طبائع الاستبداد
عبد الرحمن الكواكبى
لا خفاء أن السياسة علم واسع جداً ينقسم إلى فنون كثيرة ومباحث شتى وقلما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم كما أنه قلما يوجد إنسان لا يحتك فيه .
وقد وجد في كل الأمم المتمدنة علماء سياسيون تكلموا في فنون السياسة ومباحثها استطرادا في مدونات التاريخ أو الأخلاق أو الأدب أو الحقوق . ولا نعرف للأقدمين كتبا مخصوصة في السياسة لغير الرومانيين الجمهوريين وإنما لبعضهم مؤلفات سياسية أخلاقية ككلية ودمنة ورسائل غوريغوريوس اليوناني ومحررات سياسية كنهج البلاغة وكتاب الخراج .
وأما في القرون المتوسطة فلا تؤثر مؤلفات في هذا الفن لغير علماء الإسلام فهم ألفوا فيه ممزوجا بالأخلاق كالرازى والطوسى والغزالى والعلائى وهى طريقة الفرس ، وممزوجا بالأدب كالمعرى والمتنبي وهى طريقة العرب ، وممزوجا بالتاريخ كابن خلدون وابن بطوطة وهى طريقة المغاربة .
أما المتأخرون من أهل أوروبا فقد توسعوا في هذا العلم وألفوا فيه كثيرا وأشبعوه تفصيلا حتى انهم افردوا بعض مباحثه في التأليف بمجلدات ضخمة .
وقد ميزوا مباحثه إلى سياسة عمومية وسياسية خارجية وسياسية داخلية وسياسية إدارية وسياسية اقتصادية وسياسة حقوقية الخ ، وقسموا كلا منها إلى أبواب شتى وأصول وفروع .
وأما المتأخرين من الشرقية فقد وجد من الترك كثيرون ألفوا في أكثر مباحثه تأليف مستقلة وممزوجة أحمد جودت باشا وكمال بك وسليمان باشا وحسن فهمى باشا .
وأما العرب فقليلون والذين يستحقون الذكر منهم فيما نعلم رفاعة بك وخير الدين باشا التونسى وأحمد فارس وسليم البستانى والمبعوث المدنى . ولكن يظهر من منشوراتهم في السياسيين من العرب قد كثروا بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات في مواضع كثيرة . ولهذا لاح لهذا العاجز أن أذكر حضراتهم على لسان الجرائد العربية بموضوع هو أهم المباحث السياسية وقل من طرق بابه منهم فأدعوهم إلى ميدان المسابقة في خير خدمة ينيرون بها أفكار إخوانهم الشرقيين وينبهونهم لا سيما العرب منهم لما هم عنه غافلون . فيفيدونهم بالبحث والتعليم وضرب الأمثال والتحليل ما هو حقيقة " داء الشرق ودوائه " .
ونظرا إلى مبنى علم السياسة على تعريفه بانه هو " ادارة الشئون المشتركة بمقتضى الحكمة " يكون بالطبع أول مباحث السياسة وأهمها " الاستبداد " أى التصرف في الشئون المشتركة بمقتضى الهوى .
وأنى أرى أن المتكلم في هذا البحث عليه أن يلاحظ تعريف وتفصيل " ما هو الاستبداد ؟ ما سببه ؟ ما اعراضه ؟ ما تشخيصه ؟ ما سيره ؟ ما انذاره ؟ ما دواؤه ؟ " وكل موضوع من ذلك يتحمل تفصيلاً كثيراً وبعضه يتحمل سفرا كبيرا .
وهذه المباحث من حيث مجموعها تنطوى على مسائل كثيرة أسرد منها بعض الأمهات وهى : ما طبيعة الاستبداد - لماذا يكون المستبد شديد الخوف - لماذا يستولى الجبن على رعية المستبد - ما تأثير الاستبداد على الدين ؟ على العلم - على المجد - على المال - على الأخلاق - على الترقى - على التربية - من أهم أعوان المستبد - هل يتحمل الاستبداد - كيف يمكن التخلص من الاستبداد - بماذا ينبغى استبداد الاستبدال - ما هى طبائع الاستبداد .
ثم انى قبل الخوض في هذه المسائل ألخص النتائج التى تستقر عندها أفكار المتكلمين فيها وهى نتائج متحدة المدلول مختلفة التعبير على حسب اختلاف المشارب والأنظار في الباحثين .
فيقول المادى . الداء القوة والدواء المقاومة : ويقول السياسي : الداء استبعاد البرية والدواء استرداد الحرية .
ويقول الحكيم : الداء القدرة على الاعتساف والدواء الاقتدار على الاستنصاف . ويقول الحقوقى : الداء تغلب السلطة على الشريعة والدواء تغليب الشريعة على السلطة . ويقول الربانى : الداء مشاركة الله في الجبروت والدواء توحيد الله حقا .
هذه أقوال أهل النظر وأما أهل العزائم - فيقول الابى الداء مد الرقاب للسلاسل والدواء الشموخ عن الذل . ويقول الشهم : الداء التعالى على الناس باطلا والدواء تذليل المتكبرين . ويقول المتين : الداء وجود الرؤساء بلا زمام والدواء ربطهم بالقيود الثقال . ويقول المفادى : الداء حب الحياة والدواء حب الموت .
ما هو الاستبداد ؟ الاستبداد لغة هو اقتصار المرء على رأى نفسه فيما ينبغى الاستشارة فيه .
