تتناول هذه الورقة تحليل التماثلات بين الإيديولوجيا الإسلامويّة المتطرّفة والإيديولوجيّات الشموليّة لأوروبّا القرن العشرين. وهي محاولة تستكشف المدخل الذي قد يُتيح المقارنة بين الروافع الفكريّة العميقة للإسلامويّة وللشموليّات الأوروبيّة الغربيّة، والولوج نحو تفكيك الإيديولوجيا. وإنّنا لنظنّ أنّ محاولة بحثيّة محايدة حول أوجه التشابه بينهما، قد تؤدّي إلى تحديد طبيعة هذه التماثلات ومداها، وهل هي حصيلة احتكاكات أو مجرّد مسارات فكر متوازية تعبّر عن غرائز عميقة. وفي الحدّ الأدنى، فإنّها ستبرهن على أنّ البنية التحتيّة الفكريّة للإسلامويّة لا تمثّل حقيقة محضة ونقيّة وفذّة، كما يزعم دُعاتها، بقدر ما هي منتج نموذجي ضمن طيف واسع للتفكّر الإيديولوجي الإنساني.
ولا يمثّل الربط بين الشموليّة السياسيّة والإسلام، أمراً مستجدّاً أو مجهولاً. فقد انبهر برتراند راسل (Bertrand Russell) في عشرينيّات القرن الماضي بالتّماثلات الملاحظة بين الإسلام والبلشفيّة. فكتب: من بين جلّ الديانات، تصنّف البلشفيّة مع المحمديّة، وليس مع المسيحيّة أو البوذيّة. فهاتان الأخيرتان ديانتان شخصيّتان بالأساس، تحملان عقائد صوفيّة وحبّاً للتأمّل. أمّا المحمديّة والبلشفيّة، فهما عمليّتان واجتماعيّتان وغير روحيّتين، ومهمومتان بالسّيطرة على العالم".
ويواصل راسل ملاحظاً أنّ البلشفيّة تؤلّف بين خصائص الثورة الفرنسيّة والإسلام الأوّل... لقد ظنّ ماركس أنّ الشيوعيّة متحقّقة لا محالة، وهو ما خلق عند أتباعه نفس الحالة الوجدانيّة التي عايشها أتباع محمّد الأوّلون ... وما فعلته المحمديّة للعرب، قد تفعله البلشفيّة للرّوس"(1).
وفي المنحى ذاته، عقد كارل يونغ (Carl Jung) وكارل بارث (Karl Barth) في أواخر ثلاثينات القرن الماضي مقارنات بين الإسلام والفاشيّة. فقد كتب يونغ: لا نعرف إن كان هتلر سيعثر على إسلام جديد“، مستدركاً إنّه بالفعل في طريقه إلى ذلك، فهو يشبه محمّد. فالعاطفة في ألمانيا إسلاميّة، حربيّة وإسلاميّة. والناس بأجمعهم منتشون برجل جامح” (2). ورأى بارث أنّه يستحيل فهم الاشتراكيّة القوميّة إن لم نُقاربها على أنّها إسلام جديد، وأسطورتها هي إله جديد، وهتلر هو نبيّ الله الجديد“(3). كما نشر إدغار ألكسندر إمّريش (Edgar Alexander Emmerich) سنة 1937 كتابه أسطورة هتلر (The Hitler Mythos) الذي قارن فيه الاشتراكيّة القوميّة بـالمحمديّة” وعثر على تشابهات بينهما، رغم تأكيده أنّ اهتمامه انصبّ حصراً على مقارنة الأشكال التنظيميّة الخارجيّة والآثار النفسيّة الجماعيّة والتعصّب الاحترابي.
