في مقالات سابقة، قلت بأن الأسطورة هي حكاية مقدسة يؤمن أهل الثقافة التي أنتجتها بصحة وصدق أحداثها. فهي والحالة هذه سجل لما حدث في الماضي وأدى إلى الأوضاع الراهنة. وهذا مايعقد صلة قوية بين الميثولوجيا والتاريخ باعتبارهما ناتجان ثقافيات ينشآن عن ذات النوازع والتوجهات، أي عن التوق إلى معرفة أصل الحاضر. ولكن بينما تنظر الأسطورة إلى التاريخ باعتباره تجل للمشيئة الإلهية، فإن التاريخ ينظر إلى موضوعه باعتباره تجل للإرادة الإنسانية في جدليتها مع الطبيعة. وهذا يعني أننا أمام نوعين من التاريخ: تاريخ مقدس وتاريخ دنيوي.
يقتصر التاريخ المقدس على سرد كيفية تجلي “الإلهي” في الزمان والمكان، والكشف عن فعاليات الكائنات القدسية في الأزمان الميثولوجية الأولى، وما نشأ عنها في عالم الإنسان. إن كل فعل من أفعال الإنسان، وكل وضع من أوضاعه الحالية، لاتتمتع بقيمة ذاتية، بل إن قيمتها وحقيقتها تنبع من حقائق تقع خارج الملموس والمحسوس، من بوادر أولى متجذرة في زمن الأصول. فالجنس البشري محكوم عليه بالكد والمشقة لأن الآلهة قد خلقته ليحمل عبء العمل عنها، على مانعرف من أسطورة أتراحاسيس؛ والمؤسسات الاجتماعية مثل الكهنوت والملكية الوراثية، قائمة وتتمتع بفعالية ونفوذ، لأنها هبطت من السماء، على مانعرف من أسطورة آدابا وأسطورة إيتانا والنسر؛ والمرض قد حل في جسم الإنسان بسبب خطيئة ارتكبها الإله إنكي، على مانعرف من أسطورة إنكي وننخرساج؛ وصار الموت نصيباً لكل إنسان بسبب خطيئة ارتكبها الإنسان الأول، على مانعرف من أسطورة آدابا وأسطورة الخلق التوراتية؛ والشر موجود في نسيج العالم بسبب تمرد ملاك في السماء وتحوله إلى شيطان، على مانعرفه من المعتقدات المسيحية والإسلامية.
يمكننا تمييز ثلاث مراحل في التاريخ الذي تكشف عنه الأسطورة: 1- السرمدية السابقة على فعاليات الألوهة. 2- الزمن الكوزموغوني، أي زمن الخلق والتكوين. 3- زمن الأصول والتنظيم.
لا تعلن الألوهة عن نفسها إلا عند دخولها في الزمن وتاريخ الكون والإنسان، وذلك مع قيامها بفعل الخلق الأولي الذي مد المكان وأطلق الزمان، وقاد إلى ظهور الكون في رحم العماء. والأسطورة الحقة لاتتشكل عندما يكوِّن الإنسان في ذهنه صوراً للآلهة، بل عندما يعزو إليها بداية محددة في الزمن، وعندما تباشر فعالياتها وتنبيء عن وجودها في سياق زمني، أي عندما يتحول الوعي الإنساني من فكرة الألوهة إلى تاريخها.
تقع الأحداث التي تقصها أساطير التكوين عند الحد الفاصل بين السرمدية والتاريخ، أي في الزمن الكوزموغوني. ومع الانتهاء من فعل الخلق نغادر هذا الزمن الكوزموغوني، ويدخل الإنسان وآلهته معاً في الزمن الخطي التاريخي. وهنا يعقب فعل الخلق البدئي مجموعة أخرى من الفعاليات المبدعة للألوهة تنشط في الأزمان الواقعة عند جذور الزمن التاريخي، أي أزمان الأصول والتنظيم. وهذه الفعاليات تسجلها لنا الزمرة التي نطلق عليها عادة اسم أساطير الأصول، وهي تعمل على تأسيس وتأصيل كل ماهو قائم، سواء على المستوى الطبيعاني أم على المستوى الحضاري.
