هذه عودة إلى التباريح حقّاً من صميم ما يُقلق وجداني؛ وذلك أنني أجريتُ منهجي النقدي التفسيري التعاوني الجمالي الفكري لدراسة نماذج أدبية –لا فرق بين تراثي وحداثي، أو عربي وخواجي-، وذلك عن قطعة من الأدب الصهيوني لفرانز كافكا بمجلة (التوباد) لمَّا كنت رئيس تحريرها؛ فصاح بي أحد أَحِبَّائي التراثيين رحمه الله تعالى قائلاً: (كافكا كافكا!!.. ما هذه الكلمة الغريبة؟). قال أبوعبدالرحمن: لست والله أدري ماذا يريد هذا المُحبُّ: هل يريدني أن أسمي (فرانز كافكا) محمداً، أو عَرْمان، أو سعيداً، أو جُمعة، أو يحيى؟.. لقد لاب ببال هذا المحب إلزام أبي عبدالرحمن بأن يكون خواجة؛ لأن أبا عبدالرحمن –وهو ابن تنائف نجد– راح يكتب عن كافكا الخواجي؛ وإنما كتبتُ من أجل جلاء خطر صهيونيةِ فرانز كافكا.. ولو استجبتُ لهذا الاستغراب لكان الإمامان ابن حزم وابن تيمية رحمهما الله تعالى خواجيين رومانيين أو يونايين؛ لأنهما كتبا عن المنطق الأرسطي لأرسطوطاليس، وعن ضلال الفكر الهيليني.. وهكذا بقية العلماء إلى أن تصل إلى أمثال الدكتور البهي والشيخ محمد قطب اللذين كتبا عن ضلال كل خواجة، أو عن كل مضغٍ خواجي.. ولو استجبتُ لهذا الاستغراب لكان من قَدَر حامل العلم الشرعي أن ينعزل عن هموم عصره وأعبائه؛ ليظل في مأثور القضايا التي عالجها وفرغ منها علماء السلف؛ فإذا رقَّ طبعه الأدبي عاد إلى مسامرة امرئ القيس وابن حِلِّزة.. إلخ.. إن هذا المحب بعبارات قابلة للتورية بالجناسِ: (من استغراب في استغراب)؛ فكيف لا يكون لي شأن بكافكا وأمثاله من زبَّالي الصهيونية والطائفية؟.. ألأنني لا أجيد لغته؟.. إذن يحرم على من لغته العربية والإنجليزية أن يقرأ فكراً أو أدباً فرنسياً، أو ألمانياً، أو إسبانياً، أو روسياً، أو هندياً.. إلخ؛ وإذن يحرم على سلفنا محاكمة الفكر الهيليني والروماني والهندي والصيني والعبري والفارسي والتركي؛ لأن بعضهم إنما أشرف عليه عن طريق الترجمة.. وإذن يلزم عن ذلك أن الترجمة –أيَّ ترجمة– غير مُوصِّلة، ولا فائدة من الترجمة في الوجود كله، وأن العلم بتراث الإنسانية يتوقَّف على إحاطة العالِـم بمفرده بلغات الدنيا، وسبحان من لا تختلف عليه الألسن، ولا تشتبه عليه اللغات! ولقد استوفيتُ كلام هذا المحب رحمه الله تعالى ومناقشته في مجموعة التباريح التي لم تُطبع بعد. قال أبوعبدالرحمن: كان من عناصر منهجي التواصل مع التراث الإنساني قديمه وحديثه، ومن يجيد لغة أو أكثر غير لغته الأم فهو محتاج إلى الترجمة لتراثٍ إنساني لا يجيد لغته، وما أجاد لغته فلن يستفيد منه حتى يكون ذا تخصُّص في المادة.. والنصُّ الفني –ولا سيما الشعر– عصيٌّ على الترجمة من جهة موسيقى المفردة، والصورة المجازية المطابقة.. إلا أن الأديب الذي يحسن لغة ثانية سيكون