيدته « تلك صورتها وهو انتحار العاشق ». وهو نشيد طويل للأرض الفلسطينية حيث أعطاها بعدا إنسانيا، تحولت من خلاله إلى معشوقة يرسم لها العاشق العربي آلاف الصور ولا يملك في النهاية إلا أن ينتحر من أجلها، لأنه لا يملك غير دمه الذي يحمله على كفه. مرورا بقصيدة « الأرض « التي تعتبر بمثابة « بيان شعري »، وأهم قصائد التحدي. حيث جاءت بمفاهيم جديدة للغة والبطولة والالتزام، كما عمق خلالها درويش مفهومه للحب وجعله مرتبطا بالأرض، التي لم تعد بعدا جغرافيا ماديا بل حالة وجدانية ثم « قصيدة بيروت » 1984م. وقد جاءت هذه القصيدة رثاء ملحميا ونشيدا جنائزيا لبيروت بعد اجتياحها من طرف الجيش الإسرائيلي عام 1982م.
وفي عام 1984م، كتب درويش قصيدة « مديح الظل العالي مما يعني أنها كتبت في جو يطبعه الإحساس الخانق نتيجة حصار بيروت 1982م الذي فضح هشاشة الأنظمة الرسمية، وكشف القناع عن الواقع العربي الموبوء، الذي يكرس الهزيمة والاستسلام.
لقد كان درويش يحلم دائما أن يكون شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة لكن التجارب الأليمة التي عاشها شعبه أملت على قصائده إيقاعا مأساويا حزينا وموجعا. لم تفسح له الأحداث الفاجعة التي تعاقبت على أرضه وشعبه مجالا لتدشين القول في البطولات التاريخية المنتصرة. لم يعد يملك أمام الخيبات العربية المتوالية سوى الغناء لانكسار الروح وتمجيد ملحمة الانتصار التي يصنعها الفلسطيني بدمه وعذاباته. وقد مثل هذا النوع من الغناء أرقى أشكال المقاومة لأنه يقوي الإيمان بالمستقبل العصي على الولادة لكنه الفجر الموعود الذي يتخايل بين أرواح الفدائيين الذين يقومون بأنبل الأفعال الإنسانية في مواجهة الموت والحصار : « تربية الأمل ». وبعد أن غنى درويش طويلا للشهداء أنهكه الموت الجماعي انكفأ على ذاته يبثها أحزانه وأشجانه في مجموعة من دواوينه الأخيرة مثل « لا تعتذر عما فعلت » و »لماذا تركت الحصان وحيدا » و « سرير الغريبة » إلى « حالة حصار » و « كزهر اللوز أو أبعد » وانتهاء بنص « في حضرة الغياب » مرورا بـ « الجدارية » التي كرسها درويش بكاملها لموضوعة الموت.
يظهر التأمل الدقيق في قصيدة الجدارية أن الرؤيا الشعرية فيها أصبحت تميل إلى الانكفاء على الذات، حيث تتعدد المشاهد وتتنوع من أجل نقل هموم الذات وأشجانها في تكثيف شعري فياض وأخاذ. لقد اكتملت أساطير الشاعر التي بناها من الاستعارات الفذة والحزن الشفيف. ولذلك أصبح الإيقاع في هذه القصيدة أقرب إلى غناء المهد، لأن العزف لم يعد جماعيا ملحميا يمجد البطولة التي تتخذ من الشهادة سبيلا لها وإنما أصبح عزفا ذاتيا منفردا يميل إلى الغنائية المشبوبة التي تفيض عن حدود الذات وتجري أسيانة عذبة :
بحر أمامى، والجدران ترجمنى
دع عنك نفسك واسلم أيها الولد
البحر أصغر منى كيف يحملنى
والبحر أكبر منى كيف أحملة
ضاقت بى اللغة ، استلسمت للسفن
وغص بالقلب حين امتصة الزبد
بحر علىّ.. وفى الأبيض ـ الأبد
والعزف منفرد
أدرك درويش في هذه المرحلة من مسيرته الفنية أن الشعر لا يقوم بدوره في التعبير والتثوير على نحو مباشر وهذا ما يفسر التحول النوعي الذي ميز قصائده الجديدة مقارنة بالقديمة. إذ بات يتعامل مع الاستعارات باعتبارها حقيقة. وهنا صك درويش أسطورته الشعرية. لقد كان طوال الوقت يشعر « بخداع الواقع من حوله وأن عليه أن يتجاوز الواقع إلى خلود الأغنية. ولذلك انهمرت أشعاره غاصة بهذه الكرنافالات الحاشدة بالبشر من التاريخ مرة ومن الحقول مرة أخرى وهو يبدو وكأنه في حاجة إلى أن يخاطب نفسه أكثر مما يخاطب جماهيره ».