تقدم لنا أساطير الشرق القديم أمثلة واضحة عن هذه المراحل الثلاث للتاريخ المقدس. فمطلع أسطورة التكوين البابلية، الإينوما إيليش، يعطينا أبلغ وصف عن حالة كمون الألوهة في مرحلة السرمدية السابقة على الفعاليات الإلهية، عندما يقول: “عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض؛ لم يكن من الآلهة سوى آبسو أبوهم، وممو، وتعامة التي حملت بهم جميعاً، يمزجون أمواههم معاً.” ينقل لنا هذا المقطع انطباعاً ميثولوجياً شديد التأثير عن مفهوم السرمدية الساكنة المنكفئة على نفسها المكتفية بذاتها؛ وهو في اختياره للماء جوهراً لهذه الكيانات الإلهية الثلاث، يؤكد على حالة الشواش والعماء السابقة على كل شكل.
ينتقل النص بعد ذلك إلى مرحلة الزمن الكوزموغوني، الذي يصدر فيه الكون عن الشواش والزمن عن السرمدية. فقد أخذت هذه الكتلة المائية الأولى بالتمايز تدريجياً، وصدر عنها الجيل الأول من الآلهة؛ ومع ظهور هذا الجيل تبدأ إرهاصات الزمن ونقترب من البرزخ الكوزموغوني. ويعبر النص عن إرهاصات الزمن بالضجيج الذي يصدر عن الآلهة الجديدة الشابة، في مقابل ذلك الصمت المطلق للأزلية الساكنة؛ ففي أعماق الأمواه المتمازجة في صمت وسكون، أخذ هؤلاء بالصخب والحركة جيئةً وذهاباً فهزوا جوف تعامة وسببوا لها الأذى، كما سببوا الأرق لآبسو وممو. وهكذا اصطدم الصمت بالضجيج والحركة، وحدثت بين الفريقين معركتان قادتا إلى ابتدار التاريخ، قاد المعركة الأولى الإله إيا الذي قتل آبسو وأسر ممو، وقاد بعده الإله مردوخ المعركة الثانية فقتل تعامة وشطرها إلى نصفين رفع واحدهما سماء وأرسى الثاني أرضاً. ثم التفت بعد ذلك إلى فعاليات التنظيم، ففي السماء صنع النجوم وكوكبات خط السمت، ونظم الزمن فحدد السنة ونظم أجزاءها، وأخرج القمر فسطع بنوره وأوكله بالليل، وفي الأرض صنع الغيوم وحملها بالمطر، وفجر الينابيع وأحيا الآبار، وبنى مدينة بابل ومعبدها الكبير. وأخيراً خلق الإنسان ليعمل على الأرض.
وفي الميثولوجيا المصرية نستطيع متابعة مراحل التاريخ المقدس نفسها، أي من السرمدية إلى الزمن الكوزموغوني إلى زمن الأصول والتنظيم في مطالع التاريخ. تتمثل السرمدية في الأوقيانوس المائي البدئي “نون”، والذي يعادل الأمواه الثلاثة المتمازجة في الأسطورة البابلية. فوق هذه المياه البدئية كانت تحوم روح لاشكل لها ولا هوية، ثم تركزت في داخل هذه الروح تدريجياً كل أشكال الوجود، وصار اسمها آتوم، الذي يعني “العدم” وفي الوقت نفسه “الاكتمال”. وفي لحظة معينة انبثق أتوم من هذه الهيولى الأولى وتجلى تحت اسم “رع”، ومعه ابتدأ الزمن الكوزموغوني. فقد أنجب رع توأمان هما الهواء “شو” والرطوبة “تفنوت”، وأنجب هذان الزوجان بدورهما السماء “نوت”، والأرض “جيب”، ومن زواج السماء والأرض تأتي إلى الوجود العائلة الأوزيرية: أوزيريس وإيزيس وسيت ونفتيس وحوروس الأكبر.
