كتاب اليعازر بعيري المعنون بـ” ضباط الجيش في السياسة والمجتمع العربي” صدرت طبعته الأولى بالعبرية في عام 1966. وقد ترجمة بدر الرفاعي وقدمه للقاري العربي في عام 1990 عن دار سيناء للنشر. يقع الكتاب ضمن حقل سوسيولوجية التاريخ، إذ يقدم تحليلا سوسيولوجيا لدور ضباط الجيوش في المجتمع العربي. ورغم ما فيه من تصور سلبي للمجتمع العربي، بيد أن هذا لا يقلل من أهمية الكتاب وقدرته التحليلية المتميزة حيث يفسر الصعود التاريخي للضباط في المجتمع العربي من خلال عوامل اجتماعية متكاملة سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية وثقافية. يساعد الكتاب على فهم الكثير من الأحداث الجارية في العالم العربي وبخاصة الصراع السياسي في مصر.
ينطلق المؤلف من “نظرية المسلك الطبيعي”، التي تستند إلى مقولة الضرورية التاريخية لحكم الجيش في العالم العربي. وهي تقوم على ثلاثة افتراضات:
1. يعيش العالم العربي حالة شديدة من التخلف وأزمة انتقال لا يمكن تخطيها إلا عن طريق التغيير الثوري للبناء الاجتماعي والنظام السياسي.
2. ليست هناك قوة قادرة على إحداث التغيير المطلوب، باستثناء ضباط الجيش.
3. الضباط لديهم القدرة على التأثير في هذا التغيير.
يعالج الكتاب مسألة الانقلابات العسكرية في التاريخ العربي الحديث والمعاصر من خلال “نظرية المسلك الطبيعي” وفكرتها بسيطة للغاية، وهي أن عند كل فوضى أو أزمة تمر بها البلاد وتمس تطوره، يصبح تدخل الجيش وإقامة دكتاتورية عسكرية ضرورة تاريخية محتمة، وينبغي النظر إليه باعتباره المسار الطبيعي في التطور السياسي للبلدان العربي.
ويلاحظ بعد كل انقلاب عسكري يتلى البيان رقم (1) يقول: “ونتيجة لذلك ومن المسلك الطبيعي أن ينهض جيش البلاد ورجال الأمن لإيقاف هذه الفوضى، ووضع حد نهائي لها”. وبالتالي فالجيش يبرر تدخله لان القوى المدنية فشلت في حل مشكلات السياسية بشكل مدني.
والسؤال كيف جاءت فكرة الضرورة التاريخية لحكم الجيش في العالم العربي وليس غيرهم؟
1. منذ البدء فإن الجيوش العربية قدمت نفسها باعتبارها طليعة ثورية للعالم العربي. والمؤشرات على هذه الفكرة:
أ- كل التحديث الذي بدأ في العالم العربي افتتحته الجيوش. فالقطاع العسكري في ظل الدولة العثمانية، أو ل قطاع اتصل بالمدنية الأوروبية. وأول من بدأ بالإصلاح داخل العالم الإسلامي في ظل الخلافة العثمانية هم الجيوش، وأول بعثات إلى أوروبا كانت بعثات الضباط لتلقي الدراسات المتقدمة في فرنسا وألمانيا وبريطانيا. فضلا عن أن الضباط هم حملة مبادئ الإصلاح والتحديث والقومية وكان ضباط الجيوش على رأس الحركات الوطنية التقدمية التي جابهت الاستعمار. ويلاحظ أن أول تمرد حدث في مصر الحديثة قاده الأميرلاي (عميد) أحمد عرابي في عام 1881 . مما جعل الجيش هو مصدر التحديث والتنمية باعتباره يستند إلى قاعدة تقنية وعلمية واقتصادية تجعل الجيش قادرا على المساهمة في تطوير البلاد.
ب- ليس هناك قوى طليعية مدنية قادرة على دفع البلاد إلى التطور وتخليصها من براثين التخلف والاستعمار سوى الجيوش .
ت- صراع الطبقات وتحديدا في مصر، مع غياب قوى سياسية قادرة على توفير إطار جامع شامل يضم جميع أفراد المجتمع في إطار واحد.
