حياة باسلة/ فصول من رواية جديدة
حسن النواب
حياة باسلة/ فصول من رواية جديدة
31/12/2011
|
غلاف الرواية |
35
مذاق الدم
امام عيني الفائرة بالدمع .. هبطت ذكرى معركة احتلال مدينة الفاو الآن ..
ومن ملحها الجريح الذي اصابته نصال نزوة الطغاة والحروب ذات يوم .. ومن
نزف دماء جنودها وعطش وتيبس شفاههم ..ومن احتراق تيجان النخل في بساتينها
واصفرار شجر الحناء ، من هديل فواختها وصياح بنات آوى حين تشتد ظلمة الليل
.. ابدأ اليوم بالكتابة عن هذه المدينة وانا اجاهد بإزالة دخان القنابل
ورائحة البارود من خنادق ذاكرتي لكي امسك بتلك الساعات الباردة من شهر شباط
والمبتلة برطوبة الروح .... يوم دخل عريف الخفر بعد منتصف الليل الى
ملجئنا في شرق الطيب لاهثا .. وهو يحثنا على التهيؤ للحركة.. كنا حينها
نستعد للتفتيش السنوي على عجلات الدرع للكتيبة .. وحدث قبل ساعات بالضبط ..
اثناء نوبة حراستي لرعيل الدبابات حين كنت اكرع كؤوس العرق من زمزمية الى
جانبي .. ان ضابط الخفر لم يجدني في موقع الدبابات وهذا يعني التقصير
بواجبي ولما حاول استجوابي طلبت منه كلمة السر .. ولأنه تلكأ بالرد على
كلمة سر الليل سحبت اقسام الرشاشة عليه بمحاولة مني لإثبات شجاعتي امامه
نتيجة اهمالي لنوبة الحراسة .. كان الضابط صاحب النجمة الواحدة من اهل
الرمادي .. وكان مستجدا على الجبهات .. اذ نقل توا من الكلية العسكرية ..
وهؤلاء الضباط يعرفون تماما ماذا يعني جندي قديم في الحرب .. قال لي بود:
- تجولنا كثيرا بين الدبابات .. ايها العريف ولم نجدك ..
وصرخ بي فجأة:
- اين كنت .. ؟
لم اتردد لحظة واحدة من اطلاق رصاصة فوق رأسه .. وانا اصيح .. مرتعدا من الغضب ام من السكر ام الخوف .. لا ادري:
- اخبرني بسرّ الليل ؟ والا اطلقت الرصاص على رأسك هذه المرة ؟
بالطبع كل هذه الضجة حدثت بسبب سكري .. وكنت اتجنب ان يدنو مني .. حتى لا
يشم رائحة " الزحلة " .. فما كان منه .. الا التقهقر الى الخلف منصرفا ..
وغاب عني في دجى الليل البارد .. وكنت اسمع تهديده من بعيد:
- غدا نتفاهم ايها العريف غير المنضبط .. الصباح رباح ..
لكن امنيته لم تتحقق .. هاهو عريف الخفر يطلب منا الإستعداد للحركة .. والى
اين ؟ الى البصرة .. رزمنا حاجياتنا على عجل فوق الدبابة .. ربما كنت
الوحيد بين جنود الكتيبة فرحا .. فلقد انقذتني حركة كتيبتنا لشرق البصرة من
سجن اكيد .. واقبلت ارتال " الفاونات " التي ستحمل دباباتنا الى ارض
المعركة .. وتسلقت ظهر الشاحنة بدبابتي .. وانطلق الرتل الى البصرة .. شئت
الجلوس في غرفة سائق الدبابة ..غرفتي .. ولم اهبط للجلوس مع افراد الطائفة
الى جنب سائق الفاون في مقصورته .. كنت اكرع العرق مستمتعا بصوت فيروز من
آلة تسجيل صغيرة حملتها معي فالموت ينتظرني بعد ساعات .. وفيروز تغرد :
- اعطني الناي وغني ..
مررنا على قصبات البصرة الشافي والنشوة والدير .. حتى هبطت بدبابتي الى
ساتر ترابي والوقت غروب .. كنت ثملا .. والعسكر مخبوص بما لا اعرفه .. ومضت
ساعات .. حتى بدأت المدفعية بقصف عنيف للجبهة التي امامنا .. كنت ابصر
وميض القذائف المتساقطة كما لو اني في مهرجان لأعياد رأس السنة في مدينة
اوربية .. تلك التي كنا نراها في التلفزيون .. حيث مهرجان الألعاب النارية
في السماء .. والفرق ان مهرجان هذه الألعاب يحدث هذه اللحظة على الأرض
السبخاء وبشظايا موت حقيقية.. واستمر القصف وازداد ضراوة .. فصار جسدي
يرتعش .. هلعا .. ولم اسعف نفسي بالخروج .. فتدفق البول على بنطالي من شدة
الخوف وانا السكران .. وهنا سألت آمر دبابتي " صباح " الفتى البهرزي:
- يبدو اننا سندخل معركة حامية ..؟
خرجت الكلمات من فمي مرتعشة .. واجابني بخوف ملحوظ:
- سنموت هذه المرة .. وانت مازلت تسكر ..
وتداخلت الأصوات .. قالوا ان القائد العسكري " بارق الحاج حنطة " هجم على
ام الرصاص لتحريرها .. بينما تحركت دباباتنا على الخط الستراتيجي بصولة
سريعة .. كانت دبابتي تنطلق بأقصى سرعة .. وشظايا الراجمات تتساقط كنوافير
من الذهب الملتهب على جانبي الشارع .. بعض شظاياها ترف فوق فروة رأسي .. في
الطريق كانت دبابة قد سبقتنا واصطدمت بسيارة جيب صغيرة .. ولكثرة مامرت
عليها من مسرفات الدبابات .. استوت تلك العجلة الصغيرة مع اسفلت الشارع
كعلبة صفيح وهرست جثث من كان فيها .. كانت الجثث " ملطوشة " على الشارع
بشكل مفزع .. وحين ادركنا الفجر .. توقفنا لدقائق بطريق موحل .. قبل ان
ننطلق الى ممر ترابي آخر .. كنت اقود الدبابة وشمس شباط خائفة هي الأخرى
اتحدث هنا عن معركة احتلال مدينة الفاو في شباط عام 86 وصرت ابصر القتلى
على جانبي الشارع... عجلات محترقة .. اشم رائحة شواء اللحم حين امرق من
جنبها بدبابتي .. بدأت اصحو .. بل صحوت تماما .. سألت "صباح " عبر الحاكي
لقلنسوتي:
- متى ندخل الى المعركة ؟؟
- ايها الغبي الثمل .. نحن في معركة طاحنة منذ نصف ساعة ..
