الصحراء كنبع للإبداع
تقديم وترجمة: أحمد عثمان
ماذا يفعل الكاتب؟
يحاول أن يقلد كتابا أسطوريا لن يكتبه أبدا. الكتابة كلها، هي تلك المحاولة. هذا الكتاب لن نحققه أبدا، وإذا حققناه ذات يوم، لن يكون هناك أي شيء... سيكون الموت". هذا ما يقوله الشاعر المصري الذي كان يكتب بالفرنسية إدمون جابيس (1912 - 1991).
نزحت أسرة جابيس من إسبانيا إلي مصر قبل ثلاثمائة عام. كانت تربيته فرنسية: درس بداية في مدرسة الفرير (كوليج سان جون باتست) ثم مدرسة الليسيه (التابعة للبعثة التعليمية العلمانية الفرنسية). في أواخر العشرينات، نشر بعض مقالاته ضد موسوليني ونزعته الفاشية في صحيفة "لا ليبرتيه"، وبعض قصائده الرومانسية والرمزية قبل أن يسافر إلي فرنسا للإقامة والدراسة بكلية الآداب في باريس، التي أصدر فيها مجلة: "المختارات الشهرية" لتقديم وعرض النشاط الثقافي المصري المكتوب بالفرنسية. في منتصف الثلاثينات، سافر إلي باريس والتقي ماكس جاكوب، الشاعر الفرنسي الشهير، الذي قرأ عليه بعض نصوصه الشعرية، فما كان منه إلا أن أرشده إلي متابعة نتاجات شعراء الفرنسية المعاصرين، ودفعه إلي مصادقة بول إلوار وأندريه بروتون ورونيه شار، ونصحه بعدم الالتفات إلي كتاباته القديمة. في العام 1936، بباريس، نشر: "الرغبة الصالحة للشرب"، وهو اتجاه جديد يقارب السوريالية. اقترب جابيس إلي حد كبير من الحركة السوريالية، ومع ذلك لم يشاركها دعواها السياسية. قام، بمعاونة من "جماعة الصداقة الفرنسية" التي أسسها في العام 1944، بطبع ديوانه: "حصة الرمال" و"طريق الينابيع" علي نفقته الخاصة. وفي العام 1947 نشر ديوان: "أغاني لوجبة الغول" (1943 -1945). ومنذ ذاك يساهم مع جورج حنين في العديد من الأنشطة السوريالية: إصدار مجلة، معارض فنية وخلافه. وفي العام 1952، تقلد وسام الشرف الفرنسي اعترافا بدوره الثقافي ومكانته الأدبية الراقية. أسس دار نشر قدمت نتاجات عدة تحت اسم: "حصة الرمال"، قبل أن يصدر ديوانه الشهير: "قشرة العالم" في دار سيجيرس، عام 1955. بعد أحداث السويس 56، هاجر إلي باريس في 19 يونيو 1957: "سافرت إلي فرنسا لأنها بلد اللغة التي أتقنها"، وأضاف في حديث صحافي معه: "تركت بلدي، وكان علي أن أبحث عن صحراء أخري، غير أنني لم أجد صحرائي أبداً. الصحراء أملي الكبير في حياتي كلها. في القاهرة، كنت أسير مسافات طويلة، ولوقت لا أعرف له حداً. فوقي السماء زرقاء وأمامي الصحراء ممتدة. هناك في الصحراء يبدو الهدوء بلا نهاية، والصمت ملهماً، ساعداني علي الكتابة، وبعد أن تركت مصر تقت طويلاً إلي هذه المشاعر والحالات". أصدر"أشيد مثواي" في العام 1959، بعد أن استقر نهائياً في باريس.
بعد ذلك، كتب قصيدة مطولة: "سرد"، جمعها وقصائد أخري في ديوان واحد "الذاكرة واليد" (1974 - 1979)، ثم أخذ يعيد إصدار دواوينه، حتي صدرت أعماله الشعرية الكاملة في ديوان واحد: "العتبة - الرمل" (1943 - 1988 )، عن دار جاليمار، بعد وفاته بأشهر قليلة.
"لم يعد يبقي كثير من الوقت لبلوغ الذاكرة . قبلا كانت المياه، ومن بعد كانت المياه، ودوما المياه... أبدا مياه علي مياه، أبدا مياه لأجل مياه، وإنما مياه حيثما لا توجد مياه، وكذا مياه في الذاكرة الميتة للمياه. العيش في الموت الحي، بين ذكري ونسيان المياه، بين الظمأ والظمأ"، هكذا قال صوت جابيس العميق والهادئ، الصوت القادم من أعماق الصحراء، الصوت الرائق لكافة القوافل وكافة الهيروغليفيات والحكمة. وعلي وجه الخصوص كافة صور الذاكرة.
