“حـَسناً، أوافِقُ على الزواج ِ مِنكَ إن أنتَ وَعَدتـَني بألا تـُجبـِرَني على أكلِ الباذِنجان”. عبارة ٌ قـَصيرة اقتـَبَستـُها على لِسان فيرمينا داثا بَطلةِ الحبّ في زَمن الكوليرا، ولمَعرِفـَتي المُسبـَقـَة انكِ لا تـُحِبّينَ الباذِنجان قلتُ لكِ “أرجوكِ وافِقي على الزواج مِنّي ولن أجبِرَكِ على أكلِ الباذِنجان أبَدا” ولأنـَكِ تـُشبـِهينَ تلكَ البَطلة الوَرَقية وأنا لا أشبـِهُ سوى أحمَق اتـَخـَذ الحبّ مَأخذ َ رواية، مُتـَناسِيا أنّ الدُنيا لا تـَأخـُذ أحلامَنا مأخـَذ الجَدّ فتـُحَقِقـَها ولا النهايـَة السَعيدة المُعَدَةِ سَلفاً لتـَصفيقِ المُتـَفرجين تـَرقى لرواية.
قـَبلَ عام لم يـَكن لجَسَدي رَغبَة الاستيقاظِ من نـُعاسِه بين ذِراعَيكِ، الآن لي رَغبَة في بُكاء هذا الصَباح النـَّدي وهو إلى جانِب غِيابكِ يُوقِظـُني، خـَارجَا الطـَبيعَة تـَفي بالعُهود، السَماءُ نزلت عند رَغبَة الأرضِ بالانتِشاء فغـَمرَتها مَطرا، حورية في آخِر الكلام تـُسابـِقُ النـَهرَ انتظارا، الريُحُ تـُداعِبُ أعشابَا جاهـَدَت لتـَرفـَع قامَتِها عن الأرض، أشجارٌ جاءت حاضِرَة صَلواتِ السَماء، تسرقُ من المَلائكة ظـِلال أجنِحَتِها المُتـَراقِصَة في حَرَمِ الله. وأنا الشاهدُ من نافِذة ما عـُدتِ تـَطـُلين مِنها.
تـَرَبَصَ المَوتُ بكِ تـَحتَ أغطِيَة فِراشِنا، أصابـَكِ وتـَركني ليمنـَحَني يَأسَاً على هامِش الحَياة، ويُخـَلفني بلا شـَهيَةٍ لفتـحِ عَيـنـَي بعد أن أغلقتـُهما على قلبكِ، وأنتِ تـَنظـُرين إلي من السَماء انِكِسارا مُتـَدَلياً مِن طـَرَف السَرير، كانت لأحلامِه وللخـَيبَة المَقاسَ ذاتِه، فما عادَ الياسمين يـُشبِهُ أسوارَ حديقتنا.
طرحَتكِ مَيتـَة هذه الحَياة، وطـَرَحَت بي خاوي الذراعين، فما ضَمَمتـُكِ بعدها ولا عَرَفتُ كيفَ أضُمُّ أيّ شيء سواكِ. تـَشـَوّهَت عَلاقتي بذراعين لا حاجة لي بهما دونك.
بوهمٍ… استشعر يَدُكِ اليسرى تـَلفّ خاصِرَتي، ورأسي ينحني على كتفك إلا قليلا، يدا تـُمسِكُ الحُلم والأخرى مَسَكها الخَوف، دَخلنا سَويةً نـَتـَأمَل الوجُوهُ المَكسُورَة، في صالة الرَسم المُعاصر – في مَدينة البَندقية، التاسع والعشرين من حزيران، كـُنتُ وَحدي، والأضواء الخافـِتة على اللوحات تـَعذِلُ على شـَهقـَة الحُلم بامرَأة تـَكرَهُ الباذِنجان، الجُدران الجامِدَة دَفأتها خمسة وعشرين لوحة لوجوهٍ مَكسورةٍ لنساء غريبات وحَزينات، بَحَثتُ عَن وَجهِ واحِد غَير مُهَشـَمٍ، غـَير مُشـَقـَق، كانت دون استِثناء مَكسورة حتى اصغَرَ خـَلية، أمَلي فشِلَ في تـَسلق حَائِط الغـُرفـَة فانكـَسَرَ.
