فلتَسمح لنا جمانة حداد
رشا الأطرش
تنقسم إلى نوعين المقالات النقدية التي تناولت كتابات جمانة حداد، لا سيما الكتابين الأخيرين: نوع احتفالي بكاتبة لبنانية/عربية تكسر المحظورات، تتجرأ على الكتابة عن الجنس والجسد والله، وتنادي بتحرير جنسي كامل للمرأة في مجتمع لا يُرى إلا ذكورياً. ونوع ثانٍ يهاجمها، للأسباب عينها، إنما من منصّات الدِّين والتقاليد وقيم العفّة التي عفا عليها الزمن. والواقع إن النوعين مسطّحَان شعبويَان... كما الكتابَين.
قد يقول قائل: إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يستحق كتابة أخرى ههنا؟ الجواب سهل: قبل نحو ثلاث سنوات، صدر "هكذا قَتلتُ شهرزاد" بالإنكليزية، وتُرجم إلى أكثر من عشر لغات، بينها العربية. واليوم مناسبة جديدة، إذ صدرت قبل أسابيع الترجمة الفرنسية لـ"سوبرمان هو عربي"، الصادر بالإنكليزية العام الماضي، ما ضخّ طاقة جديدة في الحضور الإعلامي لكاتبته في الإعلام العربي والغربي. ولا شك في أن حَبْلَ الترجمات ما زال على جَرّار ناشرين يصبون إلى اقتسام الشهرة والانتشار مع جمانة حداد.
النجاح التجاري هذا – أكثر من مضمون الكتابين – إضافة إلى مبالغة في الحفاوة الإعلامية الغربية والعربية بـ"اعترافات امرأة عربية غاضبة"... يحفّزان على كتابة ثالثة. كتابة عن "نسوية" جمانة حداد، وفهمها لمسألة الجندر، ومقاربتها للسياسة والسوسيولوجيا والأفكار عموماً.
ذلك أن المنظومة الكرنفالية المحيطة بصاحبة مجلة "جسد" وقصيدة "ليليت" – إذا ما نحّينا عنها تأثير شبكة العلاقات الواسعة التي تتمتع بها الكاتبة والصحافية متعددة اللغات، وإذا ما أبطلنا بأعجوبة روابط سُلُطاتها الثقافية الممتدة في عوالم النشر والإعلام – هذه الكرنفالية تدل إلى اختلال مُعتبَر في الوعي الثقافي اللبناني والعربي، وفي دوائر النخبة، لا سيما الصحافيين والنقاد الذين غالباً ما يتجنبون (لماذا؟) البوح بنقدهم الحقيقي لنتاجات جمانة حداد. والاختلال هذا ليس بأثر من قوانين "السوق الجماهيرية" وميكانيزمات "المراعاة" ضمن الأوساط الثقافية فحسب. بل هو أيضاً نتيجة لتآكل الخطاب النسوي العربي، والاكزوتيكية المشرقية التي لم تغتسل منها تماماً عين الغرب، وها هي حداد تغازلها، من موقع ادعاء دحضها... بل بدعوى محاربتها.
في التمهيد لكتاب "شهرزاد"، تخبر جمانة القارئ بأن الفكرة ولدت "عندما طرحت عليّ صحافية أجنبية السؤال الآتي: كيف بلغت امرأة مثلك حدّ نشر مجلة إيروتيكية مثيرة للجدل على غرار "جسد" باللغة العربية؟... معظمنا في الغرب ليس معتاداً على مجرد إمكان وجود امرأة عربية متحررة مثلك". فتأتي إجابة جمانة "فظة" كما تصفها: "لا أعتقد أني امرأة استثنائية. فما أكثر النساء العربيات المتحررات مثيلاتي. أما إذا كنتم غير مدركين لوجودنا، كما تزعمين، فهذه مشكلتكم". ثم لا تلبث الكاتبة أن تختتم التمهيد بأنها، بعدما هدأت، سعت إلى فهم خلفية السؤال، وهكذا ولد هذا الكتاب الذي هو بمثابة "اعتذار وشكر للصحافية جيني".
لا يخلو التمهيد هذا من دلالة. فالصفحات الكثيرة التالية تزخر بحكايات من ذاكرة جمانة. الطفلة النهمة للقراءة، المتفتحة غرائزها وأخيلتها باكراً، سابقةً عمرها وأوانها. جمانة المراهقة العنيدة، المُنعَم عليها بنضج فاق حصيلة ما حُظّ به كل الراشدين من حولها. صفحات كثيرة تالية، لو قُدّر لها أن تصدر صوتاً لارتفعت بصراخ يعظ العربيات بل ويؤنبهن أحياناً (رغم تأكيد الكاتبة مقتها للوعظ). نبرة غضب متّسق مع العنوان، لإيفاد إحساس بالتمرد (من قال إن "الغاضب/ة" ينطق دوماً بالحق؟ يكثر من حولنا الغاضبون والغاضبات!).