أدقَّ إحساساً بالقيمة الجمالية، وقد يفوقه من لا يجيد أي لغة ثانية إذا قرأ نصاً واحداً بترجمات كثيرة، وهذا واضح في كُتيِّبي الذي شاركني تأليفه أخي الأستاذ عبدالله الماجد عن (فلسفة الكُوز) وهو خاص برباعيات الخيام.. وموجز القول: أنني لا أتمطَّق بلهجة خواجيَّة لا أُحسنها وإن صعب على لساني النطق ببعض أسماء الأعلام أو المصطلحات؛ وإنما أتعامل مع التراث الإنساني فكراً وأدباً، وقد يكون المشارَك في ذلك المسار امرأَ القيس العربي الوثني الكافر، أو أبا العلاء الأديب الباطني، أو فرانز كافكا اليهودي، أو ابن تيمية الإمام المسلم العابد الزاهد، أو رينيه ديكارت النصراني.. وأُذكِّر في هذه المناسبة بضرورة التمييز بين كلمةٍ لكافكا وكلمة عن كافكا، وبين كلمة تدعو إلى الغثيان الكافكي الصهيوني وبين منهج نقدي يرفض الانخداع بكافكا.. وأُذكِّر بأنه لابد من الشعور ببصمات كافكا على الأدب العربي الحديث؛ وإنما اخترت كافكا وأدبه موضوعاً لمنهج النقد التفسيري التعاوني –بعد تحقيق لي مسبق عن تصنيف الأدب بمعيار القيمة الجمالية، واستبعاد الأوشاب المنسوبة إلى الأدب وليست منه-؛ لأن كافكا نموذج نادر لتباين الآراء حوله تبايناً لا وسطية فيه؛ فهو عند قوم الأديب الإنسان، وهو عند قوم الأديب الصهيوني العدو للإنسانية! وهناك من يدرجه في مذهبٍ بانتماءٍ حر، وليس بدافع صهيوني؛ وهذا حينما يلتفت الدارس إلى ظاهرة في أدب كافكا تنتمي إلى مذهب ما كما في دراسة الدكتور عبدالغفار مكاوي لكير كجارد الفيلسوف الوجودي. ومنهج النقد التفسيري التعاوني منهج علمي فكري مساند النظريةَ الأدبية التي غايتها إظهار القيمة الجمالية للنص الأدبي؛ وبهذا يكون خارج النقد الجماعي التفسيري المتكامل كلُّ نقد تطبيقي يهدف إلى تقدير القيمة الفنية بإحساس جمالي، أو رؤية فكرية، أو تجربة سلوكية؛ لأن منهج النقد الجماعي وصفي تحليلي تفسيري يريد مدلول العمل الفني كما لو جاء بتعبير مباشر عادي، أو بتعبير فلسفي معقد. قال أبوعبدالرحمن: ثبوتُ صهيونية الأدب تنفي تلقائياً إدراجه في ساحة الأدب الإنساني؛ لأن حُجَزَ الصهيونية تأبى هذه الساحة الرحبة الكريمة، وتحصره في دائرة الصهيونية المعاديةِ البشريةَ؛ لأن كل تَـمَظْهُرٍ إنساني لدى الأديب الصهيوني وسيلة لغاية غير شريفة؛ فهذا قائد حركة التنوير الصهيونية (مويز مندلسون) يرسم المنهج بدعوته اليهود إلى الأخذ بثقافات ولغات الدول التي يعيشون فيها بصفة مؤقتة؛ حتى يصبحوا مواطنين صالحين! وفي تاريخ اليهود للمؤرخ اليهودي (تيودور ريناخ) تجد نموذجاً لتقمُّصِ اليهود التاريخَ الحضاري، وأما كتيِّب (الفن والاستعمار الصهيوني) لسعد الخادم (الصادر عن هيئة المكتبة الثقافية) فهو سِجِلٌّ لمخازيهم، وجشعهم، واحتوائهم الفنون المسيحية في