البيان الأول لقصيدة النثر
" صديقي العزيز
أبعث إليك بعمل صغير
يمكننا أن نقول، من دون أي إجحافٍ، لا رأس له ولا ذيل، بما أن كلَّ ما
يحتوي عليه يُكوّن في الوقت ذاته، بالمناوبة وبالتبادل، رأساً وذيلاً.
أتوسَّلُ إليك أن تقدّر كم هي مريحةٌ وعلى نحو مدهش هذه التركيبة؛ لك ولي
وللقارئ. يمكننا أن نقطع أينما شئنا! أنا في هواجسي، أنت في المخطوطة
والقارئ في قراءته؛ لم أكبح جموح القارئ إزاء سياق لا منته لحَبكة غير
ضرورية. اِنزعْ فَقارةً، وسَرَعان ما سينضم وبكل سهولة جزءا من هذه
الفانتازيا المتلوّية. قطّعها أوصالاً عدة، ترَ أنّ لكلَّ وِصلةٍ وجوداً
مستقلاً. وعلى أمل أن تنبض بعض هذه الأوصال حياةً بما يكفي لتسلّيك
وتُسرّكَ، فإنّي أسمح لنفسي بإهدائك الأفعى بأكملها..
( .. والجنة تحت قدميْها )
عندما
قرأت رسالة بودلير لأوّل مرة شعرتُ بأنني ألجُ يوتوبيا ما، كما لو أنني
أكتشف الشكل الحلم للعالم: العالم حيث لا رأس ولا ذيل، لأن كل شيء يكون في
الوقت ذاته وبالمناوبة رأساً وذيلاً، حيث كل شيء يطفو على السطح، حيث
العدالة في توزيع النور والظل على الموجودات : لا فوارق، ولا طبقية، ولا
هرمية، ولا مركزية، وبالتالي ليس ثمة كائنات حزينة قابعة في القيعان
الآسنة، يمارس عليها العالم إرهاباً تبرره النواميس الرائحة..
كان أوّل ما تبادر إلى
ذهني، وأنا أقرأ جسد الكائن الذي " لا رأس له ولا ذيل " هو التقسيم
الأرسطيّ لمفردات العالمِ إلى رأسٍ وذيل، والذي غالباً ما يستخدم للتفريق
بين الذكر والأنثى: الأنثى ذيل، الذكر رأس، الأنثى ذكر شائه، الطمث منيّ
فاسد[1] .. وكل هذه الأمور التي – شئنا أم أبينا – ما تزال ذات حضور في
ثقافتنا المعاصرة، وإن كنت أعرفُ بأن كلاً من موقف بودلير وأرسطو ينتميان
إلى سياقين مختلفين وهاجسين مختلفين، ولكن ماذا لو أقمنا قراءتين متوازيتين
في موضوعين نقرّ لكلٍ منهما بالانفصال ومع ذلك نتحسس مواطن الالتقاء
بينهما؟
أقصد، ماذا لو قرأنا
المنجزات الفعلية " لشكل " قصيدة النثر البودليرية داخل مجتمع يتبنى
التقسيم الأرسطي لمفرداته إلى رأس وذيل بناءً على اعتبارات كالجنس أو العرق
أو غيرها؟ لا أستطيع أن أمنع نفسي من السؤال.
.. إن قصيدة النثر، ومن
هذا الباب تحديداً، تكشف لي عن وجهها النبيل، لأنها تجيء قبل أي شيء لتقوّض
هذا التقسيم، وتهب الوجودَ منظوراً بديلاً، منظوراً أكثر عدالة برأيي،
حيثُ لا رأس ولا ذيل، وكل شيء هو رأس ذاته وذيل ذاته، وكأن ذلك يعني أن لكل
إنسان أن يختار أن يكون رأساً أو ذيلاً طالما أن فرص الحضور والتأثير
متساوية، هل معنى ذلك أننا نكتشف بالشعر المعنى الأصيل للحرية بصفتها
اختيارنا المحض؟ هل معنى ذلك أن لا سائد ولا متنحي، لا مركز ولا هامش، لا
نسق مؤسساتي ولا خطاب مضاد.. بل جميع المفردات المتناقضة والمختلفة منتشرة
في النور، وكل شيءٍ بالتالي هو اختيارنا الحرّ ؟
أصبح جسد القصيدة هو
الشكل الطوباويّ للعالم، الشكل الذي أحلمُ به على الأقل، الشكل اليوتوبيّ،
الشكل الحُلم، لم أشكّ بأن موقفنا من الشعر هو رديف موقفنا من الوجود، أن
موقفنا من الشعر هو موقفنا من الوجود، لأن الشعر هو موقفنا من الوجود!
وظهور من ظهوراته، والأمر بالتالي لا يحتمّل أي نوع من الانقسام أو التناقض
الداخليّ، فلا يمكنُ أن أكتب قصيدة النثر دون أن أكون، وفي صميمي، أحلمُ
بهذا الشكل المثاليّ للعالم، العالم حيثُ لا رأس ولا ذيلْ.
من هنا تخلّق إيماني بأن
الشعر هو فعل هدمٍ وفعل بناء موازٍ لهذا الهدم، الشعر / الكلمة الفاعلة ،
لا يقبل بأنصافِ الحلول ولا بأشباه الآراء، إنه ينقضُ هذا التقسيم البربريّ
للعالم ويوفر في الوقتِ ذاته الشكل البديل، فالأرض الرؤوم تنساب أمام
أنظارنا مسطّحة تماما لتترك جميع الآراء واردة وكل الاحتمالات ممكنة وكل
الممكنات محتملة و.. ليس ثمة جنس سائد على جنس، أو فكر مسيّد على فكر، وليس
ثمة تفوّق لأحد يتكئ على اعتباراتٍ سالفة كالجنس واللون والعرق وغيرها،
حيثُ التفوق والتميز ينبعان من حقيقية الفعل وحدها.
