الوطن ، المواطن ، المواطنة ، الوطنية ، تعبيرات شائعة يختلط في معناها الوصف بالقيمة. لكنها جميعا تنطوي على اشكاليات اساسية ، مصدرها كما اظن هو تطورها خارج الاطار المعرفي العربي ، وتطبيقها على نحو متغاير مع حاجات الناس في العصر الجديد.
ملخص الوقة
الوطن ، المواطن ، المواطنة ، الوطنية ، تعبيرات شائعة يختلط في معناها الوصف بالقيمة. لكنها جميعا تنطوي على اشكاليات اساسية ، مصدرها كما اظن هو تطورها خارج الاطار المعرفي العربي ، وتطبيقها على نحو متغاير مع حاجات الناس في العصر الجديد.
تحاول هذه المقالة تفصيح وتوضيح ابرز الاشكاليات المتعلقة بالمفاهيم المذكورة ، وتنظر خصوصا الى تطبيقاتها في الاطار الاجتماعي/السياسي للمملكة. وقد بدات بمقارنة التصور السائد عن الوطن والشعور الوطني ، ثم عرضت عناصر التفارق بين هذا التصور ومفهوم الوطن والمواطنة المعروف في العالم وفي علم السياسة المعاصر. ثم اقترحت ثلاثة اسباب محتملة لتاخر مفهوم الوطن عندنا عن نظيره الحديث. وفي الاخير اعدت تحديد الاشكالات ضمن الاطار المحلي وطريق المعالجة التي تنطوي على ستة محاور ، فكرية وقانونية وسياسية وتربوية واقتصادية.
الوطن بين صورتين: مادية ورومانسية
يشير مفهوم المواطنة المتداول الان الى منظومة من الحقوق الدستورية يتمتع بها الفرد مقابل ولائه لوطنه . وتعتبر الثورتان الفرنسية (1789) والامريكية (1775) محطات حاسمة في تطور المفهوم، الذي قصد من صياغته تمييز المواطن ذي الحقوق عن المفهوم السابق الذي يعتبر الخاضعين لسلطة الامبراطور رعايا او اتباعا يتوجب عليهم طاعته دون مناقشة
[1]. عرف ارسطو المواطن بانه (الرجل المؤهل لتولي المناصب العامة)، وهذا مفهوم اساسي في الفكر الدستوري المعاصر فهو ينطوي على جانب كبير من فكرة المسؤوليات المتبادلة بين الدولة والافراد
[2].
الوطن بالمفهوم السابق ليس عميق الجذور في الثقافة العربية. فقد انتقل اليها من الاطار المعرفي الاوربي ، ولم يتحول الى جزء نشط ومتطور في النسيج الثقافي العربي. واظن ان السبب يرجع الى ضآلة الانتاج الفكري الجديد في اللغة العربية خلال القرن العشرين ، وهذا الفقر اظهر ما يكون في حقول الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع والقانون ، وهي الحقول العلمية التي عولجت في اطارها فكرة الوطن والدولة في صورتهما الحديثة.
اقول ان المفهوم جديد كتمهيد للاشارة الى اشكالية مهمة في تصورنا لفكرة الوطن ولانفسنا كمواطنين. تحدثت في العام الماضي في ندوة اقامها النادي الادبي بالدمام لمناسبة اليوم الوطني عن صورتين متقابلتين : صورة الوطن الرومانسي وصورة الوطن المادي او اليومي.
في الاذاعة والتلفزيون والصحافة والمدارس يتحدثون عن الوطن الذي نحبه ونفديه ونعظمه ونفخر به ونشتاق اليه. الوطن الذي نحمله في قلوبنا ونتغنى به في اشعارنا . هذا وطن مكثف في لوحة ذهنية تملؤها جماليات متخيلة لان الانسان يريده كذلك. انه تطلع رومانسي لشيء محبوب ، والحب لا يحاكم ولا يجادل.
اما الوطن المادي الواقعي فهو الذي تقابله حين تخرج صباحا الى المدرسة او العمل ، تراه مجسدا في الطريق وفي شرطي المرور ، وفي موقع العمل ، وفي مكافاة العمل وفي العلاقة مع رب العمل وزملاء العمل ، تقابله حين تقرا اخبار اليوم في الصحيفة ، وتقابله حين تصادفك مشكلة او تسمع عن مشكلة. وتقابله حين تريد التعبير عن رايك او تختارك مكانتك ودورك وحصتك في الفرص وفي كلف المواطنة ، وفي القانون الذي تخضع لمتطلباته ، وفي العلاقة مع الذين ينفذون هذا القانون.