إنّه الرابع من ديسمبر، وها أنتِ تموتينَ عاما آخر، بَقيتُ أجالسُ المَكانَ كما تـَرَكتِه، مِعطـَفـَكِ الأحمَر، مَسرَحياتِ الإغريق القديمة، قـُبَعتكِ الصَغيرة، أعقابُ سجائِرك، وتـَعليقك “ليسَ لدَي سَببٌ واحَد يَجعَلني أتـَوقـَف عن التدخين، ألم تقل لي أني أجَمل حين أدَخن”، ومائة حُلم عَلقناه على شَجر يَستـَجيب لإغواء الخَريف، صورٍ التقطناها بحبٍ وفرَح دون وعي عن مَكر الزمن لعذابٍ تـَكتـَنِزهُ لنا في واقِع انتِقال اللحظة إلى الزمَن الماضي، لحظات متفاوتة المشاعر لا تزالُ تـَحتـَفِظ بسحر الدَهشَة الأول، كلها لا تـَصلحُ لإعادتكِ كاملة !
أتأمَل اللوحات وأسير على أطرافِ أصابعي كي لا أزعِجَ صَدى انعِكاسِها أرضَا، هناك أيقنت أني فقدتكِ. للحظة أغرتني هذه الوجوه باحتِضانِها وإعادَة لـُحمَتِها، أن أعيد لها هِواياتِها الصَغيرة، الرحلة الطويلة من حَياةِ المَرَض قـَضَت على حياة الجَسَد حتى تهالك، أوصَلته إلى مَثواه الأخير، الفرق بكم هي مُؤلمَة الوَسيلة وكم تـَستـَغرق المدة، استبدل الموت يدانا، واحتضنكِ، فجاء خبرُ موتِكِ صادِما رُغمَ أني تـَحَضَرتُ له طويلا جدا، إلا أنني كنتُ أكثرَ انكِسارا مما تـَوقـَعت، والحقيقة أننا أبدا لا نكن جَاهزين لخـَسارَة من نـُحِبَهُم، وهكذا صِرتِ أنتِ الوَجهَ الخامِسَ والعشرين على زاويَة المَعرَض، كانت فِكرة ماتيو انيكيارغو رَجلٌ مُسِن، سرطان الدَم كان نِهاية رَصيفِه، مَشى نحوه بيـَقينِ الانتـِقالِ، واستسلمَ للرحلة إلا أن المَوت راودَه ثلاثة أشهر، ليَخرُجَ من الدُنيا مُكتـَمِلَ النـَصيب من الألم. لم يَكـُن وَحيدا، خمسة وعشرون آخَرون قـَضَوا مَعه في المَشفى وهم يُصارعونَ مَوتـَا أتاهُم مِن حَيث احتـَسَبوا، أسعَفـَهُ الوَقت ليَرسُمَ وجوهَهُم جَميعا، كنتِ أصَغرَهم سِنا، لا أحَد سَيَذكـُر أين ضاعَت مَفاتيح جَسَدِ تلكَ الأنثى وكيف تـَهالكَ حتى انكَسَر كغـُصنٍ يابِس لعِبَت به الريح. وَحدي أنا بقيتُ حَبيسَ الذكرى.
نهارٌ فجرُه يَستـَفيقُ على رَذاذِ المَطر، ارتـَدَيت حُزنـَا يَليقُ بنـَجمَه لوتس، إنها أول شتاءاتِ المَدينة، حَضَرَ المَطرُ وغِبتِ أنتِ، مُنذ أحببتـُك ارتدَيتُ ذاكرتكِ عمرا، حاولتُ أن أشبهكِ أن أكونكِ، الآن أعاتِبكُ بصَمتٍ، أمدُّ يَدي لعَلك تـَمُدينَ يَدكِ بالمُقابـِل، فتنكـَسِر خاويَة في الفراغ، فأعيدها إلى جَيبي، وأمضي سائرا اقطَعُ أيامي لأصِلكِ.
ورد أضَعَه عندَ قـَدَميكِ كل حَنين، شَعرتُ بكِ تبكين، فبكيت، وطوينا المَساء على قــَهوة ناقِصَة الحَديث، وددت لو أني أخبرتـُكِ أني لم آكل الباذِنجانَ أبدا، وفي حياتي كلها لم اقرَأ سوى الحُبّ في زَمَنِ الكوليرا، الرواية التي ما كان عليّ أن أمازح الحبّ بها. ولكنّي صمت!