من هنا، آمنتُ بأن الشعر-
ومن هذا المنظور- هو جنة هذا العالم، ومن هذا المنطق، سيكفّ الشعراء عن
كونهم " يقولون مالا يفعلون "، وسيتعطل الناموس القبيح القائل بأن " أعذب
الشعر أكذبه "، وسيتحرك العالم صوب شكلٍ أكثر عدالة ومنطقية، سيصبح الصدق
هو المنطلق الجماليّ للقصيدة، وسيصبح الشعراء أكثر قرباً من ذواتهم و..
فكيف لا يكونُ ذلك، إذا كانت القصيدة تكتبُ وهي تحملُ في أبسط سماتها
الظاهرة ثورة ضدّ الأشكال المفروضة، القصيدة، بشكلها هذا، تعيدُ ترتيب
العالم، تعيد صياغته، تكوننا بقدر ما نكونها، تنسابُ برشاقة إلى وعينا (
ولا وعينا أيضاً! ) لنتحسس شاعرية وعدالة موقفها من العالم، عندما تشيرُ
إلى الظلّ والهامش والمتنحي والمقصيّ والمختلف والآخر و.. عندما تتعامل
معنا، نحن مفردات هذا العالم، بمنطق المساواةِ والعدلْ.
.. نعم القصيدة أنثى، ولكن!
كثيراً ما يشبه الشعراء
القصيدة بأنثى الغنج باذخة التفاصيل، الغانية التي تجيء متمهلة في مشيها
متمايلة تتهادى لتفرز في الكون أصناف الإيحاءات، وهي وحدها القادرة على شدّ
الشاعر من ياقته أو من ربطة عنقه إلى عالم التهاويم والشعر..
وكثيراً ما بدا لي هذا
التشبيه وجهاً مخادعاً ( آخر ) للذكورية، فهو يشي ظاهرياً بأنه يحتفي
بالأنثى بصفتها ربة الشعر وربيبته، إلا أنه لا يتعامل معها إلا من منطق
شبقي محض، وهي لا تمثل في النص غالباً إلا من خلال القلائد والضفائر
والأردافِ والأساورِ.. إنها تجيء بغرض أن "تثير " في الشاعر " شهوة "
الكتابة، تجيء لتحرّضه بالدرجة الأولى، من خلال سماتها الظاهرة / الساحرة،
الموحية، الإيروسية في كثيرٍ من الأحيان.
.. ماذا عن شاعرةٍ أنثى؟
لابدّ وأن تجيء صورة القصيدة مختلفة، فأن توصف القصيدة كأنثى مغناج من شأنه
أن يكون سخافة في عين الأنثى الشاعرة، كما أنه ليس من الحقيقة بشيء أن
نعتبر القصيدة فارساً أسمر على حصان أبيض! ومن هنا – أيضاً – يتكشّف الوجهُ
الذكوريّ الآخر لهذا التشبيه، إنه يعتبر الشعر حكراً على الرّجالْ!
نعم القصيدة أنثى، ولكنها
ليست عشيقة الشاعر الفحل، بل هي أمٌ للعالم بأسره.
لو أعدنا قراءة الفلسفات
الأنثوية، باعتبارها شبكة من العلاقات التي ننظر من خلالها إلى الوجود،
واستقرأنا أوجه التناغم المثيرة بينها وبين موقف قصيدة النثر من العالم، أي
أنفاق مضيئة ستتفتح أمامنا؟ ثمة جسرٌ يمتدّ بين جسد القصيدة، وبين الروح
الأنثوية، لا يسعنا إلا أن نلحظ متانته وحقيقيته.
إن هذه الورقة تهدف
بالدرجة الأولى، ومن خلال إعادة قراءة الفلسفة الأنثوية، أن تصل إلى احتواء
وفهم أفضل لقصيدة النثر، بصفتها " ضرورة " ثقافية، وليست وجهاً شكلانياً
للحداثة.
وهكذا بدأتُ أعيد قراءة
مراجعي التي أستقي منها مفهومي عن الأنثوية، هل يصح القول بأن الأنثوية
كمنظور قادرة على تبرير " ضرورة " قصيدة النثر على جميع الأصعدة؟
إن الأنثوية كفلسفة ليست
بذات الارتباط بالجنوسة، فكلمة " الأنثوية " تشير إلى صفات " كامنة " في
الموجود البشري عموماً: رجالاً ونساءً [2] على حد سواء، وتعرّف بصفتها جهدا
يهدف إلى تعديل النظام السائد في البنيات الاجتماعية، فهي لا توضع إلا في
سياق نقد الحضارة، وهذا يكشف عن علاقتها بفلسفة ما بعد الحداثة.
إن الأنثوية كمنظور، تهدف
إلى إعادة الاعتبار لجملة من المبادئ التي تم إقصاؤها ونبذها وإعطاءها صفة
" الدونية " أو" تهميشها " من قبل النسق الذكوري المهيمن، إنها تبحثُ في
أصول الفكر الإقصائي وتفضحه، وهي تؤكد على ضرورة الاختلاف، والتعدد،
والاحتفاء بالتعدد، وأن هذا الإقصاء التعسفيّ للآخر المختلف، سواء من حيث
الجنس أو اللون أو العرق أو .. هو مما أدى إلى " خلل واعتوار" أصاب الحضارة
وأمرض الإنسان، إن الهدف الذي تضعه الأنثوية كفلسفة لنفسها هو أن تعيد
التوازن إلى العالمْ.