الواقع كنت اقود الدبابة برشد مخبول .. ولأن مكاني في الأسفل .. قياسا
لموقع آمر الدبابة في قبة الرصد .. لم اتمكن من رؤية مشهد الذبح المستمر
مثلما يراه آمر دبابتي .. هنا دعوني اصف لكم المشهد للمعركة دون زيادة او
نقصان .. بعد ان توقفت بدبابتي خلف ساتر ترابي واطىء وقذائف الهاونات
تتساقط كالمطر من الإيرانيين .. صرخ بي " صباح ":
- اعبر الساتر الترابي الى الأمام ..
تظاهرت بالطرش .. ولم اسمع صرخته بل تجاهلتها حين ابصرت الدبابات تحترق
الواحدة تلو الأخرى وهي تحاول عبور الساتر الترابي المنخفض .. كنت انتظر
تقدم اكثر من دبابة مع دبابتي في ذات التوقيت حتى يكون حظنا بالنجاة اكثر
.. فقاذفات العدو تتربص بأية دبابة تحاول العبور الى الأمام .. ولما رفعت
رأسي لأستطلع ماحولي هالني مشهد الدبابات التي اكلتها النيران على الشارع
.. كانت اكثر من عشرين دبابة محترقة .. ورفعت رأسي مرة اخرى خطفا لأرى كم
من الدبابات ظلت سالمة .. شعرت بالرعب .. فكل الدبابات السليمة لا تتجاوز
عدد اصابعي .. وهنا صرخ آمر دبابتي يحثني لعبور الساتر:
- اعبر بسرعة .. والا ّسيعدموننا ..!!
الغريب ان خوفك من الطغاة اكثر من خوفك من الحرب ومن الموت نفسه.. فهل ان
الطغاة هم الذين ابتكروا الموت قبل الله ؟ والا بماذا افسر القفز بدبابتي
الى الأمام عندما عرفت ان هناك الموت الأكيد الذي ينتظرنا من لجنة
الإعدامات ؟ عبرت بدبابتي الى الأمام .. ورأيت لأول مرة بعيني المجردة
اولئك الجنود الإيرانيين يتقافزون على السواتر كغمامات رمادية وعلى اكتافهم
القاذفات وحركاتهم مليئة بالنشاط .. كان الساتر الترابي الذي عبرت نحوه
بدبابتي بعلو متر واحد وقد انتشر عليه الجنود .. اي جنود ؟ كانوا صبيةً
بعمر الورد والله .. بعضهم صار يولول من شدة الهلع والرعب .. وعرفت انهم من
قوات الحرس الجمهوري للواء الثاني ... وبدأت المجزرة .. كانوا يذبحون
تباعا .. والبكاء يتصاعد .. بكاء عاشوراء .. والقصف يدمدم مثل طبول في موكب
تطبير ..
36
سائق عجلة الإسقاء
على الساتر الواطىء .. جثمت الدبابات المتبقية من الكتيبة لدقائق .. ولكن
اية دقائق مسعورة كانت .. لا اغالي لو اخبرتكم الآن .. ان ذلك الساتر تحول
الى مسلخ للذبائح .. كان الدم يتطاير من جميع الجنود مختلطا بإستغاثاتهم ..
يصرخون لثوان ثم يهمدون بنومة ابدية على التراب .. رفعت رأسي لثوان ولمحت
معظم الدبابات تشتعل النار في ابراجها .. كيف تكون الهزيمة اذن .. !! صحيح
ان رامي دبابتي تمكن من اطلاق قذيفة واحدة .. ولكن من شدة ارتباكه سقطت على
منطقة بعيدة عن الأهداف .. بينما الجنود الإيرانيين اراهم يتقافزون من
ساتر الى آخر امام عيني وعلى اكتافهم القاذفات .. واصيبت الدبابة التي
بجوار دبابتي وتناهى لي صوت صراخ طاقمها .. وحين اشرأبيت بعنقي من غرفة
السائق .. اصبت بالذعر .. فلقد كان مخابرها يحاول اخراج آمره من قبة الرصد
.. ذلك النقيب المصلاوي الطيب الذي انخرط في خدمة الإحتياط مجبرا .. وهو
مدرس اللغة العربية .. والنار ملتهبة بجثته .. وحانت مني نظرة الى الساتر
الذي امامنا .. فوجدت احد الجنود الإيرانيين يلقم فوهة القاذفة صاروخا
جديدا .. ويصوب هدفه على الدبابة المحترقة .. كان الجندي الإيراني على بعد
مئات الأمتار .. وقد وضع القاذفة على كتفه لإطلاق صاروخه .. فما كان مني
الا الصراخ عليه .. كنت استغيث والدمع يسيح على عيني .. اصرخ بإستغاثتي دون
شعور .. ورفعت يدي ملوحا ومتوسلا بالجندي الإيراني الذي يبدو انه تعاطف
معي .. وانا اهز يدي بقطعة قماش زرقاء قذرة كنت اجفف بها نضح الوقود بين
حين وآخر :
- ها .. نو .. لا .. ناء .. نو .. ناء ..لا ..
اختلط رفضي بين مفردات انجليزية وعربية وفارسية .. و" ناء " تعني لا ..
والله الذي حدث مايلي : تراجع الجندي الإيراني فجأة الى الخلف ولم يطلق
صاروخه المميت وهو يبتسم على صياحي المختلط بالنحيب .. وانزل القاذفة من
فوق كتفه .. واختفى خلف الساتر .. بينما تمكن مخابر الدبابة المحترقة .. من
رفع جثة النقيب المتحفمة ثم قذف بها الى الأرض الملتهبة هي الأخرى.. وسمعت
صوت آمر دبابتي عبر قلنسوتي وهو يدعوني الى الإنسحاب بسرعة .. تراجعت
بالدبابة الى الخلف لعشرات الأمتار ثم استدرت بها بسرعة نحو الطريق
الإسفلتي .. فصدمت حين رأيت الرتل الذي امامي مازال متوقفا .. ولما استفهمت
الأمر على عجل .. اتضح ان هناك عجلة " إيفا " محترقة تعترض الطريق ..
وانحرفت بدبابتي عن مسار الرتل بسرعة .. وانطلقت الى حيث " الإيفا " التي
مازالت النار تضطرم بها .. وازحتها عن الطريق ورائحة شواء اللحم الآدمي
تشبع بها انفي .. وكنت اول المنهزمين من المعركة .. حتى وصلنا الى ساتر
شيد على عجل .. مكثنا خلفه طوال الليل .. وعند الساعة الثانية بعد منتصف
الليل .. اشتعلت النار بالقصف من جهة اليسار حيث رأس البيشة .. ظل القصف
حتى الفجر .. ولما اطل الصبح .. جاء احد الضباط ماسكا بيده " يطغان " بقبضة
بلاستيكية بيضاء صلدة ، و"اليطغان " آلة حادة تشبه السيف لكن هامتها تكون
بنصف هرم .. واخبرنا بصوت متعب ومرتبك:
- من يصدق انهم يحاربوننا بهذه الأسلحة ..؟
وصار واحدنا يفكر برعب ، فأية ميتة بشعة ستنتظره هذه الليلة .. واستبد
بعروقنا العطش .. نريد جرعة ماء .. الإمدادت ليس لها اثر .. ولكي نطفئ
عطشنا شربنا ماء " راديتر" الدبابة فهي تسع الى ثمانين لترا من الماء الذي
كان صدئا .. شربنا منه .. لقتل العطش .. ولاحت على الشارع عجلة الإسقاء
فهرع جميع الجنود نحوها لإطفاء ظمأهم .. كانت عجلة الإسقاء تابعة لكتيبتنا
.. دبابات اشبيلية .. ومشهد الجنود المتنازعين على جرعة ماء وصل حد الموت
فيما بينهم .. وسائق عجلة الإسقاء يأبى توزيع الماء الا بحضور الآمر ..