عاد الشاعر في هذه القصيدة إلى ذاته يتأملها ويغني لها النشيد الطويل الذي طالما حلم بإنجازه. ومن هنا أصبح لشعره في هذه المرحلة شكل الغناء المتوحد الحزين والمكابر. إنه غناء الشاعر الممتلئ بتجربة إنسانية كبيرة وفجيعة لا يستطيع النفذ إلى كنهها العميق إلا بالغناء الشجي والشفيف. لقد أصبح الشاعر فيه هذه المرحلة « أكثر حزنا وأصبحت شخصية المحارب في الشاعر شخصية تحارب بلا أوهام. لقد فقد المحارب أوهامه لكي يبقى الغناء حيا. لقد أصبحت هذه المرحلة مرحلة الغناء الكلي الشامل زمعها أصبح الشاعر يغني دائما ومن أجل كل شئ ».
لقد بات الموت الذي يتهدد الذات الشاعرة معاناة وجودية يعيشها درويش بعمق فاجع. وهو ما جعل لحظة انتظار الموت تتحول إلى ضغط نفسي رهيب. ومن هنا شكل الموت في الجدارية حالة ذهنية يتعانق فيها الداخل والخارج نجم عنه جدل شعري لحمته وسداه حركة الخيال الشعري التي تتخذ اشكالا متنوعة بمعاونة جملة من الإمكانات التعبيرية الماتعة التي التي تجسد معاناة الذات في توهجها الشعري وهي تحاول تخليد كينوتها الرمزية. ولذلك تميز خطاب الموت في جدارية درويش بكونه يتأسس باعتباره احتفاء بالفجيعة والغياب، حيث تتحول المعاناة التي تتخذ صورة الفجيعة إلى حضور جمالي فياض وشفاف.
في هذه القصيدة التي يعتبرها درويش معلقته الأخيرة ص: 36 يعتصم الشاعر بوحدته يصيخ السمع لذاته ويغني لفجيعته لكي يصوغ ملحمته الفريدة والمتفردة التي يواصل من خلالها ديمومة الخلق والإبداع وتجديد الرؤى مستلهما عبقريته الشعرية الفذة التي مكنته من الحفر عميقا في أخاديد ذاته التي امتأت بكل أسباب الغياب فبدأت تعد العدة للرحيل الأخير: (الجدارية ص: 104)
أما أنا – وقد امتلأت
بكل أسباب الرحيل-
فلست لي
أنا لست لي
أنا لست لي …
الجدارية نشيد الذات وهي تواجه مصيرها الفاجع والأليم. ولذلك جاءت القصيدة مفعمة ببلاغة الحياة المعتقة انطلاقا من إيمان الشاعر بأن الشعر الحقيقي لا يموت والشعراء الذين يستحقون هذه التسمية يعيشون طويلا بعد موتهم. ومن هنا كانت الجدارية تمثل نقشا غائرا تحفره الذات في ذاكرة الزمن حتى تقاوم غيابها ولذلك جاءت القصيدة مجللة بمهابة الغناء الفاجع والإيقاع الحزين. فهي النشيد الأخير التي أراد من خلاله درويش أن يكون ملاذا يدفن فيه جروح الذات في لحظة استثنائية تواجه فيها الذات موتها بجماليات الاستعارات المتوهجة التي تفيض عن حدود النص لتعانق الخلود. فقد كان درويش يتهيأ في هذا النص للموت لأنه يدرك أن لكل شيء نهاية : (الجدارية ص: 90)
لا شيء يبقى على حاله
للولادة وقت
و للموت وقت
و للصمت وقت …..