بعد الانتهاء من الزمن الكوزموغوني ندخل زمن الأصول الذي يعلب فيه الإله أوزيريس الدور الرئيسي. كان أوزيريس أول ملك على الأرض، وقد كرس نفسه منذ البداية لتنظيم شؤون العالم مبتدئاً بمصر حيث أبطل العادات الهمجية السائدة، وعلّم الناس كيفية صناعة الأدوات الزراعية واستخدامها، كما علمهم أكل الخبز وشرب النبيذ والجعة وبناء البيوت والموسيقى، وأسَّس الديانة الأولى وعلم البشر عبادة الآلهة. وبعد أن أرسى التقاليد الحضارية في مصر رحل إلى بقية أرجاء العالم ليعلم البشر في كل مكان ما علّمه للمصريين، ثم قفل عائداً إلى دياره. لكن هذه اليوتوبيا التي صنعها أوزيريس لم تكن لتدوم طويلاً؛ فلقد دخل الشر المسرح الكوني ممثَّلاً بالإله سيت الأخ التوأم لأوزيريس. كان سيت يُكنُّ لأخيه حسداً وضغينةً منذ البداية، ويعمل خفية على تخريب كل ما يبنيه. وفي السنة الثامنة والعشرين من حكم أوزيريس، دبر له سيت مكيدة فقتله غيلة وقطع جسده إلى أربع عشرة قطعة وزعها في طول البلاد وعرضها. ولكن إيزيس تهب للبحث عن أجزاء زوجها فتجدها وتجمعها إلى بعضها وتنفخ فيها الروح فيبعث أوزيريس إلى الحياة، ولكنه لايفضل البقاء في عالم دب فيه الفساد، فيهبط مختاراً إلى العالم الأسفل ليغدو حاكماً وقاضياً يحاكم الموتى في دنياهم الثانية، بينما تابع ابنه حوروس (الأصغر) مقارعة عمه سيت، ويستمر الصراع بين القوتين الكونيتين، قوة النور والخير وقوة الظلام والشر.
في هذه الأسطورة المصرية، نقف مرة أخرى أمام رؤية الإنسان القديم للتاريخ باعتباره تجل لفعاليات الآلهة في الزمن، ولرؤيته للوضع الإنساني الراهن باعتباره نتاجاً لما باشرته القوى الإلهية في الأزمنة الميثولوجية التي تلت الخلق والتكوين. غير أن هذه الميثولوجيا تضيف إلى رؤيتها للتاريخ عنصراً جديداً لم نألفه في الميثولوجيا المشرقية قبل ظهور الزرادشتية. فالإنسان محكوم بصراع كوني بين قوة الخير وقوة الشر، انطلق عقب الخلق والتكوين، وعلى الفرد أن يختار الوقوف إلى جانب إحدى هاتين القوتين ويُعبّر من خلال سلوكه في الحياة عن خياره هذا. وبما أن الإله الذي استهل تاريخ الإنسان ووضع الملامح العامة لأصول التحضر البشري، هو نفسه الإله الذي تحول إلى قاضٍ في العالم الأسفل يحاسب الموتى ويقرر مصيرهم بين النعيم والجحيم، فإن التاريخ بأكمله يغدو مجالاً لامتحان البشر في عالم الصراع الكوني هذا، ويغدو الخلق والتكوين وصيرورة الزمن مجرد مقدمة للوقفة الأخيرة التي يقفها الميت أمام الميزان المنصوب في قاعة محكمة أوزيريس المدعوة بقاعة العدالة.
هذه الفكرة المصرية عن معنى التاريخ وغاياته، سوف تظهر بأشكال شتى في المعتقدات المشرقية ابتداءً من الزرادشتية في القرن السابع قبل الميلاد، وما تلاها من ديانات الوحي التي أسس لها شخصيات روحية متفوقة انطلاقاً من إرشاد سماوي تلقوه. وهي الزرادشتية واليهودية والمسيحية والمانوية والإسلام. فهنا لا يتوقف التاريخ المقدس عند زمن الأصول والتنظيم، وما يتبعه من تداخلات عرضية في حياة المجتمعات الإنسانية، بل ينسحب هذا التاريخ على كامل صيرورة الزمن بدءاً من التكوين وإنهاءاً باليوم الأخير. ولسوف نقدم فيما يلي نموذجاً لهذه الرؤية إلى التاريخ من خلال المعتقد التوراتي والمعتقد المسيحي.