بعبارة اخرى فان الوطن الرومانسي هو الوطن الذي نحمله ونحميه ونفديه ، اما الوطن المادي فهو الوطن الذي يحملنا ويحمينا ويفدينا. هذا الوطن ليس مجرد ارض حتى لو كانت مقدسة ، بل هو شراكة في المغانم والمغارم ونظام للتكافل الجمعي يتساوى فيه صغيرالقوم مع كبيرهم ، قريبهم وبعيدهم.
الوطن الذي نعرفه
الوطن في الثقافة العربية القديمة هو القرية ومسقط راس الانسان ، يقول ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنو لذلكا
"الاهل" هو جوهر الرابطة الاجتماعية في الوطن القديم ، يقول قيس بن الملوح:
امر على الديار ديار ليلى اقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
خلال دراستي للايديولوجيا السياسية للتيار المحافظ في ايران ، اتيحت لي الفرصة لدراسة شريحة واسعة جدا من الكتابات القديمة والجديدة حول مفهوم "الجماعة" و"الوطن" و"الامة" في الفكر الديني
[3]. ولاحظت حينذاك اشكالات جوهرية في مقاربة المفاهيم الثلاثة. والحق اني لم اجد دراسة واحدة معمقة حول المفهوم المعاصر للوطن. معظم الكتابات تحاول التقريب بين مفهوم "الجماعة المؤمنة" والامة المسلمة والوطن في معناه الجغرافي او السياسي. مفهوم الوطن الذي نتحدث عنه اليوم هو مفهوم فلسفي ، يدرس في اطار الفلسفة السياسية ، وقانوني ، يدرس في اطار القانون الدستوري. هذا المفهوم بعيد الى حد كبير عن صورة الجماعة السائدة في التراث الفقهي ، او صورة "المدينة" المعروفة في التراث الفلسفي الاسلامي (كما عند الفارابي في "اراء اهل المدينة الفاضلة" مثلا).
مقابل هذا المفهوم ، يتكون مفهوم الوطن في الفكر الحديث من ثلاثة عناصر : الارض (السيادة على اقليم محدد) وعقد اجتماعي ينشيء نظاما سياسيا ذا ملامح محددة، ومشاركة نشطة من جانب كل مواطن في تقرير او تسيير امور البلاد.
ثمة عناصر اساسية يتفارق عندها مفهوم الوطن الجديد عن المفاهيم الثلاثة السابقة:
1- مفهوم الجماعة يركز على عنصر الايمان باعتباره ارضية العلاقة بين اعضاء الجماعة ، وصورة الايمان في التراث الديني الموروث يتمحور حول "التكليف". المفهوم القديم للجماعة يساوي "جماعة المكلفين المؤمنين". في المقابل فان مبدأ "المواطنة" الجديد يركز على الهوية السياسية/القانونية كقاعدة للعلاقة بين اعضاء المجتمع السياسي الذي نسميه الوطن. ويتضمن هذا المبدأ منظومة حقوق وتكاليف متقابلة ، من بينها الضمان القانوني للحريات الطبيعية والمدنية وتساوي الفرص والمشاركة في الشان العام.
2- مفهوم الامة يقارب الى حد كبير مفهوم "الاثنية" اي الرابطة القائمة على مشتركات ثقافية او عرقية. وهو لا يعد في العلوم السياسية الحديثة اساسا لعلاقات دستورية او سياسية.
3- مفهوم "الوطن" في التراث الاسلامي ينطبق على القرية او مسقط راس الانسان. ويتردد هذا المفهوم بوضوح في احكام السفر مثل قصر الصلاة والافطارفي رمضان . وواضح اختلاف هذا المفهوم عن نظيره المعاصر.
ظهور وتطور مفهوم الوطن المعاصر
قلنا اعلاه ان مفهوم الوطن الجديد يتالف من ثلاثة عناصر اساسية : ارض وعقد ومشاركة نشطة. تبلورهذا المفهوم وتطور خلال ثلاث مراحل :
المرحلة الاولى : ظهور الدولة القومية او دولة الامة nation-state ، التي ربطت السيادة بالارض والاعتراف المتبادل ويرجعها معظم الباحثين الى معاهدة وستفاليا سنة 1648.
