امرأة برحيق وردة

إنتزعت
جسدها من سرير التاريخ وغادرته ..أنثى، ثلاثون عاماً وثلاثة وهي تسير في
قافلتهنَّ ، هي ، أمها، جدتها، جداتها ..

ظلت لأعوام طويلة تستيقظ في صباحات أيامها الرتيبة ، تقف أمام مرآتها ،
وتحدق في ملامحها الشرقية، فتُبصر حواء .. خوله.. سناء.. جميلة.. وحتى
نانسي و أليسا .
فكَرتْ: ربما أشباحهن يشاركنني وحدتي ، لذلك انتحت بعزلتها الى الحب 0

مع مرور الوقت بدأت تدرك أنها تحب بطريقة ليلى لمجنونها وتعبر عن عشقها كما
لو كانت إحدى نساء قصائد لوركا أو نزار 0
وعن غير قصد بدأت تكتشف أن مساراتهنّ ـ جميع النساء ـ مثلما عذاباتهن جيناً
وراثياً نصفه من الأب ونصفه من الأم 0

*
* *

بعد
ثلاثة عقود استيقظت على رنين هاتفها في وقتٍ متأخرٍ من الضحى على غير
عادتها ، و رفعت السماعة بكسلٍ :
ـ الو
ـ صباح ا لخير دكتورة، العينات المطلوبة موجودة في المختبر منذ السابعة 0

منذ شهر وبضعه أيام لم يتغير شيء.. ربما اضطراب في ساعتها البيولوجية ، أو
شيء من الملل ، أو إحباط ، مع أن هذا مستبعداً !
حائزة على شهادة دكتوراه في علم التشريح الجنيني ،تعمل منذ خمس سنوا ت في
مركز الأبحاث الطبية ، وتحوز في عملها على التقدير والإعجاب ، لها من
الجاذبية بل من العذوبة ما يخلد كل النساء .
بعض اختلافات قد تبدو عارضة ، لكنها في الحقيقة انعكاسات لشيء في العمق.
شيء ما يحدث لها (؟؟؟) بل ربما حدث .
إذ تنظر إليها تبصر هذه الابتسامة السَمِحة التي تغطي كل تفاصيل وجهها ،
وتجعل في عينيها السوداوين ضوء قنديل بعيد معلق في ليل عميق 0
هادئة ،متأملة ، لكنَّ عاصفة تمردها كثيراً ما توشك أن تهب 0
ليست متعصبة لشيء إنما غير متسامحة بالمطلق 0
زميلات دراستها اللاتي فرقتهم الحياة ، كثيراً ما كن يستنفرن عنفوانها
واعتزازاتها النسائية فتجيبهم بعناد :
ـ ويي ،وحدة بدون خبرة وماعندها تجارب ، زي الصفحة البيضا .. إيش يعجبكم
فيها ؟!
ـ حتى لو ما كانت صفحة بيضا ، كمان لازم أحد يقراها 0
هكذا تفاجئك دائماً بما لا تتوقع ، لذا تستسلم لها حين تعجزك محاججتها أو
معاندتها ..ثم تحبها 0

*
* *

حين
أنهت حزم أفكارها ، وهي تَعدُ درجات السلم هبوطاً من مكتبها إلى الطريق ،
وباتجاه مخالف للسير ،وصلت إلى حيث تريد .
عزمت منذ شهور أن تبدأ من حيث انتهت الأخريات ، ليس تفرداً ، إنما لكي تكسر
مساراتهنَّ الدائرية ، فتغدو للعيون آفاق ، وأحلامها وسع للمدى يبحر فيه.
ها هي الآن قد وصلت ، ألقت التحية ، وجلست أمامه ساكنة .
بدأت نظراتها التأملية السريعة لكي تتأكد أن هذا هو المكان وهذا هو الرجل
المطلوب 0
هو في الخمسين ، يبدو ،تبعاً لذلك، ذا خبرة علمية و عملية ، يرتدي سترة
بيضاء و رأس رجل.

سحب من أحد أدراجه واحدة من بطاقات العيادة وبدأ يطرح الأسئلة ويدون
الإجابات :
الإسم :ـ ـ ـ ، العمر : ـ ـ ـ ، العمل : ـ ـ ـ
فصيلة الدم : ـ ـ ـ
متزوجة : لا .
آنسة : نعم .
ـ ممَّ تشكين ؟
ـ حامل .
توقف عن الكتابة .. نظر إليها من فوق نضارته باستنكار .. ثم بغرابة من
ارتياحها 0 أعاد قراءة ما كتب وعلَّق:
ـ من دون زواج ؟
ـ نعم .
ـ صديق ؟
ـ لا .
ـ اغتصاب ؟
ـ لا لا 0
ـ يا مدام يجب أن...
ـ تقاطعه : آنسة من فضلك .

