شعرٌ وأوزانٌ وحرّية
جودت فخرالدين
وقعتُ بالمصادفة على قطعةٍ مثيرةٍ للشاعر أنسي الحاج، الذي رحلَ مؤخراً، وجدْتُ فيها دلالاتٍ وأفكاراً أحببتُ التعليقَ عليها . هنا نص القطعة:
"أنسابُ كالماء بين الصخور .
جلستُ لأنظمَ،
فرأيتُ الأوزانَ عصافيرَ تبكي في أقفاصها .
أكان يمكنُ أنْ أتركَ العصفورَ حزيناً
من أجل أنْ أزينَ بيتي؟
وتركتُ الأوزانَ لأشدّاء القلوب .
وكم أنا معجَبٌ ببراعتهم،
وكم يُطربُني الغناءُ المنظم،
وكنتُ أود لو أكون مثلَهم
ولكنْ ما حيلتي
إذا خلقني الله ضعيفاً أمام الحرية؟
فضيّعتُ الأوزانَ وضيعتْني
ولم أربح غير وفاء العصافير" .
يمكنُ القولُ أوّلاً إنّ مضمونَ هذه القطعة يتمحورُ حول العلاقة بين الشعر والوزن،ويُفْضي إلى التفكير في مثل هذه الأسئلة: هل الوزن هو قيدٌ (أو قفصٌ) للشعر؟ هل الحرية هي في التخلّي عن الوزن؟ ألا يمكنُ للشاعر (الموزون) أنْ يكونَ حرّاً؟ وبالنسبة إلى أنسي الحاج، هل عبرَ في قطعته هذه عن رغبةٍ عن الوزن أم عن رغبةٍ فيه؟
في محاولة التصدّي لهذه الأسئلة، أود القولَ إني قرأتُ في كلام الشاعر أنسي الحاج رغبةً في كتابة الشعر على الأوزان المعروفة، التي لم تتسن له، أو بالأحرى لم تتهيّأ له معرفةٌ بها . وهذا واضحٌ في إشارته إلى كُتّاب الشعر الموزون: "وكم أنا معجَبٌ ببراعتهم . . . وكنتُ أود لو أكون مثلَهم"، وكذلك في إشارته إلى نظام القصيدة: "وكم يُطربُني الغناءُ المنظم"، وهو نظامٌ يمكنُ تبينُهُ في القطعة الشعرية الموزونة أكثرَ منه في القطعة الشعرية الخالية من الوزن .
إذاً، يرغبُ أنسي الحاج في شيءٍ لا يملكُهُ، هو الوزن . وقد عبرَ عن هذه الرغبة في مقابلاتٍ صحافيةٍ أُجريتْ معه . ولكنّه، من جهةٍ ثانية، عبرَ عن نزعته إلى الحرية، أو بالأحرى إلى تحرير الشعر: "أكان يمكنُ أنْ أتركَ العصفورَ حزيناً، من أجل أنْ أزينَ بيتي؟"، أو"ما حيلتي إذا خلقَني الله ضعيفاً أمام الحرية، فضيّعْتُ الأوزانَ وضيعتْني"، أو"تركتُ الأوزانَ لأشدّاء القلوب" . . .الخ . وفي هذا كله إقرارٌ بأنّ الوزن هو قفصٌ من أقفاص الشعر التي ينبغي له أنْ يتحررَ منها .
فالشعر - بحسب الحاج - عصفورٌ والوزنُ قفص . هذا ما رمى إليه، واقعاً في شيءٍ من الاضطراب عندما جعلَ الأوزانَ عصافيرَ في قوله: "رأيتُ الأوزانَ عصافيرَ تبكي في أقفاصها" . فإذا كانت الأوزانُ هي العصافير، فما الأقفاص؟!
هل نقولُ، بناءً على ما تقدّم، إنّ الحاج قد وقع في التناقض؟ لرغبته في الوزن من جهة، ولعَدهِ الوزنَ قفصاً للشعر من جهةٍ ثانية؟ لا، أنا أميلُ إلى القول إنّ أنسي الحاج كان صادقاً في التعبير عن رغبته في الوزن، وعن نزعته إلى الحرية . ولكنّه أقر بنقصٍ ما، يتمثّلُ على الأرجح بعدمِ خوضهِ تجربةَ الكتابة الشعرية الموزونة . فكأنه أراد القول إنه تمنّى لو كان خيارُهُ في التخلّي عن الأوزان ناتجاً عن معرفةٍ بها، ليكونَ خياراً بالمعنى الحقيقيّ .
لم يقُلْ أنسي الحاج، وهو عندنا من أبرز كُتّاب قصائد النثر، إنّه عدو للوزن .
ولم يقُلْ إنّ الوزنَ لم يعُدْ صالحاً للشعر . أما الكثيرون من كُتّاب قصائد النثر فقد تعاطَوْا مع الوزن وكأنهم أعداءُ ما يجهلون . وقد ذهبَ البعضُ منهم إلى القول إنّ الشعر إنما يتحقّقُ بالتخلّي عن الوزن، لأنه في نظرهم بات جزءاً من الماضي أو التراث، وبات عائقاً للشعر أو قيداً من قيوده . فلماذا وجدوا في الوزن (أو في القواعد العروضية) قيوداً للشعر، ولم يجدوا مثل ذلك في النحْو (أو في قواعد التركيب اللغوي)؟ لماذا لم يفطنوا إلى أنّ الشعراء يتباينون في استخدام البحور نفسها؟ وكيف لهم أن يفطنوا إلى الفرْق ما بين (البحر) و(الوزن)؟ أليس المهم في تأليف الشعر هو الطريقة؟ طريقة الشاعر في ابتكار لغته الشعرية من خلال تجديده في استعمال القواعد، نحْويةً كانت أو بلاغيةً أو عروضيةً . . . أو غير ذلك .
للأسف، ووجِهَ الوزنُ بمواقفَ سطحيةٍ، معه أو ضده، في الأدبيات العربية الحديثة، فلم يحْظَ بمواقفَ أو دراساتٍ عميقةٍ من شأنها أنْ تُظْهِرَ أهميةَ حضورهِ أو غيابهِ في تأليف الشعر .