كان السائق البصري ثملا للغاية .. وهو يلعن من قتل الإمام الحسين بين لحظة
واخرى .. حتى وصل احد الضباط الشبان .. للإشراف على توزيع الماء .. ولما
طلب من السائق المثول امامه .. اجابه البصري بتزميرة من بين شفتيه احتقارا
ثم ردد بهدوء والثمالة تصخب برأسه :
- اغرب عن وجهي يا ولد .. والاّ سأنزل وادفنك بهذه الأرض السبخاء ..
واية ارض سبخاء كانت .. فهي مزيج من الملح والتراب المر الممزوج باالشظايا
.. واضافت الأمطار لأديمها لزوجة .. ضحك الجنود جميعا .. وابتعد الضابط وهو
يفور من الغضب بسبب الإهانة التي تلقاها من سائق عجلة الإسقاء .. وماهي
الا دقائق حتى اقبل جنود حماية الآمر وانزلت الجندي البصري قسرا من خلف
المقود وحملته على الأكتاف الى آمرهم .. بينما هجم الجنود على " هوز" الماء
الذي صار يتدفق من حوض عجلة الإسقاء الى الأرض الصهباء .. ارتوى جميع
الجنود .. بينما كان سائقها يزحف على الأرض الموحلة عقوبة له لأنه اوصل لنا
الماء .. اية قسمة ضيزى هذه التي تجتهد بها الحرب المعطوبة اصلا .. وظل
سائق عجلة الإسقاء يتمرغ في الوحل لساعات والقصف يتساقط الى جنبه .. ولما
تحرر من عقوبته .. وعاد الى عجلته .. انطلق بها بسرعة .. ولكن ليس صوب
البصرة .. انما صوب الفاو المحتلة .. حيث الإيرانيين هناك ..
37
هجوم الظمأ
على مدى ليلتين لم تصل لنا اية امدادات اخرى .. بعد فرار السائق البصري
بعجلة الإسقاء الى الفاو .. حينها ايقن الآمر في سره .. كم كان شجاعا ذلك
السائق الذي تمكن من ايصال عجلته تحت القصف الكثيف الينا .. اذكر ان السائق
البصري قبل ان يأخذه جنود الحماية ويتلقى العقوبة القاسية والمذلة .. كان
قد حدثنا متفاخرا:
- بشرف اخيّاتي .. عشرات عجلات الإسقاء موجودة في البصرة .. ومليئة بالماء
.. لكن الجميع يخاف من القصف .. انا الوحيد الذي وصل لكم .. بسبب شربي "
للزحلاوي " .. شجعني المشروب للوصول اليكم .. وقلت ان اخواني بحاجة الى
قطرة الماء ..
وها نحن نحاصر بالظمأ مرة اخرى ولكن اين نعثر على من يشبه ذلك السائق
البصري ويصل لنا بجرعة ماء او زوادة الطعام .. بعض الجنود من شدة الجوع
تقدموا الى ارض الحرام وهي المنطقة الخطرة جدا والتي تفصلنا عن العدو ..
وراحوا يقلبون جثث القتلى بحثا في جيوبهم عن كسرة خبز يابسة .. وربما
يعثرون على بقايا ماء في زمزمياتهم المدماة .. وعاد احد الجنود فرحا وهو
يلوّح بصمونة مصبوغة بالدم اليابس .. فرك الدم عن جلدها وراح يزدردها الى
معدته الخاوية .. هذه هي الحرب .. التي كان البعض يكتب عنها بمتعة مابعدها
متعة .. هبط الليل والجوع توغل عميقا في احشائي التي لم تر اي طعام منذ
ليلتين .. نفدت الأرزاق الجافة .. وجليكانات الماء مملوءة بدخان القنابل
ليس الا .. تمنيت الموت ساعتها .. فالجوع والعطش يمنعان عن عيني النوم ..
اريد ان انام .. لكن روحي فشلت بذلك .. وحررت مسند مقعدي وهمدت قليلا .. لا
ادري كم استغرقت بغفوتي حتى رفسني آمر الدبابة بحذائه .. صائحا .. بهلع:
- لقد هجموا علينا .. تحرك .. تحرك ..
نهضت كالمعتوه .. وارتطم رأسي بسقف الدبابة .. ولما صار رأسي خارج فتحة
السائق .. رأيت ان الليل تحول الى جهنم حقيقي .. الدبابات تشتعل بها
النيران .. وجنود المشاة يتصايحون هلعا .. تمكنت من تشغيل الدبابة والتراجع
بها الى الوراء .. بالوقت الذي فتح الرامي زر التنشير الكهربائي بمحاولة
منه لتدوير المدفع على جبهة القتال .. ومع استدارتي .. تصاعد لهب اصفر امام
عيني .. لهب شديد مع عصف عنيف .. احترق به شعر حاجبي وشاربي ايضا .. هذا
ما اخبرني به الجنود فجرا .. وهمدت الدبابة دون حراك .. حاولت تشغيلها من
جديد دون جدوى .. فهجرت الدبابة بعد ان تمكنت من انتشال بندقيتي من غرفة
السائق .. وهمت اركض في الظلام دون هدى .. وصادفت دبابة تتراجع فنططت عليها
.. كاد احد افرادها ان يقتلني بصلية من بندقيته .. لكنه عرفني من صوتي ..
بعد ان رددت اسمي .. صرت حينها في غرفة المخابر والهلع يهيمن على كل حواسي
.. وانا اسمع بكاء الجنود الجرحى في الخارج .. ظلت الدبابة تجعر بصوت
محركها .. حتى دعاني احد جنود طاقمها للخروج .. عندما صرت فوق برج الدبابة
كان الفجر قد شق عباءة الموت المظلمة .. وصار يرف بضوء شحيح على اجواء
المعركة .. التي خف بها القصف قليلا .. ولكن من يمنحني قطرة ماء الآن كي
استمر بالحياة .. من ؟
38
شاي في خوذة
لم اكن اتوقع ان آمر كتيبتي سيمنحني جرعة ماء من زمزميته في ذلك الفجر
العفن .. ولم اصدق ان انفاسي مازالت تتصاعد في رئتي تلك اللحظات .. ولكن
جرعة الماء تلك اعادت الحياة الى شرايين روحي اليابسة .. واكتشفت ان جرعة
الماء التي سقت جفاف دمي لم تكن لأجل الله .. !! هاهو الآمر بعد ان شربت
جرعة الماء يستعير رشاشتي التي كانت معلقة على كتفي .. ويبدو ان الآمر ترك
دبابته ولم يتمكن من حمل رشاشته معه .. قلت له مرتبكا:
- سيدي .. لكنها رشاشتي ..