يتطابق هذا الموقف إلى
حدٍ بعيد، مع ما ذكرناه حول قصيدة النثر التي تجيء بلا رأس ولا ذيل، لكونها
بالدرجة الأولى، ومن خلال شكلها الأفقي المنتشر ( الذي يخدعنا لوهلة
بخفوته الظاهر ) ثورة ضد الإقصاء، ورفضاً للأشكال المفروضة التي لا تتكون
استجابة لضرورة داخلية بقدر ما هي – الأشكال – ابنة بارة " غبية " لنسق
متعسف سائد، وبكونها – أي قصيدة النثر – تعيد ترتيب العالم، تعيد صياغته،
وتعيد صياغتنا فيما نحن نستجيبُ لشكلها الذي نكتبه، تؤثر فينا بقدر ما نؤثر
فيها، تكوننا بقدر ما نكونها، تكتبنا بقدر ما نكتبها..
أنا هنا، لا أزعم بأي
شكل، بأن قصيدة النثر هي ابنة شرعية للفلسفات الأنثوية، بقدر ما أشيرُ إلى "
البريق المشترك " بين الاثنين، الهدف والحلمُ والسؤالْ..
وبصراحة، لم أظن للحظة
بأن بودلير قد قصد تقويض التقسيم الأرسطي للعالم إلى رأس وذيل، خاصة وأنه
يتبنى ذات الآراء حول المرأة،[3] ولكن ما يعنينا هنا ليس أنثوية بودلير ولا
ذكوريته ولا حتى تناقضاته التي ما فتئ يحتفي بها، ما يعنينا هو أن ننطلق
وحيدين مع الفكرة، نستجوب إمكاناتها، ونتحسس حدودها، حيث " القصيدة بلا رأس
ولا ذيل " أو كما درجت التسمية " قصيدة النثر "، فقصيدة النثر هي هنا،
أمامنا، نقرأها كل يوم، ونقرأ فيها الاحتفاء بالشكل اليوتوبي للعالمِ،
ونقرأ فيها الثورة على الأشكال والأنساق الذكورية، وسواء قصد بودلير هدم
الفكر الأرسطي أم لا، نجد أن قصيدة النثر تحقق ذلك كل يوم، إنها – بذاتها
وبعيداً عن بودلير – ثورة أو تزيد.
هل ما زالت القصيدة إذاً،
وهي بهذا الشكل المرهف / القويّ، أنثى الغنج الأثيرة على مائدة الشبق
الفحوليّ؟ أم أنها تتحوّل إلى كائن أكثر مسئولية، أكثر إدراكاً لذاته
وممكناته، أكثر وعياً ومن ثمّ أكثر قوّة، رغم أنها – وهذا واضح ! – مخلوقة
رقيقة الجلد ؟
إن قصيدة النثر، بموقفها
الأنثويّ من العالم كائن مسئول، كائن حُر، فهي فاعلة ومؤثرة، وهي تقلقُ على
العالم وتحبه وتعاقبه، تدافع عن حقوق الهامش في الحضور والتعبير، وهي
سفيرة الحرية وأوّل المحتفين بالاختلاف، ومن ثمّ بالخصوصية، إنها
تأخذُ العالم كله في حضنها، والعالم هو طفلها غير المهذب الذي تحاول أن
تحسن تربيته من خلال إيقاظ كوامنه المنفية في الهامش وتعريفه بنفسه أكثر.
عندما يوجه لي سؤال: هل
تكتبين للمرأة؟ كنتُ أجيب على الفور، وكأن هذا السؤال هو بمثابة التهمة
لنصي، بأنني أكتب للإنسان بكلّ حالاته، وأزفرُ مرتاحةً لأنني نجوت من
الوقوع في شرك "التطرّف " الجنساني، لأن جلّ ما كنتُ أخشاه هو أن تلصق بي
صفة " نسوية " والتي غالباً ما ترتبط في ذهني بصورة امرأة غاضبة تحرق مشدّ
صدرها، لم أكن أريدُ هذه الصورة، لم أرغب للحظةٍ بأن يكون الرجل عدوّي، حتى
لو كنتُ عدوّة في نظره، رغم أن اتخاذ موقفٍ كهذا يبدو شديد الإغراء (
بصراحة! )، ولكنني أجدُ بأن من العبث أن يحارب الإلغاء بالإلغاء، والإقصاء
بالإقصاء، عوضاً عن ذلك، كنتُ مؤمنة بخصوصيتي كأنثى، وأحبّ أن أتخيل العالم
مكاناً عادلاً يحتفي بالاختلاف ويعتبره ثراءً، وكنتُ أتساءل، هل ستتحول
هذه المرأة إلى رجل لو حرقت مشدّ صدرها؟ أو هل تريدُ هذه المرأة حقاً أن
تتحوّل إلى رجل ؟! لماذا سترغب أي أنثى بأن تتحوّل إلى رجل بعد أن جرّبت أن
تنغمس في ذاتها وتكتشف إمكاناتها الخصبة على جميع الأصعدة؟
.. قرأت " أنثوية العلم "
لـ د. ليندا شيفرد [4] الأمر الذي أحدث مصالحة بيني وبين المصطلح، لاسيما
بعد أن عرّفت شيفرد الأنثوية للقارئ على أنها مجموعة من " الصفات الكامنة "
في الموجود البشري، رجالاً ونساءً، يمارس عليها النسق المؤسساتي إقصاءً
معيّناً، فتركن إلى الظلال والهوامش، وتبدو ظاهرياً غائبة، ولكنها تمارس
تأثيرها على اللاوعي، حتى تعود وتبزغ كقوّة مؤثرة على الوعي، بصفتها آلية
تفكير، وطريقة للنظر إلى العالم، وموقفاً أنطولوجياً من الوجودْ، إن
الأنثوية – حسب هذا التعريف – هي جملة القيم المهمّشة بفعل النسق
المؤسساتي، وهي تلك القيم التي غالباً ما تلصق بالأنثى للتعبير عن
"دونيّتها" وكونها " أقل " من الرجل، ويستقي المفهوم تسميته من هذا المنطلق
تحديداً، ولكنّ الحقيقة أن هذه القيم، هي قيم إنسانية موجودة في كلا
الجنسين.
