مؤثرات ما بعد الحداثة في النص التسعيني
سنكون مدينين بالاعتراف بأهمية كتاب جدل النص التسعيني للشاعر والناقد ( علي سعدون) بعد فراغنا من قراءة الكتاب، من جهة ان الكتاب هو جهد نقدي مميز في رصد تحولات النص التسعيني من مناطق الفراغ الى الاشتباك مع الواقع ومع الحياة ومجاورة انساقه الثقافية، ونقصد بمنطقة الفراغ - كما يشير اليها المؤلف - هي المنطقة التي دشنتها التجربة الثمانينية والتي تمثلها مهيمنات الغموض عبر استعمالات اللغة بتعاليها وجنوحها نحو المجهول، أي استعمال اللغة من اجل اللغة وانغلاق انساق المعنى ، أي ان الباحث يمنح التسعينين امتياز التفكير بالخروج من فوضى اللغة التي تعاني من نقص المعنى الى اللغة التي تسعى الى الاستقرار عبر انتاج المعنى، ويشير الباحث في اطار ذلك الى ان هذا التحول هو نتاج تحول في الانساق المعرفية والثقافية التي اثرت بمفهوم الشعر ذاته بوصفه اكثر الحقول الثقافية استجابة وتأثرا بالتحولات الكبرى التي تشهدها الانساق المعرفية، وهو لذلك يتبع الولادات الاولى لقصيدة النثر منذ الرواد والى استقرارها بشكلها الحالي، مؤكدا ان هذه التحولات ويقابلها استجابة الشعر لتأثيراتها يسمح بالجدل الذي ما ينفك عن توالده المستمر بين الاجيال الشعرية التي تنشد اختلافها وتمايزها.
هذه الاستصبارات هي الثيمة او المحور الذي يجهد الباحث على تأكيده لمنح النص التسعيني امتيازه مع ملاحظة انه يؤكد ان النص التسعيني هو افق رؤيوي تنتمي اليه اجيال مختلفة، وهي وفق هذا الافق تنتج رؤيتها للعالم، بما هي - أي هذه الرؤية - مسعى للاشتباك مع الحياة والتعامل مع النص بوصفه حادثة ثقافية، لكن الباحث يؤكد ان هذه الرؤية هي امتياز للجيل التسعيني الذي اثر في التجارب السابقة عليه، فالظاهرة الثمانينية وهي ظاهرة هيمنت عليها اشكال من الاضطراب دفعتها باتجاه انتاج رموزها الفاقدة للمعنى، ولم تأخذ شكلها المستقر في بعض التجارب الثمانينية الا مع مطلع التسعينيات بتأثير من جيل هذه المرحلة، وهذا ما نتعرف على ملامحه في اشتباك الباحث مع كتاب تحولات النص للشاعر جمال جاسم امين.
وانطلاقا من هذا الاشتباك ستأتي قراءتي لاستبصارات الباحث وتوكيداته، والتي - أي القراءة- ستنحاز في بعض اشكالها الى استبصارات جمال جاسم امين، ذلك ان السعدون ينكر على جمال جاسم امين رؤيته بان التجربة الثمانينية كانت أمينة لمتطلبات الحداثة في انتاجها الغامض والذي يعده شرطا فنيا من شروط الحداثة، قبل ان تمر بعدة مخاضات افضت الى التعديل في اداء قصيدة النثر وبالتالي هدوءها واستقرارها الحالي، في حين ان التعديل يندرج عند السعدون بوصفه سمة من سمات الجيل التسعيني.