وتكمن دلالة التمهيد أعلاه في أن الكتابين، الصادرين أولاً بالانكليزية، يتحدّيان مسلّمات غربية عن المرأة العربية – مع التحفّظ على أن المسلّمات هذه سائدة بالقدر المُدّعى. الكتابان يستفزان المسلّمات، إنما من قبيل غوايتها، وجرّ أهلها إلى دهشة وتصفيق، رغم ادعاء الحنق كمُبطِل لمفاهيم ومُنمّطات. صفحات وصفحات يملأها كلام أقرب إلى حوارات الصالونات منه إلى تحليل وتفكيك أدبي أو ثقافي أو حتى نفسي – اجتماعي. كلام لا يفتقر إلى صواب ما، هذا صحيح. لكنه يرتع في القشرة.
يتعيّن هنا القول بأن الثقافة الشعبوية/التجارية لطالما جاورت النتاج الثقافي المكين، في الموسيقى كما في الأدب والسينما وغيرها من المجالات. جميلة أفلام الكوميديا الرومانسية الهوليوودية كوسيلة ترفيه. وجميلة أيضاً سينما فيلليني كفن سينمائي جدّي. يحق للصنفين الوجود، وللجمهور الاختيار. لكن أن يقال مثلاً إن أفلام ساندرا بولوك تشكّل "قفزة" على مستوى السينما العالمية، أو أنها مدرسة قائمة بذاتها، فهذا ضرب من الخيال.
تكتب جمانة أنها تنتمي إلى فلسفة "ما بعد نسوية"، وأنها اختارت القفز من فوق فخاخ الحركة النسوية في الستينات والسبعينات، لا سيما الخطاب الراديكالي الرافض للرجل، والمؤثِر لثنائية تخاصمية وصِدامية بين الجنسين تحوّل المرأة ضحية والرجل جلاداً. تؤمن هي بالرجال والنساء معاً ضد النسوية وضد الذكورية.
عال. موقف عصري جميل. لكن...
هل يصحّ خيار "قافز" من هذا النوع، من دون الاعتراف، على الأقل، للحركة النسائية العربية واللبنانية بإنجازات هي فعلياً ما يتيح اليوم لامرأة أن تقول: ما عاد المُحقَّق يكفيني؟ بل ليس ثمة ما يوحي بالحد الأدنى من الاطلاع على تاريخ تلك الحركة أو هضم تراكيبها السياسية والاجتماعية وتراكماتها منذ انطلاقتها. وما معنى خيار "ما بعد النسوية" (ليس جديداً بالمناسبة، ولا هو خرق جندري، بل عمره عقود في أنحاء غرب وشرق أُنهكاه تنظيراً وتفريعاً)، حين يُستتبع، في فصل عن تأسيس مجلة "جسد" (التي تقدم إيروتيكا أبسط بكثير من رافعة عناوينها المتثاقفة)، بأن الكاتبة "ترفض السير بمحاذاة الحائط"؟ وما معناه حين تقول إنها تزدري الإجماع لأنها تريد أن تكون امرأة "إشكالية" تهاجم الرقابة و"العقل العربي" المأزوم بسلطة الدين والدولة والأهل والتابو؟ تكتب: "الحديث عن الختان تابو، وكذلك تأثير العقد النفسية على الجنسانية والفيتشية والكانيبالية والرؤية النقدية للجنس في الروايات المعاصرة والرغبة من منظور الانتلجنسيا النسائية"... طبعاً، لا يحتاج دحض الادعاء هذا أكثر من جولة سريعة على الفضائيات العربية أو في أي مكتبة محترمة في بيروت أو القاهرة أو تونس...
غير أننا نطرح السؤال أصلاً من باب "الفلاش باك". للتذكير بأن نوال السعداوي، التي تجاوزتها موجات نسوية عدة، نشرت، قبل أكثر من أربعين عاماً، أبحاثاً وأعمالاً أدبية عن الحياة الجنسية للمرأة. بل اقتطفت السعداوي لكتابها "المرأة والجنس" (1969)، من تجربتها كطبيبة وناشطة سياسية، فاستندت شخصيات حكاياتها إلى أناس حقيقيين تعرّفت إليهم في عيادتها أو سجنها أو عبر أصدقاء. جمانة حداد أيضاً تكتب مذكراتها الجنسية... لكنها تدّعي "القفز"، في حين أنها تكرّر، كمن يعيد إنتاج فيلم بالأبيض والأسود، بالألوان.
