وضحكت الطفلة بدموع كالبكاء
د.نوال السعداوى 413
طباعة المقال وقفت امرأة أمريكية تحمل لقب «البروفيسورة» تخصصت فى دراسة بلادنا التى سميت «الشرق الأوسط»، تكلمت عن نظريات «ما بعد الحداثة» ومنها الهوية الأصيلة والخصوصيات الثقافية، دافعت عن حجاب المرأة المصرية وختانها واعتبرتهما جزءا من هويتها الأصيلة وثقافتها الخصوصية الوطنية، وكنت أنقد هذه الأفكار فى كتبى 1983 كان ذلك فى مؤتمر دولى بمونتريال عام ومحاضراتي. وقلت للمؤتمر: دراسة التاريخ تثبت أن الحجاب والختان وحزام العفة وجرائم الشرف والعذرية وضرب الزوجات ورجم الزانيات، كلها لا علاقة لها بقومية أو ثقافة أو هوية، فهى تعود للنظام «الطبقى الأبوى» الذى حكم العالم بعد الحضارات الأمومية، وكانت المرأة المصرية منذ خمسة آلاف عام تشتغل وتبدع فى كل مجال وكانت تحتل أعلى المناصب ومنها الألوهية، كانت «إزيس» ربة الحكمة والمعرفة، و«معات» ربة العدل والقضاء، و«سخمت» ربة الطب والعلم، بدأت القيم الأبوية المعادية للمرأة تظهر فى كتاب التوراة حواء الآثمة التى قطفت ثمرة المعرفة، الاثم الأول هو اكتساب المرأة للمعرفة، وتم عقابها بحرمانها من عقلها واعتبارها «جسدا بغير رأس» وكان يمكن قطع رأسها لولا الحاجة لاشباع الغرائز وإنتاج الأولاد، وأصبح الحل الوحيد هو اخفاء رأسها (كأنما غير موجود) ومن هنا نشأت فكرة الحجاب توارثتها الأديان من بعد اليهودية.
هبت اليهوديات بالمؤتمر غاضبات يصرخن «الحجاب لا تعرفه اليهودية» وامتد الحوار طويلا ثم انتهى بقراءة النصوص المطبوعة فى العهد القديم بالكتاب المقدس.
واعترفت البروفيسورة الأمريكية بأن قضية الحجاب ليست إسلامية وهى مسألة خاصة وحرية شخصية، وطالبت بالفصل بين العام والخاص، جميع الأمور الخاصة بالجنس والدين وتعدد الزوجات والنسب والارث وقوانين الأحوال الشخصية كلها قضايا عامة، وقضية الحجاب من أكبر القضايا العامة، وإلا فما هذه الضجة حول خلع الحجاب؟ لا تحدث هذه الضجة حين أخلع ضرسي؟ وضحكت النساء بالمؤتمر.
حين كنت طفلة فى السابعة من عمرى (عام 1938) كانت زميلاتى بالمدرسة الابتدائية يتعرضن جميعا لعملية الختان، المسلمات والقبطيات واليهوديات، كنا نعود إلى المدرسة بعد أيام الإجازات فخورات نزهو بخلاصنا من الجزء النجس بأجسادنا، كانت عملية الختان تسمى «الطهارة» طفلة اسمها «سميرة» رفضت أمها ختانها، فأصبحنا نبتعد عنها ولا نصافحها باليد لأنها ليست طاهرة مثلنا كنت أراها جالسة وحدها فى ركن بعيد تبكي، لكنها لم تستمر فى وحدتها وعذابها، انتهزت سفر أمها، وذهبت مع خالتها إلى الحكيمة «الداية»، وعادت سميرة للمدرسة طاهرة مثلنا تشعر بالسعادة.
فى علم النفس ما يسمى «السعادة الزائفة» يشعر بها نزيل السجن المؤبد أو المرأة حبيسة البيت، يقاوم الجسم الألم أو القهر، بأن يحبه ويستعذبه، يقاوم المدمن العقار السام بأن يحب مرارته ويطلب المزيد، تتعرض ربات البيوت لهذا المرض بدرجات متفاوتة حسب درجة الانحباس، أباحت النظم الأبوية ضرب النساء بقوة القانون الوضعى والإلهى معا، لتأديبهن وادخالهن بيت الطاعة ومؤسسة الزواج، يتحول القهر والاجبار فى الشعور واللاشعور، من أجل الراحة والسرور، إلى «حرية الاختيار» تتصور المرأة أنها اختارت سلاسلها وأساورها وحجابها بإرادتها الحرة، أو اختارت العرى والماكياج وعمليات التجميل وشفط الدهون. كلها اختارتها بإرادتها الحرة، وينقلب الألم عندها إلى لذة والحزن يصبح سعادة، وضرب الحبيب مثل أكل الزبيب.
حين كنت طالبة فى كلية الطب (عام 1954) لم تكن هناك طالبة محجبة إلا واحدة اسمها خديجة، تجلس فى ركن بعيد منكفئة على كتاب، ثم رأيناها ذات يوم فى ركنها وإلى جوارها طالب اسمه عمرو، وانتشرت قصة الحب بينهما، ثم انقطعت خديجة عن الدراسة وتزوحت عمرو الذى أصبح من الأطباء الناجحين فى السبعينيات، وأحد الدعاة الإسلاميين المشهورين.
حين كانت ابنتى بالجامعة (عام 1981) كانت أغلب الطالبات محجبات، وكان طلاب الجماعات الإسلامية ينتشرون فى الفناء، يهددون البنات غير المحجبات، يكسرون الآلات الموسيقية فى الحفلات، ويضربون من يتصدى لهم بالجنازير والمطاوي، وكان الداعية الشهير يردد الحكايات فى الميكرفونات عن الثعبان الأقرع وتعذيب الكافرات غير المحجبات، وتعليقهن من شعورهن فى القبور.
فى مايو 2008 أصدرت الحكومة المصرية قانونا يمنع ختان البنات، مع ذلك زادت نسبة المختتنات والمحجبات والمنتقبات، مع تزايد سطوة التيارات الإسلامية السياسية، وكانت قوافلهم تحمل اطباءهم للقرى والمحافظات، بمشارطهم وأسلحتهم وكتبهم ينشرون أوامر الله يجرون عمليات الختان يزوجون القاصرات، ويحجبون الطفلات بالمدارس الابتدائية.
قالت طفلة فى التليفزيون «أنا اخترت حجابى» فصفقت لها الإعلامية وفى عام 2012 المحجبة وضحكت الطفلة بدموع كالبكاء.
لمزيد من مقالات د.نوال السعداوى