عندما حكوا لنا أطفالاً
قصة البطل الذي قتل التنين وأنقذ الأميرة وتزوّجها، فاتهم أن يخبرونا بأن
ما يتوصل إليه البطل، بعد مسيرة البحث الشاقة، وصراعه مع القوى الفوقية
الظالمة، هو أن يتصالح مع ذاته، وذلك لا يتحقق إلا بإخراج الجانب الأنثويّ
منه – الأنثى هنا / نصفه الآخر – إلى النور، والاعتراف بها كقوّة مؤثرة على
الوعي، بالتأكيد، إن قتل التنين وإنقاذ الأميرة ليس بالأمرِ الهين،
ويتطلّب من الإنسان قدراً من الكدحِ والبحث، ولكن ألا يستحقّ الأمر العناء
على أيّ حال؟ أن نتخلص من التنين الشرير فتتوازن قوى الطبيعة، المذكرة
والمؤنثة، على سطحِ العالم، ليصبحُ العالم أكثر جمالاً؟
إن رحلة البطل التي
يخوضها عبر البحار والصحاري هي رحلته إلى الذات، إلى التوازن داخل الذات
والاعتراف بجانب الظلّ من شخصيته الذي فرض عليه التنين / النسق حصاراً
طويلاً وخانقاً، إن كلاً من التنين والأميرة موجودان داخل الإنسان، وغالباً
ما يكون التنين هو الوجه البشع لجهلنا، جهلنا بأنفسنا وبالقوى المؤثرة
علينا، بحدودنا ومن ثمّ بإمكانياتنا، والأميرة غالبا ما ترمز إلى الجانب
المرميّ في الهوامش المظلمة، الجانب المنفيّ في الكهوف، في كهوف اللاوعي،
الجانب الذي يعنينا والذي هو جزء من تكويننا دون أن نعي ذلك، والذي لن
تكتمل إنسانيتنا طالما أننا ننفي وجوده ونقيصه عنا.
إن الأنثوية هي جملة
القيم المهمّشة من قبل الوعي المتأثر بالنسق المؤسساتي المهيمن، ولكنها
تبقى فاعلة وموجودة في اللاوعي حتى يتوصل الإنسان إلى " قتل التنين " في
داخله واستخراجها، إلى كسر النسق الفحولي والتوصل إلى صورة أكثر مثالية
وعدالة للوجود والإنسان، وبذلك لابدّ وأن تبزغ الأنثوية إلى النور في
الوقتِ الملائم، كخطوة طبيعية لتطوّر الوعي الإنساني، وتصبح جزءاً "
معترفاً به " من تكويننا، الأنثوية كشبكة من القيم والعلاقات، الأنثوية
كمنظور، الأنثوية "كاحتمال فكري"، على حدّ تعبير د.علي حرب، الأنثوية كموقف
من الوجود، تعودُ إلى النور بعد أن يقتل كلٌ منا التنين في داخلِه.
هكذا، نتعرّف على جملة
القيم المقصيّة في منفى الظلّ، والتي تشكّل جوهر الأنثوية، والتي همّشت
طويلاً من قبل مؤسسات وخطابات مصادرة وأحادية:
أولاً، الأنثوية ترفض أن
يتحوّل العالم إلى معادلة خطية أحادية، لها حل واحد مسمى ومعروف، وتقترح أن
تختبر الحياة من خلال " التجربة والخطأ " باعتبارها شبكة لا منتهية من
المعادلات اللاخطية التي تحتمل أكثر من جواب، تحتملُ أكثر من حضور، أكثر من
فكرة.
الأنثوية، من هذا الباب،
هي نقيض المصادرة، ونقيض الأحادية، وهي الأم الرؤوم لكل الاحتمالات
المهمّشة، والتي لا تنفي الاحتمالات المتمركزة أيضاً، ولكنها تركز على
كونها " احتمالات " وليست " أجوبة نهائية "، إنها تفسح المجال للاختيار
الحرّ والمسئولية الحقيقية، الأنثوية هي تلك المحتفلة أبداً بالاختلاف
والتعدّد، ومن خلال احتفائها بالاختلاف تنمّي في الإنسان القدرة على
الإنصات، الإنصات للآخر، للصوت المختلف، والقدرة على تمحيص مواطن الالتقاء
ومواطن الاختلاف معه، ومن ثمّ .. تنمي في الإنسان مهارة التلقي، التلقي
الذي طالما اعتبر كقيمة سلبية ترتبط بالأنثى كمؤشر على ضعف، يصبحُ قيمة
متناهية الإيجابية إذا ما أدركنا ضرورته، ضرورته لبناء حوار مع الآخر وفهمه
والاستفادة من ثقافته..
