المثقف وغواية الاستبداد
'مثقف' الحاكم يصبح أكبر خطرا لو كان رجل دين،
سعد القرش
يقشعر الجسد من تصور النهاية التراجيدية لممثل مصري أبرزه يوسف شاهين في فيلم “صراع في الوادي”. لم يحتمل مصر/ أنور السادات، فلجأ إلى عراق/ صدام حسين، وقيل إن الإيرانيين انتقموا منه في بداية عام 1981، فقطعوا لسانه، وتركوه ينزف حتى الموت. نهاية مأساوية تثير قضية ارتباك المثقف “الملتزم” في علاقته بالطاغية، بفكرة الاستبداد، منذ أرسطو، معلم الإسكندر الأكبر، الذي كان ينصح الإمبراطور الشاب، وينبّهه محذّرا: “تذكر أنك بشر”. لم تقل لنا كتب التاريخ شيئا عن تواطؤ الفيلسوف في اجتياح جيش الغزاة للشرق، واستعباد الشعوب، واستلاب الثروات، بما في ذلك سطو أرسطو نفسه على كنوز مكتبة الإسكندرية.
ثنائية المثقف والمستبد سلوك شائع، مكروه ومتفق عليه، منذ ما قبل الإسكندر حتى جورج بوش، مرورا بكل من يظنون أنفسهم حملة رسالة دينية أو حضارية، مدفوعين بغطاء أخلاقي يوفره مثقفون ورجال دين وفلاسفة يتسلحون بأدوات البحث ومناهجه لغواية الساسة، وتبرير الطغيان، حتى يمكن النظر بكثير من الدهشة، إلى تقصي أوجه الشبه بين أدوار أرسطو والمغيرة بن شعبة وبرنارد لويس.
يهونُ الأمر في وجود مسافة بين السياسي والمثقف، فإذا صار الأخير في موقع السلطة، أو قريبا منها بأقل مما يجب، يصبح المثقف داهية قادرا على إقناع عمر بن الخطاب نفسه، كما فعل المغيرة حين عرف الطريق إلى قلب عمر وأبرأ ذمته، ذمة عمر، لما استعصى عليه أمر البصرة، فجعلها في رقبة ابن شعبة: “يا أمير المؤمنين لأن ترسل لهم رجلا يصلحهم ويفسد نفسه، خير من أن ترسل لهم رجلا يفسدهم ويصلح نفسه”.
هناك من أنقذت مهارته الثقافية الخطابية خليفة آخر. كان يزيد بن المقنع العذري في حضرة معاوية، حين قال: أمير المؤمنين هذا، (وأشار إلى معاوية)، فإن هلك فهذا، (وأشار إلى يزيد بن معاوية)، ومن أبى فهذا، (وأشار إلى السيف). فقال له معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء.
يصبح “مثقّف” ـ بتشديد القاف مع الفتح والكسر ـ الحاكم أكبر خطرا لو كان رجل دين، ينطق باسم الله، ويملك شأن الدنيا والدين؛ فيحل الحرام ما شاء له خياله وهوى الحاكم. هكذا زيّن القاضي أبو يوسف لهارون الرشيد هذا العمل فرآه حسنا، إذ كان يحب جارية لأبيه محمد المهدي، وراودها فقالت: “لا أصلح لك، إن أباك قد طاف بي”، فقال له أبو يوسف: “فقيه الأرض وقاضيها”: “اهتك حرمة أبيك، واقض شهوتك، وصيره في رقبتي”.
في مراحل الطغيان العليا تكون الثقافة بضاعة يجيد تروجيها “مثقف” محترف يرى نفسه صاحب مهنة، لا صاحب رسالة ربما تكلفه حياته. المثقف هو الحلاج في مواجهة المقتدر، وأحمد بن حنبل في مواجهة المعتصم، والسهروردي في مواجهة صلاح الدين الأيوبي، وشارلي شابلن في مواجهة الرأسمالية المتوحشة والنازية العنصرية، ثم رافضا العنصرية الصهيونية: “السم النازي انتقل من الجلاد إلى الضحية”، هو سقراط حين رفض الفرار من أثينا وحاكم 500 قاض قبل أن يحكموا بكفره: “ليس على الأرض إنسان له الحق في أن يملي على الآخر ما يجب أن يؤمن به، أو يحرمه حق التفكير كما يهوى”.
