“انّ الارهاب علامة على خلل جذري في ماهية الحداثة نفسها”- فتحي المسكيني –
“لا يتمّ احصاء الموتى، بالطريقة نفسها، في جميع أرجاء العالم”
- دريدا-
لا أحد بوسعه اليوم وهو مورّط إلى حدّ الفضيحة بكل ما يحدث لنا في البلاد العربية، أن يدّعي إمكانية فهم هذا الذي يحدث لأنه لا زال بصدد الوقوع علينا كما اللعنة أو المصيبة أو المؤامرة .. فما وقع لنا وعلينا لم يحدث فقط كما تقع بقية الأحداث التي تمرّ هكذا في صمت و اعتباط ومجانا، بل هو وجع وهو جرح وهو اغتيال وقتل لحيوات حميمة فينا ولمشاعر وأحلام وآمال تبخّرت.. من يُقتل اليوم في مناطق الربيع العربي لا يُقتل وحده ولا يُقتل وحيدا.. بل تُقتل معه كلّ الرمزية العربية.. كل المجازات والاستعارات والروايات والتأويلات.. كل القصائد تتألّم وتموت في اليوم ألف مرّة حين يقتل أطفالنا وتغتصب النساء في ديارنا وتصير شعوبنا إلى شعوب لاجئة.. بلا وطن.. بلا ربّ يحميها.. بلا رغيف يحضن جوعها.. ذاك هو الربيع العربي.. فأين يقع هذا الربيع تحديدا ؟ في أيّ منطقة ميتافيزيقية من أنفسنا الباطنة التي نسينا أين ألقينا بأغانيها و أشجانها وأوجاعها العميقة ؟ وبعيدا عن الثنائي العقيم الذي ورثناه من المشاعر الباردة “التشاؤم والتفاؤل” فإنّنا نحتاج اليوم الى كمّية كافية من التشاؤم الخلاّق، من الغضب من أنفسنا، من حزن الخنساء التي لم تنزع عنها سواد الجاهلية الأولى… إنّ كل من لا يزال يعتقد أنّ المثقّف مطالب بزرع التفاؤل والأمل في نصوصه إنّما ينتمي إلى شكل رخو من سياسة الحقيقة .
أين يولد الارهاب؟ في أيّ مخبر جيوسياسي؟ وهل ثمّة ديمقراطية قادرة على مواجهة الارهاب؟ أم أنّ الارهاب هو سلعة ديمقراطية أيضا؟
يُقال إنّ الديمقراطية هي لعبة من ألاعيب الغرب الذي يتسلى بدمائنا كما يحلو له كما لو كنّا شعوبا قُصّرا، إلى متى سنظلّ نلقي بهزائمنا على أمريكا و الغرب؟ ويقال أيضا إنّ الارهاب ينبع من الدين الاسلامي تحديدا وإنّه علينا إعادة مراجعة علاقتنا وتأويلنا للإسلام بصنع اسلام على قياس مصالح الغرب الحيوية. فإلى متى سنبقى نرضي الآخر كما لو كنّا متسوّلين نقتات على موائد ربّ أعمالنا الكبير أي أمريكا؟
ما هو الارهاب؟
هذا السؤال ليس من الأسئلة الملقاة على قارعة المعاني الهادئة المطمئنّة إلى مراجعها. إنّه سؤال انتحاري مزوّد بقنابل تدميرية قاتلة. وللقتل مراجعه الخاصّة. وللدمار أيضا أوانه الخاصّ. لهذا السؤال إذن تاريخ دقيق. إنّه وُلد تحديدا على أنقاض برجي التجارة العالمية في أمريكا. وُلد السؤال من بين الركام: ركام الحضارة الغربية المتقدّمة وهي في قمّة سطوتها على العالم. وبخاصّة على العالم العربي والاسلامي. ركام العولمة التي لا مكان فيها إلاّ للسلع . كل شيء وقع تتفيهه وابتذاله. كل شيء صار يُباع ويُشترى. كل الشعوب المهزومة تمرّ هزائمها عبر مركز التجارة العالمية. حتى هزائمنا سلعة تصلح لزيادة ثراء وهيمنة لاهوت التقدّم الحداثي. هذا هو ما فهمه الاسلامي الأصولي الذي صار اسمه الإرهابي بإطلاق الذي ينتمي إلى “محور الشرّ” وعلى المجتمع الدولي برئاسة أمريكا أن تشنّ حربا عليه. فهل أنّ ما يحدث لنا اليوم في حديقة الربيع العربي المصابة بهشاشة تربتها وضعف المناعة فيها هو “حرب على الارهاب”؟ ثمّة من يعتبر أن الثورات العربية نفسها ما هي سوى خطّة من خطط أمريكا في حربها على الارهاب. هل يعني أنّ ثورات برمّتها هي مجرّد اشاعة أو وهم أو خدعة؟ هل صارت دماء أبنائنا الذين سقطوا في شوارع تونس و مصر وليبيا وسوريا.. كذبة ؟؟ لا أحد بوسعه أن يقدّر مدى مكر الأجندات المافيوزية العالمية.. لكن لا أحد يحق له أن يختزل أحلام و دماء وأوجاع شعوب برمّتها في مجرّد خطّة سياسية.. فأحلام البشر وآلامهم أكبر من مكر السماسرة والوكلاء العقاريين، خدم الامبريالية العالمية وحشمها ...
في تعريفه للإرهاب يزعزع دريدا كل عادات السؤال التقليدي الذي يبدو دوما مطمئنا الى إجاباته الجاهزة قائلا: “.. إذا كنّا لا نريد ألاّ نثق ثقة عمياء باللغة السائدة، التي تظلّ.. خاضعة لخطابات وسائل الاعلام أو لإيحاءات السلطة السياسية المسيطرة، فيجب علينا أن نكون حذرين جدّا عندما نستخدم كلمات”الارهاب “و”الارهاب الدولي “.. فما هو الارهاب أوّلا؟ ما الذي يميّزه من الخوف، من القلق أو من الهلع ؟..”
نحن فيما أبعد من الخوف والهلع. لأنّ هذه الحالات التي حدّثنا عنها التقليد الفلسفي الكلاسيكي منذ هوبز هي حالات نفسية لا تصيب جماعة بشرية ما الاّ في حالة الطبيعة، بما هي فقط حالة افتراضية إجرائية لتفسير أصل الدولة، في حين نحن اليوم في حالة المدينة المشطّة في مدنيّتها الى حدّ الارهاب. وفي هذا السياق يسجّل دريدا تحالفا عجيبا يسجّله بين الحداثة والأصوليات، بين العقل الحديث وعودة الديني. وربّما يصحّ القول أنّ ما يسمّى بالعلمنة الجذرية ليس سوى نوع “من تمسيح العالم” اتّخذ “شكلا سعيدا من التبشير بالحداثة”
إنّ الإرهاب ردّة فعل عنيفة على عملية التحديث العنيف التي عاشها العالم العربي في ظلّ النسق السريع للعولمة الغربية. هكذا اتفق أغلب المفكّرين الذين عالجوا هذه الظاهرة و من بينهم خاصة دريدا وهابرماس اللذان أعادا الارهاب إلى صانعيه أي العولمة الغربية نفسها، وذلك رغم اختلاف الصياغة والمنطلقات والاستراتيجيات الفلسفية لدى كل منهما. يقول هابرماس عن الارهاب بأنّه “ردّة الفعل الدفاعية على الخوف من الاقتلاع العنيف من أنماط الحياة التقليدية... ويمكن لنا أن نفهم ردّ الفعل الدفاعي الذي يتغذى من المصادر الروحية التي تقوم، ضدّ قوى العلمنة الغربية ، باثارة الكامن الروحي، الذي يبدو أنّه لا يمتلك وجودا فعليا الآن في حياة الغرب.. لا يواجه الغرب المادي الثقافات الأخرى،.. إلاّ عبر ثقافة الاستهلاك الاستفزازية المتفّهة لكل شيء.. ومن ثمّ فإنّ اهتمامه بحقوق الانسان، لا يعني، في الحقيقة، إلا حرصه على فتح أسواق حرّة جديدة..”