يراد بالاستبداد عند اطلاقه استبداد الحكومات خاصة لأنها هى أقوى العوامل التى جعلت الانسان أشقى ذوى الحياة وأما تحكم رؤساء بعض الأديان وبعض العائلات وبعض الأصناف فيوصف بالاستبداد مجازا أو مع الاضافة .
وفى اصطلاح السياسيين هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قومبلا خرف تبعه .
وقد تطرق مزيدات على هذا المعنى فيستعلمون في مقام كلمة ( الاستبداد ) كلمات استعباد . واعتساف . وتسلط . وتحكم . وفى مقابلتها شرع مصون . وحقوق محترمة . وحس مشترك . وحياة طيبة .
ويستعملون في مقام صفة ( مستبد ) كلمات حاكم بأمره ، وحاكم مطلق ، وظالم وجبار ، وفى مقابلة حكومة مستبدة كلمات عادلة . ومئولة . ومقيدة . ودستورية .
ويستعملون في مقام صفة ( مستبد عليهم ) كلمات أسرى وأذلاء . ومستصغرين . ومستنبتين (1) وفى مقابلتها محتسبون . وأباة . واحرار . وأحياء .
هذا تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات وأما تعريفه بالوصف فهو أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان التى تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين .
ومنشأ الاستبداد أما هو من كون الحكومة غير مكلفة بتطبيق تصرفاتها على شريعة أو على أمثلة أو على ارادة الأمة وهذه حالة الحكومات المطلقة . وأما من كونها مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها أبطال قوة القيد بما تهوى وهذه حالة اكثر الحكومات التى تسمى نفسها بالمقيدة .
(1) الاستنبات أو التنبت من اصطلاحات سواس الأفرانج يريدون به الحياة الشبيهة بحياة النبات .
وأشكال الحكومة المستبدة كثيرة ليس هذا البحث محل تفصيلها . ويكفى هنا الاشارة إلى ان صفة الاستبداد كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذى تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد الوارث أو المنتخب متى كان غير محاسب ، وكذلك تشمل حكومةالجمع ولو منتخبا لأن الاشتراك في الراى لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعدله نوعا وقد يكون أحكم وأضر من استبداد الفرد .
ويشمل ايضا الحكومة الدستورية المفرقة فيها قوة التشريع عن قوة التنفيذ لأن ذلك ايضا لا يرفع الاستبداد ولا يخففه مالم يكن المنفذون مسئولين لدى المشرعين وهؤلاء مسئولون لدى الأمة التى تعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب .
وخلاصة ما تقدم أن الحكومة من اى نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التى لا تسامح فيها كما جرى في صدر الإسلام فيما نقم على عثمان بن عفان رضى الله عنه وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وبناما ودريفوس .
ومن الأمور المقرر أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب من أسباب غفلة الأمة أو اغفالها الا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفى خدمتها شيء من القوانين الهائلتين المهولتين جهالة الأمة والجنود المنظمة .
ولا يعهد في تاريخ حكومة من الحكومات المدنية استمرار حكومة مسئولة اكثر من نصف قرن إلى غاية قرن ونصف .
وما شذ من ذلك سوى الحكومة الحاضرة في انكلترا والسبب يقظة الانكليز الذين لا يسكرهم انتصار ، ولا يخملهم انكسار .
وهذه حضرة الملكة فيكتوريا لو تسنى لها الاستبداد الآن لغنمته ولو لأجل عشرة أيام من بقية عمرها . ولكن هيهات أن تظفر بغرة من قومها تستلم فيها زمام الجيش .
أما الحكومة البدوية التى تتألف رعيتها كلها أو أكثرها من عشائر يقطنون البادية يسهل عليهم الرحيل والتفرق متى مست حكومتهم حريتهم وسامتهم ضيما ولم يقووا على الاستنصاف فهذه الحكومات قلما اندفعت إلى الاستبداد .
وأقرب مثال لذلك أهل جزيرة العرب فانهم لا يكادون يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبع وحمير وغسان إلى الآن الا فترات قليلة .
وقد تكلم الحكماء لا سيما المتأخرون في وصف الاستبداد ودوائه بجمل بليغة بديعة تصور في الأذهار شقاء الانسان كأنها تقول له هذا عدوك فانظر ماذا تصنع . ومن هذه الجمل قولهم :
" المستبد يتحكم في شئون الناس بارادته لا بارادتهم ويحاكمهم بهواء لا بشريعتهم ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدى فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعى لمطالبته : .
" المستبد عدو الحق عدو الحرية وقاتلها والحق أبو البشر والحرية أمهم والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا والعلماء هم اخوتهم الراشدون ان ايقظوهم هبوا وان دعوهم لبوا " .
" المستبد يتجاوز الحد لأنه لا يرى حاجزا فلو رأى الظالم على الجنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم كما قيل الاستعداد للحرب يمنع الحرب " .
" المستبد إنسان مستعد بالفطرة للخير فعلى الرعية أن تكون مستعدة لأن تعرف ما هو الخير وما هو الشر .
مستعدة لأن تقول لا أريد الشر . مستعدة لأن تتبع القول بالعمل على أن مجرد الاستعداد للفعل يكفى شر الاستبداد .
المستبد إنسان والانسان أكثر ما يألف الغنم والكلاب .