كل نهلر سيشربه البحر
والبحر ليس بملآن
كل حي يسير إلى الموت
والموت ليس بملآن
تجابه الذات في هذه القصيدة لحظة فاجعة وهي تتهيأ للغياب الكبير: (الجدارية ص: 81)
يكسرني الغياب كجرة الماء الصغيرة.
وقد حاولت الذات الشاعرة التغلب على العدم والغياب الذي يتهدد وجودها الجسدي عن طريق التأسي بخلود الإبداع الشعري الذي يساعدها على تأبيد كينونتها في ذاكرة الزمن: (الجدارية ص:67)
تقول ممرضتي: كنت تهذي كثيراً
وتصرخ بي قائلاً:
لا أريد الرجوع إلى أحدٍ
لا أريد الرجوع إلى بلدٍ
بعد هذا الغياب الطويل
أريد الرجوع فقط
إلى لغتي في أقاصي الهديل!!
وقد شكل الإسم بالنسبة إلى محمود درويش مسكنا رمزيا تأوي إليه الذات في أقصى لحظات الوحدة والغربة من أجل تأكيد هويتها وتأبيد وجودها. فإسم درويش « لم يعد فقط إسم الحالة المدنية بل إسم المؤلف الذي بنى أسطورته الشعرية الشخصية انطلاقا من زواج عسير بين الحلم الجماعي والشرط الجمالي المنفتح على إبدالات الشعر المعاصر والمساهم فيه من ثمة في صنع مشهد القصيدة الجديدة ومآلها في العالم… ملتمسا لنصه الانفتاح أكثر على على غبطة الحب من ضمن انفتاحه على سؤال الوجود في غنائية ملحمية تعيد ترميم عناصر الذاكرة لمقاومة الموت والإبقاء على وعد المستقبل ». ولذلك تبدأ القصيدة بالسؤال عن الإسم: (الجدارية ص:9)
هذا هو اسْمُكَ؟
قالتْ امرأة
وغابت في الممر اللولبي.
لقد جاءت العودة إلى الإسم باعتباره هوية الذات والمسكن الرمزي للكائن: (الجدارية ص:90)
لا شئ يبقى سوى اسمي المذهب.
لقد أراد درويش أن ينقش إسمه في ذاكرة الزمن. ولذلك عمد إلى تفكيك مكونات الإسم في تشكيل لغوي فاتن يستدعي إلى الذهن نظرة الثقافة العربية إلى سحرية الحرف الذي ينطوي على خواص غامضة تتصل بالمقدر ومكتوب في الغيب: (الجدارية ص:102)
واسمي ، إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي :
ميمُ / المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ / الحديقةُ والحبيبةُ ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ / المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً ، مريضَ المُشْتَهَى
واو / الوداعُ ، الوردةُ الوسطى ،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ ، وَوَعْدُ الوالدين
دال / الدليلُ ، الدربُ ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني /
ينطوي هذا التفكيك للاسم على دلالات رمزية وإيحائية تومئ إلى شاعر عاشق منكسر، قريب من تخوم الموت الذي يتهدد وجوده الجسدي. فكيف تعامل درويش جماليا مع الموت؟ وما أبرز العناصر التي توسل بها من أجل القبض على متخيل الموت؟
عناصر بناء متخيل الموت:
يشتبك درويش في الجدارية مع فكرة موته فيشحذ جميع أسلحته الفنية ويستثمر خبرته الجمالية من أجل القبض على الموت حالة ذهنية وشعورية يعيشها الشاعر بعمق وجودي وحسرة فاجعة، ويطمح درويش في هذه القيدة إلى أن يرسم صورة كلية للموت كما تتصوره الذات الشاعرة وتتخيله. مستفيدة في ذلك من مختلف الأدوات التعبيرية التي طورها درويش في مسيرته الشعرية المتدفقة. حيث يستدعي في هذه القصيدة عالما ميثولوجيا يزخر بالأبعاد الغرائبية، إضافة الى إشارات عديدة مستمدة من نصوص دينية وثقافية تغني التجربة الشعرية بما تقدم من بدائل تخييلية تمكن الشاعر من قهر الموت والتغلب عليه، حيث تشكل رموز الخصب والنماء، بالمفهوم الحضاري الشامل للكلمة. نقيضا لفكرة الموت التي يجابهها الشاعر ومقابلا لها. ولما كانت تجربة الموت تجربة فريدة واستثنائية فإن الشاعر يكشف في هذه القصيدة عن وعي جمالي يقظ يصارع الموت ويحاول التغلب عليه بتشكيل مجموعة من الصور، ترسم في مجموعها الصورة المتخيلة للموت، كما يوظف درويش استراتيجية جمالية تقوم أدوات تعبيرية يسترفدها من الأنواع الادبية المختلفة مثل لحوار الخارجي، والحوار الداخلي والسرد والتكرار، الذي يطور المواقف الانفعالية والحالات الوجدانية، ويصورها من زوايا مختلفة. من أبرز العناصر الفنية والجمالية التي سخرها درويش لبناء متخيل الموت: التشخيص الحواري والتخييل الحلمي والتشكيل الأسطوري والتفصيل السردي والترجيع الغنائي.