لقد وُظّف هذا التماثل تاريخيّاً في نقد الأنظمة الشموليّة، لا الإسلامويّة. فقد كانت الشيوعيّة“، كما كتب جول مونيرو (Jules Monnerot) في خمسينات القرن الماضي في كتابه إسلام القرن 20”، في الآن ذاته ديناً علمانيّاً ودولة عالميّة“(4). ولاحظ مانفريد هالبيرن (Manfred Halpern) سنة 1964 أنّ الإيديولوجيا الإسلامويّة للإخوان المسلمين وسعيها إلى إعادة هيكلة المجتمع عبر رَوْحَنَة السياسات” (Spiritualization of Politics) لم تكن ظاهرة فذّة في ذاتها بقدر ما كانت نسخة شرق أوسطيّة عن الفاشيّة... تجمعها... قرابة ببعض الحركات الدينيّة السياسيّة التي انتشرت في غرب أوروبّا أوائل العصر الحديث" (5).
إلاّ أنّه لم يتمّ التنبّه آنذاك إلى مثل هذا التماثل، خاصّة في ظلّ غياب أدلّة دامغة عن وجود برنامج توسّعي عند الإسلامويّين الشموليّن يمكّن من إجراء مقارنة، فالتطوّرات الأخيرة في السياسات الإسلامويّة كانت ما تزال حينها تلوح بعيداً في الأفق، ولم تكن ذات دلالة إلاّ عند بعض المستشرقين. لذا، فلا غرابة في أن يعتبر المستشرق والشيوعي السابق ماكسيم رودنسون (Maxime Rodinson) آنذاك تصريحات مونيرو متناقضة، وشبه مهرطقة“. إلاّ أنّ رودنسون نفسه سيخلص لاحقاً إلى أنّه بالنّظر إلى ’عقيدته القهريّة’ يُبدي الإسلام والشيوعيّة تشابهاً مذهلاً”. ولعلّ أهميّة عمل مونيرو بصدد التعاظم الآن، شرط قلب أطروحته كي تغدو الإسلامويّة شيوعيّة القرن 21“. وبالمثل، فإنّ تحليلات مانفريد هالبرن للطّبيعة الفاشيّة للحركات الإسلامويّة الشموليّة الجديدة مثل الإخوان المسلمين، كما يوضّح والتر لاكير (Walter Laqueur)، لم تؤخذ في حينها بعين الاعتبار، لأنّها بدت سائرة نحو الأفول. ومهما كان الأمر، فقد كانت تلك التحليلات استشرافيّة إلى حدّ كبير” (6).
إلاّ أنّ المقارنة بين الإسلامويّة والشموليّة لا تخلو من انتقادات. فالرّبط بين الإسلامويّة والفاشيّة بالأخصّ كان محور جدل، لكنّ معظم النقد الموجّه إليه كان صادراً عن فهم سطحيّ لإيديولوجيا كلا التيّارين، ليُختزل الموضوع في ربطه بالتّمظهر التاريخي للنازيّة، والإقصاء العرقيّ (7)، والزعامة الملهَمة. فكيف يمكن المقارنة بين تصوّر شمولي محكم للمجتمع وبين مقولة مكانة الذمّة الإسلامويّة التي يُصنّف فيها كلّ من لا يرتضي المشاركة الكاملة في الإيديولوجيا الحاكمة (8)؟ إذ بإمكان المنتقد أن يتساءل: أين تقع التضحية بالنّفس من ذلك (9)؟
أما الربط بين الإسلامويّة والشيوعيّة، فقد كان حاله أفضل، وذلك رغم قيام بعض الاعتراضات حول خلوّ الإسلامويّة من أيّ إيديولوجيا دولانيّة“. إلاّ أنّ عدم موالاة الإسلامويّين لأيّ دولة قائمة، لا يُثبت أنّهم غير دولانيّين”. فالسّعي نحو إقامة دولة إسلاميّة، وهذا ما جاهرت به القاعدة وطالبان، يفنّد مثل هذا الاعتراض في الواقع، إذ أنّ إقامة دولة إسلاميّة يمثّل بالفعل شرطاً أساسيّاً لتحقيق أهداف دولة شموليّة تجسّد علويّة الإيمان الإسلامي. ومن هنا، فإنّ الشيوعيّين والإسلاميّين يسعون إلى إقامة دولة شموليّة معتقدين أنّ مصلحة الفرد يجب أن تكون خاضعة لمصلحتها. وتعتبر هذه الدولة، في كلتا الإيديولوجيّتين، مرحلة وقتيّة تخدم مقصداً أسمى. وبذلك، فإنّ الإسلامويّة، بعيدة عن إيديولوجيا اللاّدولة، وتنخرط ضمن إيديولوجيا الدولة الواحدة الموعودة.
