كل معتقد أودين أو توجه إنساني أو اتجاه فلسفي تنبثق منه مذاهب متعدّدة لأسباب مختلفة تتمثل في التفسير والتأويل للنصوص والأفكار ،بالإضافة إلى وجود المصالح الشخصية والسياسية ،وثقافة المجتمع ،ووجود حاجات إنسانية ملحة وفقاً لظروف التطبيق والحالة الاقتصادية والبيئية ومدى التقبل الاجتماعي وهنالك سبب لا يمكن أن نغفل عنه وهو البعد التاريخي الزمني حيث يأتي التدوين متأخراً في كثير من الديانات والمذاهب مما يؤدي ذلك إلى التحوير والتحريف عن قصد أو عن غير قصد.
وبهذا فهنالك (المعتقد الأصل ) الذي انبثقت منه (المذاهب والفرق ) ولكل مذهب أو فرقة حرّاس يدافعون عن الأفكار التي تنتمي لمنهجهم وقد تكون بعيدة كل البعد عن المعتقد الأصلي وقد تكون قريبة منه أوقد تكون بين بين، وفي كل الحالات سيكون حارس الأفكار هو السلطة التي تدّعي الحقيقة المطلقة وهذا يجعل الأتباع ينظرون في كل مذهب أو كل فرقة من خلال ذلك الحارس المؤتمن عليها دون النظر إلى المعتقد الأصلي ومحاكمته سائرين طوعاً لذلك الحارس السلطوي الذي يكون كالفرعون في ادّعائه لاحتكار الحقيقة المطلقة حين قال:( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ).
فالمسيحي لا ينظر للمسيحية بمقدار ما ينظر لاتجاهه الذي يعتقد بحقيقته إذ قد يكون أرثوذكسياً أو كاثوليكياً أو بروستانتياً أو من المورمون، ولا يرى ذلك المسيحي التابع غير اتجاهه الذي يعتقد أنه يمثل الحقيقة بل حتى الاتجاه يتعدّد فالأورثوذكسي الأرمني يختلف عن القبطي أو اللاتيني أو السرياني، والمسيحي البروستانتي قد يكون لوثرياً أو أسقفياً أو ميثودياً أو غير ذلك وسيكون ذلك الاتجاه الفرعي المنبثق من ذلك المذهب والذي انبثق بطبيعة الحال من ذلك الدين هو الصائب عند أصحابه بحيث لا يرون الحقيقة عند غيرهم .
وحينما نريد أن نحكم على الإسلام فإننا نرى من هذا الأصل مذاهب شتى تطورت فهنالك السنة والمعتزلة والشيعة والصوفية والإباضية والدرزية والأحمدية والقرآنية وكل تلك المذاهب انبثقت من الأصل وهو الإسلام بل انبثقت من تلك المذاهب اتجاهات فمن السنة انبثقت مجموعة من المذاهب وهي الحنبلية والشافعية والمالكية والحنفية وظهرت حركات إسلامية منها الإخوانية والوهابية السلفية وداعش والنصرة ، وانبثقت من الشيعة مجموعة من المذاهب أيضاً وهي الاثنا عشرية والزيدية والإسماعيلية والعلوية .
وإذا خرجنا إلى الديانة اليهودية فهنالك الأرثوذكسية والمحافظة والإصلاحية وقد أفرزت هذه الديانة حركات تدّعي أنها تمثل الحقيقة مثل الصهيونية والماسونية .
وتلك الديانات الإبراهيمية السابقة تطوّرت عبر التاريخ ولكل اتجاه حارس أمين يدافع ويسعى لحماية الأفكار التي يؤمن بها ويدعو إليها لأنها يقينه الذي يريد من الأتباع أن يقبلوا به طوعاً أو كرهاً .
وإن خرجنا عن تلك الديانات إلى مفاهيم انبثقت حديثاً كالعلمانية مثلاً فقد انبثقت منها –أيضاً – اتجاهات ،فهنالك علمانية تُعنى بفصل الدين عن السياسة دون إنكار الدين وهنالك علمانية إلحادية وغير ذلك ،وبالنسبة للمفاهيم اللادينية والليبرالية قد تطوّرت إلى مفاهيم أخرى وكل حزب بما لديهم فرحون .