بعض
دهشةٍ وبعض ازدراء في عيني الطبيب اللتين اتسعتا وهو يؤكد لها وجوب معرفة
فصيلة دم الأب ، وضع الجنين.
بينما يزداد فقداناً للصبر وهي تؤكد أن لا أب له ، وأن جنينها أنثى ،
طفلتها وحدها ، لا أب لها .
لم تسنح له ليُكوّن انطباعات حولها أو يثير شكوكاً أياً كانت ، فبدأت تشرح
له بلغةٍ مشتركةٍ بينهما كأطباء:
ـ جنيني أقصد إبنتي، هي عملية توالد بكْري .
لم تكن لتهتم بما يبديه وجهه من علامات تعجب ، فاستطردت :
ـ أنت تعرف أن ثمة عمليات تكاثر تحدث لدى بعض أجناس الأحياء ،و ابنتي أقصد
جنيني ناتج عن توالد بكري بشري ، هل فهمت؟ .

أصبح الحديث أكثر استثارة للإصغاء .

ـ كما
تعرف إن وظيفة الحبيبات القشرية الموجودة تحت غشاء البويضة ، معروفة على
الأقل تشريحياً ، يمكن أن يحفّز انفجار النواة على الإنقسام والتكاثر ،
وتشكل غلافاً يحمي الجنين المتشكل ، ويمكن أن يحدث ذلك بطريقة آلية دون
تلقيح .
بالطبع سيكون الجنين أنثى ، هكذا أصبحت ابنتي ، لي وحدي ، لا أب لها !
بدا غير مصدق حتى وهو يتأكد من الأمر بعد إعادة فحصها.
حاجباه اللذان تقاربا ، جبينه الذي ازداد تقطيباً ، فمه المطبق والمزموم
بشدة ، كل ذلك كان يؤكد أن شيئاً ما في أحشائها 0
ـ هل تدركين خطورة ما فعلتِ ؟ هل تعلمين ما سيحدث ؟
ـ لا شيء مطلقاً . مارست حقي في أن أكون أماً ، حفّزت نواتي على الإنقسام ،
تناولت هرمون طبيعي لازم لذلك ، و سأُنجب ابنتي فقط . . ما الذي حدث ؟! ،
لم يحدث شيء ، صدقني ؟
هل سمعتَ عن "حبيبات الجُعل أو الجعران" تلك المحفزات على إنجاب الذكور،
متوفرة لدى العطارين والأطباء الشعبيين ..
ذاك الجنون الذي اجتاح العالم عبر التاريخ منذ فراعنة مصر ، حكماء الهند ،
مروراً بثوار فرنسا ، وبدو الصحراء ، حتى حداثة أميركا .
من قال خلال هذا الزمن أن شيئاً ما سيحدث ؟
هل ستغير ابنتي التوازن البشري والبيئي ؟
أم ستزيد من الإحتباس الحراري؟ أم أنها سترفع الأقلام وتجفف الصحف ؟
إذاً ، فليكن ، يحتاج هذا الزمن إلى وجه جديد .
تحتاج الوردة أن يتنزى رحيقها من القلق

شيء من
الفرح يغمرها ، لقد أطلقت عصفورها من قفصه ، وستدعو العالم كي يشاركها
أغنية الحرية 0

* * *

عداد
الزمن يتناقص ، السرير يسير بها إلى غرفة عمليات لا تشبه أية غرفة أخرى ،
ليس سواها مع طبيبها .. ثم ، يدخل رجل مدجج بالحديد والتعاويذ والريش
والأحبار يقفان أمام شاشة كبيرة ، يتناقشان بصوت خافت.

بدأت العملية ،الطلق ، حالة من انعدام الروح ، تتطاير الأشياء ،و تحس أنها
تحلق إلى مكان سرمدي بسعادة .
ـ سألد .. ألد ،
أنا حبلى . . وسألد بنتي وحدي.

ورغم
أنها بين الوعي والسرنمة سمعت صوت خفيض:

ـ إنها
بنت ، طفلة .. انظر : رأسها يشبه وردة.

ر متسامحة بالمطلق 0
زميلات دراستها اللاتي فرقتهم الحياة ، كثيراً ما كن يستنفرن عنفوانها
واعتزازاتها النسائية فتجيبهم بعناد :
ـ ويي ،وحدة بدون خبرة وماعند

امرأة برحيق وردة

امرأة برحيق وردة :: تعاليق

امرأة برحيق وردة