نتاجه، بدون شك، الوجه الواضح للشكوك والتساؤلات. أنه شاعر كبير، يتبدي جليا في جوهر الكتابة والحياة. الصمت والرمال يمضيان عبر كلماته. المنفي مملكته، المتاهة والخلاء هما صحراؤه المنيرة. شذرات، كتابات قبرية محتومة، عن كونها بناء للأحلام.
الكتابة، بالنسبة له، فعل مؤسسي، بعيدا عن أي جمالية: "الكتابة، الآن، لكي أعرف أنني في يوم ما سأكف عن الوجود، وأن كل شيء أعلاي وحولي، أصبح أزرق، رحبا، ممتدا، خاليا... ".
عنيدا، قال مرارا وتكرارا نفس الكلمات ونفس الجمل. جابيس رجل الجواهر، رجل الكامن، رجل مقتطفات الأبدية المرتبطة بالزمن والموت الكائن بداخله. ولذا يمد يده إلينا بكتاب، فنجد صفحاته بيضاء، مرايا مهشمة إلي مئات القطع. كتابته نداء، تأكيد، وليست فضاء للسلوي والتعزية. جابيس، رجل الواجب، يستعير الكلام من عرافات دلف، وهن عرافات تجترح المعجزات باسم أبولو في معبد دلف، والحكماء، يسائل الدقيق عن الوصف. يجذب ظله الكبير من أخلاقياته وإنسانيته.
خارج الأمكنة وخارج الزمن، كلماته تهجم علينا واحدة اثر الأخري، تباغتنا، توترنا وتثير دهشتنا. تقول لنا أن هذا الشيء، مثلا، احتل موقعا بخفية وبطريقة معتمة، إذ إن الذاكرة تستحقه، وعين حادة تنظر إلينا. لا يمكن أن نكون إلا رحالة في كتبه. نري كل شيء كالسراب، وبالأخص الآن في زمننا.
في تعرضه للحركة السوريالية المصرية، يؤكد جون - جاك لوتي: "من بين خبرات هذه الحركة الشابة الناهضة، يذكر اسم إدمون جابيس في أفضل مكانة، وهذا يوضح إلي من ضللتهم القصيدة تناقض مانفستو الحلم الخالد تجاه اليقظة، وفي سعاداتها وخيباتها. في قصائده خفة شفاهية وألاعيب طفولية، فيما خلف ذلك رغبة هائلة للتحرر من كافة القيود العروضية. هذا الفكر المتمرد يقترب إلي حد ما من فكر جاكوب ماكس الذي صاحبه قبلاً. نكتشف أن للشاعر رؤية أحادية للكينونة والأشياء، تهتم بالفانتازيا أكثر من الواقعية، قصاري القول: "استغل جابيس في قصائده أدني حنايا الحياة الباطنية"، بينما كتب الناقد جوزيف ججيلملي: "تحت وطأة الغربة وهجر الوطن أحس هذا الشاعر الصارم، القاسي، بالمتاهة… الصحراء تجذبه، وهو بإرادته منجذب إليها، في تلك المغامرة، حيث تتعلق الحياة بكفاءة الكتابة، يسبر جابيس أغوار سلطة الكلمات، ويسترشد بها لتغذية الصفحة البيضاء، بالإضافة إلي الغموض الجميل للنتاج الشعري، الذي يميز ويجذب الشاعر إليه أيضاً، فإنه يستعين بالتراجيديا لصقله، وأبطاله هم الكلمات نفسها".
قراءة جابيس هي الاقتراب من التجاوز، من المستتر، من الممنوع. وهذا الرجل الذي كتب قصائد قصيرة عن أيام المطر للأطفال هو نفسه رجل الأيام الصعبة. كتابنا، ذاكرتنا: "أهديكم كتابا داخل كتاب للقراءة ، وكلمة داخل أخري أيضا " .
صدر له من الكتابات النثرية: "كتاب الأسئلة" (7 أجزاء)، "كتاب التشابه" (3 أجزاء)، "كتاب الحدود" (4 أجزاء)، "غريب تحت إبطه كتاب من القطع الصغيرة".
صدرت أعماله الشعرية الكاملة تحت اسم: "العتبة - الرمل" (1943-1988) عن مطبوعات جاليمار في عام 1991.