أنهت هذه المعاهدات حرب الأعوام الثلاثين في الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، وحرب الأعوام الثمانين بين إسبانيا وجمهورية الأراضي الواطئة السبع المتحدة. ووقعها مندوبون عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، والإمارات البروتستانتية التابعة، وممالك فرنسا، إسبانيا والسويد، والجمهورية الهولندية.
تعتبر معاهدة وستفاليا أول اشارة الى ظهور نظام العلاقات الدولية الذي نعرفه اليوم، وهو نظام يوفر حماية قانونية لحدود كل دولة من خلال اعتراف الجيران بسيادتها ضمن هذه الحدود. قبل هذه المعاهدة كان النظام الامبراطوري هو السائد في العالم. الامبراطورية ليس لها حدود نهائية فهي تتقلص او تتوسع بحسب قوة جيش الامبراطور. وينتقل الناس من تبعية هذه الدولة الى تلك اذا سقطت اراضيهم تحت الاحتلال. اقرت معاهدة وستفاليا الحدود القائمة يومئذ كحدود نهائية للدول المتعاهدة ، يحرم تجاوزها او العدوان عليها. ومن هنا اصبحت حدود كل دولة محمية باعتراف دولي . بعبارة اخرى فقد اصبح اعتراف الدول الاخرى بالاقليم جزء من مكونات السيادة الاقليمية للدولة.
بموجب معاهدة وستفاليا ، لم يعد للتكوين الديمغرافي او الانتماء الديني او القومي قيمة سياسية خارجية . في داخل كل دولة هناك مجتمعات ترتبط قوميا او دينيا او تاريخيا بمجتمعات في دول اخرى ، لكنها اصبحت الان منفصلة سياسيا. لم تعد رابطة الدين او القومية ذات معنى سياسي.
في الوطن الجديد ، المانيا مثلا ، يرتبط الكاثوليكي والبروتستنتي ، الذي ينحدر من اصول جرمانية او فرنسية او سكوتلاندية او بروسية او خلافها ، اصبحوا جميعا مواطنين واعضاء في مجتمع سياسي واحد ، يربطهم نظام علائقي واحد وتجعهم هوية وطنية واحدة.
مع الدولة القومية اصبح لكل قطر حدود نهائية ولحكومته سيادة عليها ، واصبح جميع سكان القطر تابعين سياسيا وقانونيا لحكومتهم فقط ، بغض النظر عن اديانهم او قومياتهم او علائقهم السابقة.
المرحلة الثانية : ظهور مبدا العقد الاجتماعي : ينسب مبدأ العقد الاجتماعي الى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778) الذي قدم الصيغة الاكثر نضجا لفكرة العقد ، وكان لاخذ اباء الاستقلال الامريكي بافكاره في دستور الولايات المتحدة (1784) اعظم الاثر في ذيوعها وارتدائها صفة المرجعية. لكن روسو لم يبتكر الفكرة كليا فقد اعتمد على تنظيرات الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز (1588-1679) ثم جون لوك (1632-1704)
[4]. تصور الفلاسفة الثلاثة المجتمع السياسي او الدولة كنظام تعاقدي بين افراد احرار وعقلاء انتج اتفاقهم ارادة عامة تمثل مصدر السلطة التي تمارسها الحكومة . وطور روسو نظرية الارادة العامة التي تعتبر اليوم الاساس الذي سيادة القانون واحتكار الدولة لسلطة الالزام الجبري.
بناء على مبدأ "العقد الاجتماعي" فان جميع اعضاء المجتمع السياسي متساوون وشركاء في ملكية ارض وطنهم وموارده، شركاء في القرارات المتعلقة بمجموعهم. كما رأوا ان الفرد حر في افعاله الا اذا نص القانون على خلافه وان المهمة الرئيسية للقانون والدولة هي ضمان حريات الافراد وحقوقهم ، وان المجتمع فوق الدولة وسيد لها.