وقد نزعت محاولات ربط الحركات الإسلامويّة مع شموليّات القرن 20 إلى التركيز على الأوجه التنظيميّة للتّماثل، أو ما جمع بينهما من تحالفات سياسيّة، فحسب. إلا أنّ الإشارات، رغم أهميتها، إلى نمذجة مؤسّس الإخوان المسلمين حسن البنّا بنية حركته التنظيميّة على طراز تنظيم “القمصان السُّود” (Black Shirts) لبينيتو موسيليني (Benito Mussolini)، أو العلاقات الوطيدة بين مُفتي فلسطين الحاج محمّد أمين الحسيني وأدولف هتلر (Adolf Hitler)، لا تثبت وجود تأثير محدّد على المستوى الإيديولوجي الأعمق. وبالنّظر إلى أغراض مجابهة الإديولوجيا، فهي تعتبر أقلّ نجاعة من تقصّي العمليّات الفكريّة المتماثلة بين النسقين. ذلك أنّ هذا الضرب من المقارنة، الذي يتجاوز الظاهر في البرامج السياسيّة، يمكن أن يبيّن كيف يتبع الإسلامويّون والشموليّون الأوروبيّون مسارات عقليّة، ويجيبون عن شواغل بشريّة متماثلة.
ويمكن للمناقشة عبر ملاحظة المسارات العقليّة المشتركة، أن تبيّن آثار هذا التوافق بخصوص إدّعاءات الإسلامويّين اكتساب إيديولوجيّتهم شرعيّة إلهيّة. فمثل هذه المناقشة قد تكون مفتاح فهم إيديولوجيا مضادّة ناجحة، بما أنّها على عكس أيّ مقاربة أخرى، تُحاجج المتطرّفين بمصطلحاتهم المرجعيّة ذاتها، وتستهدف بالخصوص الإدّعاءات التالية:
• فذاذة نموذج الإسلامويّين بخصوص المجتمع الإسلامي.
• الأصل الإلهي للعقائد المؤسّسة للإيديولوجيا.
• فذاذة التطبيقات السياسيّة لإيديولوجيّتهم.
وبذلك، تنفذ إلى الشريان الحيّ للتطرّف الإسلامويّ وتعبيرته المسلّحة في الجهاديّة، ألا وهي ادّعاء أصالة" إسلاميّة فذّة.
أهميّة الأصالة
لمَ يكتسي استهداف الأصالة مثل هذه الدرجة من الأهميّة؟
أوّلاً، لأنّ أيّ استهداف للبنية التحتيّة الإيديولوجيّة للجهاديّة ستكون له آثار هامّة على الاستجابة الإيديولوجيّة المضادّة من جهة أنّه يُمكن تبرير الهزائم العسكريّة بالدّعوة إلى صراع طويل الأمد، فيما لا يمكن للتّبرير الإيديولوجي أن يتحمّل أيّ هزيمة. ثانياً، وبدرجة أهمّ، فإنّ الأصالة تشكّل أحد الأعمدة الأساسيّة لهذا التبرير، وهي فكرة طاغية في معظم أدبيّاتهم، وصيغة أساسيّة للمرونة الجهاديّة. فهي الحَكَم في سلطتهم الأخلاقيّة في معظم المسائل، ومقياس ما يشكلّ الفرق في نظرهم، وفي رسالتهم الدعويّة، بين الإسلام القويم والإسلام المعتلّ. ولذلك، فإنّ شاغل الأصالة أمر على غاية الأهميّة للإسلامويّة ولمرونة الجهاديّين.