والديمقراطية التي هي في جوهرها مشاركة مجتمعية يتساوى فيها كل أفراد المجتمع فقد تطورّت من العهود القديمة عند الإغريق والهند التي كانت لها مفاهيمها البسيطة والتي كانت تمثل مدناً صغيرة حتى توسعّت في العصور الوسطى مع قيام الإمبراطوريات وتوسّعت أكبر في عصرنا الحديث مع وجود ديمقراطيات متعدّدة منها الاستشارية والتشاركية والاشتراكية والتجزيئية والليبرالية وقد شاعت الديمقراطية الليبرالية بشكل أكبر للحاجة الاجتماعية وتقبل المجتمع الحديث لمفهوم العدالة وحقوق الإنسان والمشاركة المجتمعية وشرعية الدولة وحق المواطنة .
وتلك الديمقراطية الحديثة في المجتمعات الغربية كانت لها نتائجها التي حقّقت لها الكثير من المكاسب ولكنّها في المجتمعات العربية أصبحت كتلة سرطانية فتكت بالشعوب العربية لاعتقادي بأنّ الحاجة والتقبل لها في الغرب يختلف عن المجتمعات العربية التي لم تكن مؤهلة لديمقراطية تعنى بأحقية الجميع وهي تستند إلى أفكار طائفية وعنصرية وقبلية ولا ترضى بفكرٍ حقوقي وضعيّ وهي تستند لكتاب مقدّس يمثل كل القوانين كما أنّها سنّت لنفسها سنةً تقوم على رفض الحياة الدنيا الفانية للقاء الحور العين والتمتع الجنسي بما لم يكن يحلم به في هذه الدنيا .
فعلى من تحكم ؟ الأصل أم ما انبثق عنه ؟ وأنا هنا لست بصدد الحكم على (الفكر الأصلي ) وما جاء عنه من ( تطوّر للمفاهيم ) ولكنّني يجب أن أكون منصفاً في التفريق بينهما فكما يقول الشيوعي حينما انهار الاتحاد السوفيتي بأنّ الخلل ليس في الشيوعية بل الخلل في التطبيق وما جاء من تحوير للمفاهيم فنحن نقول أيضاً : يجب ألا نحكم على الأصل من خلال المفاهيم التي انبثقت عنه فنحكم على المفهوم الأصلي حكماً يختلف عن حكمنا لكل الاتجاهات التي انبثقت عنه وبرجوعنا للشيوعية التي دافعت عن سقوطها فهي تطوّرت أيضاً فهنالك شيوعية ماركسية وشيوعية غير ماركسية والشيوعية الماركسية كان لها حراسها الذين طوروها فهنالك الماركسية اللينية والستالينية والماوية والتيتوية والتروتسكية والزوتشية والمجالسية واللوكسمبورغية فعلى من نحكم وأي اتجاه يمثل الحقيقة الشيوعية ؟!
فكل الاتجاهات الفرعية بحكامها المؤتمنين على أفكارها تدّعي أنها الحق المطلق و أنها تمثّل الأصل وكأنّ لسان حالها يقول ما قاله الشاعر :
وكل يدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقرُّ لهم بذاكــا
وفي هذا العصر الذي هو عصر المعلومات فإنّنا لسنا بحاجة إلى حرّاس الأفكار وعلينا أن نعرف (الأصل) و(الفروع) فإن حكمنا على الشيعة فلا نحكم عليهم من خلال تيار سياسي أو اتجاه تموّله بريطانيا أو فكر طقوسي دخيل وإذا حكمنا على السنة فيجب ألا نحكم عليهم من خلال داعش أو القاعدة أو جيش النصرة أو السلفية أو الإخوان فلكل مذهب حقيقة مختلفة ومتناقضة مع أنها تنتمي لأصل واحد .
من هنا علينا أن نفهم أن الأصول تغيرت وتطورت وتعرضت للتحوير والتحريف وعلينا أن ندرك هذا جيداً ليكون حكمنا منصفاً على كل المعتقدات والمفاهيم التي تحتاج لباحث ينقب فيها كما ينقب خبراء الآثار للوصول إلى الحقائق الأصلية فيكون الحكم صادقاً على الأصل وعلى كل الاتجاهات التي تفرّعت عنه.