المرحلة الثالثة: ظهور دولة المنفعة العامة : وكانت احد ابرز التحولات التي اعقبت الحرب العالمية الاولى، وبدأت الفكرة في بريطانيا . ويقال ان من بين اسبابها ما ظهر وسط الطبقات الفقيرة من اراء فحواها ان الحرب كانت صراعا بين النخب الغنية على حساب الفقراء الذين لا نصيب لهم في خيرات البلد. وقد سهلت اجواء الحرب على حكومة حزب العمال تاميم قطاعات الخدمة العامة وتبني برامج للرعاية الاجتماعية ، بناء على مبدأ ان لكل مواطن حق في حد متوسط من الرعاية وان المجتمع ممثلا في الدولة كفيل باولئك الذين لا يستطيعون الاعتماد على انفسهم مثل الاطفال والمرضى وكبار السن والعاجزين والعاطلين عن العمل. وفي الحقيقة فقد شهدت الحقبة الواقعة بين الحربين الاولى والثانية (1918-1937) تحولا عاما في اوربا باتجاه دولة المنفعة العامة Welfare state.
ساهمت سيادة هذا المبدأ في اغناء مفهوم المواطنة التي اصبحت تتضمن بالاضافة الى الحقوق السياسية ، حقوقا اقتصادية واجتماعية ما كانت منظورة في ظل الليبرالية الكلاسيكية . في الحقيقة فان تطبيق هذا المبدا الذي ينسب الى الاقتصادي الانكليزي جون مينارد كينز (1883-1946) كان ابرز التعديلات التي ادخلت على النظرية الليبرالية. رغم ان جوهر المبدا الجديد اقتصادي ، الا انه اقلع على ناقلة سياسية فحواها ضرورة اشراك الطبقات الدنيا في دورة الانتاج الوطني واعتبارها شريكا كاملا في الحياة العامة ، مثل هذا المبدأ كان ورقة قوة لحزب العمال الذي يستمد قوته السياسية من دعم الطبقات الوسطى والفقيرة. مع تبلور دولة المنفعة العامة اكتمل مبدأ المواطنة، بانضمام العنصر الثالث اي مشاركة جميع المواطنين في الشان العام.
لماذا لم تتطور فكرة الوطن ومبدأ المواطنة في بلادنا
هذا سؤال يفترض سلفا ان فكرة الوطن والمواطنة ليست ناضجة في بلادنا، وهي دعوى قد تحتاج الى اثبات، لكني اظن ان معظم الناس يقبلون بها. على اي حال لو نظرنا الى العناصر الثلاثة التي قلنا انها تشكل فكرة الوطن وتؤسس لمبدأ المواطنة فسوف نجد ان المتوفر منها بشكل صريح وواضح هو الاول فقط. اما الثاني والثالث ففيهما نقاش وقد يقال انهما - بنسبة ما – متوفران لشريحة من المواطنين. هذا التحفظ يسنده ما نراه من محاولات خلال العقد الاخير للتاكيد على الفكرة بدءا من ادخال "التربية الوطنية" في المنهج المدرسي، الى ملتقيات الحوار (واخرها مؤتمر الحوار في جدة الاسبوع المنصرم) ، فضلا عن اهتمام الاعلام بالمسالة بشكل يومي تقريبا ، رغم انه لا توجد مشكلة جديدة ذات علاقة بالموضوع ، الامر الذي يكشف عن ان الموضوع بمجمله هو المشكلة.
على اي حال نستطيع القول دون مجازفة بان فكرة الوطن لازالت محل جدل ، وان مبدأ المواطنة لازال غير مستقر ثقافيا ودستوريا. وسوف اعرض ثلاثة اسباب محتملة لهذا الحال ، لا تشكل تفسيرا كاملا ، لكنها تشير الى طبيعة المشكلة التي نحن بصددها:
1- ثقافتنا الموروثة تدور حول محور "التكليف" او الواجب وليس "الحق". حين نربي اولادنا فاننا – في العادة - لا نعلمهم حقوقهم وواجباتهم ، بل الاخير فقط ، ونعتبر الولد الفاضل والمهذب هو الذي يلتزم بالتكاليف التي عليه. كذلك الامر في المدارس والاعلام والمنابر الدينية . نحن نتحدث كثيرا عما يجب علينا وما لا يجب ، لكننا لانتكلم الا نادرا عن حقوقنا وحقوق الاخرين. هذا سائد في اللغة والادب والتعليم والاعلام والتربية والعلاقات الاجتماعية والاجتماع الديني. ومن تبعات ذلك ان قيمة عظيمة مثل قيمة الحرية لازالت محل جدل بين الناس ، ولاحظت ان اعمق ما كتب في الادبيات الدينية حول الموضوع ينظر الى الحرية في المعنى المناظر للرق ، او في معنى الانعتاق من الشهوات وسيطرة النفس العليا (او العقل) على النفس السفلي (ميول القلب) . اما حرية التفكير والتعبير والعمل واختيار الوطن الخ فهي موضوعات ينظر اليها بارتياب وتوجس.