ترسم الميثولوجيا التوراتية صورة للسرمدية السابقة على التكوين أشبه بالصورة التي رسمتها الميثولوجيا المصرية، عندما كانت روح بلا هوية أو شكل تحوم فوق المياه الأزلية. ففي البدء لم يكن سوى لجة ماء وظلمة، وروح الرب يرف فوق سطح الغمر (التكوين 1:1-2). ثم تقرر الألوهة الخروج من حالة الكمون هذه، فتظهر نفسها من خلال خلق مظاهر الكون الذي يكتمل في خمسة أيام، وفي اليوم السادس يتم خلق الإنسان، ثم يستريح الخالق في اليوم السابع الذي يقع على الحد الفاصل بين الزمن الكوزموغوني والزمن التاريخي. بعد ذلك تبدأ فعاليات الألوهة في زمن الأصول وبدايات التاريخ. نقرأ في الإصحاح الثاني من سفر التكوين: “كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل على الأرض. ثم كان ضباب يطلع ويسقي كل وجه الأرض... وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً ووضع هناك آدم الذي جبله. وأنبت الرب الإله من كل شجر شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر”. يلي ذلك قصة خلق حواء من ضلع آدم، ووصيته لهما أن يأكلا من كل شجر الجنة إلا شجرة معرفة الخير والشر. يليها قصة إغواء الحية لهما بالأكل، ووقوعهما في الخطيئة، وما تبع ذلك من خسارتهما للجنة وخروجهما إلى الأرض ليحصلا زرقهما بالكد والتعب.
نلاحظ هنا كيف تم القفز فوق معظم تفاصيل الأصول التي ركزت عليها الميثولوجيا المشرقية السابقة، في مقابل التركيز على أصل رئيسي هو أصل الخطيئة، لأن التاريخ من وجهة نظر التوراة هو تاريخ للخطيئة بامتياز، ويسير عبر النمط التالي: خطيئة ← عقاب جماعي رادع ← توبة ← خطيئة، وهكذا في دورة دائبة. إن كل ما يتلى خروج آدم وحواء من الجنة والدخول في زمن العالم، ليس إلا إبانة عن المشيئة الإلهية في التاريخ. فمن قابيل وهابيل، إلى تكاثر الناس وتجمعهم في برج بابل ثم تشتيتهم في بقاع الأرض، إلى الطوفان العظيم، إلى اختيار يهوه لشعبه الخاص، ومسيرة هذا الشعب عبر كل المحن والمصائب التي حلت به بسبب خطاياه، وصولاً إلى دمار الهيكل وما تلاه من سبي، فعودة، فدمار ثانٍ، جميعها فصول في ميثولوجيا توراتية تفصح عن مقاصد الإله في حياة الناس، ويتخذ كل حدث فيها معناه ومغزاه من هذه الصلة مع المشيئة الإلهية. من هنا فإن ميثولوجيا الأصول ليست وقفاً على الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، بل تنسحب على جميع فصول الكتاب، الذي يعتبر كتاباً في الأصول ومثالاً على التاريخ المقدس بامتياز، يبدأ بالتكوين والخطيئة وينتهي بظهور مسيح اليهود، الملك الأرضي الذي يمهد الطريق لحلول مملكة الرب التي يديرها الإله بشكل مباشر.
في المعتقدات المسيحية ينطلق آباء الكنيسة في رسمهم للتاريخ المقدس من مطلع إنجيل يوحنا، الذي يعطي صورة عن السرمدية الساكنة الأولى عندما يقول: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والله كان الكلمة. به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان.
في غياهب السرمدية، على ما يتابع آباء الكنيسة، كانت الألوهة منكفئة على نفسها ومنطوية على ثلاث أقانيم هي الأب والابن والروح القدس، ثلاثة في إله واحد. ثم جاء وقت أراد الله فيه أن يُظهر فيه أول أشكال خلقه، فصدر أمر الكلمة الذي نشأ عنه صنف من المخلوقات الخالدة هم الملائكة، الذين تموضعوا في أفلاك حول الذات الإلهية. ولقد جاء الملائكة إلى الوجود ككائنات حرة الإرادة، لأنه بدون الحرية لم يكن لهؤلاء القيام بمهمتهم التي خلقوا لها، وهي المقدرة على الحب؛ فالحب الذي هو جوهر الألوهة لامعنى له إذا لم يوهب عن حرية وعن اختيار. ولكن هذه الحرية استُخدمت في التمرد والعصيان من قبل أحد الملائكة المقربين في الفلك الأول، وحدث شرخ في ذلك الكمال البدئي.