لا نتفق مع افتراض جمال جاسم امين بان الغموض صفة جوهرية من صفات الشعر، والا فاننا سنحكم على تجارب شعرية كثيرة واضحة بانها ليست شعرية بما في ذلك تجربته هو ذاته، بيد ان محل اتفاقنا معه يكمن في استبصاره الذي يشير الى ان الغموض في التجربة الثمانينية هو نتاج مشترطات الحداثة ووعي الجيل لمتطلباتها، ذلك ان الجيل الثمانيني كان يعي اختلافه عن الاجيال السابقة في اطار تمثله للحداثة، ونحن ندرك منذ اقتراننا القرائي بالحداثة، بان مفاهيم مثل التشظي وخلخلة المعنى والحواس هي مفاهيم حداثية بامتياز ولم يحدث ان شعرت الحداثة بمأزق ابعدها عن اطرها السيوسلوجية الا بفعل التبدلات البنيوية في انظمة المعرفة والتي من ابرزها صدمات ما بعد الحداثة، والتي دعت تبعا الى دفع غالبية جيل الثمانينيات الحداثي الى التعديل في الاداء الفني لقصيدة النثر .
اشير هنا الى تبدل وتحول في الابنية المعرفية وليس الى تبدل في الانساق المعرفية كما ذهب السعدون الى ذلك، فباعتقادي ان الانساق تمتلك ثبوتها بما هي منظومة افكار ومفاهيم مؤثرة، لكنها قابلة للانغلاق ولا يسمح بانفتاحها وتجاوزها سوى الصدم النقدي الذي يؤدي الى تغيرات في الابنية المعرفية، وهو ما يسمح بوجود انساق ثقافية قديمة تتعايش مع الانساق الحديثة، فما حدث ان الحداثة تلقت صدمات قوية عبر اختراقات نقودات ما بعد الحداثة دفعتها الى التعديل في ادائها على الصعد المعرفية وبمجمل اشكالها الثقافية، ذلك اننا ندرك جيدا ان ما بعد الحداثة وهي تشكك بمنتجات العقل والحقيقة والاطاحة بالمفاهيم الما ورائية انما تجهد لتأسيس فهم دنيوي لهذه المفاهيم، ولذلك فان الخطاب ما بعد الحداثي انطلاقا من هذا المسعى هو خطاب واضح، بمعنى ان التحولات في الابنية المعرفية على الصعيد العالمي هي التي أثرت بطرائق التفكير الحداثية في سياق التعديل في ادائها، ولم تكن بأثر رجعي من الجيل التسعيني لان هذا الجيل ذاته خضع لتأثيرات هذا التحول قي الابنية المعرفية، وهذا يعني ان الجيل التسعيني ابن التفكير ما بعد الحداثي دون ان يعي ذلك،ودون ان يمتثل لمتطلبات ما بعد الحداثة بوعي منه بوصفه الابن الشرعي لها.
ان الجنوح في انتاج خطاب واضح هو نتاج ما اشير اليه بالاضافة الى سبب اعتقده مهما، والذي يكمن برهبة غالبية التسعينيين من النجز النصوصي الثمانيني نتاج تصورهم ان هذا المنجز يشتبك مع الفلسفي والمعرفي وهذا مصدر غموضه، وازاء هكذا تصور فان التخلي عن المعرفة في نظر هؤلاء يكون شرط الوضوح، والنتيجة تمخضت عن انتاج نصوص رغم وضوحها فانها سطحية بالمرة واكثر غربة من الواقع عن نصوص الثمانينيات الغامضة، ومثل هذه النصوص وجدت لها مكانا ونسبة جيلية في كتاب علي سعدون، مختلطة بتجارب مهمة في الجيل التسعيني تعي شروطها الفنية في انتاج النص.
ما نخلص اليه ان تشيع الباحث للجيل التسعيني دفعه الى الخلط الواضح بين تجارب شعرية مهمة واخرى فاقدة الاهمية ضمن الجيل نفسه، كما دفعه اصراره على وجود مميزات للجيل التسعيني (وهو جيل يمتلك مميزاته بالتأكيد، وان هنالك نصوصاً تسعينية كثيرة هي نصوص مشرقة ومسهمة في الحراك الثقافي) الى اغفال المؤثرات المعرفية ونقصد بها مؤثرات ما بعد الحداثة في توجيه مسارات النص التسعيني نحو الاشتباك في الواقع وانتاج نصوص تقدس المعنى كقيمة معرفية تنفتح على الآخر الذي سوف لن يكون سوى متلقي النص المتمثل لانساقه الثقافية.