- سأعيدها اليك عندما يطل الفجر ..
ربما يظن البعض ان كلامي هذا ضرب من الخيال .. ولكن الحقيقة .. حقيقة تلك
المعركة الدامية .. جعلت جميع الضباط بوجوه واجمة ويأس تام .. وقلق متواصل
بعد ان اختلط الحابل بالنابل وان العدو ربما يفاجئك بأية لحظة ويطلق عليك
الرصاص ولذا كان المقاتل في تلك اللحظة بحاجة الى سلاح يدافع به عن حياته
على اقل تقدير وهكذا فضل ذلك الآمر حياته على حياتي ومن اكون انا امام
ناظريه في تلك الليلة المرعبة ومدينة البصرة سيدخلها الإيرانيون لا محال ..
اذكر ان عجلة " ايفا " توقفت لدقيقة واحدة .. وتوسل جميع الضباط بسائقها
البسيط حتى تحمل ضابطا كبيرا كان جريحا والدم مازال ينزف من رقبته .. بيد
ان السائق صاح بالجميع:
- لا تورطوني بالضبّاط .. فحتى مستشفيات البصرة .. من شدة القصف هرب منها الأطباء.
- احمله معك الى اية وحدة ميدان طبية ..
- ليس خلفنا والعباس .. الا الجثث .. لا عسكر هناك صدقوني ..
وتقدم نحو آمر اللواء " 16 " الذي مازال ينزف دما من بلعومه ورفعه الى مقصورة السيارة .. وقبل ان يغادرنا .. مد عنقه علينا قائلا:
- والله انتم تورطونني .. بهذا الرجل .. ليكن الله الى جنبي حتى اصل به الى وحدة الميدان الطبية ...
مكثنا بعدها .. في ارض صبخاء .. لانعرف ماذا نفعل ؟ وتأكد لي ان الجميع كان
ينتظر قدوم الجنود الإيرانيين لأسرنا .. فلا قوة لدينا ...ولا نية في
صدورنا حتى للقتال .. لكن ذلك لم يحدث .. فهجومهم الكاسح توقف عند الليل ..
ولما اطل الفجر .. كان مشهد المكان غريبا حقا .. فليس هناك من صوت حتى
لإطلاقة رشاشة .. وصرنا نتحرك وشعور طاغ تملكنا ان المعركة انتهت .. وتجرأ
بعض الجنود من اضرام النار في حبات الفسفور التي يحملونها معهم بمحاولة
لصنع الشاي في خوذة احدهم ... كان المشهد اكثر مما يوصف .. فلقد تجمع
الجنود حول الخوذة التي تشتعل تحت معدنها الأخضر اقراص الفسفور .. مترقبين
فوران الماء بحبات الشاي السوداء .. حتى يتسنى لهم الحصول على رشفة واحدة
من الشاي .. وصار بعضهم يلقم وهج النار خرقا من القماش .. تلك التي توضع
بجيوبنا كهوية للتعريف على جثثنا .. اذا ما اطاحت بنا شظية موت .. فيمكن
الإستدلال منها على هوية الجندي .. وكنت في اجازتي كلما اخرجت تلك الخرق
البيض من جيب قميصي وبنطالي .. ارى امي تبدأ في البكاء .. وهي تتخيل ميتتي
.. وان تلك الخرق .. هي التي ستعود اليها برهانا على ان الجثة لولدها
القتيل .. كاد الشاي ينضج في الخوذه .. ومعه بدأ القصف العنيف علينا ..
تفرقنا في حفر ومزاغل مهجورة .. بينما ظل جندي الخوذة متسمرا في مكانه
منتظرا فوران الماء في حبات الشاي .. والقذائف تتساقط على بعد امتار منه
وهو يصيح :
- سأشرب الشاي قبل ان اموت ..
ويطلق ضحكات مجنونة علينا وهو يلطم على رأسه ويردد :
- جبناء .. جبناء .. احتل العجم مدينتي .. وبيتي هناك ..
وقبل ان يتذوق الشاي تحول المكان الذي يقف عليه الى نافورة جمر .. وهمد
صوته الى الأبد .. صرنا نركض بهلع مع جنود المشاة والقصف يطاردنا .. لكن
ليس هنالك من اثر لجنود ايرانيين يلاحقون هزيمتنا .. ولما انتصف النهار ..
وصلت قوة اسناد مؤلفة من دبابات وناقلات مدرعة الى ارض المعركة بينما كنت
اقف مع جندي من اهالي الكوفة على الشارع وطائر الموت يحوم حولنا وخطفت
سيارة اسعاف صالون ... مرقت بسرعة .. لكنها سرعان ما استدارت وتوقفت الى
جنبنا .. وفتح سائقها بابها الأمامي وصوته يزعق:
- اركبا ...
وحين ركبنا رأيت صاحبي ينغمر بعناق مع السائق والدمع ينهمر من عيونهما
بحرقة عجيبة .. بقيت صامتا .. مندهشا من هذا العناق العنيف والحار .. حينها
استدار صاحبي نحوي واخبرني والدمع مازال نديا في عينيه:
- هذا اخي ..
لم اتمالك نفسي وبكيت .. بكيت بسعادة .. برغم ان مدينة الفاو اصبحت غنيمة دسمة بفم الإيرانيين ..
39
الحمامة
لم يكن بيني وبين الموت الا معاهدة صداقة .. الموت اراه كل يوم في الشوارع
... لكنه في قلبي مؤجل ... ولا اعرف اين اختفى قرص الهوية الذي كنت اضعه
حول عنقي قبل الذهاب الى الجبهات ؟ تلك القلادة التي كان محفورا على قرصها
المصنوع من الألمنيوم اسمي وفصيلة دمي ورقم وحدتي العسكرية وكثيرا ما انصهر
ذلك القرص مع حامله نتيجة النار المشتعلة في جثة الجندي المنكود الحظ ،
وكنت ارى الموت بعيون الذين يجلسون في نادي الأدباء وهم بأحلى بدلاتهم
الزيتونية .. يكرعون البيرة بصحة حراس الوطن .. كنت ابحث عن موت يريحني من
كل هذا .. ربما لا احد قبلي قال لكم .. ان اشد سعادة للجندي هو موته .. ذلك
ان موته في الجبهات هو الأفضل من مسك الزنابير له امام الناس في المدينة
.. ذات يوم جاء الزنابير الى بيتنا بحثا عن الهاربين ولما كنت متأخرا عن
موعد الإجازة ليومين .. اضطررت الإختفاء في تنور الخبز فوق سطح الدار ..