من جانب اخر فان فكرة السلطة السائدة في ثقافتنا، تشير عادة الى النخبة العليا. وليس عندنا شيء متين حول كون المجتمع وعاء للسلطة وان جميع الافراد شركاء في القرار. ثمة نصوص مرجعية يمكن اعتبارها قواعد تقوم عليها منظورات جديدة مثل "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" لكن هذه ينظر اليها بطريقتين مختلفتين: الراعي الفعلي او الحاكم يعتبر ذا سلطة تامة على رعيته والرعية الفعلية اي عامة الناس يتلخص دورهم في طاعة الراعي الفعلي والنصح له. وهذا المعنى يختلف عن المعنى المنطوي في مفهوم المشاركة وكونها حقا للافراد.
يلحق بهذا السبب حقيقة ان العلوم التي تدرس فكرة الوطن في اطارها ، ليست رائجة في بلادنا ، واشير خصوصا الى الفلسفة السياسية ، علم السياسة ، والقانون.
2- قبل ثمانية عقود تاسست المملكة كمجتمع سياسي جديد اندمجت فيها مجتمعات تنتمي الى خلفيات اقتصادية وتاريخية متنوعة ، وفي بعض الحالات متباينة. يتحدث علماء السياسة عن مرحلة وسيطة بين قيام الدولة واكتمالها ، يجري خلالها بناء الدولة (اي النظام السياسي) وبناء الامة اي (المجتمع السياسي). عملية بناء الامة تستهدف تسكين الهويات السابقة للدولة في اطار يتفق عليه الجميع هو الهوية الوطنية الجامعة التي تقر الهويات الاصلية لكن تنزلها من الاطار السياسي الى الاجتماعي-الثقافي. تتطلب هذه العملية استراتيجية ادماج واسعة لربط اقتصادات المناطق وتوحيد القوانين المطبقة فيها وكشفها ثقافيا واجتماعيا. من العناصر الرئيسية في استراتيجية الادماج نذكر في الجانب الاقتصادي مثلا التنمية المتوازنة جغرافيا وتوزيع المنافع وتساوي الفرص ، وفي الجانب السياسي نذكر التمثيل المنصف في الادارة العامة ، وفي الجانب الاجتماعي والثقافي تشجيع التعبير عن التراث الثقافي والفني الخاص بكل منطقة وعرضه في بقية المناطق .
اما عملية بناء الدولة فتركز على المؤسسات القانونية التي تنظم العلاقة بين المجتمع والحكومة وابرزها الدستور او القانون الاساسي والمؤسسات التي يشارك من خلالها المواطنون في القرار المتعلق بمصالح ، وكذلك القنوات التي يعبرون من خلالها عن رايهم وتطلعاتهم. وفي كلا المجالين فاننا نعاني فقرا شديدا.
من الواضح ان استراتيجية شاملة ومقصودة لبناء الدولة وبناء الامة لم تطرح ابدا . على انه في السنوات الخمس الماضية اتخذت الحكومة بعض الخطوات التي ستخدم هذه الغاية ، لعل ابرزها فتح جامعات جديدة خارج المدن الكبرى واقامة مراكز جذب اقتصادي في المناطق البعيدة اضافة الى تحسين شبكات الطرق والاتصالات. وعلى مستوى بناء الدولة نشير الى اقامة المجالس البلدية وتخفيف القيود على الصحافة في السنوات الاخيرة .
3- الاتجاه الديني ينطوي على ارتياب في الفكرة دفع الحكومة والنخبة الى الاغماض عنها. لا شك لدي ان شريحة واسعة من النخبة العليا في المملكة متأثرة بالثقافة الدينية السائدة. لكن الاهم من ذلك هو تاثير الاعراف السائدة في المجتمع الديني على النخبة وجزء مهم من الطبقة الوسطى. الفارق بين الاثنين هو ان الاول يعتبر نوعا من التدين اما الثاني فهو اقرب الى مجاراة اعراف اجتماعية لان الطبقة التي تحتضنها ذات نفوذ وتاثير.