فالمستبد يود ان تكون رعيته كالغنم درا وطاعة وكالكلاب تذللا وتملقا . وعلى الرعية أن تكون كالخيل أن خدمت وأن ضربت شرست بل عليها أن تعرف مقامها هل خلقت خادمة للمستبد أم هى جاءت به ليخدمها فاستخدمها . والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها لتأمن من بطشه فان شمخ هزت به الزمام وان صال ربطته وفى هذا المقدار كساية لمعرفة ما هو الاستبداد بالاجمال والمباحث الآتية كافلة بالتفصيل .
يقول هؤلاء المحررون : ان التعاليم ومنها الكتب السماوية تدعوا البشر إلى خشية قوة عظيمة هائلة لا تدرك كنهها العقول تتهدد الانسان بكل مصيبة في الحياة وعذاب مديد أو خالد بعد الممات تهديدا ترتعد منه الفرائض فتخور القوى وتنذهل منه العقول فتستسلم للخبل والأوهام . ثم تفتح هذه التعاليم أبوابا للنجاة من تلك المخاوف عليها حجاب من البشر هم الآحبار والقسس والمشايخ . ودخوليتها التعظيم الراسب بالقلب والقالب اى تقديم جزية احترام مع ذلة اعتراف أو ثمن غفران أو كفالة الرزق من بيت المال لأولئك الحجاب الذين بعضهم يحتجزون حتى الأرواح من لقاء ربها ما لم ياخذوا عنها رسوم المرور إلى القبور وفدية الخلاص من العتراف .
ويقولون ان المستبدين من السياسينيبنون استبدادهم على أساس من هذا القبيل ايضا لأنهم يسترهبون الناس بالتعالى الشخصى والتشامخ الحسى ويذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم كانهم خلقوا من جملة الأنعام نصيبهم من الحياة ما يقتضيه حفظ النوع فقط .
ويرون ان هذا التشاكل في بناء ونتائج الاستبدادين الدينى والسياسى جعلهما في مثل فرنسا خارج باريس مشتركين في العمل كانهما يدان متعاونتان . وجعلهما في مثل روسيا مشتبكين في الوظيفة كأنهما القلم والقرطاس اذا استعملا في تسجيل الشقاء على الناس .
ويقررون أن هذا التشاكل بين القوتين ينجز بعوام البشر وهم السواد الأعظم إلى التباس الاله المعبود والجبار عليهم واختلاطهما في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق التعظيم والرفعة عن السؤال والماخذة على الأفعال . بناء عليه لا يرون لأنفسهم حقا في مراقبة المستبد .
وبعبارة أخرى لم يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات وهم ليس من شأنهم أن يفرقوا مثلا بين الفعال المطلق والحاكم بأمره وبين " لا يسئل عما يفعل " و " غير مسئول " وبين " المنعم وولى النعم " وبين " جل شأنه " و " جليل الشأن " بناء عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله .
وهذه الحالة هى التى سهلت في الأمم الغابرة المنحطة دعوى بعض المستبدين الالوهية على مراتب مختلفة حسب استعداد أذهان الرعية حتى يقال انه ما من مستبد سياسي الا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقام ذى علاقة مع الله .
ولاأقل من أن يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه على ظلم التاس باسم الله .
ويعللون ان قيام المستبدين من أمثال " أبناء داوود وقسطنطين " في تأييد نشر الدين بين رعاياهم وانتصار مثل " فليب الثانى " الأسبانى و " هانرى الثامن " الانكليزى للدين حتى بتشكيل مجالس انكليزسيون وكالحاكم الفاطمى والسلاطين الأعاجم المنتصرين لغلاة الصوفية والبانين التكايا لم يكن ذلك كله الا بقصد الاستعانة بالدين أو بأهل الدين على ظلم المساكين .
ويحكمون بأن بين الاستبداديين السياسي والدينى مقارنة لن تنفك متى وجد أحدهما في أمة جر الآخر اليه أو متى زال رفيقه وان ضعف اى صلح احدهما صلح الثانى .
وشواهد ذلك كثيرة جداً لا يخلو منها زمان ولا مكان وكلها تبرهن على أن الدين أقوى تأثيرا من السياسة ويمثلون بالسكسون فان البروتستانتية أثرت في الاصلاح السياسى أكثر من تأثير الحرية السياسية عند الكاثوليك .
والحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون ان السياسة والدين يمشيان متكاتفين أن اصلاح الدين أسهل منالا وأقوى وأقرب طريقا للاصلاح السياسى .
ويرون ان اول من سهل هذا المسلك حكماء اليونان حيث تحيلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الاشتراك في السياسة بأحيائهم عقدة الاشتراك في الالوهية أخذوها عن الأشوريين ومزجوها بأساطير المصريين بصورة تخصيص العدالة باله والحرب باله والبحار باله والأمطار باله إلى غير ذلك من التوزيع وجعلوا لاله الالهه حق النظارة عليهم وحق الترجيح عند وقوع الاختلاف بينهم .
وبعد تمكن هذه العقيدة في الأذهان بما ألبست من سحر البيان سهل على أولئك الحكماء دفعهم الناس إلى مطالبة جبابرتهم بالنزول من مقام الانفراد وبأن تكون ادارة الأرض كادارة السماء فأنصاع ملوكهم لذلك مكرهين . وهذه الوسيلة العظمى التى مكنت اليونان أخيرا من اقامة جمهوريات أثينا وأسبارطة .