وكان جمره يستعر تحت قدمي .. كنت اردد ثملا:
- يا صعلوك .. مت في تنور امك .. ولا تمت بنار الجبهات ..
لم يدم الأمر كثيرا .. خرج زنابير الموت من بيتنا .. لكن جمر التنور مازال
يلسع اقدامي واشم دخانه وهو يتصاعد من دهليز صدري . وها انا اعود مرة اخرى
بعد سنتين لأقف بدبابتي على مشارف الفاو ، واترقب فجرا يحمل لنا الأوامر
بالتقدم الى تحريرها وقبل ان تطلع شمس البصرة على دباباتنا حتى اشتعل الأفق
البعيد بوميض المدفعية .. كان المشهد مذهلا .. فلقد تعودت ان ارى الأفق
عند الفجر بلون وردي كخدي عروس في ليلة دخلتها .. وها انا اراه يلصف بالذهب
المدمى مع دوي هائل لمدفعية بعدد النخيل .. ورأيت جنود المشاة يتخلون عن
بطانياتهم الخضر التي كان يحملونها على اكتافهم ويغيبون في لجة الشفق
الوردي ، وعلى الساتر الممتد امامي كان مشهد البطانيات الخضر المتكومة عليه
يشبه شجيرات اثل متوحشة نحرت اعناقها على حين غرة ، ظل القصف يدوي لمدة
ساعة حتى وصلت لنا الأنباء ان الجيش تجاوز السدتين جيم وباء وجاءت لنا
الأوامر بالإنطلاق على طريق ترابي لايسع الا لعجلة واحدة بالحركة.. اول
ماصادفت رتلا من الجثث المسجاة على جنب الساتر واقنعة الوقاية محترقة على
وجوهها.. ثم وصلنا الى ساتر شيد على عجل .. كان على الدبابات الصعود على
مثابة الرمي بسرعة لتطلق قذائفها والعودة بسرعة للإختباء في موضع مجاور
لمنصة الرمي .. وحين تسلقت دبابتي منصة الرمي لمحت حمامة على ساتر ترابي ..
سرعان ما غطتها سحابة دخان لقذيفة سقطت بجوارها .. وحين تلاشى دخان
القذيفة .. رأيت الحمامة تنتفض والدماء تصبغ ريشها الأبيض .. حتى همدت
فجأة .. ثم قالوا لنا تقدموا .. فزمجرت المسرفات بطريق موحل لدقائق وتفرقنا
على سواتر مبعثرة .. رأيت امامي ارضا بيضاء من الملح مبقعة بثقوب سود على
مد البصر .. كما لو انها جلد حيوان خرافي اصيب بالجدري .. وحين ترجلت من
دبابتي على درب ضيق .. رأيت الجنود يتوسدون الأرض تباعا وعلى وجوههم
الأقنعة التي احترق بعضها وكان بعضهم يمسك زمزمية الماء قبل ان يلفظ انفاسه
الأخيرة .. بيد ان الذي اربكني وجعل الدمع يتصبب من عيني سخينا ، رؤيتي
لجثة جندي امسك بيده صورة عائلته قبل ان يفارق الحياة بينما كانت على مقربة
من جثته محفظته مفتوحة وهي مليئة بالخيوط الخضر التي ربما جلبها من احد
الأولياء الصالحين للحفاظ على حياته .. لقد بعثر شجاعتي ذلك المشهد وبت اشك
بجدوى التعويذة التي وضعتها امي على زندي الأيمن .. كان ذلك الجندي يدعى
حمزة عباس خضير من اهالي الحمزة الشرقي .. فلقد قلبت الصورة التي بيده
وعرفت منها هذه المعلومة ثم اعدتها بين اصابعه المتورمة .. لم يدم الأمر
طويلا .. بعد ليلة وصلت الدبابات الى ارض الفاو معلنة تحريرها بثقة راسخة
.. كانت ملامح ورائحة الإيرانيين واضحة على المكان بعد احتلال دام اكثر من
سنتين .. وطالعتنا يافطات مكتوبة على حيطان البيوت بشعارات دينية سرعان ما
ازيلت وكتب بدلا عنها بلون احمر شعارات جاهزة تمجد الرئيس بينما تمادى احد
الجنود المتطرفين وكتب عبارة تسيء الى طائفة بعينها وحين جوبه بإعتراض شديد
من قبل بعض الجنود تراجع عن فعلته المشينة وشطب عبارته تلك وكتب بدلا عنها
شعارا يمجد الرئيس بينما صار بعض الجنود يفكرون بشيء واحد هو الإنتقام من
هذا الجندي عندما تسنح لهم الفرصة وقد اشتعل في قلوبهم الغضب واصبح ديدنهم
ذلك الجندي الذي شتم تراثا عريقا لدمائهم ورمزا مقدسا لوجودهم .. واخبرني
احدهم انه بعد منتصف الليل رأى ذلك الجندي المتطرف يتبول على مثابة قريبة
وصادفت حينها نوبة حراسته وتابع يقول :
- صوبت البندقية على رأسه مقررا الأطاحة به .. لكن نجمة خرت في السماء فجأة
او شهب قذيفة تائهة اثلجت اصابعي .. كدت اطلق الرصاصة على رأسه ولكن الصوت
الذي تردد في اعماقي مع خرير النجمة ردد .. دعه .. دعه ..
عندما حل الصباح قالوا ان ذلك الجندي وجد مقتولا في موضعه .. فأدركت ان
مافعله ذلك الجندي لم اكن وحدي من شاهد فعلته المتطرفة والخسيسة .. بل هناك
مئات الجنود راقبوا المشهد وهو يكتب شتيمته عن احد اولياء الله الصالحين
.. ويبدو ان احدهم لم يتحمل مافعله ولذا اهداه طلقة مباغتة في رأسه وربما
شظايا قصف عشوائي قد قتلته برغم يقيني ان مصرعه انما كان بإرادة من الله ،
وادركت ان بعض الجنود يقاتلون عدوا امامهم وآخر ينام معهم في ذات الملجأ
ولم يكن قتالهم الشرس لأجل البلاد وحدها بل ان بعضهم كان يقاتل بضرواة لأجل
بقاء الرئيس الذي ورطنا بتلك الحرب الطويلة .. فكتبت قصيدتي القصيرة:
" الهي ..
لماذا تدعه يستلذ بدمائنا
ونحن نتلظى بجمرة شهوته للخراب ؟ "
40
سكوت .. محكمة
تحررت مدينة الفاو وعادت دبابات كتيبتي الى منطقة الفكة عند حدود مدينة
العمارة مع ايران ، كانت الدبابات في حالة يرثى لها كما لو انها خنازير
نافقة بطين الهور ، بدأنا بإدامتها على وجه السرعة قبل ان نتحرك الى جبهة
اخرى ، حيث اصبحت القيادة العسكرية تتمتع بمعنويات عالية جدا على حين غرة
بعد فرار الإيرانيون من ملح الفاو بل بدأت تفكر بإسترجاع حقول مجنون ايضا
مستغلة حالة الفوضى التي طغت بشكل واضح على ايران بأكملها، وبينما كنت فوق
دبابتي ازيل التراب الأسود عن برجها حتى اقترب مني احد جنود قلم السرية ..