بالقدر الذي اطلعت عليه من كتابات علماء الدين السعوديين فان فكرة الوطن ومبدا المواطنة لم تكن ضمن انشغالاتهم الفكرية في اي وقت من الاوقات. وجميع ما كتبوه – مما اطلعت عليه – يدور تقريبا حول محورين: القلق من تقديم الرابطة الوطنية على الرابطة الدينية والقلق من اتخاذ الاحتفاء الرمزي بالوطن صفة العيد.
ولفت نظري ملاحظة وردت على لسان الشيخ صالح الحصين رئيس مركز الحوار الوطني تنطوي على ارتياب في مشروعية الرابطة الوطنية ، فهو يرى ان الرابطة السليمة هي تلك التي تقوم على اساس مفهوم "الجماعة في الإسلام بكل مضامينها من الولاء لبعضهم، وأوسع بكثير من فكرة الوحدة الوطنية" ولتاكيد الفارق يقول الحصين أن فكرة الوطنية أنشأت سلبيات غير إنسانية وغير حضارية، وبالنسبة لنا غير إسلامية
[5].
افهم ان السياق العام لكلام الحصين يشير الى التمييز ضد المسلمين غير السعوديين ، وهو توجه لا غبار عليه. لكن القاعدة التي انطلق منها ، اي مفهوم "الجماعة المسلمة" تنطوي على مشكلات نظرية وتطبيقية كثيرة ، واعتقد انها غير صحيحة لجهة التاسيس الشرعي ولجهة المصالح التي هي مدار الاحكام. اثار اهتمامي راي الشيخ الحصين لسبب بسيط هو كونه رئيسا لمركز الحوار الوطني الذي يستهدف تعميق فكرة المواطنة وتعزيز الرابطة الوطنية ، ولكونه ينسب الى النخبة السياسية والدينية في آن.
على اي حال فان الارتياب في مبدأ المواطنة كاساس للرابطة الوطنية واضح في الادبيات المعبرة عن التيار الديني التقليدي ، وصدرت فتاوى تحرم الاحتقال باليوم الوطني وتكريم الرموز والممارسات الرمزية الخاصة مثل تحية العلم والنشيد الوطني وامثالها. وقدم الاستاذ احمد بن باز ثلاثة اسباب تفسر ارتياب التيار التقليدي :
أولها: عدم اقراره بالمفهوم الحديث للوطن ، اي المفهوم القائم على مبدأ سيادة الدولة ضمن اطار جغرافي/سياسي متوافق مع نظام العلاقات الدولية الحديث.
ثانيها : اعتقاده بأن الرابطة الوطنية ربما تشكل بديلا عن الرابطة الدينية أو مزاحمة لها. وهذا متفرع عن الاول.
ثالثها: رفضه المسبق للمفاهيم التي تطورت في الاطار المعرفي الغربي نظرا لان الاخذ بها يعبر عن استلاب ثقافي وانهزام فكري واستبدال للدين بالذي هو أدنى منه
[6].
ويتضح السبب الثالث في البيان الذي اصدره عشرة من المشايخ في 2008 ووصف الاحتفاء باليوم الوطني بانه تشبه بالكفار"الاحتفاء بهذا اليوم وتعظيمه وإظهار الفرح به وفيه، وتخصيصه بأعمال ولباس وتفريغ للناس من أعمالهم كذلك بجعله إجازة وفرض ذلك على الناس بما في ذلك المؤسسات والشركات الخاصة، ومعاقبة من لم يلتزم به. كل ذلك من التشبه الظاهر بالكفار، الذي دلت نصوص الشرع وأصوله ومقاصده على تحريمه". كما نددوا بالعلماء الذين اجازوه او اعتبروا المصالح التي ينطوي عليها، ووصفوهم بالتساهل "لما تغيّرت الأحوال نشأ في الأمة مُفتون يُعرفون بالتساهل وتسويغ ما لم يرد نص بتحريمه، ولا يرعون الأصول والمقاصد الشرعية"
[7]. و نقل الشيخ ال عبد اللطيف اراء عدد من العلماء التي تصف الاحتفاء بالمناسبات الوطنية بالبدعة المحدثة التي حرمها الشارع
[8].
