العدّو موجود فينا
إسماعيل عزام
الأحد 20 يوليوز 2014 - 00:17
بين أولئك الذين كدّوا لسنوات في التحصيل العلمي من أجل شهادات جامعية تبيّن جدارتهم في المجال الإعلامي..وأولئك الذين لا يتحوّلون إلى إعلاميين إلّا عندما يتعلق الأمر بندوات تنتهي بوجبة غذاء أو عشاء..توجد أشياء وأشياء.
بين أولئك الذين لم تُتَح لهم الفرصة لولوج معاهد وشعب الإعلام القليلة في هذا البلد، لكنهم خبروا التجارب وقاسوا من أجل الحصول على تداريب في مؤسسات إعلامية معروفة وبحثوا في المكتبات عن مؤلفات تشبع نهمهم المعرفي..وأولئك الذين طبعوا جريدة على أساس أنهم مدراء نشر..وتجوّلوا بنسخ منها على إقطاعيي الاقتصاد والسياسة..طمعاً في أظرفة سمينة تُعطى من تحت الطاولة..توجد أشياء وأشياء..
بين أولئك الذين تعلّموا أن الصحافة بحث عن الحقيقة وليست نجومية "الساندويتش"..فبدأوا مساراتهم المهنية من الصفر وشغلوا وقتهم بإثبات جدارتهم مهنياً..وأولئك الذين حطّوا على الميدان من علٍ لأنهم يعرفون هذا وذاك..وبين ليلة وضحاها..تحوّلوا إلى أساتذة في المهنية رغم أنهم لا يفرّقون حتى بين الخبر والعمود الصحفي..توجد أشياء وأشياء..
بين اللائي وَعيْن أنّ الاستحقاق هو الباب الأرقى لدخول المهنة..واللائي اكتشفنّ أنّ مؤخراتهن وعلب التجميل الخاصة بهنّ هي النوافذ القذرة القادرة على تمتعيهن بصفة صحافيات..توجد أشياء وأشياء..
بين الذين يحفظون عن ظهر قلب قوانين وأخلاقيات العمل الإعلامي كي يحققوا أهداف الصحافة من تربية وتثقيف وترفيه وإخبار..وأولئك الذين حوّلوا صُحفهم ومؤسساتهم إلى أدوات لابتزاز الناس..توجد أشياء وأشياء..
بين ذلك الذي أراد أن يكون صحافياً لأنه حلم غازله منذ الصغر..وذلك الذي تحوّل إلى صحافي لأنه لم يجد عملاً آخر يدّر عليه أجراً شهرياً.. أو لأنه اكتشف أن موقعاً إخبارياً يمكّن من ربح دولارات من "جوجل أدسنس".. توجد أشياء وأشياء..
بين من تعلّم أن الصحافة تتنفس الحقيقة..ومن جعل من نفسه بوقاً للدعاية لحزب أو لشركة أو مسؤول تحت رداء قُدسية الخبر..توجد أشياء وأشياء.
أشياء كثيرة توجد هنا..وتوجد كذلك هناك.
فجميل أن نطالب بالحرية وأن نحتج أمام البرلمان تضامناً مع زميل سجنته أيادي الاستبداد..لكن سيكون كذلك جميلاً أن نحرص على جعل مؤسساتنا الإعلامية أكثر مهنية وأكثر التصاقاً بهموم الوطن..
جميل أن نردّد عبارات حرية التعبير والصحافة..وأن ننتقد الدولة بسبب إجراءات نراها تضرّ بالصحافة..لكن سيكون جميلاً كذلك أن نُنقي جسمنا الصحافي من المتطفلين..ممّن أخطؤوا الوجهة..فتحوّلوا بقدرة قادر إلى زملاء عليك أن لا تنتقدهم..وإلا فستخرق أخلاقيات العمل الصحفي..
جميل أن ننتقد الأسُس التي تحاول بها الدولة تكبيل الميدان ونفضح كل المحاولات الرسمية للهيمنة..لكن سيكون جميلاً كذلك أن نضع أسساً ولو بشكل عرفي لكل من يريد ولوج الميدان..فللطب أسس..وللهندسة أسس..وللتدريس أسس..وللنجارة وللحدادة وللجزارة أسس.
ليسمح لي الراحل عمر دهكون كي أستعير كلماته البسيطة التي نطق بها قبل إعدامه سنة 1973 على خلفية تخطيطه لعمليات مسلحة في المغرب:"على الرفاق أن يعلموا أنّ العدو موجود داخلنا". كي أنسج جملة "على الزملاء أن يعلموا أنّ العدو موجود داخلنا"..فلم تكن الدولة لتنهش لحوم الصحافيين إلّا بعدما تأكدت أنها صالحة للشواء..ولم يكن أباطرة الاقتصاد ليقدروا على تركيع مؤسسات إعلامية إلّا بعدما تيّقنوا من أنها شربت حليب الذل حتى الثمالة..ولم يكن القارئ ليفقد ثقته في الكثير منا إلّا بعدما وعى أن غسيلنا نُشر منذ زمن في العراء..دون أن تقدر حرارة الشمس على تجفيفه.