ولفهم مبعث ذلك، ينبغي أن ننظر إلى ما يشكّل مهد الإسلامويّة الفكري. فردّاً على ما يعتبرونه عولمة تدريجيّة للأفكار المتصادمة مع بعض أساسيّات الإيمان الإسلامي، يدّعي الإسلامويّون المتطرّفون توفير النموذج القويم“الذي يجب على المسلم أن يعيش طبقه. بل إنّهم يدّعون أنّ نموذجهم هو وحده الأصيل، لأنّه قائم على أقوال السلف الصالح وأفعالهم، أي الجماعة المسلمة الأولى. ويعتبر سلوك هؤلاء الأوّلين نمطاً يُحتذى به، إذ هم الأصيلون”، وهم سابقون للتّوافقات التي عُقدت في التاريخ الإسلامي الوسيط والحديث مع المتطلّبات العمليّة للسّلطة الدنيويّة. هذا هو موقف السلفيّة، متّبعي ممارسات السلف، وهذا هو المنبع الفكري الذي تنهل منه السلفيّة الجهاديّة (المدرسة التي ينتسب إليها تنظيم القاعدة) وترى فيه تحقّقها المثالي.
يمنح شاغل الأصالة المجاهدين مرونة معتبرة، حيث يتيح لهم تسويغ موقفهم الإيديولوجي، أي تنشيط الجهاد المسلح، على قاعدة:
- أنّهم مأمورون بوصفهم مسلمين بتقليد النبيّ وجماعته الأولى، فبما أنّ النبي وصحابته الأوليّن قد خاضوا الجهاد، فإنّ حجّتهم في ذلك تغدو قائمة.
- أنّهم في ذلك يتّبعون النموذج النبوي كما لخّصه أدب الحديث والسيرة، وهو ما يجعل سلوكهم ونموذجهم أكثر معياريّة ممّا عداه. وهو ما يعني أنّ كفّة الفوز سترجح لفائدة الجهاديّين في حالة نشوب صراع حول ما يشكّل الإسلام القويم أو حدوث تضارب مع النصّ.
- أنّهم يعودون إلى قالب بكر، أي أنّهم غير مجبرين على اتّباع توجيهات المدارس الفقهيّة التي زاغت عنه نتيجة الفساد المتراكم عبر التاريخ. لذلك، يُعتبر العلماء المضادّون للتطرّف متعاونين مع الجاهليّة (10) ولا سلطة لهم عليهم.
إذا ما كانت السلطة تعتمد على الأصالة كما نفهم من عبارة السلف، فهي تنزع الحصانة عن تيّارات الفكر الإسلامي الأخرى، وهو ما يفسّر بشكل من الأشكال لِمَ لَمْ تُسفر المبادرات التفكيكيّة إلى حدّ الساعة إلاّ عن نتائج متضاربة. فبدون تحدّي هذه الأصالة، يمكن للمجاهدين أن يحافظوا على مرونة فذّة. والمشكل المطروح هنا، هو إذا ما كان المجاهدون مدعومين بالنّصوص الدينيّة، أقلّه في حدود غاياتهم، فما الذي يمكن أن يفنّد ادّعاءاتهم بشأن الأصالة؟
التصرّف على شاكلة الكفّار
إنّ مجال النقاش الوحيد الذي يتجاوز الفضاء العقلي الدوغمائي للإسلامويّين المسيّج بإحكام، والذي يستشعرون فيه ثقة فائقة بالنّفس، يمكن تلخيصه في المبدأ الفقهي القائل الشبيه بالمنكر مكروه“. هذا مبدأ إسلامي عامّ، لكنّ المسلم القويم” طبقاً لشروط عقيدة الولاء والبراء الأكثر انغلاقاً وتشدّداً لا يندمج في مجتمع العدو أو يحاكي أيّاً من عاداته حتى أتفهها، بما فيها تلك التي تتّصل بالحديث واللباس أو الأكل والشرب، عملاً بقول النبي من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله" (11)، ناهيك عن تبنّي تصوّراته الفكريّة السياسيّة. وبذلك يغدو إقصاء أكثر ما يمكن من عناصر الثقافة الغربيّة، أمراً أساسيّاً في النظام الإسلامويّ.