هذا الكلام نجده أيضا لدى دريدا لكن في صياغة مغايرة حيث نقرأ تحت قلمه ما يلي: “كلّ ارهاب يقدّم نفسه على أنّه ردّ، في حالة متزايدة. وبكلام آخر”إنّ لجوئي الى الارهاب هو الملجأ الأخير، لأنّ الآخر هو أكثر إرهابا منّي، إنّني أدافع عن نفسي أو أقوم بهجوم مضادّ، إن الارهاب الحقيقي والأسوأ هو الذي يقوم بتجريدي من أيّ وسيلة اخرى قبل أن يقدّم نفسه هو المعتدي الأوّل بوصفه ضحيّة “. هكذا تُتّهم الولايات المتّحدة وإسرائيل والقوى الاستعمارية والبلدان الغنية، والسلطات ذات الأشكال الامبريالية بممارسة إرهاب الدولة وبكونها”أكثر ارهابا “من الإرهابيين الذين يزعمون أنّهم ضحايا..”
يتعلّق الأمر بما يسمّيه دريدا “المناعة الذاتية” حيث يبدو الإرهاب فعل مناعي ذاتي يدافع به الارهابي عن وجوده معبّرا عن حالة هشاشة قصوى وتهميش وإهانة حضارية لم تعد تُحتمل. حيث يصدر الإرهاب عن رعب داخلي إزاء هشاشة من تهديد الآخر لوجودي. يقول دريدا: “إنّ أكثر المصادر تماسكا للرعب المطلق الذي يجد نفسه الأكثر عزلة أمام التهديد الأسوأ ، ربّما يكون ذاك الرعب الذي يصدر من”الداخل“، عن تلك المنطقة حيث يسكن”الخارج“الأسوأ معي أو” عندي“. إنّ هشاشتي هي بالتعريف وبالبنية و بالحالة بلا حدود إذا. من هنا يكون الرعب..”
ليس ثمّة إرهاب واحد ولا منطقة واحدة يولد فيها الارهاب. والارهاب لا يُقال فقط على الاسلاميين . إنّ الارهاب يُقال أيضا على كل سياسات التهميش و الظلم والتفاوت الاقتصادي والحضاري والحيوي. تلك هي النتيجة النظرية التي تخرج بها حينما تطّلع على ما كتب حول ارهاب احداث 11سبتمبر 2001... لكنّ هابرماس في تشخيصه للإرهاب كان مدنيّا أكثر من اللازم همّه هووي غربي تماما لأنّه يجهد نفسه كي ينقد ما تبقى من الحداثة الغربية. أمّا دريدا فيبدو رومانسيا أكثر من اللازم. يبحث عن أرض في الخطاب لشعب لا أرض له في الحياة. الأوّل، هابرماس، يداعب الغرب ويستصلح ديمقراطيته الليبيرالية ، وثانيهما أي دريدا، يلاعب اللغة ويناور على مكرها ودلالها .
لكنّنا اليوم و في العالم العربي حيث عاد “الارهابيون الى أراضيهم”، نعيش نمطا آخر من الارهاب ليس ذاك الذي فكّر فيه دريدا وهابرماس أو بودريار وغيرهم .. لقد غيّر الإرهاب من خطّته ومن عنوانه ومن ضحاياه : هذا الإرهاب لا يُختزل في تفجير مواقع العولمة الغربية التي مارست عنفا رمزيا وحضاريا على الثقافة التقليدية للاسلاميين، بل هو إرهاب يسطو على الثورات العربية ويريد تحويل الشعوب إلى رعاع والدولة إلى خلافة والمرأة إلى جارية والمدن إلى حطام والبشر الى جثث ورؤوس متناثرة هنا وهناك. شعوب تأكل أبنائها وأبناء يدمّرون مدن آبائهم .. وعصابات ما بعد حديثة لاإنسانية للتجارة بشعوبها: هذا هو الارهاب الجديد الذي حوّل الله و عباده الى مكنة للتجارة بالسلاح و الأرواح ..