تأملني بنظرة شفقة ثم قال بصوت يشوبه الحزن:
- غدا صباحا ستذهب الى المحكمة العسكرية.
ارتعد جسدي لسماع هذا الخبر وضربت المكنسة التي كانت بيدي على رأسي من شدة
الغضب ، ثم تركت الدبابة وانسللت الى الملجأ ، ثمة دموع ذليلة بدأت تسيل
على خدي ، عندما حل الظلام قررت الفرار من الكتيبة لكني عدلت عن تلك الفكرة
لأن السيطرات ستلقي القبض على جسدي المنهك من التعب لا محالة ، حين اطل
الصباح اخذ بيدي رأس عرفاء من اهالي الحلة الى المحكمة العسكرية في منطقة
قلعة صالح .. كان فناء بناية المحكمة يغوص بالجنود الهاربين الذين جاءوا مع
مأموريهم لينالوا الحكم مثلي نتيجة هروبهم من الحرب ايضا ، انتظرت لساعات
طويلة حتى سمعت منادي المحكمة ينادي على اسمي بصوت مرتفع للمثول امام
القاضي .. دخلت الى قاعة المحكمة برفقة مأموري الحلاّوي بعد ان جردني
المنادي من نطاقي وقبعة رأسي ، وصدمت بمشهد مفزع لأربعة ضباط بوجوه واجمة
يجلسون خلف منصة مرتفعة كان يتوسطهم ضابط برتبة عقيد، سألني بإحتقار بعد ان
دخلت الى القفص الحديدي:
- لماذا هربت ؟
- سيدي انا شاعر .. هربت لأني ..
بترتْ كلامي جلجلة ضحكات الضباط الأربعة هازئة بقسوة لدى سماعهم هذه المعلومة مني ، سألني العقيد ساخرا بشدة هذه المرة:
- شاعر !! هه .. كم كان هروبك .. اجب بسرعة ؟
- ستة شهور سيدي ..
هنا اشعل الضابط الذي على يمين المنصة سيجارة العقيد التي وضعها بفمه ثم
نفث دخانها الى فضاء القاعة مستأنسا بهذا الحمل الوديع الذي يقف امامه ..
قال بتوتر فجأة:
- اسمع .. ياشاعر .. قرار الحكم ..
- نعم سيدي.
- حكمت المحكمة العسكرية على المتهم ..
راح يقلب الأوراق التي امامه بحثا عن اسمي .. ثم اكمل قرار الحكم بعد ان نطق اسمي .. وصاح آمرا:
- حرس .. اخرجوه من القاعة ..
القى المأمور التحية العسكرية للقضاة الأربعة ثم سحبني برفق الى خارج قاعة
المحكمة واحاط بي مجموعة من الجنود ، سألني بعضهم عن قرار الحكم ؟ اجبتهم
بصوت مشبع بالدمع:
- ثمانية شهور حبس مع اعتبار جريمتي مخلة بالشرف ..
علق احدهم ببرود:
- لاتحزن .. لأن عبارة جريمة مخلة بالشرف اصبحت مألوفة لدينا، كما ان ثمانية شهور سهلة جدا ..
قال آخر:
- ماهي الا غفوة طويلة حتى تجد مدة الحكم منتهية.
حين تركنا المحكمة شعرت ان قواي فرت من جسدي فجأة ، ناشدت المأمور كي انال
قسطا من الراحة على الأرض المتربة وسمح لي بذلك ، كانت انفاسي تتقطع في
رئتي وشعرت بالغثيان ثم اهتز جسدي بإنتفاضة مستمرة كالمصروع حتى غزى العرق
جلدي ، لكن نسمة هواء هبت على وجهي اعادت لي انتباهتي فنهضت اسعل من شدة
الإختناق .. ثم استنشقت نفسا عميقا وقلت للمأمور:
- لاتقلق .. لقد تجاوزت الأزمة.
تبسم المأمور ثم اهداني سيجارة مشتعلة قائلا:
- دخن حتى ترتاح.. ودع ايمانك بالله قويا ..
في مدينة العمارة خالفت نصيحته فجأة ورجوته ان اشرب على عجل زجاجة من الجعة
حتى اتخلص من توتري وكان لي ما اردت ثم تبعتها بأخرى ، كنت احتسي تلك
الجعة خلف اجمة عالية في حديقة عامة بينما كان المأمور قلقا خشية من قدوم
الزنابير الحمر على حين غرة واصطيادي متلبسا في حالة شرب !! ما اكثرهم في
المدينة ، لكن الخمرة سرت بدمي واظهرت نتائجها بسرعة على مزاجي وجعلتني
منتشيا .. صرت اضع قبلاتي على وجه المأمور بين حين وآخر بينما هو ينهرني
طالبا مني ان لا المسه لأنه لم يتناول خمرة في حياته كما اخبرني .. وتماديت
بتقبيله حتى شعرت ان سورة غضب لاحت على ملامح وجهه فقلت له معتذرا:
- يبدو اني ثملت ، ارجو ان تصفح عني بسبب سلوكي المتهور نحوك.
اجابني بعد ان شطف وجهه بالماء:
- لافائدة .. لابد ان استحم عندما نصل الى الكتيبة قبل ان اصلي الظهر .. اللعنة عليك يا اخي ..
اطلقت سيل الضحكات من اعماقي كما لو اني اصفع بها تلك الضحكات الهازئة مني في قاعة المحكمة .. ثم استدركت سائلا المأمور:
- متى ستأخذني الى سجن الديوانية ؟
اجابني مغمغما:
- لا اعلم .. آمر الكتيبة من يقرر ذلك.
ولامست احذيتنا تراب الكتيبة ورائحة الجعة تفوح من فمي .. بعد يومين كنت
اقف في مرآب الديوانية حاملا فراشي على رأسي بصحبة مأمور آخر بينما كانت
امي التي مررت عليها خطفا في بيتنا لأودعها تمسك بكتفي ناحبة بعد ان
توسلتني لكي تكون برفقتي ويتسنى لها رؤيتي في اللحظات الأخيرة قبل دخولي
الى السجن ، حين ازفت دقائق الوداع طوقت ذراعيها حول جسدي ثم راحت تشمني
ودمعها يخضب صدري بنحيب جارف ، كان قلبي مثل طائر يخفق بجناحية وسط نار
ملتهبة .. قلت لها بصوت مبحوح:
- امي .. الناس تجمهرت علينا .. كفي عن البكاء رحمة بي .
نظرت الى وجهي بعينين جامدتين وصرخت:
- بني .. اعرف انك لا تتحمل السجن .. نيران الجبهة لك ارحم.
