الشعر العُضْوي
خيري منصور
بدءا، هذه ليست محاولة لتعريف شعرية معينة وإحاطتها بقوسين على غرار ما كتبه الشاعر بول فاليري عن الشعر الصافي، وتحرير الشعر من الشوائب التي تعلق به، رغم أن الشعر، كما يقول، إدمان قماشته الكلام وقد يكون هذا من سوء حظه، بعكس الموسيقى والفن التشكيلي اللذين لهما قماشة أخرى، فالكلام هو ما نستخدمه في حياتنا اليومية، لهذا كان المتوقع من الشعر على الدوام أن يكون واضحا ويصل إلى المرسل إليه، رغم أنالحوارية الشهيرة بين أبي تمام ومن اتهمه بالغموض، انتهت إلى قول الشاعر لماذا لا تفهم ما يقال ردا على اتهامه بأنه يقول ما لا يُفهم، وتلك ظاهرة اقترنت بالشعر منذ بواكيره، وإن كانت حصة الشعر الحديث هي الأكبر في هذا السياق، لهذا يرى كثير من النقاد أن كتاب ويليام امبسون «سبعة أنماط من الغموض، كان حاسما في التفريق بين الإبهام والغموض، فالإبهام ناتج عن خلل بنائي في القصيدة أو بسبب قصور أحد عناصرها، لهذا فهو أشبه بالفحم، إذا قورن بالغموض الموحي والمضيء والأشبه بالماس.
ما أعنيه بالشعر العضوي سيصبح مُثيرا للسخرية إذا فُهم في ضوء الفارق بين طعام عضوي أو أورغانيك (Organic) وبين طعام تسللت إليه الهرمونات والمواد الكيميائية وسرطنته، لأننا لو فهمنا المسألة على هذا النحو فإن الناشر يصبح مطالبا بإضافة كلمة أورغانيك إلى عنوان مجموعة شعرية، كي تباع بسعر أعلى، أو يقبل عليها زبائن من طراز خاص تفزعهم الأطعمة المحفوظة والملغومة بإضافات صناعية.
الشعر العضوي خارج هذا المدار هو المقابل للشعر الافتراضي، الذي يكتبه شعراء افتراضيون أيضا، فهو أشبه بنباتات زجاجية محرومة من ضوء الشمس وداجنة بلا حفيف، لأنه محروم من النقد الذي يحلله ويفكك نصوصه، ويستبدل النقد بمعناه الجمالي بمقايضات يمارسها الهواة والافتراضيون، وهم يتبادلون المديح أو ما يسمى الحك المتبادل.
وعضوية الشعر هي عافيته وماؤه، إذا استعرنا تعبيرا نقديا قديما، كان يرى في الشعر ما هو جاف وموحش وما هو ندي وأخضر، لهذا لم ينزلق هذا الفن إلى التجريد إلا في حالات محددة يتركز معظمها حول ما سمي الشعر الميتافيزيقي، الذي تجسّد إلى حدّ كبير في أعمال رينر ماريا ريلكة، والشعر في أحد ابعاده معادل حسّي لما هو مجرد، لهذا يبدو لنا استباقا ما قاله النقاد العرب القدماء عن تثقيف الحواس، بحيث يكون لكل حاسة ذاكرتها ورشاقتها ولم يكن في تلك العصور قد ظهر علماء كالذين ظهروا في أيامنا ليقولوا لنا إن الأنف المثقف يحزر رائحة من بين ألف رائحة، وإن الصورة الشعرية قد تكون بصرية أو سمعية تبعا لتفاوت ثقافة الحواس .
وحين قال بشُار بن برد أن الأذن تعشق قبل العين أحيانا، لم يقل ذلك لأنه أعمى فقط، بل لأن تبادل الحواس للوظائف كان مبكرا في الشعر وقبل أن تصدر كتابات عن تشوش الحواس بالمفهوم السوريالي، فبدر شاكر السياب لم يكن أعمى عندما قال على لسان المومس العمياء في قصيدته التي حملت هذا الاسم: بيدي أراها فالأصابع ترى، وكذلك الآذان كما أن العين تسمع!
* * *
إن معظم ما يُنشر حول انحسار الإقبال على قراءة الشعر يتورط بأسباب قد لا تكون أصيلة، بقدر ما هي بديلة للسبب الأصيل، فلا الرواية والانجذاب إليها قراءة وكتابة سبب انحسار الشعر، ولا ارتفاع منسوب الذرائعية والإفراط في الواقعية هو السبب، إن السبب قادم من صميم الشعر ذاته، ومن ضعف عضويته وجفاف مائه، كأنه كما وصفه الشاعر الأمريكي روبرت فروست لعبة تنس بلا شبكة، يلعب فيها المرء مع نفسه أمام مرآته ليكتشف أن الاهداف التي سجّلها كانت في مرماه وأنه منتصر ومهزوم بالدرجة ذاتها.
عضوية الشعر ترشح منه أولا وأخيرا كالرائحة، وهي أيضا السر في مذاقه فثمة أكثر من وجه شبه واحد بين الشعر والشهد، فالشهد قد يفرزه نحل معلوف بالحلوى، وكذلك الشعر أيضا عندما يكون داجنا، فالنحلة تقطع أميالا من أجل ملعقة عسل وتتغذى من الرحيق البري بكل عضويته، وكذلك الشاعر الذي يكتب في موضوعات طرقت آلاف المرات لكنه يبدو كما لو أنه يجترحها، خصوصا إذا اهتدى إلى ذلك الرحيق الذي قال عنه شكسبير سيبقى إلى الأبد قليل منه لكنه لا يكفي من يحلمون برضاعته!
* * *
في عالم بدأ يتحول إلى الافتراض في كل شيء أصبح الشعر مشمولا بهذه النقمة، التي تبدو بالنسبة لمُدمِينها نعمة، لكن الحقيقة ليست متعددة إلى الحدّ الذي يريده السوفسطائيون حيث الفرد، سواء كان شاعرا أو ناثرا هو مقياس الصواب والخطأ.
لقد أدت ظاهرة الشعر الافتراضي إلى تعويم غير مسبوق لكل مفاهيم الشعر وكل ما ترسخ من خبرات البشر عبر عدة ألفيات، وقد لاحظت مؤخرا أن الشعر الافتراضي يسعى إلى أن يكون بديلا للشعر العضوي، لسهولته أولا، ولأن المقايضات بين الهواة تغذّيه، وما يطفو على سطح المستنقع ليس بالضرورة الأرشق والأمهر، بل هو الأخف، سواء كان أشنات أو سراخس، فالجذور تعوق الصعود إلى السطح، إلا إذا كان النبت شيطانيا وكذلك الشعر.
لقد تراجع نقد الشعر إلى الحدّ الذي أفقده جدواه وجديُته معا، وأصبح بمقدور أي كائن أن يظفر بلقب شاعر خلال أسبوع، شرط أن يكون قد جازف بإرضاع دمية القش التي اقنع نفسه بأنها طفلته البِكرْ !
كاتب أردني