يتضح السبب الثاني في اعتبار المشايخ مبدأ الولاء للوطن مزاحما او متعارضا مع قاعدة الولاء والبراء التي هي من اصول العقيدة . وقال المرحوم الشيخ بن باز ردا على سؤال في الموضوع :
"الواجب الولاء لله ولرسوله بمعنى أن يوالي العبد في الله ويعادي في الله وقد يكون وطنه ليس بإسلامي فكيف يوالي وطنه، أما إن كان وطنه إسلامياً فعليه أن يحب له الخير ويسعى إليه، لكن الولاء لله؛ لأن من كان من المسلمين مطيعا لله فهو وليه، ومن كان مخالفا لدين الله فهو عدوه وإن كان من أهل وطنه وإن كان أخاه أو عمه أو أباه أو نحو ذلك، فالموالاة في الله والمعاداة في الله".
وواضح ان قلق الشيخ المفتي يتمحور حول ما يراه من تزاحم بين ولائين ، ولاء للدين وولاء للوطن.
كانت هذه الفكرة ايضا محور اهتمام الشيخ ناصر العمر ، الذي قال ان الرابطة الوطنية تتعارض مع قيم الاسلام: "التمييز والتفرقة بين المسلمين على أساس الوطن والانتماء إليه، هو من دعاوى الجاهلية التي وضعها الإسلام وقضى عليها، فالعبرة في شرع الله ليست بالجنسية أو الوطن إنما هي بالإيمان" وعقب بان هذا " تمييع لمبدأ الولاء والبراء الذي هو من أوثق عرى الإيمان!"
[9].
استراتيجية التصحيح:
اشرت في السطور السابقة الى ان كثرة تناول المسألة في الاعلام المحلي ، وعلى السنة المسؤولين ، وهو ما يكشف عن جدلية الموضوع ومحوريته في اهتمامات المثقفين خصوصا والمجتمع السعودي بشكل عام. هذا يدعونا الى تجاوز المقاربات الانشائية والوجدانية للمسألة ، والتركيز على المقاربة العلمية ، للانتقال من التعبير عن المشكلة الى التفكير في حلها.
الانطلاق في المعالجة يمكن ان يكون رؤية عامة مستقلة عن اي ظرف خاص ، ويمكن ان يكون محاكيا لمشكلة محددة في ظرف محدد. تتبع الاولى في البحث النظري في العلوم السياسية وتتبع الثانية في البحوث التطبيقية او ما يسمى بصناعة السياسة=policy making. وسوف اعالج الموضوع من الزاوية الثانية.
تحديد المشكلة: معظم الحديث الذي دار خلال السنوات العشر الاخيرة انطلق من الدوافع الاتية:
1- الجدل حول اولوية الرابطة الدينية على الوطنية، وتبعا لها السياسات المبنية على مصالح وطنية مقابل تلك المبنية على اراء فقهية. وظهر هذا في الانشقاق الكبير الذي شهدته البلاد بعد قرار الحكومة السماح للقوات الاجنبية بالمرابطة في الاراضي السعودية بعد الاجتياح العراقي للكويت اواخر 1990.
2- الجدل حول النموذج الديني القابل للتواؤم مع حاجات الدولة ومصالح الجمهور في هذا العصر. وشهدنا في هذا الاطار انشقاقات واسعة في التيار الديني السلفي بين من يميل للتعاون مع الحكومة وبين من يعارض توجهاتها التحديثية. وتفرع عنه جدل حول وعاء السلطة (او مكان الولاية الشرعية الواجبة الطاعة) هل هو الفقيه ام السياسي الحاكم. الكلام حول الرابطة الدينية يسند التصور الاول ، بينما الكلام حول الوطن يسند الثاني. هذا الجدل اسبق من الاول في الترتيب النظري ، لكنه جاء متفرعا عنه في هذا الظرف على وجه الخصوص.
3- الجدل حول عدم التوازن والانصاف في توزيع الثروة الوطنية. وظهر هذا ابتداء في منتصف الثمانينات حين انخفضت مداخيل البترول وتفاقمت مشكلة البطالة. فقد ظهران المناطق الريفية والنائية بقيت على هامش الاقتصاد الوطني ولم تحصل على غير الفتات. وتواصل الجدل خلال عقد التسعينات بكامله، سيما بعد نزوع اداريين لاستغلال سلطاتهم في محاباة ابناء قبائلهم ومناطقهم في توزيع الفرص والخيرات التي كانت نادرة خلال حقبة التراجع الاقتصادي التي استمرت حتى نهاية الثمانينات. ووصل الجدل الى ذروته مع انفجار وباء حمى الوادي المتصدع ، حيث قام الملك عبد الله – ولي العهد يومئذ – بزيارة الى جيزان (اكتوبر 2000) التي كشفت له مدى القصور في الخدمات العامة في المنطقة. وبعد عامين قام بجولته الشهيرة بين بيوت الفقراء في الشميسي (نوفمبر 2002) والتي شكلت اول اقرار رسمي بان مشكلة الفقر في المملكة هي اكثر بكثير مما هو معلن.