كانت هواجسها مصيبة تماما .. فهذه المرة الأولى في حياتي التي ادشن السجن
لمدة طويلة ، صحيح اني سجنت لأيام معدودات بمعتقل الكتيبة لكن معظم الجنود
يعرفون ان هذا المعتقل مجرد نزهة لأنك تمضي معظم اليوم بإنجاز اشغال هنا
وهناك في الكتيبة ولا تدخلة الا عند حلول الظلام لتنام ، اما السجن الذي
سأدخله الآن .. فهو شيء آخر بنظام آخر ويقوانين صارمة لا ادري هل سأنجح
بتجاوزها ام يكون مثواي الأخير هناك .. وبهدوء طبعت قبلة عميقة على يدها
وتركتها خلفي تنوح بينما ابتعدت خطواتي عنها مسرعة .. وبدأ الدمع يتساقط
على وجهي بمرارة قاسية هذه المرة .. ثم رددت بصوت مخنوق:
- الويل لي ... اية ايام سود تنتظرك يا ابن الخائبة .
41
مسدس الثوّار
في غرفة قلم السجن جردوني من ملابسي العسكرية وحذائي ثم طلبوا مني ارتداء
بدلة سمائية اللون مشبعة برائحة العث ، واصطحبني احد حراس السجن الى القاعة
الثالثة مع فراشي ، حين فتح باب القاعة هبت على انفي رائحة كنيف حادة
فوضعت يدي فوق وجهي متفاديا شم تلك الرائحة العطنة ، تنبه الحارس الى
مافعلت فدفعني بعنف من ظهري الى القاعة الغاصة بالسجناء قائلا بشماتة:
- ستشبع من هذه الرائحة حتى تبدأ تحبها وتحبك.
واغلق باب القاعة .. بقيت متسمرا بمكاني وفراشي مازال بين يدي ، لقد فوجئت ان القاعة لا فسحة فيها حتى لمنام كلب صغير ، وقلت يائسا:
- الهي .. كيف سأمضي ثمانية شهور بهذه الزريبة ؟
بعد دقيقة .. اقترب احد السجناء باسما وسألني بلطف:
- الأخ من اية مدينة ؟
وحين اخبرته بالمدينة التي انتسب اليها رحب بقدومي بشكل مشجع قائلا:
- يا اهلا بالسادة ..
ثم دعاني ان اضع فراشي في ممر القاعة الضيق قريبا من دلاء بلاستيكية كبيرة
طفحت بالنفايات وبعضها الآخر يتساقط من حوافها البول والبراز .. حين شعر
بترددي من المكان الذي اقترحه لي قال موضحا:
- انه مكان مؤقت لحين ما نجد لك مكانا مناسبا ..
لكني بقيت ارقد في ذلك المكان المقزز والذي لايطاق على مدى ليلتين وقد غزى
القمل جسدي من كل حدب وصوب حتى عثر مراقب القاعة على موضع بديل لمنامي بعرض
شبرين وثلاثة اصابع بين السجناء ، تلك كانت المساحة التي يتمتع بها كل
سجين داخل القاعة ، شيئا فشيئا بدأت استوعب طقوس هذا السجن الرهيب ، حيث
كان السجناء يتناوبون على المنام ليلا ، كانت حصة كل نزيل ثلاث ساعات نوم
يمضيها على فراش واسع بعد ان يتخلى الآخرون عن افرشتهم ليقتلون ساعات الليل
بتشكيل مجالس على شكل حلقات يتبادلون خلالها الحديث والتدخين وحياكة الصوف
ونسج محفظات الجيب الشهيرة التي تسمى ام النمنم وفري القمل لحين وصول
الدور لهم في المنام . هكذا تعودت على المنام بهذة الطريقة الشاقة طيلة
الفترة التي امضيتها في السجن ، لكن المصاعب لم تتوقف عند معضلة المنام ،
انما برزت امامي مشاكل اشد صعوبة مع مرور الأيام ، منها النهوض عند السادسة
فجرا بعد ترك السجناء لجميع القاعات والهرولة لمدة ساعة في باحة السجن
التي كانت تضيق بالأعداد الهائلة من الجنود ، كانت سياط الحراس تلاحق الذين
يضعهم سوء النصيب في الصفوف الخلفية .. وكثيرا مالفحت سياط الحراس ظهري
لأني كنت انهض متأخرا لدقائق واجد نفسي اهرول في الصفوف المتأخرة لكني بعد
شهور صرت استيقظ قبل ان يفتح الفجر عينيه الكليلتين من دخان الحرب ، واذا
ما انتهيت من الهرولة بسلام ونجوت من عقوبة سياط الحراس ، فستجد قدميك
واقفة بطابور طويل منتظرا وصول الدور لك حتى تملأ ابريقك بالماء الجاري
كخيط نحيل من ثلاث حنفيات ، يجب ان يرتوي منها اكثر من الف سجين وخلال نصف
ساعة ، في هذه النصف ساعة عليك الحصول على الماء لتقف مرة اخرى بطابور آخر
حتى تقضي حاجتك ، ولأن الأمر مستحيلا بكل المقاييس كان النزلاء يلجئون الى
الحمامات الخارجية مرة واحدة في كل يومين واحيانا يمتد حبس النفايات التي
بأحشائهم الى ثلاثة ايام ، وبذلك يفسحون المجال لغيرهم .. كل شيء في ذلك
السجن كان يتم بين الجنود السجناء بالتناوب ، لكن هناك ممن لايصمد كثيرا
داخل قاعات السجن بدون ان يفرغ فضلاته فيضطر احد النزلاء وعادة ما يكون
"العنقرجي " الى نشر بطانية كحجاب امام انظار الآخرين حتى يقضي ذلك السجين
حاجته بكيس نايلون ثم يلقي به الى احد الدلاء البلاستيكية المخصصة للبراز .