الترابطية
إن جوهر الفكر الأنثوي هو
الترابطية، القدرة على رؤية الكلية، رؤية العلاقات وخلق العلاقات بشكلٍ
صحي وفعال، القدرة على مدّ الخيوط الخفية بين مفردات الوجود والنظر إلى
كلانية المشهد في حراكه البهيّ، لأن " رفرفات الفراشة في بكين قد تتحول إلى
إعصار في نيويورك بعد شهر ! "
ألا يشبه ذلك، موقفنا من
اللغة داخل القصيدة؟ الجهد الذي يبذله الشاعر لسبك النص ومد الجسور بين
مفرداته وبناء علاقات ملائمة بينها، علاقات لا توقع القصيدة بأي ضرب من
الفصام أو التنافر في موقفها من الوجود أو من الشاعر ذاته، من منطلق إدراك
الشاعر بحساسية القصيدة ككائن، إدراكه بأن تحريك كلمة أو حرف من شأنه أن
يدمّر البنيان الرهيف ويفتته بين أيدي المتلقي ؟ أليس صحيحاً أن كل مفردة
للنص ينبغي أن تكون في مكانها بحيث أن إزالة أو إضافة أي حرف من شأنه أن
يقوّض النص برمّته؟ ألا يتماسك شكل النّص أصلاً من خلال جملة من العلاقات
التي (يبنيها) الشاعر مما يمنحه وحدته وانفصاله عن العالم، بصفته شكل آخر
من الوجود؟
أفقية الشكل
إن الموقف الذي تتخذه
الأنثوية من العالم، يتطابق إلى حدٍ بعيد مع موقف قصيدة النثر من الوجود
ومن اللغة ومن ذاتها، فهي – ومن خلال سماتها الظاهرة فحسب – تقوّض التراتب
الهرميّ للأشكال، وتصرّ أن تجيء أفقية سيالة، بلا رأس ولا ذيل، حيث كل شيء
ممكن وكل ممكن محتمل، وهي من هذا الباب، باب كونها تحتفي بجميع الاحتمالات،
تطالب الشاعر بقدرة عالية على الإنصاتِ إلى الوجود، وإلى اللغة، وتطالبته
بدرجة مضاعفة من الحساسية إزاء كل المستجدات المحيطة، ومقدرة فائقة على
التلقي وتشرّب العالم واحتواءه في قلبه، إن قصيدة النثر تنمي القيم
الإنسانية الأكثر حيوية وضرورة بالنسبة لزمنٍ هو الآن.. تنمي فيه قيم
الإنصات والتلقي والحوار وقبول الاختلاف.
الشواش
وإذا كان البعض يتأفف من
كون مخرجات قصيدة النثر غالباً ما تكون غير مباشرة، فذلك لسوء حظهم، لأن
قصيدة النثر تتطلب ذلك، تطالب القارئ بقدرٍ من المشاركة والبحث و" الإنصات"
لأنها لا تهبه ذاتها بسهولة، قصيدة النثر لا تحتفي بالكلمة السهلة لأن
القدرة على تمييز الحقيقة بين الشواش هو جوهرها الأصيل، القدرة على اقتناص
الأصوات الحقيقية والصادقة في عالمٍ مشوّش التركيب ومفبرك ومنفصم، وهي من
خلال مطالبتها للمتلقي ببذل هذا المجهود تحديداً تساهمُ – رغم أننا قد لا
نعي ذلك – في صقل إنسانيتنا وموقفنا من الحياة.
تتحوّل قصيدة النثر من
حيث لا نشعر، إلى مشروع " إيقاظ " لكل القيم المهمّشة في الذات، تتحوّل إلى
انتصارٍ للإنسان، وهي تثبتُ ذلك من خلال " حيويتها " المفرطة وقدرتها على
المواكبة، وأنا هنا، لستُ ممن يبشر بقصيدة النثر بصفتها " الجواب النهائي "
لمشكلات الكتابة والإنسان، وما دام الزمن زمناً ستجيء في المستقبل أصناف
جديدة من الكتابة، لها جمالياتها ومبرراتها، ولكنني أقرأ في قصيدة النثر
جمالية الشكل من خلال ضرورته الراهنة، وأؤكد على حاجتنا الملحة لهذه
الجمالية، الآن على الأقل..
قصيدة النثر ليست راقصة
مارقة من سطوة الإيقاع، وليست عصفوراً يغرّد دون أي اعتبار لفن المقامات،
بل هي استجابة لضرورة، ضرورة حقيقية، ضرورة إنسانية.
إن أجمل الشعر – وليغفر
لي الشعراء الفحول – هو أصدقه، أجمل النصوص هو نص يتصالح جوهره مع جسده، نص
يشبه شاعره، ويشبه ذاته، وتتسق جميع أدواته مع بعضها بدون تضارب أو فصامٍ
داخليّ.
من هنا أؤمن بأنه ينبغي
على من يكتب قصيدة النثر أن يعي الأبعاد الحقيقية لكتابة هذا الجنس الشعري
تحديداً، فهي ليست مجرد تقنية يوظفها الشاعر لمصلحته، ولا " فاترينا "
يستعرض من خلالها حداثته، وليست " فرصة " متاحة ليتشعرن كاتب بدون موهبة
أصيلة ونظرة نافذة إلى قلبِ الوجود، ولكنها نظرة شاملة للعالمِ وإعادة
ترتيب لمفرداته، كيف نكون صادقين مع ذواتنا إن لم يكن النص هو طريقتنا
الأصيلة في الفعل والتأثير والوجود؟
فالشاعر الذي يكتب قصيدة
النثر لمجرد أنها النمط الدارج والمتعارف عليه، أو لمجرد أن لا يشكك في
حداثيته، يعاني موقفاً فصامياً إلى حدٍ بعيد، وليس صعباً بأي شكل، بالنسبة
للقارئ اللماح، أن يتحسس مواطن الفعل والافتعال في شعره، ويتبيّن فيه ملامح
الزّيف والهشاشة، خاصة إذا ما تبنى الشاعر موقفاً وجودياً لا يشبه السمات
الخارجية للنّص، فيصبح الشكل شكلانياً وزائفاً أكثر من كونه فعل " ظهور "
لجوهر النّص الحقيقيّ.