ليس مطلوبا من المثقف، طوال الوقت، أن يكون شهيدا. هناك مسافة يمكن أن يتحرك فيها في أسوأ فترات الاستبداد، ألا يكون ظهيرا للمجرمين، أن يلزم الصمت، وألا يتطوع بإطالة عمر طاغية، أو تجميل وجه نظامه القبيح. فقد جون شتاينبك شرفه الإنساني حين رافق طيارا أميركيا، في غارة على فيتنام، وكتب: “كانت أصابع المقاتل الجوي تضغط على مفاتيح إسقاط القنابل مثل أصابع عازف البيانو الماهر”. وكذلك استراح ضمير إزرا باوند لاحتلال إيطاليا لليبيا، وانحاز إلى موسيليني، بعد أشهر على إعدام الشهيد عمر المختار.
لم يكن عشرات المثقفين المصريين مضطرين للاصطفاف خلف البعث بجناحيه، بحجة الهروب من عسف السادات. في مصر كان النظام “يظلم” المواطن، يفصله من عمله، أو ينقله إلى مكان ناء في عمل لا يجيده، ولكنه لا يلجأ إلى التصفية الجسدية التي مارسها صدام بنفسه، بمسدسه ضد رفاقه، ثم بكاهم وأبكى الحضور صدقا أو مجاملة، ولكن مثقفين وفنانين آثروا الرحيل إلى رحاب صدام، حيث لا يسمح النظام لمعارضيه الصامتين بمجرد الإقامة الآمنة.
المثقف العربي المصاب بالشيزوفرينيا كان يهرب من الاستبداد الديني والعشائري القبلي في محميات الجزيرة العربية، ويعيش في ظل الجناح السوري للبعث، بحجة أنه علماني. لا تسقط السماء مستبدين، ولا تستورد الشعوب جلاديها. في المساحة بين زوايا المثلث وأضلاعه: “الله ـ الشعب ـ الطاغية” يتحرك المثقف، ويختار وجهة هو مولّيها.
بين المستبد والمثقف لغة منطوقة أو صامتة، مقاومة متفاوتة الدرجات، أو غزل غير عفيف. المثقف الحر هو الإنسان الفرد الواحد الأحد، والمثقف “المهني” هو وريث الاستبداد، تشبّعت روحه بهواء له رائحة دماء الضحايا، مجرد مملوك صغير مقهور ينتظر فرصة ليحتل منصب “الأستاذ” الذي كان لقب كبير المماليك. هذا المثقف “المهني” لا يستمتع أو يستأنس أبدا بوحدانيته، ليس من سلالة أبي ذر الغفاري، بل تجده في ظلال الطغاة، جزءا من مشروعهم حاملا عار جوائزهم، ويحلم بأن يكون مع زملائه المماليك طبقة، بعد أن كانوا طائفة أو جماعة.
لا يمتلك المثقف المصري شجاعة “نبلاء” راهنوا على نجاح التجربة الاشتراكية، وانتحروا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولا رهافة صادق هدايت، إذ لم تحتمل روحه التناقض بين أشواقه إلى الحرية، والقبضة الدامية للشاه، فاختار الانتحار في باريس عام 1951، بعد أن رأى “أن كل ما سيكتبه سيصبح غير ذي شأن في دولة تلك أحوالها”، كما يسجل إبراهيم الدسوقي شتا في مقدمة ترجمة “البومة العمياء”.
الآن وهنا في مصر، في معركة الثقافة والاستبداد، قاوم من قاوم قبل 25 يناير 2011، وهزم كثيرون بعد 30 يونيو 2013، غرّتهم الأماني، وأغرتهم المناصب والجوائز، من صدام إلى القذافي. انهزموا أخلاقيا. وبعد هدوء رياح الثورة، أطلوا من جديد، ثم تسللوا إلى المشهد وتصدروه. عادوا بلا حياء.