4- الجدل حول حقوق المرأة والاقليات ، وهي من المشكلات القديمة لكنها تفاقمت في الثمانينات على خلفية تصاعد المد الديني وما رافقه من تعصب ، ثم تفاقم النزعات القبلية في نفس الفترة. وقد ترافقت محاولات الحكومة الاولى لعلاج المشكلة في 1993 بمعارضة من جانب جهات دينية كان اجلاها تعبيرا رسالة الشيخ ناصر العمر المعنونة "واقع الرافضة في بلاد التوحيد- مايو 1993" . وقد تكرر الامر عندما بدأت الحكومة بتحسين وضع المرأة السعودية ، وهو جدل مستمرحتى اليوم ، وتفاصيله معروفة للجميع.
هذه الدوافع الاربعة تشير من جهة الى نوعية الهموم التي يراد علاجها من خلال النقاش حول فكرة الوطن ومبدأ المواطنة ، وتشير من جهة ثانية الى الشريحة المهتمة بالنقاش ، والاهداف المتوخاة من ورائه. وانطلاقا من طبيعة المشكلة فان تنسيج مفهوم "الوطن" في الثقافة العامة وتعزيز قيمة الهوية الوطنية كاطار للهويات الفرعية يتوقف على وضع تصور صحيح لمبدا "المواطنة" كعنوان لمنظومة حقوق تقابلها واجبات متناسبة معها نوعا ومساحة. بعبارة اخر فاننا بحاجة الى :
1- عمل فكري يرسم مفهوم "الوطن" وطبيعة العلاقة التي ينبغي ان تقوم بين اعضاء المجتمع السياسي (المواطنين) ، والقيم المعيارية التي نرجع اليها كناظم ومفسر عند الاختلاف. اقترح مفهوم "شراكة التراب" كقاعدة فلسفية لفكرة الوطن التي نريد تصميمها.
2- عمل دستوري- قانوني يحدد الحقوق والواجبات المتقابلة بين افراد المجتمع من جهة والدولة من جهة ثانية. ويمكن ان يوضع في صيغة وثيقة وطنية او اعلان ملكي بحقوق المواطن يكون له صفة دستورية تفوق القوانين العادية.
3- عمل قانوني- سياسي يتمثل في انشاء المؤسسات التي تستوعب وتنظم تطبيق البند السابق ، اضافة الى تنظيم المشاركة الشعبية في القرار والشأن العام.
4- عمل اعلامي وتربوي- تعليمي يستهدف ايصال المفهوم الجديد الى المواطن كما يسعى لاقناع المواطنين بالمشاركة الفاعلة في استراتيجية التصحيح.
5- استراتيجية للانماء الاقتصادي يستهدف ربط مناطق الاطراف بالدورة الاقتصادية الوطنية ، ويعزز جاذبيتها للاستثمار ، ويسهم في انهاء وضعها الحالي الطارد للقوى العاملة المؤهلة.
6- الانفتاح الاعلامي والثقافي وتمكين جميع المواطنين من التعبير عن انفسهم وثقافاتهم الخاصة وارائهم في اطار الجدل السلمي الحر والمحمي بالقانون. وهذا يتطلب التعجيل في اصدار نظام الجمعيات التطوعية وجعله مرنا واسع الاستيعاب ، وتغيير فلسفة الرقابة على النشر.
هذه العناصر الستة تمثل محاور لاستراتيجية واسعة يمكن ان نطلق عليها استراتيجية الاندماج الوطني او اعادة بناء الهوية الوطنية او اعادة صناعة الاجماع الوطني. ويمكن ان تطلق كبرنامج من مرحلتين ، خمس سنوات لكل منهما ، تبدأ برسم الصورة التي نريد الوصول اليها في نهاية المدة ، وتفاصيل الخطوات التي يجب القيام بها لقطع المسافة والبرنامج الزمني والمتطلبات المادية والعملية.