ث- تاريخا الجيش هو من قام بالدفاع عن الشعب. بالإضافة إلى أن تصور الناس للجيوش ككعب أخيل في حماية المجتمع من الاضطرابات الداخلية. وكذلك هو الحصن المدافع عن الشعب ضد الأخطار والتهديدات الخارجية. مما أكسب الجيش شرعية ثورية ما تزال قائمة.
ج- إن منطقة الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم عرضة للغزو العسكري عبر التاريخ وكان للأعمال العسكرية دور كبير في معظم الأحداث التي طرأت على نظم البلاد العربية.
ح- إن العنصر المناط به تحرير البلاد من التخلف والتبعية ومجابهة الفساد السياسي هم الضباط لما عرف عنهم الالتزام والانضباط وأخلاق الشهامة.
خ- الجيش هو الذي قضى على الإقطاع وحكم كبار الملاك والملَّكية التي تمثلهم، وأعاد توزيع الأرض على صغار الملاك والفلاحين. وقد تجسد ذلك في مصر والعراق واليمن.
2. الطبقة الحاكمة التقليدية التي مثلت كبار الملاك لم تكن قادرة على الاحتفاظ بالسلطة الحاكمة فتم القضاء عليها من خلال الجيش. والطبقة الوسطى ضعيفة وفقيرة ماليا وينقصها قيادة مسلحة بأيديولوجية واضحة شاملة. والطبقة العاملة في معظمها ذات أصول فلاحية ريفية، قليلة الخبرة، قليلة العدد وغير موحدة، تفتقد إلى الوعي الطبقي ومتخلفة فنيا. كما يعوق نضال العمال جيش من الفلاحين المتعطلين المتأهبين في أي وقت للحلول محل العمال المضربين. والملايين من الفلاحين فقراء يستعبدهم مستغلوهم سياسيا وروحيا. وبالتالي فالطبقات الشعبية لا تستطيع إقامة نظام يضمن الاستقرار والتنمية. كما أن الطبقة الوسطى التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية التي تتكون من الموظفين والإداريين والفنيين والمهنيين والتي تعمل بأجر لا طموح لها في امتلاك المؤسسات التي تعمل بها، ولا مصلحة لها فيها، وبالتالي من مصلحتها أن تؤول هذه المؤسسات للدولة. هذا يجعل الضباط هم المؤهلون على إحداث تحولات ضرورية وثورية في العالم العربي. والشريحة الأكثر تنظيما وطموحا وتطورا في الطبقة الوسطى هم الضباط، والفرص متاحة لهم في ظل غياب أي منافس. كل ذلك يجعل كل أزمة تواجه الدولة العربية يمكن أن تهز أسس الدولة من جذورها.
ومقابل ضعف المجتمع المدني وتفسخه، يقدم الجيش نفسه باعتباره كيانا وطنيا جامعا يمثل كل الشعب بعيدا عن الاعتبارات الطائفية أو الأيديولوجية التي تقسم المجتمع. وهو أكثر القوى تنظيما وكفاءة في البلاد، فهو كيان منضبط، يحتكر القوة الجسدية، ولا يتردد في استخدامها.
يبدو أن هناك شيئا آخر يمكن اضافته هنا، وهو في حالة ضعف المجتمع المدني وتناحر الطبقات الاجتماعية وتفسخ الجسد الاجتماعي وعجزه عن توليد أيديولوجية جامعة وقوى سياسية ممثلة تخوض النضال المدني في إطار برنامج سياسي واضح، كل ذلك يخلق نوعا من ورطة بنيوية تحول دون القدرة على التقدم.
في ظل الوضعية المنقسمة هذه يصبح التفكر السياسي التقني كنمط تفكير يفتقر لأية أيديولوجية في غاية الأهمية. وفي هذا الإطار يمكن تقدم القوى التي لا برنامج أيديولوجي لها، والجيش كقوة مادية مناسب في مثل هكذا وضعية باعتباره يقدم نفسه لكل المجتمع وليس لفئة منه، بالإضافة إلى قوته المادية. فالجيش يمتلك قدرة متميزة وتنظيما هرما عالي التطور، ولا يحمل أية أيديولوجية سوى فكرة الوطنية، ويمتلك القدرة على التحرك السريع، وليس بحاجة إلى إجماع لتغيير النظام.