لهذه الغريزة الأساسيّة أهميّة معتبرة بالنّسبة للمحاولة الإيديولوجيّة المضادة. فإذا كان المشروع السياسي للإسلامويّين مسعىً إلهيّاً محضاً كما يدّعون، فإنّه ينبغي أن يكون عندها إسلاميّاً من ألفه إلى يائه. لذلك، إن أمكن البرهنة على أنّ عقليّة الإسلامويّين وميولهم تفتقر قطعيّاً لمثل هذه الفذاذة، وإثبات أن الفكر الإسلامويّ يُبدي أنماط فكر متماثلة مع نُظُم سياسيّة وضعيّة وكُفريّة لا رابط يصلها بالإسلام، أو بالإيمان الديني أصلاً، فإنّ ادّعاءه السير على درب الله" سيُصاب إصابة بالغة، إن لم يكن في مقتل. وسيتوجّب على الإسلامويّين عندها أن يفسّروا سبب انتهاء نظامٍ مشرّع إلهيّاً إلى التشابه بشدّة مع بعض إيديولوجيّات أوروبّا القرن 20، الكُفريّة الشموليّة الجمعيّة، مثل الفاشيّات الإيطاليّة أو الألمانيّة أو الماركسيّة اللينينيّة (12).
قد نتمكّن باستعمال مقاربة مقارنيّة تحديد هذه التماثلات والتركيز بدقّة على ادّعاءات الفذاذة والأصالة الإسلامويّة تلك. ويمكن عقد المقاربة على درجات:
1. التماثلات مع الشموليّات السياسيّة المقدّسة.
2. التماثلات مع الحركات الدينيّة الفاشيّة.
3. التماثلات مع الحركات الدينيّة غير المسلمة ذات العقائد الإطلاقيّة.
ومن طبيعة المقارنات أن لا يأتي التطابق بذات الحدّ على جلّ المستويات. لكن الإسلامويّين مجبرون على المشاركة في النقاش، بما أنّ حركتهم تُشدّد على تعريف ذاتها بوصفها حركة إسلاميّة أصيلة وفذّة ومقرّرة إلهيّاً، لتوضيح لم لا تستقيم المقارنة على أيّ من المستويات.
صفوة القول، إنّ هدف هذه المقاربة هو استبدال الفهم الذي يروّج له الإسلامويّون حول صدام الحضارات، بآخر قد يجدر النظر إليه بوصفه صدام تحقيبات، أي مسألة تطوّر حضاري، تشترك فيه المجتمعات المسلمة مع مجتمعات أخرى، غير مسلمة، في سمات تطورها السياسي والديني.
تبرير المقارنة
يتوجّب علينا بدءاً أن نرفع التحفّظ عن الجمع بين الإيديولوجيّات الشموليّة والمعتقد الديني ضمن نفس النقاش. فالمعتقد الديني، شأنه شأن أيّ نظام، لا يمتنع عن المرور عبر مصفاة شموليّة على يد معتقدين لهم تصوّراتهم المسبقة عن كيفيّة وجوب ممارسته وتطبيقه. ولإثبات ذلك، سيكون من المفيد معاينة بعض المصطلحات الأساسيّة الموظّفة في هذه المقارنة.