والعنقرجي هو احد السجناء الذي توكل له مهمة تنظيف تلك الدلاء المصفوفة في
ركن القاعة من محتوياتها مع كنس ممر القاعة يوميا اثناء فترة الإستراحة
مقابل اجور يحصل عليها من سجناء القاعة ، وكان ذلك العنقرجي يقبض دينارا من
كل سجين نهاية كل شهر ، وبرغم ان الأجور التي كان يحصل عليها هذا العنقرجي
مشجعة جدا وربما تفوق راتبه الذي كان يناله من الجيش ، اذ كان عدد السجناء
في القاعة يربو على المئتين ، الا انه يمارس خبثه احيانا ويضرب عن العمل
احتجاجا لعدم التزامنا بالشروط المبرمة بيننا وبينه ، منها مثلا في ايام
مواجهات العوائل للنزلاء كل شهر ، يصبح الطعام الذي بحوزتنا وفيرا فنعمد
على تناوله حتى لا يصاب بالتلف وخاصة في موسم الصيف مما يسبب امتلاء
للأحشاء و يجبرنا على قضاء حاجتنا في تلك الدلاء البلاستيكية التي سرعان ما
تطفح بفضلاتنا ، وهذا ما يجبر العنقرجي على تفريغها لمرات عدة في ايام
المواجهة ، فيضيق ذرعا ويضرب على العمل فنجد انفسنا برغم انوفنا نشترك
جميعا بتنظيف تلك الدلاء النتنة من فضلاتنا ، وكنا نتجاوز هذه المشكلة
العويصة من خلال زيادة اجور العنقرجي في يوم المواجهة ، وبقدر تخمتنا من
الطعام الوفير الذي تحمله عوائل السجناء يوم المواجهة الا نصيب بعضه يصبح
حاوية النفايات بينما تجد النزلاء في الأيام الباقية من الشهر يشكون من جوع
قاس والسبب ان فطورنا يتألف من كوب شاي تشتريه من حسابك الخاص مع قطعة خبز
بائتة منذ ليلة امس ، وحين تحين وجبة الغداء في الساعة الثانية ظهرا يمكن
ان ترى اصابع السجناء تتسابق على آنية الرز المخلوط مع اوراق البصل الشاحبة
، حيث ترى كل عشرة نزلاء يتحلقون على آنية .. طعامها لايكفي في المنظور
الإنساني الى ثلاثة اشخاص ، ولك ان تتخيل ماهي حصة كل سجين من ذلك الطعام
الشحيح ، اما وجبة العشاء فهي تدخين سيجارة مع مضغ قطعة علكة وهذه تشمل
معظم السجناء في الأيام الأخيرة التي تسبق يوم المواجهة نتيجة نفاد الأطعمة
الجافة المخزونة لدينا ، تلك التي تحملها عوائلنا في يوم المواجهة وهي
عبارة عن كعك ابو الدهن او من السمسم وحفنات من الكليجة ، بينما هناك ثلة
من السجناء الميسورين والذين يتمتعون بدخل نقدي ممتاز فنراهم اثناء وجبات
الطعام لايقتربون من القصعة انما يشترون من حانوت السجن مالذ وطاب من
مأكولات برغم اسعارها المجنونة ، اذكر اني غامرت ذات ليلة وابتعت نصف دجاجة
مشوية من الحانوت بعد ان ابكاني الجوع ، حين دفعت ثمنها البالغ خمسة
دنانير، ارتبكت ميزانيتي ومكثت بدون سجائر لأسابيع حتى اطلت امي الكادحة
لزيارتي حاملة علب السجائر وانقذتني من معضلة غياب الدخان عن رئتي واخبرتني
ان مفرزة حزبية فتشت البيت قبل ايام بحثا عن الإسلحة وقد نذرت ديكا تذبحه
لوجه الله اذا لم يعثروا على مسدسي الذي طمرته برماد التنور .. وحمدا لله
ان غارة التفتيش تلك مرت بسلام ، ارتبكت قليلا حين سمعت هذه الأنباء واحنيت
رأسي لأشم صدرها ثم همست لها:
- تخلصي منه يا امي ..
وشعرت بإرتجافة بدنها وهي تلفتت الى حراس السجن الذين انشغلوا بمغازلة
فتاة جميلة جاءت لرؤية زوجها حيث عمدوا لتأخير خروجه من قاعة السجن ليتسنى
لهم تبادل الأحاديث معها بينما كان الأسى يشتعل في عينيها ولا حيلة امامها
سوى الإذعان لتصرفاتهم البذيئة .. علقت امي متذمرة بصوت خافت:
- هؤلاء الحراس بلا شرف
اجبتها هامسا:
- قواويد ..
ثم امسكت بيديها الباردتين وكررت مقترحي:
- ابحثوا عمن يشتريه .
اجابت وهي تطلق حسرة:
- الله كريم .. لا انام الليل بسببه .. اخشى ان يفتشوا البيت مرة اخرى ويعثروا عليه .
- تخلصي منه اذن .
وبرغم ان هذا المسدس هو الذكرى الوحيدة التي تبقت عندي من الإخوان الأكراد
.. لكني قررت التخلي عنه بعد ان نشطت مفارز الأمن في تفتيش البيوت عشوائيا
بحثا عن الإسلحة ، اضف الى ذلك قلقي من مصير المانعي الذي مازال طليقا ،
كنت اخشى من ثمالته وكشف اسرار هروبنا الى شمال البلاد لجليس سوء في حانة
ذات يوم دون ان يدري ، وهذا يعني سحلي من قاعة السجن الى غرفة الإعدام فورا
.. كان الليل يمر طويلا مدججا بالحراب الملتهبة امام ناظري وكنت اظن صوت
اية سيارة تتوقف امام بوابة السجن انما جاءت تسأل عني ، وان قدوم حارس
السجن امام باب القاعة مناديا على احد السجناء يدع قلبي يغوص في مجاهيل جب
عميق ، هاهي خمسة شهور مضغتها اسنان صبري بنجاح ساحق ، ولم يبق الا ثلاثة
شهور، سأظل ادعو الله كل ليلة ان يحفظ لسان صديقي المانعي من الزلل حتى
تفتح امامي بوابة السجن نحو فضاء الحرية .. بغتة زعقت صفارات حراس السجن
معلنة انتهاء الزيارة .. وقبل ان تغادرني سألتني امي بخوف :
- بكم ابيعه .. ؟
- بأي ثمن .. بأي ثمن يا امي .. المهم ان تتخلصي منه حتى تنامي الليل مطمئنة ..
قبلتني من خدي بعد ان غسل دمعها وجهي .. وقبل ان تغادرني اعطتني كيسا
مملوءا بالكتب مثلما تفعل في كل زيارة وسلمتها كيسا مثله يحتوي على الكتب
التي فرغت من مطالعتها ثم عدت الى قاعة السجن وعلى شفتي هذه القصيدة :
- مرتبكا اترقبكم ..
فمتى ستجيئون ؟
ايها الجلادون ..
الليلة .. مرحى
فجسدي ينتظر بطشكم
بعد ليال .. اوّاه ُ
نفد الصبر المصلوب
على مشكاة من رعب وقلقْ
اعرف بهجتكم هذي الساعة
العصفور المأسور ستحرقه
نيران مواجعه
والصياد المخمور
تراه اللحظة ..
يشحذ مديته
او يلقم حجرة بندقيته الطلقات
والجلاد المسعور يدهن سوطه
او ينهش ثدي امرأة اخرى
لو تأتون الآن ..
فما عاد القلب الأعزل
يتحمل كابوسا آخرا
او موتا صار الألف .
وتهاويت على فراشي منهكا الى جانبي ذخيرة الكتب التي تبيد وحشة السجن وقبل
ان استطلع عناوينها انتابتني نوبة سعال حادة حتى رأيت قطرات دم تسقط على
راحة يدي.
*التطبير : شج الروؤس بآلات حادة حزنا على مذبح الإمام الحسين "ع " في عاشوراء.
ملاحظة:
صدرت رواية حياة باسلة عن دار العين المصرية للنشر ، وستكون حاضرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب مطلع عام 2012.