كل هذه العوامل تجعل النظر إلى دور الضباط باعتباره جوهريا ولا يصح النظر لهذا الدور البارز والحاسم للجيوش في أوضاع المنطقة باعتباره أمرا عارضا مخالفا لوضع دستوري طبيعي، بل إنه وضع تاريخي وطبيعي. بل بالعكس، فحسب المؤلف، فإن الحكومات الدستورية المدنية السلمية هي التي ينبغي اعتبارها وضعا استثنائيا. حيث كل الحكومات المدنية لم تحكم إلا فترات قصيرة. وما جرى في مصر مع الدكتور محمد مرسي كأول حاكم مدني يدلل على رأي المؤلف.
باختصار يقول المؤلف إن الدور التاريخي الذي حددته تعاليم ماركس وانجلز للطبقة العاملة منوط في العالم العربي بضباط الجيش بحيث تكون تنظيمات كالضباط الأحرار بمثابة الطليعة القائدة، وتحل ” فلسفة الثورة”( كتاب الرئيس جمال عبد الناصر) محل “البيان الشيوعي لكارل ماركس.
مأزق حكم الضباط
أي حكم حتى لو كان نظاما إرهابيا لا يمكن الاحتفاظ بسلطته ما لم يكن له أنصار وشركاء في كل وحدة اجتماعية وكل مجموعة مهنية وكل قرية وأسرة من أجل كسب التأييد الايجابي للجماهير.
أي دكتاتورية عسكرية تتحسب لـ:
- انقلاب عسكري.
- حركات سرية.
- المعارضة.
ولحل هذه المعضلة يسعى الحكم العسكري لإقامة حكم يرتكز على تنظيم ذي قاعدة شعبية عريضة. فيسعى لتأسيس حزب رغم كراهيته للأحزاب السياسية، بهدف تنظيم الجماهير وتعبئتهم من أجل إحداث تغييرات في حال قامت القيادة بتغيرات عميقة في مجالات الملكية والإنتاج وعلاقات العمل والحياة الروحية.
ومعضلة حكم الضباط تتمثل في كيف يمكن استثمار همة الجماهير، وفي نفس الوقت إسكاتها؟ كيف يمكن الحصول على دعم الجماهير وفي نفس الوقت إضعافها؟. كيف يوفق بين الدكتاتورية والديمقراطي؟ هذه هي المعضلة المتأصلة في نظام الضباط.
ما الذي يجري الآن في مصر؟
يمكن استنباط رأي المؤلف في ما يجري الآن في مصر. وفق المؤلف، ما يحدث في مصر في هذه الأثناء هو إعادة الوضع إلى مجراه الطبيعي، أي حكم الضباط، فمصر لم تحكم تاريخيا إلا من قبل الجيش، أما الحكم المدني الذي مثله الدكتور محمد مرسي لأول مرة في تاريخ مصر فهو مسار غير طبيعي في الصيرورة التاريخية للمجتمع السياسي المصري توجب إعادته إلى حالته الطبيعية: حكم الجيش.
ولكن في حقيقة الأمر إن ما يجري الآن في مصر هو أن الجيش المصري واجه تحديا لأول مرة في تاريخيه يتمثل في ثورة شعبية جاءت بحاكم مدني، شخص من خارج المؤسسة العسكرية. لأن الجيش كان يحكم وفق فرضية ضعف القوى المدنية وعدم قدرتها على توليد إطار جامع من خلال الاتفاق على شخص يمثلها. ولكن ثورة 25 يناير اتفقت على شخص يمثله حتى ولو كانت نسبة هذا الشخص الذي مثل القوى المدنية هي 51% وهي النسبة التي حصل عليها في انتخابات ديمقراطية. ولكن ليس المهم هو الوصول إلى الحكم بل إن الأهم هو المحافظة عليه. وهو ما فشلت فيه جماعة الإخوان المسلمين.
* باحث فلسطيني
منبر الحرية،21 ماي/أيار