أوّلاً، هذا تعريف أساسيّ للشموليّة:
يمكن لمصطلح الشموليّة أن يعنى تجربة في الهيمنة السياسيّة تقوم بها حركة ثوريّة تحمل تصوّرات جذريّة حول السياسات... وتسعى إلى إخضاع المحكومين ودمجهم وتنميطهم على قاعدة التسييس الجذري للوجود، الجمعي والفردي على حدّ سواء" (13).
تسعى هذه السلالة الجديدة من الثوريّين، عن طريق حشد الشعب“مباشرة أو من خلال نخبة تتحدّث باسم أعضاء الجماعة الفعليّين”، إلى اقرار الهيمنة الثقافيّة لنظام القيم الجديد. ومن هذا المنطلق، فإنّ مسعاهم هو السيطرة على قنوات الرأي والتعليم بغرض إقرار نهوض شامل بالأمّة (أيّاً كان مفهومه) من وضع الانحطاط الذي تعيشه. ويشكّل بعث الأمّة، بوصفها كياناً عضويّاً واحداً، الجسد الأسطوري" لهذه الإيديولوجيا في جلّ تنويعاتها.
ثانياً، نظراً لبعض الخلافات المسجّلة بشأن علاقة الإسلامويّة بالتّعبيرة الفاشيّة عن الشموليّة، يجدر بنا عرض بعض المعلومات الأساسيّة حوله.
يشير مصطلح الفاشيّة" في الأصل إلى المجتمع التعاضدي الذي روّج له بينيتو موسيليني في إيطاليا، ويصف نظاماً تشتغل فيه الدولة ككيان عضوي واحد. ونتيجة سيطرة الأكاديميّات الماركسيّة، نزعت الكتابات حول الفاشيّة إلى التشديد على عناصرها العدميّة ومسألة ردّ الفعل والانحرافات المرضيّة وجنون العظمة وغياب إيديولوجيا متماسكة، إضافة إلى إعادة التشكيل المشوّش للتّاريخ القومي والأسطورة. ولا يوجد في ما وراء هذا التعريف الواسع إجماع بين منظّري الفاشيّة حول ما يشكّل العناصر الجوهريّة المحدّدة لهذا المصطلح (14).
ونظراً للاختلافات العميقة التي دمغت شموليّات هتلر وموسيليني وفرانكو (Franco)، فإنّه لا غرابة في أن تستثير محاولات رصد تماثلات بين الفاشيّة والإسلامويّة الجدل والخلاف. لكن الدراسات المقارنة بخصوص الفاشيّة بوصفها ظاهرة دوليّة، والتي تفهم الفاشيّة على أنّها حركة، لا سلسلة من الصراعات السياسيّة المحدّدة جغرافيّاً، صهرت منذ أوائل التسعينات نظريّات عن فاشيّة نوعيّة، يمكن أن تُفهم على أنّها ضرب من العقليّة (15) أو سلسلة من النزعات الفكريّة، مع بعض الخصائص الثابتة المرصودة في جُلّ تمظهراتها السياسيّة. وكمثال على ذلك، ما جادل به الكاتب والأكاديمي الإيطالي أمبرتو إيكو (Umberto Eco) في مقاله الموسوم بـالفاشيّة السرمديّة" بأنّه يمكن للمرء أن يُقصي إحدى خصائص نظام فاشي أو بعضها، ومع ذلك يبقى فاشيّاً:
انزعْ الإمبرياليّة عن الفاشيّة، وسيبقى لديك فرانكو وسالازار (Salazar). وانزع عنها الكولونياليّة، وسيبقى لديك فاشيّة الأوشتازس (Ustashes) البلقانيّة. أو أضف للفاشيّة الإيطاليّة معاداة جذريّة للرّأسماليّة (التي لم تستثر موسيليني قطّ)، وستحصل على عزرا باوند (Ezra Pound). وأضف إليها ديانة سلتيّة أسطوريّة أو صوفيّة الكأس المقدّسة (Graal) (الغريبة تماماً عن الفاشيّة الرسميّة) وستحصل على أكثر المعلّمين الفاشيّين احتراماً، ألا وهو يوليوس إيفولا (Julius Evola)" (16).
وبالنّسبة لروجير غريفن (Roger Griffin) (17)، فإنّ مثل هذه المقاربة التي تنزل بالتحليل إلى الإواليّات الفكريّة يمكننا القول إنّها تملك بوصفها جهازاً كاشفاً مزايا أخرى. فهي تكشف عن مصفوفة صنع الأساطير التي تحدّد كيف يمكن لإيديولوجيا ذات شكل محدّد من الفاشيّة أن تتألّف من مجموعة هائلة من الأفكار، يمينيّة ويساريّة، محافظة ومتحرّرة، وطنيّة وفوق وطنيّة، عقلانيّة ولاعقلانيّة" (18).
لذلك، يمكن أن نطرح قاسماً مشتركاً أساسيّاً، يتجاوز كثيراً شأن الزعماء الملهمين والمسيرات والعسكرة الجماهريّة، يصلح لتعريف الإيديولوجيا الفاشيّة يسمّى القوميّة الشعبويّة البعثيّة“(Pelengenetic populist ultra-nationalism) (19)، فهو شكل ثوري من القوميّة، يسعى إلى أن يكون ثورة سياسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة، تصهر “الشعب” في جماعة قوميّة أَرِنَة (ديناميكيّة). وتتركّز الأسطورة الجوهريّة الملهمة لهذا المشروع في أن تعتبر نفسها حصريّاً حركة شعبويّة، عبر-طبقيّة، من أجل نهضة قوميّة تطهيريّة يمكنها وقف مدّ الإنحطاط” (20).
ثالثاً، تأتي العلاقة بين هذه الأنظمة السياسيّة والمعتقد الديني. فقد صرّح مفكّرون شموليّون مراراً بوجود بُعد دينيّ للسياسات. وقد سبق لبينيتو موسيليني وجيوفاني جانتيل (Giovanni Gentile) أن كتب سنة 1932، دون أي مقصد استعاري، أنّ الفاشيّة مفهوم ديني“. لهذا، تمّ تعريف الإنسان عبر علاقته بـقانونٍ سامٍ، هو إرادة موضوعيّة تتعالى عن الفرد وترتقي به كي يغدو عضواً واعياً في مجتمع روحي” (21).
شهدت السنوات الخمسة عشر الأخيرة تركّز النظريّة الشموليّة في هذا الاتّجاه، أي صوب النظريّات التي تلج عميقاً إلى الحافز الأساسي للفاشيّة بوصفها ديناً سياسيّاً“(22). وهو ما يفسّره مؤرّخ الفاشيّة الشهير البروفيسور إيميليو جانتيلي (Emilio Gentile) بقوله (23): لا يُشير مفهوم الدين السياسي حصراً إلى مؤسّسة نظام قِيَمٍ أو طقوس أو رموز، بل يتصّل أيضاً بجوانب أخرى أساسيّة من التجربة الشموليّة، وهي غزو المجتمع الذي يشكّله المحكومون وتنميطه. إنّها ثورة إناسيّة” (24). بل نجده يزعم أنّ ميزة الدين السياسي الشمولي هي الطبيعة المتطرّفة والإقصائيّة لمهمّته التاريخيّة، إذ لا يقبل الدين السياسي التعايش مع إيديولوجيّات وحركات سياسيّة أخرى، وينفي استقلالية الفرد بإقراره علويّة الجماعة، ويقدّس العنف بوصفه سلاحاً مشروعاً يُستخدم في الصراع ضدّ من يعتبرهم أعداءً داخليّين أو خارجيّين“. ويوظّف هذا العنف لفرض التحوّل بوصفه أداة للبعث الجمعي، فهو ... يفرض التزاماً إجباريّاً بالبعث الجمعي، وبتوجيهاته وبالمشاركة في العبادة السياسيّة” (25).