كان اسم ذلك الملاك لوسيفر، والذي يعني باليونانية حامل الضياء أو ناثر الضياء؛ وكان الأكثر جمالاً وبهاءً بين رهط الملائكة وذروة في كمال صنعة الخالق. أمعن لوسيفر النظر إلى قلب الثالوث الأقدس وأخذ يشارك الألوهة في معرفتها للمستقبل، فرآى أن الله كان يُعد مكاناً أعلى منزلةً لمخلوق جديد مصنوع من جسد مادي، سوف يفوقه في سُلم المراتب السماوية، فقرر وبدافع عن حريته الكاملة تفضيل مجده الملائكي على الغاية الإلهية، والعصيان على تقديم الطاعة لمن هو أدنى منه مرتبةً، ووقف إلى جانبه حشد كبير من الملائكة الآخرين بعد أن نقل إليهم ماعرفه من أمور المستقبل، فتولوا عن بؤرة النور الأعظم، وقادهم لوسيفر إلى تخوم الظلمة التحتية التي تترامى فوق هاوية العدم، حيث تحول إلى إبليس وأتباعه من الملائكة الساقطين إلى شياطين.
بعد ذلك تستمر خطة الخلق كما هو وارد في الرواية التوراتية، وهي الخطة التي تنتهي بخلق الإنسان الذي وهبه الله أيضاً الحرية التي استخدمها أيضاً في مخالفة الرب عندما أكل من الشجرة المحرمة، فكان عقابه الطرد من الجنة إلى الأرض القاحلة ليعمل فيها ويكد. ومنذ ذلك الوقت ظهر الألم والمرض، ودخل الموت في نسيج الحياة بسبب الخطيئة الأصلية للإنسان.
لقد كان الله على علم منذ البداية بأن الحرية التي منحت للملائكة وللإنسان سوف تُستخدم في المعصية التي تزرع بذرة الفساد في صميم الخلق. من هنا فقد أضمر خطة لتصحيح ذلك كله، من شأنها تقديم الخلاص للإنسان وللعالم. لقد قرر في الوقت المناسب أن يتجسد في العالم المادي كأحد مخلوقاته، ويدخل في دورة الحياة والموت لكي يقدم للعالم خلاصاً ويحرره من اللعنة القديمة. وهكذا تجسدت الألوهة في زمن الناس، وهبط الإله الابن من السماء وعاش في جسد يسوع الناصري، وكابد شقاء البشر، وتعرض للعذاب الذي انتهى بالموت على الصليب. وبذلك افتدت الذبيحة الإلهية، وهي القربان الكامل، الإنسان وفتحت أمامه باب الخلاص والدخول في الأبدية. من هنا كانت واقعة التجسد مركز التاريخ، وانطلاقاً منها تجري قراءة التاريخ صعوداً نحو الخلق والتكوين وهبوطاً نحو نحاية العالم، عندما يتم دحر الشيطان وينتهي صراع الخير والشر الذي كان الإنسان بؤرته.
انطلاقاً من هذه الرؤية إلى التاريخ، لم يكن الفكر الغربي المسيحي يرى إلى الإحداث السابقة على المسيحية إلا باعتبارها فترة مظلمة لم يعرف الناس خلالها الله إلا من خلال ظلال قاتمة لا تعكس مجده الحقيقي، بما في ذلك كامل المدة التي تغطيها فترة العهد القديم، أي كتاب التوراة. فالتاريخ يبدأ بآدم، ثم يبدأ بداية ثانية بالمسيح، وليس الزمن الفاصل بين هاتين البدايتين إلا شكلاً من أشكال الجاهلية الإنسانية، حيث كانت البشرية تنتظر المخلِّص. لقد عكس قدوم المخلِّص مبدأ السبب والنتيجة في الصيرورة التاريخية؛ فبدلاً من أن يُقرأ الحاضر على ضوء الماضي باعتباره نتيجة له، صار الحاضر (أي تجسد المسيح) سبباً لكل الأحداث الماضية التي صارت تُفهم على ضوئهFONT> DIV>