التشخيص الحواري:
من مظاهر الجمال في مراثي الذات عند درويش الحوار الشفيف الذي يقيمه الشاعر مع الموت، حيث يأتي الحوار تأكيدا لجدلية الحياة والموت التي يقدمها درويش في صور عديدة ومشاهد متنوعة يحاول من خلالها القبض على متخيل الموت باسستثمار القدرة التعبيرية والطاقة التشخيصية التي تنطوي عليها اللغة الشعرية. ولعل تشخيص الموت عن طريق إنشاء وضعية تحاورية بين الذات التي تستشعر قرب نهايتها وبين الموت الذي يتأهب لإنجاز مهمته أن يمثل بعدا من جماليا في قصيدة الجدارية التي تطمح إلى تعيين الموت ورسم أطيافه وأشباحه عبر تشييد متخيله؛ حيث المحاورة الشعرية أداة جمالية يلوذ بها الشاعر في مواجهة الموت والغياب: (الجدارية ص:50)
يا موت!
يا ظلي الذي سيقودني
يا ثالث الإثنين
يا لون التردد في الزمرد والزبرجد
اجلس على الكرسي!
ضع أدوات صيدك تحت نافذتي
لا تحدق يا قوي إلى شراييني
لترصد نقطة الضعف الأخيرة !
لقد استطاع درويش بفضل ما أتيح له من حدس فني وجمالي يقظ أن يرسم في الجدارية موتا مختلفا. إذ يشخصه حتى يتمكن من تعيين ملامحه وضبط ممارساته مؤسسا بذلك لجمالية جديدة في مواجهة فعل الموت، حيث يتجسد أمامنا الموت من خلال الرسم الشعري الذي أنجزه درويش موتا أليفا مختلفا عن صورته في المخيال الثقافي الجماعي. حيث يسعى الخطاب المباشر للموت الى تجريده من الجوانب المأساوية التي تصاحبه في المتخيل الإنساني و تحريره من صورته المفزعة، لتعطيه بعدا إنسانيا يجعل العلاقة بين الذات والموت ودية وغير عدائية:
ص: (الجدارية ص:59)
فلتكن العلاقة بيننا
ودية وصريحة: لك أنت
مالك من حياتي حين أملأها
ولي منك التأمل في الكواكب
وإذا كان الشاعر يبدي في المقطع تأدبا ظاهرا في مخاطبة الموت، حيث يتوسل إليه أن يتمهل في إنجاز مهمته فإن هذه النبرة الاستجدائية ما تلبث أن تتحل إلى مواجهة شرسة يستثمر فيها درويش موهبته الشعرية من أجل رسم صور تسخر من الموت ومن أفعاله غير عابئة بقوته وجبروته: (الجدارية ص:57)
وأيها الموت التبس واجلس
على بلّور أيامي، كأنك واحدٌ من
أصدقائي الدائمين، كأنك المنفيّ بين
الكائنات. فوحدك المنفيّ
لا تحيا حياتك. ما حياتك غير موتي. لا
تعيش ولا تموت. وتخطف الأطفال
من عطش الحليب إلى الحيب ولم
تكن طفلا تهز له الحساسين السرير،
ولم يداعبك الملائكة الصغار ولا
قرون الأيّل الساهي، كما فعلت لنا
نحن الضيوف على الفراشة. وحدك
المنفي يا مسكين، لا امرأةٌ تضمك
بين نهديها، ولا امرأة تقاسمك
الحنين إلى اقتصاد الليل باللفظ الإباحي
المرادف لاختلاط الأرض فينا بالسماء.