تمحورت أفكار السعداوي حول علاقة بين الرأسمالية والنظام الأبوي، اعتبرتها حافظة لاضطهاد النساء. وصاحبة "شهرزاد" و"سوبرمان" تستعيدها اليوم، بلغة درّجتها كتب أميركية وأوروبية نجدها في المكتبات تحت خانة "المساعدة الذاتية" و"علم النفس الشعبي". تتخفف جمانة بالطبع من ايديولوجيا يسار ذلك الزمن الذي اعتنقته السعداوي، وهذا جيد. لكنها تُلبس المقاربة ذاتها، "كاجوال" العصر وموضته. مقاربة لم تمسسها جدية سيمون دوبوفوار التي فرقع كتابها "الجنس الثاني" العام 1949 (وترجم طبعاً للعربية وقرأته مناضلات الستينات على فكرة!)، مُحلّلَةً مجتمعاً بطريركياً جعل المرأة هي "الآخر" بالاستناد إلى الفلسفة الوجودية والهيغلية والماركسية. بل إن مقاربة جمانة لم تلامسها لمعات معاصرة في دراسات الجندر، من قبيل مرجعية أميركية اسمها جوديت باتلر، من مدرسة "ما بعد البنيوية"، والتي اخترعت مفهوم الجندر الأدائي (بالمعنى المسرحي)، وراجعت أعمال دوبوفوار وسيغموند فرويد وجاك لاكان وجاك دريدا وميشال فوكو. باتلر التي نقدت مصطلحي "الجنس" و"الجندر" باعتبارهما مركّبين اجتماعيين وثقافيين، ثم انتقلت إلى نقد الخطاب النسوي الذي رأى النساء مجموعة منفصلة لاتاريخية وذات خصائص مشتركة، قبل أن تنكبّ على الجسد والجنس شارحة جدلية حدودهما بموازاة المنع والتحريم والإنتاج الطقسي للمسلّم به من الهويات.
هكذا، تبدو جمانة حداد كمن تزمجر بكلمات... عذراء.
قد يخرج من يرى بأن السرد أعلاه يشابه محاولة اصطياد حجل بمدفع. وقد يكون على حق.
لكن مبيعات كتب جمانة حداد، بلُغاتها وبهرجتها الإعلامية المثيرة للقلق على الوعي النسوي والثقافي والفردي... تدعيمها (رغم نفيها) لكليشيه عربي، تقدّمه أصيلاً وجوهرياً عن "الإرهابي المستعد للموت بل يتمناه توقاً لوعد بجنة العذراوات"، من دون أي فقه اقتصادي أو تاريخي أو اجتماعي – سياسي لصعود الدين والعنف... كلها مغالطات تلقّم الفوهة تلقائياً. ولم نحكِ بعد عن تجاسرها (وهنا تصحّ الجرأة المُدهشة) على التونسيات والمصريات خصوصاً، إذ تؤنبهن لأنهن "شاركن في تظاهرات ولم يقلبن الطاولة على البطريركيين". في حين أنهن يرفعن أصواتهن عالياً ويدفعن أثماناً في مواجهة التحرش وفحوص العذرية والتعديلات الدستورية المنتقصة من حقوقهن. حتى اليمنيات تحدّين علي عبد الله صالح عندما لعب على وتر التظاهرات المختلطة جنسياً، فنزلن مع الرجال، وبعضهن بالنقاب.
ماذا بعد؟ لم نتحدث عن كتاب "سوبرمان"؟ لا داعي. فهو لعب تنويعي على "شهرزاد" مع إضافات بسيطة: حكايات مثيرة عن رجال دين شبقين، وعن متدينين متزوجين لكنهم فحول سرعان ما يُنبذون لأنهم "لا يسجدون لفينوس". تأملات في أسامة بن لادن المهووس بالأفلام الإباحية، وفي ذكرى بكائها يوم زفافها والذي لا نلبث أن نكتشف أن سببه حذاؤها الضيق (استعارة من مسرحية "شاهد ما شافش حاجة"؟). ثم رشّات شِعرية خاصة، وأقوال لمشاهير... أي الوصفة السُّكّرية التي لا تخيب.
ما لنا والتكرار، فلنختم بشيء مما تتفرد به جمانة حداد فعلاً. ها هي تشرح لنا لماذا تكتب الشعر لا الرواية: "لأن الشعر دليل على أن الحياة ليست كافية". حقاً؟ ليس لأنك قد لا تجيدين فن الرواية مثلاً؟ مهلاً... عذراً على السذاجة. "الغاضبة" حكماً شاطرة، في كل شيء. هي فقط تنتقي من مروحة مهارات بلا حدود. تماماً كما اختارت قضيتها بالـ"قفز" سالف الذكر. وتكتب: "أولوية أيضاً وأيضاً التخلص من الذكوريين المقنّعين، تارة بالنضالات البروليتارية، وطوراً بحجة حماية المرأة وعرضها وطولها... لائحة المظالم العربية طويلة أيها السيدات والسادة، أنا اخترت، فتفضلوا واختاروا".
نعم، سنختار... من رفوف العلوم الإنسانية بدلاً من طاولات "الأكثر مبيعاً".