أوروبا، وتجريدهم الكنائس من تُـحَفِها، وتبنِّيهم السريالية؛ فقد لفَّقها ماكسي آرنست، وأندريه ماسون، وكاندينسكي، ومارك شاجال من المخطوطات السحرية الغربية بالغين المعجمة.. وللأسف نرى المؤلف يفخر بأنها أثر عربي بالعين المهملة، ويجزع من دعوى اليهود أنها أوروبية.. وإذا عُرف أن للصهيونية أعمالاً ظلامية جبَّارة فموضوع انتماء كافكا –إذا ثبت أنه صهيوني– أتفه مُعْضلة تواجه الفهم العربي لانتماء كافكا وتحليل أعماله؛ بل تلك المعرفة تـحُلُّ معضلة الفهم لمتغيرات الفكر المؤثرة في سلوك الناس ومشاعرهم دون حِرفهم ومهاراتهم؛ لأن العمل الظلامي الصادر عن طبيعة اليهود العدوانية أفرز شيئين غير مُختلفين في الغاية، وهما: الصهيونيون، وأصدقاء الصهيونيين من حيث يشعرون أنهم أصدقاء أو لا يشعرون.. وعندما لا يشعر صديق الصهيونية بأنه صهيوني تعترف به الصهيونية وتُمجِّد جهوده؛ وسِرُّ ذلك أنه اختار بحريته الفكرية رأياً أو فلسفة أو قناعة تأتَّت له بتضليل صهيوني ظلامي مُـحْكم السياج.. إنهم اعتقدوا بأنهم أمناء قَـيِّمون على أفكار وفلسفات متناقضة البناء، ممزَّقة بتراكم المصطلحات لغير ضرورة إلا لشغل العمر والفكر.. وهي ثريَّة بمسوِّغات الاختلاف في وجهات النظر استدلالاً واعتراضاً، ولكنها تلتقي على أهداف صهيونية كالإباحية والإلحاد والعدمية والاستلاب.. وهذه الأهداف لا تغيظ كثيراً يهودياً غير صهيوني؛ لأن ديانته ممسوخة ليس فيها توحيد ولا تنزيه، بل هي مليئة بالوثنية وتأليه الإنسان، واليهودي مأسور بلاهوت طبيعي يُنمِّي فيه العداء للبشرية واستباحة تضليلها سواء أكان ذلك من العهد القديم والجديد؛ (فالمحرَّف فيهما لاهوت طبيعي لا ديني)، أم كان من وضع اليهود وتفسيرهم باعترافهم كالتلمود. قال أبوعبدالرحمن: أعظم غبنٍ لطالب العلم المُفكِّر إذا أراد أن يكون شمعةَ ضياء لأمته أن لا يعيش واقع عصره الذي يفرض عليه أن يكون مُثَقَّفاً شمولياً بامتياز، وهو لن يستطيع ذلك حتى تَسمُوَ هِـمَّتُه بكسر حاجز التواصل مع التراث الإنساني، وهو لن يتحقق له ذلك حتى يبذل المال في تحصيل التراث الإنساني المُترجَم، ويبذل المال أيضاً في تكليف مَن يترجم له جُمَلاً أشكلت عليه، وليس عنده للنص غير ترجمة واحدة.. ثم يكدُّ ذهنه في الفهم، ويُكْثر من تسويد الملاحظات والقصاصات (الفِيَش)؛ كي تتسع دائرة خبرته، ويكون عقله مُكتَمِلَ الأدوات فطرةً أو تربية؛ فيكون مُـحاكماً لا حاوياً.. إنك قد تستشهد بالنص الخواجي اضطراراً وإن لم تظهر لك قيمته الفنية؛ لأنك لا تريد غير دلالته؛ لتنمية وعيك بهموم أُمَّتك وقلق عصرك.. مثالُ ذلك الوعيُ بأدبيات الصهيونية في حقل (النص الفني) تأصيلاً وفهماً وذوقاً؛ فطموحي يرغمني أن أتعرَّف على إنتاج رموز البغي والعدوان سواء أكانوا