إن الإرهاب الذي تعيشه اليوم شعوبنا في سوريا أو ليبيا أو العراق أو تونس هو إرهاب من نوع خاصّ جدّا: لا يقتصر على تفجير سريع لا يظهر مصمّموه إلاّ على الشاشات الافتراضية، بل صار الإرهابيون يتجوّلون في قلب العواصم العربية على ظهور الدبّابات في شكل من الغزو البربري والوقاحة اللاهوتية والعراء التشكيلي والصفاقة الكلبية. فتراهم يقتّلون ويذبّحون قُرى بأكملها وعائلات وعشائر.. ينثرون الرعب والخراب حيثما حلّوا.. كلّما دخلوا مدينة إلاّ وصارت رُكاما. وفي كل هذه الحكاية يبدو الاسلام بُرقعا تختفي تحت لوائه شبكات لتجارة الأسلحة والمخدّرات وأشكال أخرى من الجرائم في حقّ البشرية .
إنّ ما يحدث اليوم للشعوب العربية تحت راية الإرهاب يستوجب تغيير استراتيجيّة الحقيقة في خطابنا. يبدو أنّ معجمنا السياسي الكلاسيكي لم يعد قادرا على معالجة هذا الشكل من البربرية التي سقط فيها العالم الاسلامي بخاصة والعالم برمّته طالما لازلنا نسمح لأنفسنا بالحديث عن عالم. لأنّه يبدو أن لم يعد ثمّة عالم. ولم يعد ثمّة مستقبل في انتظارنا.. ما تبقى لنا هو أن نواصل الحلم والنضال اليومي من أجل الحياة.
هل ثمّة مستقبل للإرهاب ؟ أم أنّ الإرهاب لا يملك غير الماضي الذي نعتقد أنّه منه يأتينا؟ وماذا لو ثبت أنّ الارهاب لا يأتينا من الماضي إنّما هو مقبل علينا من المستقبل أي من “مستقبل يأتي على نحو جذري، بحيث يقاوم حتى قواعد المستقبل المقدّم”. والأخطر هو أنّ كل “حرب على الارهاب تعمل على إعادة توليد الشرّ الذي تدّعي استئصاله”.. ما هو العمل اذن ؟ “خطوتان الى الوراء – خطوة الى الأمام” ؟ و ماذا لو كنّا نسكن شكلا هندسيا غير الخطّ المستقيم الذي نعتقد أنّه الطريق؟؟ يبدو أنّنا في دائرة مربّعة تستوي فيها كل الجهات. بعض الأصوات من أصحاب النوايا الحسنة تنادينا“أن تمسّكوا بالديمقراطية كشكل وحيد لمقاومة الارهاب”. لكن أي شكل من الديمقراطية؟ الديمقراطية الليبيرالية أي ديمقراطية السلع التي حوّلت البشر إلى انفعالات استهلاكية ؟ ربّما علينا أن نستفيد من كل النقد الذي أنجزه المفكّرون المعاصرون للديمقراطية الغربية التي حوّلتها أمريكا إلى سلاح مضادّ للشعوب العربية تسوّقها على أراضيهم على ظهر الدبّابات. نحتاج إلى شكل مغاير من الديمقراطية، كمطلب نضالي حيوي من أجل عالم مشترك في ما تبقى لنا نحن المحاصرون بالهلاك من كل صوب، من النهارات القليلة.. التي اسمها الحياة... في عالم “لم تعد فيه الحياة تحيا”( وفق عبارة كارثية لثيودور أدرنو) .