ولم تلد ولدا يجيئك ضارعا: أبتي،
أحبك. وحدك المنفي يا ملك
الملوك، ولا مديح لصولجانك. لا
صقور على حصانك. لا لآلئ حول
تاجك. أيها العاري من الرايات
والبوق المقدس! كيف تمشي هكذا
من دون حراس وجوقة منشدين
كمشية اللص الجبان.
يبدو الموت في هذه الفقرة الشعرية ضعيفا مهزوما يستثير الشفقة ويستدر العطف. لقد تخلى عنه سلطانه فظهر محروما من كل الأشياء الجميلة التي يتمتع بها الإنسان العادي، فالموت كما يكشف المقطع:
-لا يحيا حياته.
– لم يتلذذ بجمال الطفولة.
– لم يمارس الحب مع امرأة.
– لم ينعم بالأبوة.
– ملك مخذول في مملكته.
في هذا المقطع الشعري تبلغ الذات ذروة تألقها وانتصارها على الموت الذي يبدو عاجزا مستسلما أمام بهاء الحياة. لقد نجح الشاعر في تعرية الموت وإبراز نقط ضعفه عندما فتح قصيدته أمام دفق الحياة وتيارها الجارف وما تغدقه على الإنسان من فيض جمالي يجعل الإنسان يعيش فرحا طفوليا لا ينقضي. في اللحظة التي تلتحم الذات بالحياة تحقق انتصارا باهرا على أسباب فنائها حيث تكشف للموت أن قوته العمياء لا تستطيع أن تعوضه ما حرم منه (دفء العواطف) وإذا كان الموت يستطيع أن يهزم الجسد ويخضعه فإنه لا يستطيع حتما أن ينال من الحمولة الرمزية التي تكرست من خلالها الذات الشاعرة شخصية أدبية شامخة مكنها منجزها الشعري من تجاوز الفناء إلى التعلق بالأبدية حيث تمرح الأرواح المبدعة في خيلاء: (الجدارية ص:54)
هزََمَتكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها
هزمتكَ يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين
مسلةُ المصريّ مقبرةُ الفراعنةِ النقوشُ على حجارةِ معبدٍ
هزمتكَ
وانتصرَتْ وأفلتَ من كمائنِكَ
الخلودُ
فاصنعْ بنا واصنعْ بنفسِك ما تريدُ ….
يكشف هذا المقطع أن درويش يوظف الكتابة الشعرية التي نقشها على صفحات جداريته أداة لمواجهة الموت والامحاء. فقد شكلت هذه القصيدة الطويلة » مواجهة للموت بسلاح الذاكرة الحية التي تختزن قدراً وفيراً من الأحداث والرموز الثقافية. إنه يقدم. عبرها. على إشهار الكتابة بكل ما تختزنه من حدود معرفية وحدود خيالية في وجه الموت الذي يتربص بالجسد. وهو بعبارة أخرى يفضح عري الموت وجبنه بالإشارة إلى كونه لا يستطيع أن ينال من ضحيته سوى الأعضاء الهشة، لكنه في القابل لا يقوى على ابتزاز حمولته الرمزية تلك التي ستمكنه من المكوث خالداً في ملكوت الأفكار والتوهج الرمزي والجمالي » . ولا أدل على ذلك من أن الشاعر يعتبر قصيدة الجدارية « معلقة أخيرة » (الجدارية ص:36) يرفعها في وجه الفناء في مسعى للإفلات من فخاخه وكمائنه التي ينصبها لبني الانسان المنذورين للغياب والنسيان. فالفن يستطيع أن يكفل للشاعر إمكانية الانتصار على الموت، مثلما انتصرت الأغاني في بلاد الرافدين ومسلة المصري، ومقابر الفراعنة. ولا شك أن درويش خالد لا محالة، بما ابتكره من صور وأخيلة في أشعاره التي شكلت أسطورة الشعر الفلسطيني والإنساني في كل تحولاتـــه وانتشـــــــاره: (الجدارية ص