وكذلك فعل الرومان وهذا الاصل لم يزل المثال القديم لأصول توزيع الادارة في الحكومات الملكية والجمهورية على انواعها إلى هذا العهد.
انما هذه الوسيلة اى التشريك فضلا عن كونها باطلة في ذاتها نتج عنها اخيرا رد فعل أضر كثيرا ، وذلك انها فتحت للمشعوذين من سائر الطبقات بابا واسعا لدعوى شيء من خصائص الالوهية كالصفات القدسية والتصرفات الروحية وكان قبل لا يتهجم على مثلها غير افراد من الجبابرة ولملاءمة هذه المفسدة لطبائع البشر من وجوه كثيرة ليسبحثنا هذا محلها انتشرت وعمت وجندت جيشا عرمرما يخدم المستبدين .
وقد جاءت التوراة بالنشاط والنظام رافعة عقيدة التشريك في أسباط بنى اسرائيل مستبدلة مثلا أسماء الالهة بالملائكة ولكن لم يرض بعض ملوك بنى اسرائيل بالتوحيد ولكن لم يقو دعاته الأولون على تفهيم تلك الأقوام المنحطة الذين بادروا لقبول النصرانية قبل الأمم المترقية أن الأبوة والنبوة صفتان مجازيتان يعبر بهما عن معنى لا يقبله العقل الا تسليما كمسألة القدر في الاسلامية بل تلقوها منهم بمعنى والد حقيقى لأنهم كانوا قد ألفوا الاعتقاد في بعض جبابرتهم أنهم أبناء الله فكبر عليهم في عليهم في عيسى عليه السلام صفة هى دون مقام أولائك الملوك .
ثم أن النصرانية ما لبث أن تلبست ثوبا غير ثوبها كما هو شأن سائر الأديان التى سلفتها فتوسعت برسائل بولس ونحوها وصارت تعظم رجال الكهنوت إلى درجة الاعتقاد النيابة والعصمة وقوة التشريع مما رفض أكثره أخيرا البروتستان أى الراجعون في الأحكام لأصل الانجيل .
ثم جاء الإسلام بالحكمة والعزم هادما للتشريك بالكلية ومحكما لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الديمقراطية والأريستقراطية فأسس التوحيد . وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التى لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشر حتى ولم يخلفهم فيما بين المسلمين أنفسهم خلف الا بعض شواذ كعمر بن عبد العزيز والمهتدى العباسى ونور الدين الشهيد .
فان هؤلاء الخلفاء الراشدين فهموا معنى القرآن وعملوا به واتخذواه اماما فأنشأوا حكومة قضت بالتساوى حتى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية وحالات معيشة اشتراكية لا تكاد توجد باعالة أب واحد وفى حضانة أم واحدة .
وهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم اماتة الاستبداد وأحياء العدل والتساوى حتى في القصص منه ومن جملتها قول بلقيس ملكة سبا من عرب تبع تخاطب أشراف قومها " يا أيها الملأ أفتونى في أمرى ما كنت قاطعة امرا حتى تشهدون . قالوا نحن أولو قوة وأولو باس شديد . والأمر اليك فانظرى ماذا تأمرين . قالت إن الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة اهلها أذلة وكذلك يفعلون " .
فهذه القصة تعلم كيف ينبغى أن يستثشير الملوك الملأ اى أشراف الرعية وان لا يقطعوا أمرا الا برأيهم وأن تحفظ القوة والبأس في يد الرعية وأن يخصص الملوك بالتنفيذ ويكرموا بنسبة الأمر اليهم وتعلن شأن الملوك المستبدين واستحقاقهم للمؤاخذة والتقبيح .
ومن هذا الباب ايضا ما ورد في قصة موسى عليه السلام مع فرعون في قوله تعالى " وقال الملأ من قوم فرعون أن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون " أى قال الأشراف بعضهم لبعض ماذا رأيكم " قالوا " خطابا لفرعون وهو قرارهم " أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ياتوك بكل ساحر عليم " ثم وصف مذاكرتهم بقوله تعالى " فتنازعوا أمرهم " أى رأيهم " بينهم وأسروا النجوى " أى أفضت مذكراتهم العلنية إلى النزاع فأجروا مذاكرة سرية طبق ما يجرى إلى الآن في مجالس الشورى العمومية .
بناء عليه لا مجال لرمى الاسلامية بالاستبداد بعد أمثال هذه الآيات البينات المفسرات للمراد من قوله تعالى " وشاورهم في الأمر " أى في الشأن وكذلك قوله تعالى " وأمرهم شورى بينهم " أى شأنهم وقوله تعالى " ياأيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأواى الأمر منكم " اى أصحاب الشأن منكم وهم العلماء والرؤساء على ما أتفق عليه أكثر المفسرين .
ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى " وما أمر فرعون " اى ما شأنه وحديث " أميرى من الملائكة جبريل " أى مشاورى .
وقد ظهر من هذا ان الاسلامية مؤسسة على اصول الادارة الديمقراطية اى العمومية والشورى الاريستوقراطية اى شورى الأشراف . وقد مضى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الاصول باتم وأكمل صورها خصوصا وانه لا يوجد في الاسلامية نفوذ دينى مطلقا في غير مسائل اقامة الدين . هذا الدين الحر السهل السمح الذى رفع الاصر والاغلال وابادة الميزة والاستبداد . الدين الذى ظلمه الجاهلون فهجروا حكمة القرىن ودفنوها في قبور الهوان .