ذكر قاسم حداد في كتابه "
ليس بهذا الشكل ولا بشكلٍ آخر " [5] أنه لو تناول نصان ذات المضمون، فإن
ما يميز نصاً عن نص هو الشكل.
أعتقد بأن هذا ليس دقيقاً
تماماً، فالنص الحقيقي هو النص الذي ينسجم جوهره مع ملامحه، النص الذي
يشبه شكله، النص الذي يشبه ذاته، الذي يتحرر الشكل فيه من شكلانيته بحيثُ
يصبحُ فيه الفصل بين الاثنين ضرباً من القتل، والسؤال هنا : هل يصلح الشكل
لأي مضمون ؟ هل يصلح أي شكل لأي مضمون؟ هل تصلح قصيدة النثر لأي مضمون؟
هل يعتبر موقفي نكوصاً عن
موقف قاسم حداد الذي يصرّح بأن ليس ثمة شكل واحد، ليس ثمة شكل وحيد؟ على
الإطلاق، هناك عدد لا نهائي من الأشكال طالما أنها تجيء كظهورات لروح النص
وجوهره، ولكن مع كل هذه النماذج التي نقرأها لقصائد النثر التي تعاني
فصاماً حقيقياً في داخلها، ألا يحقّ لنا أن نتوقف قليلاً على " دلالات"
الشكل الذي ترسمه قصيدة النثر البودليرية، ونعي أسباب هذا الفصام في مخرجات
الشعر الحديث؟
إن القصور في معرفة
المنطلقات الحقيقية لقصيدة النثر، والمدلولات التي يفترض أن تفضي إليها، هو
السبب في وجود هذه المسافة الشاسعة بين النظرية والتطبيق، هو السبب في
حالات "الفصام" التي نتحسسها لدى الشعراء، عندما يتورّط الشاعر الحداثيّ
بالنسق المؤسساتي الفحولي ويكتب بشكلٍ يمجد الخطاب الهامشيّ ويعلي من شأنه،
لا يسعني إلا أن أشعر نحو نصه بالزيف.[6]
إن الفصل بين جسد النص
وروح النص هو فصلٌ شكلانيّ يهمنا للفهم والاحتواء، ولكن الحقيقة أن الشكل
لا يتقرر إلا مواكباً للكتابة، مواكباً للرّوح، إنهما كلٌ لا يمكن تجزئته،
تحضرني هنا الفكرة الفاتنة لكارل يونغ الذي يعتبر النفس جسداً منظوراً إليه
من الداخل، والجسد نفساً منظوراً إليها من الخارج، وأعرفُ بأنني أقحم وجهة
نظر سيكولوجية بحتة في سياقٍ مختلف، ولكن الأمر جدير بالمغامرة، لماذا لا
نستطيع أن ننظر بالطريقة ذاتها إلى الشعر؟
أعتقد بأنه إذا ما أمكن
تجزئة الشكل والمضمون فهذا يعني بالضرورة خللاً في الصنعة، أو قصوراً لدى
الشاعر في قياس مدلولات الشكل والمعنى، أو موقفاً أنطولوجياً للشاعر
مخالفاً للموقف الأنطولوجيّ لشكل القصيدة، فإما شاعرٌ لا يشبه نصه، أو نصٌ
لا يشبه نفسه، فكيف أستطيع الكتابة بشكلٍ لا رأس له ولا ذيل، ويكون ما
أكتبه أصلاً هو احتفاءٌ بهذا التقسيم النسقيّ؟
ينبغي أن نحترم في قصيدة
النثر كونها صادقة مع نفسها، أنها تشبه نفسها ولا يمكنُ أن تكتب إلا بهذه
الطريقة، الطريقة الحرة المتحررة من سطوة الأشكال المفروضة، الطريقة التي
يكون فيها الشكل تجلياً للإرادة / الفكرة / المضمون. يستحيل على قصيدة
النثر أن تتحول إلى قصيدة تفعيلة أو قصيدة عمودية، إنها تعترف بخصوصيتها
وتحتفي بخصوصيتها، والشكل فيها – الأفقي المسطح – هو ظهور للفكر الذي تبديه
وتكشف وجهه للعالمْ، وهو ليس عبثياً بأي شكل، إنه تجلي لموقف الشعر من
العالم.
إذا كانت الإيجابية حركة
نحو الخارج، والسلبية حركة نحو الداخل، ألا تصبح السلبية إيجابية إذا نظرنا
إليها من الداخل؟ والعكس صحيح.. نحن ننسى دائماً أن نظرتنا قاصرة ونعتقد
بأن المكان الذي نثبت فيه أقدامنا هو مركز العالم، ولكن ينبغي لغرور
الإنسان أن ينتهي الآن، ينبغي أن نرى الأمر من جميع الزوايا لنعيد ترتيب
القيم ونفهم حقيقتها، ومن ثمّ حقيقتنا.
إن ما أحاولُ فعله، هو أن
أكشف عن وجهٍ خفيّ للقيمِ السلبية تمّ فهمه بصورة مغلوطة، بصورة تتسق مع
النسق الذكوري، وتسرّب – من ثمّ – إلى الشعر ( وربما كان الشعر – كشأنه -
أكثرنا تأثراً! ).
يعرّف السلب كقيمة أنثوية
جوهرية، ويبدو من هنا الموقف السلبي متسقا وملائما مع الشكل الأنثوي، وهذا
الاعتقاد يجيء من الفكرة القائلة بأن موقف الأنثى في الإخصاب هو موقفٌ
سلبي، وأنها مجرد " وعاء " لتلقي ماء الذكر / الروح / الحياة.
.. التلقي، كقيمة ضرورية
لبناء حوار وخلق علاقة مع العالم، هل هي قيم سلبية حقاً؟
تقول د. شيفرد :
" يتطلب التلقي توقفا عن
الانشغال والنشاط، غير أنه مع هذا ليس سلبيا، إنه يستدعي الصبر وإيقاظ
الوعي والانفتاح والاستجابة، وكما تدل رمزية الإناء، يحتوي المتلقي شيئا ما
حيث تحدث عملية التجميع وإعادة التجميع، ينبثق شيء مستجد بالكلية، عن
التفاعلات والتحولات والتبدلات التي تحدث داخل الإناء، يتضمن التلقي
تمييزاً، القدرة على أن تقول لا، على أن ترفض وأن تأبى التلقي، تمييزاً
يستخدم وظيفتي الشعور والتفكير للحكم الذي نتلقاه. أن تكون متلقيا لا يعني
أن تكون سلة مهملات تقبل كل شيء يلقى فيها، إن التلقي مهم في العلم في صورة
الملاحظة، في صورة التأمل، في المعطيات وصورة الإنصات إلى الطبيعة، ويعني
أيضا أن تتلقى الآخرين، وأن يتلقاك الآخرون " [7]
فالسلبية ليست موقفاً
عاجزاً ولا موقفاً يابساً ومجدباً جعل أرسطو ينظر إلى المرأة على أنها "
بلا روح " .. بل موقفا فاعلا وحقيقيّا ومؤثرا، كل ما في الأمر أن فاعليته
تتحقق بطريقة مختلفة عن الطرق التي اعتدناها، أن له آلياته الخاصة لتحقيق
وجوده، ويحتاج تبيّن وجود مثل هذه الآليات إلى درجة عالية من الحساسية
والقدرة على النفاذ و " الإنصات " للعالم.
وهكذا تحوّلت السلبية
كقيمة مؤنثة، بفضل الخطاب الذكوري، إلى موقف عاجز وضعيف من الوجود، وأصبحت
سلبية الشعر نوعاً من الاتساق من النسق الفحولي، بل أن حتى الخطاب الأنثوي
الذي نظر إلى السلب نظرة مغلوطة تحوّل إلى خطاب ذكوري من حيث لا يشعر!
وهذا الفهم المغلوط
للسلبية على أنها نكوص وجدب وفي أحسن الحالات " هدم " ، نتحسس حضوره في
الشعر بشكل أسف، لتصبح هذه المفاهيم الغريبة – بقدرة النسق الخارقة – ضرورة
شعرية! ويصبح الشاعر أكثر قابلية لامتصاص هكذا أمراض لكي لا يخون "
شعريّته " .. بأن يعيش غير فاعل وغير " متفاعل " مع محيطه ومع العالم،
ويحتفل بـ " لا انتماءه " كما لو أنه انتصار!
فالقول بأن الشعر يهدمُ
ولا يبني[8]، أو الاكتفاء بفعل الهدم والتقويض داخل القصيدة، دون الوعي
بحقيقة "الشكل البديل " للعالم الذي يفترضه النص ( ومن تلقاء نفسه ) هو
موقف مغلوط، لأننا لا نستطيع، مهما حاولنا، متسترين خلف مقولات أفرزها
الخطاب المؤسساتي لتهميش دور الفن مثل "الفن للفن " أو " الفن لا يأتي
بالأجوبة" إلا أن نعترف بالطبيعة البنائية لقصيدة النثر خاصة على مستوى
الشكل المقترح: القصيدة ليست سؤالاً، رغم أنها مترعة بالأسئلة، وليست
جواباً أيضاً رغم أنها زاخرة بالأجوبة، وعبثاً تُركن القصيدة في زاوية
متطرفة لقويض حضورها بصفتها عامل توعية وثقافة! أضف إلى ذلك بأن مقولة
القصيدة تهدم ولا تبني هي ضربٌ من الإجحاف، لأننا نحول القصيدة بذلك إلى
كائن أحادي الاتجاه، وأحادي النظرة، وهي في حقيقتها أكثر انتشاراً وتمدداً
مما يوحي به هذا القول.
هكذا تحوّلت الكتابة إلى
حالة سلب، إلى فعل غياب وضمور، رغم أنها – في حقيقتها – فعل وجود، الأمر
الذي يحدث فصاماً لدى كثير من الشعراء لتبرير جنوحهم إلى الكتابة رغم
موقفهم العدميّ من العالم بصفتها " ثرثرة عدمية " على حدّ التعبير غير
المقنع للشاعر بول شاوولْ وغيره، الكتابة تبقى فعل وجود، وفعل تواصل،
الكتابة تبقى فعلاً يتحرّك نحو الخارج بقدر ما يتحرك نحو الداخل، إنها
جسرنا الممدود صوب العالم، وصوب ذواتنا، مهما زايدنا على ذلك.
إن الهدف من هذا الطرح هو
إعادة قراءة الوجهِ السالب للأنثوية على نحوٍ صحيح، وذلك لاقتراح سبب قد
يكون محتملاً للدور السلبي للشعر، وليس الهدف منها هو بيان الطريقة التي
أزاح فيها النسق الذكوري الوجه الفاعل للأنثى ( إذ لعلي أحمل الموقف فوق
احتماله بهكذا فكرة ! ) بل أن نبين سلامة الجذور التي تتكئ عليها الفلسفة
الأنثوية كمنطلق أصيل للنظر إلى الوجود والتفاعل معه، وللنظر إلى الشعر
والتجاوب معه.
وإذا كان نكوص الشعراء هو
مما أدى إلى تكريس الخطاب النسقي، بل وتحويل الخطاب الهامشي إلى نسخة تبطن
في داخلها خطاب مؤسساتي من حيث لا نشعر، فكيف نستطيع – من خلال الشعر – أن
نتبنى موقفاً إنسانياً أكثر فعالية في هدم الهيمنة الذكورية وإعادة
الاعتبار "لبعضنا " المتروك في الظّلال؟
أعتقد بأن هذا هو سؤال
الشعر الآن، إذ ليس من المنطقي أن تتبنى موقفاً عدميا من الوجود فيما شكل
النص الذي تكتبه يقوّض – و بمنتهى الشراسة – جميع الأشكال المتعسفة ويذكي
في العالم ثورة .. ما دام النص يكتبُ بشكلٍ يحمل كل هذه المدلولات
والإيحاءات الصاخبة التي تطالبُ الوجود بأسره بالاستجابة للشكل العادل، ولم
يعد بمستطاع الشاعر مختبئا تحت مزاعم التزام السؤال أن ينكر الحلول
والأشكال التي يقترحها نصه من تلقاء ذاته بتبنيه هذا الشكل تحديداً، أو أن
يطعم نصوصه بأفكار نسقية أو مصادرة ..
القصيدة، لا تستطيع أن
تأخذ مثل هذا الموقف اللا مسئول من الوجود، القصيدة – أمّ العالم – تشعر
بمسئولية ربما تفوقت على مسئولية كاتبها، فحريٌ بنا قبل أن نكتب الشعر، أن
نتأكد من كوننا شعراء!
بثينة
العيسى
3
كانون الثاني 2006
- أنثوية العلم، د. ليندا
شيفرد. ص 28
[2]
- أنثوية العلم، د. ليندا شيفرد ص 10
[3]
مثل قوله " المرأة لا تحذق الفصل بين الروح والجسد، إنها ساذجة مثل
الحيوانات .. الساخر قد يعزو ذلك إلى كونها لا تملك غير الجسد " ( اليوميات
– شارل بودلير، منشورات دار الجمل ) وهذا قولٌ أرسطي حتى جذوره، ولكنه على
مستوى آخر، كرس شعره في مناطق أخرى لتمجيد المتنحي والاحتفاء بالتعددية،
وطالما أنه كشاعر ما فتئ يطالب بحق الإنسان في التناقض علينا أن لا نزعج
رؤوسنا في محاولة تبرير تضارب أفكاره!!
[4]
ترجمة د. يمنى طريف الخولي، الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون
والآداب، سلسلة عالم المعرفة.
[5]
- مقتبس قاسم حداد مع رقم الصفحة.
[6]
في كتابه " النقد الثقافي " الصادر عن المركز الثقافي العربي، خصص الدكتور
عبدالله الغذامي جزءاً من عمله لقراءة نصوص لأدونيس تتطابق مع النسق
الذكوري، بدءا من " الأنا الفحولية وما تتضمنه من تعالي الذات ومطلقيتها
إلى إلغاء الآخر والمختلف وتأكيد الرسمي الحداثي كبديل للرسمي التقليدي " ص
271. مثل قوله " أنا قادر أن أغيّر لغم الحضارة، هذا هو اسمي "، وقوله
بالغ التأله للسماء " لست لائقة بمعراجي " ونصوص أخرى لا مجال لعرضها هنا،
أليس غريباً بالنسبة لشاعر يتزعم حركة الحداثة في المنطقة العربية أن يتورط
في شكلانيتها؟!
[7]
- أنثوية العلم، ص 113
[8]
في أكثر من مناسبة في الرابطة صرّح شاعر بأن قصيدة النثر هي قصيدة هدامة
وحسب، وأنها تقويضية تدمر الشكل الحالي ولا تهب العالم منظوراً بديلاً،
شخصيا أعتقد بأن هذا غير صحيح طالما أنها تقترح بشكلها على الأقل موقفاً
بديلاً من العالم، موقفاً مسطحاً يساوي بين الاحتمالات وينشرها في النورْ،
أعتقد بأن المنطلق الحقيقي لهكذا مقولات هو الإيمان بأن على القصيدة أن لا
تقدم أجوبة للقارئ على طبق من ذهب، وهذا مفهوم لأن هذا الوصول لن يكون
وصولاً حقيقياً، ولن يحدث التأثير المطلوب في نفس القارئ، قصيدة النثر لا "
تلفظ الأجوبة " ولكنها توقظها فينا، إنها تشعرنا بها من خلال الشكل الأفقي
السيال الذي تتخذه، فهي تكوننا بقدر ما نكونها، عوضاً عن ذلك، المقصود
بالأجوبة هنا ليس حلولاً ومقترحات إيدولوجية أو آنية، بل القدرة على النظر
إلى جميع الاتجاهات بصفتها احتمالات واردة. حيثما يكون السؤال يكون الجواب،
ولا نستطيع أن نركن القصيدة في زاوية واحدة.