قصـــائد لـ جابيس
اللاإنساني
يداها الجلديتان
صدر العاصفة
في صدارة
الايماءات الجميلة تلاشت
تخمش تنسي
الدم أصبح
بركة نمل
تعمل النظرة علي ترشيح الحلم
تحمل الأشجار
عساليجها
مع الأوراق
الورود نثرت الثمن
الثمرة مذاق لا حد له
سماء بيكاسو
الموت مع عينيه من القش
اللتين لا تشتعلان أبدا
يحيا الموت من رمادهما
أكثر فخرا أفضل زيا
الموت شحوب الفنادق
سماء بيكاسو جميلة
قرن الثور
اخترق بضربة واحدة
سماء المصارع
تجر الخيول
العالم الي ما لا نهاية
ملكة الأنشوطة
القمر
يلاحق الشجيرات
نسمعها تفر
ويحتل الخطر المنسي
مكانها
يطلق المشنوق صيحات
تزعج الخادمة
تتالموت رواق الثلوج
فقد الرسام وجهه
تاذا أردت أن تفكر
الرد
دفقة ماء
البهجة
خطوات المطر
في الألم
أثر بلا أمل
النسيان الردب
الخطوات تخضع للدرجات
كل صياح ارادي
المنحدر يلازم الصوت
النداءات تندفع من باب الي باب
يتبادل الجيران اللا نهائي
دفقة ماء
ثأر الماء
علي المظلات
الألم فقط
وبدون أشواك .
مرآة
في عنبر التشابهات
لأوراق الشجر فكرها
الأحجار تعرف الصخب
المذهب التي تشيعه النحلات
النهار، حميميا، مرتبط
بيأسه بأذنيه
لأجل الهواء مياه الزمن
الطبيعة ترقص
للعشب في الأرض
قدم عارية تتقدم
غير أنك لا تسمع أبدا
همهمة التعب .
ثمن الصمت
الصياح يفجر الصوت
كما حجر المياه
ثم يغرق
الصياح سكين
مدببة بلا مقبض
الأيدي تتبعها كما
الموجة وهم الضفة
وتغطس
يقتلون في قاع المياه
الدم البحيرة الجميلة المجهولة الاسم ثمن
الصمت .
الغريب
غن الأشياء
يكشف ما هي عليه
العالم عصبة
والغريب يرهق في إدراكه
نعتب علي حركاته ولغته
وعلي صبره اللطيف
يجني المسبة والتهديدات
الدقيقة المغتصبة
افتقار الدقيقة المقطوعة
عن النسب المتعجرف
المقطوعة عن جدودها البيض والسود
ذوي الندوب الظاهرة
للذهب هبة المحاكاة هبة
الأيام السيئة
سوف تكون علي عتبة دارك
في اللحظة التي يتبقي لنا أن نحياها .
أغنية السنة المأساوية
يناير، الثلج الأحمر
يمنع المستقبل.
كافة الحشرجات، فبراير،
كافة الحشرجات تتواطأ
مارس، صوت الموتي
يباغت الزاحفين.
كافة الحشرجات، أبريل،
كافة الحشرجات تزهر.
مايو، الأرض تعمل
علي تغيير الوجه.
كافة الحشرجات، يونيو،
كافة الحشرجات تنزف.
يوليو، الأمل
يموت ككلب أجرب.
من قبل في أغسطس
احتفينا بالجبال
كافة الحشرجات، سبتمبر،
كافة الحشرجات تدوي.
أكتوبر، يائس
يوجه اشارات الي الأرض.
شمس، نوفمبر، شمس
تدفئ الأرض الي حد ما.
ليلة من ليالي ديسمبر
هلكت منتظرك.
أغنية الباب الضيق
دخلنا خطأ.
دققنا علي باب الخدمة.
كان الوقت صيفا، السفن الكبري طويلة المسافات تدخن
نجومها.
كل شئ قذر.
النساء ملطخات بالدم:
ثوبهن.
كان الرجال عراة :
كان زيهم،
بلا نظام، علي الأرض، نحيلين كالحبال.
مصابين بالبرد
والمدن تحترق
والأشجار
تؤجج نيران العالم
جوعانين
والخبز يجري بلا توقف،
يهرب الخبز، لا نعرف الي أين !
ظمآنين
والمياه كانت مرمرا.
صحونا معا،
ذات صباح،
مجهولين وبشعين
كالدود.
أغنية الفتاة الصغيرة المتوحشة
الفتاة الصغيرة
ذات القلنسوة الزاهية الألوان
-من هي ؟ لا أعرفها -
تغرز ، ضاحكة ، يديها
في أعين النائمين.
عاشقة الأحلام،
العنيفة.
-من هي ؟ لا أعرفها. -
تجهلني أيضا،
اذ أن عيني، المولعتين بهما،
تنهشان الليل.