الدين الذى فقد الانصار والابرار والحكماء الاخيار فسطا عليه المستبدون واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة زتقسيم الأمة شيعا وجعلوه الة لاهوائهم فضيعوه وضيعوا أهله بالتقريع والتوسيع والتشديد والتشويش وادخال ما ليس منه فيه كما يفعل أصحاب الأديان السائرة حتى جعلوه دينا لا يقوى احد ممن يتوهم ان كل ما دونوه هو منه على القيام بواجباته وآدابه ومزايداته التى صارت تشتبه مراتبها على العوام والخاص .
وبذلك انفتح على الأمة باب التلوم على النفس واعتقاد التقصير المطلق وان لا نجاة ولا مخرج ولا امكان لمحاسبة النفس وهذه الحال تصغر النفس وتخفت الصوت وتمنع الجسارة على الأمر بالمعروف والنهى عن المكنر المنوط به قيام الدين وقيام النظام والعدل .
وهذا الا همال للمراقبة والسيطرة والمؤاخذة والسؤال أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود . وبهذا وذاك ظهر حكم حديث " هلك المتنطعون " اى المتشددون في الدين وحديث " لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومونكم سواء العذاب " والله الملهم للصواب .
وقد جمع بعضهم جملة مما اقتبسه واخذه المسلمون عن غيرهم وليس هو من دينهم فقال :
" اقتبسوا " مقام البابوية وتمثيله . باحترام الأعاظم احترام عبادة وطاعة الكبراء على العمياء وضاهوا مقامات البطارقة والكردينال والشهداء واسقفية كل بلد وحاكوا مظاهر القديسين وعجائبهم والدعاة المبشرين وصبرهم والرهبنات ورؤسائها وحالة الاديرة وبادريتها والرهبنة اى التظاهر بالفقر ورسومها والحمية وتوقيتها ، وقلدوا رجال الكهنوت في مراتبهم وتميزهم في ألبستهم وشعورهم وشاكلوا . مراسم الكنائس وزينتها والبيع واحتفالاتها والترنحات ووزنها والترنمات واصولها واقامة الكنائس على القبور وشد الرحال لزيارتها والاسراج عليها والخضوع لديها وتعليق الآمال بسكانها ، وأخذوا التبرك بالآثار كالقدح والحربة والدستار من احترام الذخيرة وقدسية العكاز وكذلك امرار اليد على الصدر عند ذكر الصالحين من امراارها على الصدر لاشارة التصلب " وانتزعوا " الحقيقة من السر . ووحدجة من تناول القربان والمولد من الميلاد وحفلته من الأعيان ورفع الأعلام من حمل الصلبان . وتعليق الواح الأسماء المصدرة بالنداء على الجدران من تعليق الصور والتماثيلوالاستفاضة والمراقبة من التوجه بالقلوب انحناء أمام الأصنام
" ومنعوا " الاستهداء من نصوص الكتاب والسنة من حظر الكهنة الكاثوليك التفهم من الانجيل على غيرهم وسد اليهود باب الأخذ من التوراة وتمسكهم بالتلمود " وجاءوا " من المجوسية باستطلاع الغيب من الفلك وبخشية أوضاع الكراكب وباتخاذ أشكالها شعارا واحترام النار ومواقدها " ولقفوا " من الأساطير والاسرائيليات انواعا من القربات وعلوها سموها لدنيات .
ومن تأمل في هذه المقتبسات يجد أكثرها امهات للاستيداد وسلاسل للاستبعاد وهكذا تفسد الأديان ويشقى الانسان ولا حول ولا قوة الا بالله .
وكذلك يقال عن مبتدعى النصارى من ان اكثر ما اعتبره المتاخرون منهم من الشعائر الدينية حتى مسألة التثليث لا اصل له فيما ورد عن نفس المسيح عليه السلام انما هو مزيدات وترتيبات قليلها مبتدع كثيرها متبع .
وقد اكتشف العلماء الأثاريون من الصحف والصفائح التى وجدت في نواويس المصريين الأقدمين على مآخذ اكثرها . وكذلك وجدو المزايدات التلمود وبد الأحبار أصولافى أساطير والآثار والالواح الاشورية وترقوا في التطبيق والتدقيق إلى ان وجدوا معظم الخرافات المضافة إلى اصول عامة الأديان في الشرق الأدنى مقتبسة من الوضعيات المنسوبة لحكماء الشرق الأقصى .
والخلاصة ان البدع التى شوهت الايمان وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض وترمى جميعها إلى غرض واحد هو المراد الا وهو الاستبداد .
والناظر المدقق في تاريخ الإسلام يجد للمستبدين من الخلفاء والملوك الأولين المنافقين أفعالاً مريعة في اطفاء نور العلم ويجد انهم طالما ارادوا ان يطفئوا نور الله ولكن أبى الله الا ان يتم نوره فحفظ للمسلمين كتابه الكريم الذى هو شمس العلوم وكنز الحكم من أن تمسه يد التحريف وهى احد معجزاته لأنه قال فيه " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " فما مسه المنافقون الا بالتأويل وهذا أيضا من معجزاته لأنه اخبر عن ذلك في قوله " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " .
وانى امثل للمطالعين ما فعله الاستبداد في العلم والاسلام بما حجر على العلماء الحكماء من أن يفسروا قسمى الآلاء والأخلاق من القرآن تفسيرا مدققا لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأى بعض السلف القاصرين في العلم فيكفرون فيقتلون وهذه مسألة اعجاز القرآن وهى أهم مسألة في الدين لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث واقتصروا على ما قاله بعض السلف أنها هى فصاحتها وبلاغتها وأخباره عن أن الروم من بعد غلبقهم سيغلبون .
مع انه لو اطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الراى والتاليف كما اطلق لأهل التأويل والخرافات لرأوا في ألوف من آيات القرآن ألوف من آيات الاعجاز . لرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن اعجازه بصدق قوله " ولا رطب ولا يابس الا كتاب مبين " برهان عيان لا مجرد تسليم وايمان .
ومثال ذلك أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوروبا وأمريكا والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء الا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه وذلك أنهم قد كشفوا أن مادة الكون هى الاثير وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال " واستوى إلى السماء وهى دخان " .
وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة والقرآن يقول " وكل في فلك يسبحون " .
وحققوا أن الارض منفتقة في النظام الشمسى والقرآن يقول " إن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما " .
وحققوا أن القمر منشق من الأرض والقرآن يقول " أفلا يرون أنا نأتى الأرض ننقصها من أطرافها " ، ويقول " اقتربت الساعة وانشق القمر " .
وحققوا ان طبقات الارض سبع والقراآن يقول " خلق سبع سموات طباقا ومن الأرض مثلهن " .
وحققوا أنه لولا الجبال لا قتضى الثقل النوعى أن يمتد الأرض أى ترتج في دورتها والقرآن " وألقى في الأرض رواسى أن تميد بكم " .
وكشفوا أن التغيير في التركيب الكيماوى بل والمعنوى ناشيءعن تخالف نسبة المقادير والقرآن يقول " كل عنده بمقدار " .
وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور والقرآن يقول " وجعلنا من الماء كل شيء حى " .
وحققوا أن العالم العضوى ومنه الانسان ترقى من الجماد والقرآن يقول " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " .
وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات والقرآن يقول " خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض " ، ويقول " فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى " ويقول " اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج " ويقول " ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين " .
وكشفوا طريقة امسلك الظل اى التصوير الشمسى والقرآن يقول " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا " .
وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء والقرآن يقول بعد ذكر الدواب والجوارى بالريح " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " .
وكشفوا وجود المكروب وتأثيره الجدرى وغيره من المرض والقرآن يقول " وأرسل عليهم طيرا أبابيل" اى متتابعة مجتمعة " ترميهم بحجارة من سجيل " اى من طين المستنقعات اليابس إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية . وبالقياس على ما تقدم ذكره يقتضى أن كثيرا من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون تجديدا لاعجازه مادام الزمان وما كر الجديدان .
الاستبداد والعلم
ما اشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصى الخائن القوى على أيتام أغنياء . يتصرف في اموالهم وانفسهم كما يهوى ماداموا قاصرين فكما أنه ليس من صالح الوصى ان يبلغ الأيتام رشدهم كذلك ليس من غير المستبد أن تتنور الرعية بالعلم .
لا يخفى على المستبد أن لا استبعاد ولا اعتساف مالم تكن الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه وعماء . فلو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل ولو كان وحشا لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل .
والعلم قبسة من نور الله وقد خلق الله النور كشافا مبصرا ولادا للحرارة والقوة وجعل العلم مثله وضاحا للخير فضاحا للشر يولد في النفوس حرارة وفى الرؤوس شهلمة .
المستبد لا يخشى علوم اللغة المقومة للسان اذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الالوية أو سحر بيان يفل الجيوش لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيرا من أمثال الكميت وحسان أومونتسكيو وشيللار .
وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم فاذا نبغ فيهم البعض ونالوا شهرة بين العوام لايعدم وسيلة لاستخدام في تأييد أمره بنحو سد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد .
نعم ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة وحقوق الأمم وسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية وغيرها من العلوم الممزقة للغيوم المسبقة الشموس المحرقة الرؤوس .
ويقال بالاجمال ان المستبد لا يخاف من العلوم كلها بل من التى توسع العقول وتعرف الانسان ما هو الانسان وما هى حقوقه وهل هو مغبون وكيف الطلب وكيف النوال وكيف الحفظ . المستبد عاشق للخيانة والعلماء عواذلة . المستبد سارق ومخادع والعلماء منبهون محذرون وللمستبد اعمال وصوالح لا يفسدها عليه الا العلماء .
المستبد كما يبغض العلم لنتائجه لذاته لأن للعلم سلطان أقوى من كل سلطان فلابد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينيه على من هو أرقى منه علما . ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم اذكى فاذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار المتصاغر المتملق ، وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله " فاز المتملقون " بل هذه طبيعة في كل المتكبرون وعليها مبنى ثنائهم على كل من يكون مسكينا خاملا لا يرجى لخير ولا لشر .
وينتج مما تقدم ان بين الاستبداد والعلم حربا دائمة وطردا مستمر يسعى العلماء في نشر العلم ويجتهد المستبد في اطفاء نوره والطرفان يتجاذبان العوام ومن هم العوام ؟ هم أولئك الذين اذا جهلوا خافوا واذا خافوا استسلموا، وهو الذين متى عملوا قالوا ومتى قالوا فعلوا .