غير صهاينة مثل سارتر وهيجل وياسبرز أم كانوا صهاينة من أمثال فرويد وكافكا وميلر وجويس وسول بيلو ومورافيا وغيرهم كثير؛ فلا نعدم في الساحة العربية من يدافع عن إنسانيتهم ويُبرِّئُهم من اليهودية أو الصهيونية؛ فهذا أول بلاء من الداخل ينبغي أن نتصدى له بعدلٍ وأداة فكرية وعلمية، وأكبر صدمة وخيبة رجاء واجهتني كُتيِّب لعربية تتساءل: (هل ينبغي أن نحرق كافكا؟!).. وتعني كتبه وأدبه وفكره، وغَبِيَ على المسكينة أن نصوص كافكا التي شهرته في العالم العربي لا تسمح دلالتها –بكلِّية النص، مِن غير تزيُّدٍ عليه– إلا برموزه النفسية اليهودية، والذاكرة الصهيونية التراثية.. ولا أحد يدعو إلى إحراق كتبه، بل نريد إحياءَها وإحياءَ أمثالها لشحن وَعْينا العربي الإسلامي والقومي بما هو ماثِل للعِيان من ذلك الزَّخَم المُـعادي البشريةَ عموماً وهُوِيَّتِنا خاصة.. وكل تفسير للنص الكافكي يتخطى كافكا صهيونياً يكون تفسيراً أعرج: إما أن يُسقط من النص حروفاً بلا دلالة، وإما أن يُثبت مدلولاً بلا حرف دال.. وأوجَزُ نصٍّ وأثراه لكافكا (بنات آوى وعرب)، ويعلم الله كم عانيت من المطالعة ومعاودة القراءة لأحظى بمدلول كُلِّية النص؛ فما حصل لي ذلك إلا برحلة جادة في أعماق الذاكرة الصهيونية التراثية على الرُّغم من أن القصة وُريقات قليلة، ومع هذا يُصِرُّ كُتَّابٌ عربٌ ماركسيون وشبههم على أن (كافكا) إنسان فنان، وليس حاقداً صهيونياً.. كانت قصته (بنات آوى وعرب) موجزَ الأنباءِ لمشروعات بلفور! وعند اهتمامي بكافكا ترجمتُ على حسابي بعض النصوص، وصوَّرتُ كثيراً من أخباره في الدوريات العربية، وامتد اهتمامي إلى الأدب الصهيوني عامة. قال أبوعبدالرحمن: وساءني ثانية أن أجد قصيدة صهيونية للشاعر الصهيوني (يهوذا عميحاي) بعنوان: (الملك شاؤول) قام ملف الشعر الصهيوني بتحليلها بنفس الأسلوب الذي مُورِس في تحليل (بنات آوى وعرب).. إنها ممارسة تنحو مَنْحىً مثالياً خلقياً لا يُـحْسَدُ عليه أيُّ تَـخَلٍّ عربي عن كسر حدة الانفعالية السياسية، وللبعد عن أي تحليل نقدي يجعل مضمونها في نطاق الأطماع الصهيونية! وذلك مع علم الكاتب وتصريحه بأن في القصيدة رموزاً تؤكد هذا المنطلق (أي منطلق حصر أهداف القصيدة في الأطماع الصهيونية)، مع أن دلالة كلية النص عن الممارسة لا تَـمْثُل إلا باستحضار الرموز الصهيونية. وخارج نطاق الترجمة نجد خيبةَ بعضِ القصائد العربية الحداثية في استنطاق ذاكرة التراث؛ إذ تغلو طائفيةُ الحداثي أحياناً فلا يذكر غير بعلٍ أو سنحريب! وتتدروش أحياناً فلا تذكر إلا الحلاج أو مهياراً أو النفري أو وضاح اليمن! وهؤلاء ليسوا من بُناة تاريخنا، ولكنهم من أعبائه، ثم نجد الصهيوني (يهوذا عميحاي) يحسن المعادلةَ بين حضور جيله وحضور ذاكرته التراثية.. إن الذين يتَّخذون الحلاج أو المنتجب أو وضاحاً قناعاً أو رمزاً تاريخياً يُضاعفون إغراق أمتهم في التفكير التافه، ويُـخدِّرونهم بمغامرات العُشَّاق وألغاز الدراويش، ويحملونهم على بُغض السلف وبناة التاريخ إذا اعتبروا مثل الحلاج من ضحايا الأفكار، وما هو سوى مجدِّف ذي قلب مجوسي لم يَرْعَ للربِّ جل جلاله قدسيته، وقُتِلَ هذا الحلاج بإجماع ذوي الحل والعقد من بناة تاريخنا.. وبالمقابل نجد قناع الشاعر الصهيوني أحد بناة تاريخه –وهو الملك شاؤول الذي خلفه نبي الله داود عليه وعلى نبينا محمد وعلى سائر أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام-، أوَّلُ ملك عبري أراد أن يُوحِّد اليهود، ويجعل لهم كياناً؛ لهذا يستحضر عزائم هذا الملك من ذاكرته التراثية لتكون وقوداً، ويعادله بهجاء حاضره على مبدأ (قَسَا ليزْدَجِرُوا)، ومن صور المعادلة الكثيرة هذه الصورة: (ذراعاي قصيرتان مثل خيطٍ قصيٍّ. لا يكفي لربط حزمة. وذراعاه مثل سلاسل في ميناء). وعندما أراد أن يثبت ضرورة التزام الفنِ السياسةَ، وأن الشاعر لا ينفصل عن قضيته: فتح صفحة أخرى من تراثه عن نبي الله يونس عليه السلام.. قال: (في جوف الحوت المظلم. وسوَّينا الأمر بيننا أنا والحوت. وكلانا في أحشاء العالم. إني لن أخرج وهو لن يقضمني). وهؤلاء إذا ركبوا موجة مذهب أدبي لن ينفصلوا عن هموم ذاكرتهم التراثية، وهذا مقابلُ انفصالِ بعض الحداثيين عن ذاكرتهم التاريخية الكريمة.. وهنا موضوع معادلة أخرى، فلقد رَكِب الشاعرُ العربي في رقعتنا العربية موجةَ المذهب الرومانسي، واستعار دموع لامرتين على جولياه، أو دموع بلزاك على زنبقة الوادي! وكان الشعر الرومانسي العربي تصفيقةً شعبية للريف، وصومعةِ الطبيعة، ولعناق الأزهار وقُبلها، ولتصوير عاشقين في براءة الأطفال (ضحكا معاً، وسبقا ظِلَّيْهِما!!).. وكله بكاء يقطع نياط القلوب على فاتنة وصالها لن يتم أبداً، أو أشواق مفتعلة إلى الريف والطبيعة والعزلة، وكل مقطع هو من قصيدة لحن لم يتم! ولَـمَّا ركب الشاعر الصهيوني هذه الموجة لم يَطْمَح قط بشرفتين تحييه منهما يدا فاتنته أو إحداهما، ولم يتهالك قط على خضرة –أيِّ خضرة– تجلو الغبرة، وإنما كانت رومانسيته بكاء وشوقاً على وإلى يافا والجليل والزيتون وأورشليم.. ليس في رومانسيته المرأة القضية؛ وإنما المرأة الأرض التي يدَّعيها وطناً من وعي الذاكرة التراثية.. قال (يعقوب فيخمان (1881-1958م) حالماً بفلسطين: (حينما كنت شاباً أخذ قلبي.. بمشهد السهل.. أحببت اتساع أفقه الأزرق. الذي تضرب وتضيع الشمس في داخله. كنت طفلاً حينما أحببت أن تطأ قدماي. عشب حقولها الندي. أن أشعر بسجادتها الخضراء الثابتة). وإذا كانت مآسي الوجود –ما سلم الدين– يأسو بعضها بعضاً: فإنَّ تتبُّعي مَلَفَّ (الشعر الصهيوني والمستقبل) يأسو بعض الجراح بما فيه من اعتراف اليهودي بجبنه، وأنه لا يُضحِّي إلا مكرهاً، ومهما حصل من نصر عاجل بحبل من الله وحبل من الناس فإنه لا يحفل بالنصر كما يحفل بالبكاء والتحسر على ما بذله من تضحية مكرهاً؛ ذلك أن اليهوديَّ محارِباً لا يعمل إلا بسياط الإرهاب الصهيوني التي جعلته يحارب على الرغم منه وطبيعته الجبانَةُ تحب أن يكون في عافية.. خذ هذه النماذج.. قال صهيوني ظنَّ أن فلسطين سجادة خضراء فإذا بها ساحة قتال: (أرض تأكل أبناءها. أرض تحرق بناتها. أرضٌ صدْرُ صُحُفِها. وجوه حتى الأمس.. تتنفس). وهذا آخر قال: (ونحن بين مرور معجزة وأختها. نحصي موتانا وقلوبنا تسأل. إلى متى إلى متى يظل يومنا المأمول على دمانا يسير). وهذا ثالث قال: (لكم أكرهها هذه القلعة الصماء. ففوق حجارتها سالت دماؤنا سُدى. أرجوكم. اُذكروا إعلانات الحداد. اُذكروا الدبابات والمواقع. وكل الرجال الذين سقطوا). (الرائد جوني هونيك الذي سقط هو ومن كانوا معه.. من أجل احتلال الشقيف). و: (كل الأوسمة يجب أن توضع. في طرود تحمل أرقام الضحايا الذين سقطوا. هناك في الشقيف. في الدامور. في صور. في عين الحلوة). ورابع قال: (دفنا أمواتاً كثيرين. وما نزال ندفن. في كل يوم. في كل أسبوع. وفي كل شهر). وخامس قال: (لن نموت من أجل لا شيء. أصدقاء لنا كثيرون. ذهبوا إلى لبنان. وعادوا داخل توابيت. لن نعود داخل توابيت). وصدق الله القائل عن اليهود الجبناء: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (سورة المائدة/ 24)، وصدق الله القائل عن المؤمنين المحتسبين (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (سورة النساء/ 104).. وأما أُمَّتُنا فقد بُليت بقدرٍ كوني ليس بوسعها مثلِ (طائرة بلا طيار).. إلخ.. وإذا امتثل المسلمون وصية ربهم هذه فإنهم يجدون عراقةً في ذاكرتهم التراثية؛ لأن أدبهم التراثي لم يشهد عليهم بنموذج يتبرَّم من الجهاد والفداء، بل تشِعُّ بسماتهم من جروحهم، ويفرحون بالشهادة، ويحتسبون أحبابهم إذا استشهدوا.. ولكن كفرة اليهود يئسوا من أصحاب القبور والتوابيت، كما يئسوا من الآخرة؛ ولهذا بكوهم ولم يغتبطوا بهم. قال أبوعبدالرحمن: لست ألوم اليهودي إذا استحيا ذاكرته التاريخية، ولا أتأفَّف من الرومانسية وهي نُزْهتي؛ وإنما أتأفَّف من ذاكرة صهيونية معاديةٍ كلَّ البشر، ومن خطاب صهيوني يقيم تاريخه على إبادة أُمَّتنا في فلسطين وما حولها، ويغتصب أرضهم، ويحلم بما هو أوسع من ذلك.. وأتأفَّف من خُلُوِّ رومانسيتنا العربية من كل شجن تُغَرِّد ألحانه بفلسطين بجمالها التاريخي والطبيعي، وأتأفَّف من كل شعر طائفي يخدعنا بأقنعة من العتمات في تاريخنا أو تاريخ الأمم، وهي رموز تنتهي إلى التهكُّم بنا والتحريض علينا. |