العوام هم قوت المستبد وقوته بهم عليهم يصول وبهم على غيرهم يطول . يأسرهم فيهللون لشوكته ويغصب أموالهم فيحمدونه على ابقاء الحياة ويهينهم فيثنون على رفعته ويغرى بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته واذا اسرف بأموالهم يقولون عنه أنه كريم واذا قتل ولم يمثل يعتبرونه رحيما ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التأديب وان نقم عليهم منهم الاباه قاتلوهم كأنهم بغاة .
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشيء عن الجهل فاذا ارتفع الجهل زال الخوف وانقلب الوضع اى انقلب المستبد رغم طبعه إلى وكيل أمين يهاب الحساب ورئيس عادل يخشى الانتقام وأب رحيم يتلذذ بالتحابب .
وحينئذ تنال الأمة حياة رضية هنية . حياة رخاء ونماء ، حياة عز وسعادة ، ويكون حظ الرئيس من ذلك رأس الحظوظ بعد أن كان في دور الاستبداد أشقى العباد لأنه كان على الدوام محاطا بالعداء ملحوظا بالبغضاء غير آمن على حياته طرفة عين .
ولا شك أن خوف المستبد من نقمة رعيته اكثر من خوفهم بأسه لأن خوفه ينشأ عن علم وخوفهم ناشيء عن جهل ، وخوفه من انتقام بحق وخوفهم عن توهم التخاذل ، وخوفه على فقد حياته وسلطانه وخوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطن يألفون غيره في أيام .
وكلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته ومن حاشيته وحتى من هواجسه وخيالاته ، وكثيرا ما تختم حياة المستبدين الضعيفى القلوب منهم بالجنون .
ومن قواعد المؤرخين المدققين ان احهم اذا اراد الموازنة بين مستبدين كثيرين وتيمور مثلا يكفى أن يوازن درجة ما كانا عليه من التحذر والتحفظ واذا اراد المساضلة بين عادلين كانوا شروان وصلاح الدين يوازن مرتبتى أمنهما في قوميهما .
لما كانت الديانات القديمة مؤسسة على مبدأ الخير والشر كالنور والظلام والشمس وزجل والعقل والشيطان رأت بعض الأمم الغابرة أن أضر شيء على الانسان هو الجهل وأضر آثار الجهل هو الخوف فعملت هيكلا مخصصا للخوف يعبد اتقاء لشره .
قال احد المحررين السياسيين انى ارى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه ، فالملك الجبار هو المعبود وأعوانه هم الكهنة ومكتبته هى المذبح المقدس والأقلم هى السكاكين وعبارات التعظيم هى الصلوات والناس هم الآسرى الذين يقدمون قرابين .
ويقول أهل النظر في أحوال البشر ان خير ما يستدل به على صفة السياسة في الأمم شنآن الملوك وفخامة القصور وعظمة الحفلات ومراسم التشريفات .
يقولون انه كذلك يستدل على عراقة الأمة في الاستبداد أو الحرية باستنطاق لغتها هل هى كثيرة ألفاظ التعظيم غنية في عبارات الخضوع كالفارسية مثلا أم فقيرة في هذا الباب كالعربية .
والخلاصة ان الاستبداد والعلم ضدان متغالبان فكل ادارة مستبدة تسعى جهدها في اطفاء نو العلم وحصر الرعية في حالك الجهل ، وكذلك بعض العلماء الذين ينبتون في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس ، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره وهذا سبب ان كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام واكثر العلماء والاعلام والادباء النبلاء تقبلوا في البلاد وماتوا غرباء .
قال المدققون ان اخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم ان يعرف الناس حقيقة ان الحرية افضل من الحياة وان يعرفوا النفس وعزهاوالشرف وعظمته والحقوق وكيف تحفظ والظلم وكيف يرفع والانسانية وما هى وظائفها والرحمة وما هى لذاتها .
أما المستبدون الشرقيون وخوفهم من العلم فافئدتهم هواء يرتجف من صولة العلم وكان أجسامهم من بارود والعلم نار .
نعم يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة " لا إله الا الله " ولماذا كانت افضل الذكر ولماذا بنى عليها الإسلام .
بنى الإسلام بل وكافة الاديان على أنه لا إله إلا الله ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقا سواه اى سوى الصانع الأعظم ومعنى العبادة التذلل والخضوع فيكون معنى لا اله الا الله " لا يستحق التذلل والخضوع شيء غير الله " فهل والحالة هذه يناسب المستبدين أن يعلم عبيدهم ذلك ويعلموا بمقتضاه كلا ثم كلا .
حتى ان هذا العلم لا يناسب صغار المستبدين كخدمة الأديان الأقوياء أو الأغنياء والآباء الجهلاء والزواج الحمقاء ورؤساء كل الجمعيات الضعيفة ، ولهذا ما انتشر نور التوحيد في أمة قط الا وتكسرت فيها قيود الأسر ولكن قتل الانسان ما أكفره بنعم مولاهوما أظلمه لنفسه وجنسه .
الاستبداد والمجد
من الحكم الباغة للمتأخرين قولهم " الاستبداد أصل لكل فساد " ومبنى ذلك ان البحث المدقق في احوال البشر وطبائع الاجتماع كشف أن للأستبداد أثر سيئا في كل واد .
وقد سبق ان الاستبداد يضغط على العقل فيفسده ، وانى الآن أبحث في أنه كيف يغالب الاستبداد المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد .
المجد هو احراز المرء مقام حب واحترام في القلوب وهو مطلب طبيعى شريف لكل إنسان لا يترفع عنه نبى أو زاهد ولا ينحط عنه دنى أو خامل . للمجد لذة روحية تقارب لذة العبادة عند المتفانين في الله وتعادل لذة العلم عند الحكماء وتربو على لذة امتلاك الأرض مع قمرها عند الأمراء وتزيد على لذة مفاجأة الاثراء عند الفقراء ولذا يزاحم المجد في النفوس منزلة الحياة .
ولذا طالما اشكل على الباحثين اى حرصين أقوى ؟ حرص الحياة ام حرص المجد ؟ والحقيقة التى عول عليها المتاخرون وميزوا بها تخليط ابن خلدون هى ان المجد مفضل على الحياة عند الأحرار ، وحب الحياة ممتازة على المجد عند الاسراء ،وعلى هذه القاعدة يكون أئمة ىل البيت عليهم الصلاة والسلام معذورون في القائهم بانفسهم في المهالك لأنهم لما كانوا أحرار ابراا يميزون طبعا الموت كراما على حياة ذل ورياء مثل حياة ابن خلدون الذى خطأ امجاد البشر في أقدامهم على الخطأ ناسيا تقريره ان سباع الطير والوحوش تابى في اقفاص الأسر بل وجدت فيها طبيعة اختيار الانتحار تخلصا من قيود الذل .
المجد لا ينال الا بنوع من البذل في سبيل الجماعة وبتعبير الشرقيين في سبيل الله أو سبيل الدين ،وبتعبير الغربيين في سبيل الانسانية أو سبيل الوطنية والمولى تعالى المستحق التعظيم لذاته ما طالب عبيده بتمجيده الا وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم .
وهذا البذل أما بذل مال للنفع العام ويسمى مجد الكرم وهو اضعف المجد أو بذل العلم النافع المفيد للجمعية ويسمى مجد الفضيلة أو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصر الحق وحفظ النظام ويسمى مجد النبالة ، وهذا أعلى المجد وهو المراد عند الاطلاق ، وهو المجد الذى تتوق اليه النفوس الكبيرة وتحن اليه اعناق النبلاء ، وكم له من عشاق لذت لهم في حبه الشهادة وأكثرهم يكون من مواليد بيوت الشرف التالد الذى يتصل أولهبعهد الحرية والعدل أو يكون من نجباء بيوت ما انقطعت فيها سلسلة المجاهدين انقطاعا طويلا ومن امثلة المجد قولهم خلق الله للمجد رجالا يستعذبون الموت في سبيله .
وهذا " نيرون " سأل " آغريين " الشاعر وهو تحت النطع من أشقى الناس ؟ فأجابه معرضا به من اذا ذكر الناس الاستبداد كان مثالا له في الخيال ، وكان " ترابان " العادل اذا قلد سيفا لقائد يقول له هذا سيف الأمة ارجو أن لا اتعدى القانون فلا يكون له نصيب في عنقى وخرج قيس من مجلس الوليد مغضبا يقول اتريد أن تكون جبارا والله ان نعال الصعاليك لأطول من سيفك ، وقيل لأحد الأباه ما فائدة سعيك غير جلب الشقاء على نفسك فقال ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظالمين ، وقال آخر على أن أفى بوظيفتى وما على ضمان القضاء ، وقيل لأحد النبلاء لماذا لا تبنى لك دارا فقال ما أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبو .
وهذه ذات النطاقين " أسماء بنت أبى بكر " رضى الله عنها ، وهى امرأة عجوز تودع ابنها الوحيد بقولها ان كنت على الحق فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت .
والحاصل ان المجد هو المجد محبب للنفوس لا تفتأ تسعى وراءه وترقى وهو ميسر في عهد العدل لكل إنسان على حسب استعداده وهمته وينحصر تحصيله في زمن الاستبداد بمقاومة الظلم على حسب الامكان .
ويقابل المجد من حيث مبناه التمجد وما هو التمجد ؟ وماذا يكون التمجد ؟ التمجد لفظ هائل المعنى ولهذا أرانى أتعثر بالكلام واتلعثم في الخطاب لاسيما من حيث اخشى مساس احساس بعض المطالعين ان لم يكن من جهة أنفسهم فمن جهة أجدادهم الأولين فاناشدهم الوجدان والحق المهان ان يتجردوا دقيقتين من النفس وهواها ثم هم مثلى ومثل سائر الجانين على الانسانية لا يعدمون تأويلا ، واننى اعلل النفس بقبولهم تهوينى هذا فأنطلق وأقول :
التمجد خاص بالادالادارات المستبدة وهو القربى من المستبد بالفعل كالأعوان والعمال أو بالقوة كالملقبين بنحو دوق وبارون والمخاطبين بنحو رب العزة ورب الصولة أو الموسومين بالنياشين أو المطوقين بالحمائل وبتعريف آخر التمجد هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف الانسانية .
وبتوصيف أجلى هو أن يتقلد الرجل سيفا من قبل الجبار يبرهن به على أنه جلاد في دولة الاستبداد أويعلق على صدره وساما مشعرا بما وراءه من الوجد أنه المستبيح للعدوان أو يتحلى بسيور مزركشة تنبىء بأنه صار أقرب إلى النساء منه إلى الرجال ، وبعبارة أوضح وأخصر هو أن يصير الانسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم