0inShare
Share on Tumblr"
العقل: ما يعقل به حقائق الأشياء، قيل : محله الرأس، وقيل: محله القلب."[1]
استهلال:
يتعرض العقل في كل الأزمان إلى الذم عند الإنسان العامي الذي يستقي معارفه عن طريق التقليد ومن الموروث ويتبع الظاهر من الدين ويسلم بالمعنى الحرفي للنصوص والآيات والأحاديث دون تبصر أو تمحيص ودون تمييز بين الصحيح والضعيف وبين الجيد والرديء من التفاسير. ويلحق منهج التأويل نفس الهجوم الذي لحق العقل وذلك لوثاقة العلاقة بينهما وقوله بتعدد الحقائق ونسبية المعارف والتباس الدلالات وتشعب المسالك المؤدية إلى المعاني. ولعل أسباب ذم العقل وانكفاء التأويل عديدة وصادرة من مشارب مختلفة وفي معظمها تعود إلى المحافظة على السائد من الموروث والخضوع للسلطة الفقهية القائمة وتفضيل الاستقرار في الدراسات التفسيرية والبحث عن السلامة والنجاة في الدنيا.
علاوة على ذلك أدى الاعتصام بالعقائد البالية من طرف فقهاء السلطان إلى تحكيم بعض الآراء الفقهية القاصرة وكذلك العودة إلى تصورات خرافية والاستناد إلى رؤى ايديولوجية مغلقة واعتماد سياسة للحقيقة فيها الكثير من الغلو والانتفاعية مع استبعاد بعض المجتهدين فضائل النقد والتنوير والحداثة والعقلانية.
لكن أن تأتي مذمة العقل من بعض دعاة العلم وصناع الكلام فذلك ما يثير الدهشة ويمثل مفارقة في حد ذاته ويبعث على القلق لأن العلماء هم أصدقاء المفهوم وطلاب الحقيقة ومحبي الحكمة فكيف يجحدوا ما توصلوا به إلى مراتب العلم وصناعة الكلام وكيف ينكروا أهم ميزة خصها الله بالكائن البشري ورفعه درجات فوق الجماد والنبات والحيوان ألا وهي إنتاج الرموز والعلامات والقدرة على تأويلها وتسمية الأشياء وإضفاء المعنى وتشريع القيمة وممارسة التمحيص في السلوكات والحكم على الأفعال.
إذا عدنا إلى أبي حامد الغزالي هل نجد في كتابه العمدة إحياء علوم الدين ما يؤد مثل هذا المنحى الرافض للعقل والتأويل؟ وإذا تفحصنا ورقات من نص المقدمة للعلامة عبد الرحمان ابن خلدون هل يساورنا الشك في شرف العقل والتأويل في طلب العلم والحرص على التعليم؟
ماهي آفات العقل ومطبات التأويل بحيث استساغ العامة الهجوم عليهما؟ وكيف يمنح الشرف إلى نفسه ولا يعطيه إلى العقل وهو ملكة يحصلها بنفسه وقوة مكنوزة في ذاته؟ وهل يجوز القول بأن حضارة اقرأ هي حضارة النص والتفسير ولا يكون للتأويل منزلة ومشغلا بينهما؟
وهل يؤدي وضع حدود للعقل إلى ضبط قواعد للتأويل لا يبارحها؟ وكيف يجدد فن التأويل بنية العقل ومقولاته ويوسع من الحقول التي يغزوها ومن التجارب التي يمتحنها؟ وهل يجوز الحديث عن عقل دون الاجتهاد في التأويل وعن تأويل لا يرتكز على تشغيل لملكة العقل؟
أليس عقل بلا تأويل هو شكل بلا مضمون وبنية بلا تاريخ؟ وأليس تأويل بلا عقل هو تجربة بلا معنى وجهد بلا قصد وقراءة بلا فائدة؟ فما السبيل إلى شد الرحال نحو العقل التأويلي؟
1- بيان حقيقة العقل وأقسامه عند الغزالي:
" لا يزال المرء عالما ما طلب العلم فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل"[2]
إذا رجعنا إلى لغة الضاد نجد ما يلي: " العقل الحِجرُ والنُّهَى ورجل عاقل وعقول وقد عقل من باب ضرب ومعقولا أيضا وهو مصدر وقال سبويه هو صفة وقال إن المصدر لا يأتي على وزن مفعول البتة والعقل أيضا الدِّيةُ والعَقُول بالفتح هو الدواء الذي يمسك البطن والمَعقِلُ المجلأ وبه سمي الرجل."[3]
إن تشريف العقل عند أبي حامد الغزالي هو من الأمور التي لا تحتاج إلى برهان وذلك لأنه حقيقة بديهية وظاهرة للعيان وآيته في ذلك ارتباط العقل بالعلم والإنسان واعتبار "العقل منبع العلم ومطلعه وأساسه" وإذا كان العقل هو الشجرة والشمس والعين فالعلم هو الثمرة و النور والرؤية وبهما يتميز المرء عن الكائنات الأخرى ويحصل السعادة في الدنيا والآخرة. "فشرف العقل مدرك بالضرورة"[4] وقد اختص بادراك الحيل ومحاربة الجهل وبلوغ المعرفة. ويبرهن الغزالي على قيمة العقل عند الإنسان بتأكيده على أن مكانة المرء في مجتمعه هي ثمرة عقله وليست لكثرة ماله ولا لزيادة تجربته وقوته وكبر شخصه.
إن استعمال العقل يستخدم في محاربة الجهل والتصدي للحمق ويحقق استقامة الدين ويزيد من درجة القرب من الدرجات العلى والهداية وحسن الخلق وجمال المنظر ووقار الهيئة وجمل الصحبة وسعادة العيش ودعامة المؤمن وآلة اكتساب الفضل والهدى والسؤدد. ويقدم الغزالي عدة أدلة شرعية من القرآن الكريم والحديث الشريف أو من المأثور على أهمية العقل وضرورته في الحياة الدنيا. "وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كثرت المسائل يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، إن لكل شيء مطية ومطية المرء العقل وأحسنكم دلالة ومعرفة بالحجة أفضلكم عقلا."[5]
لكن لماذا اختلف الناس في حد العقل وحقيقته؟
إن سبب اختلاف الناس في تعريف العقل هو " كون هذا الاسم مطلقا على معان مختلفة"[6] ولذلك جاءت أقسام العقل أربعة:
- القسم الأول: العقل هو "الوصف الذي يفارق به الإنسان سائر البهائم"[7]، ويرفض الغزالي تعريف النظار والفلاسفة بكون العقل هو مجرد العلوم الضرورية ويقبل حد الحارث المحاسبي بأنه الاستعداد لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الفكرية والغريزة التي يتهيأ بها إدراك العلوم المخفية ويشبهه ب"نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء"[8]. فألا يعني هنا العقل الباطن؟
- القسم الثاني: العقل هو "العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات"[9]. ويعني به هنا البديهيات والنور الفطري والمقدمات الأولية والعلوم الضرورية في المنطق والحساب والهندسة التي اتفق على صحتها المتكلمون. فألا يعني هنا العقل الظاهر؟
- القسم الثالث: العقل هو "علوم تستفاد من التجارب من يجاري الأحوال"[10][ فالعاقل هو من حنكته التجارب وهذبه الترحال في المسالك واعتبر من الانتقال من مذهب إلى آخر.ألا يقصد هنا العقل التجريبي؟
- القسم الرابع: العقل هو " أن تنتهي تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها"[11]. إن العاقل هو من يمتلك القوة في الإقدام والإحجام ويحكم جماح رغبته ويسيطر على شهواته وينظر في العواقب. لكن ألا يسمى هذا العقل العملي؟
يشير الغزالي إلى أن العقل الباطن والعقل الظاهر يحصلان بالطبع والعقل التجريبي والعملي بالاكتساب ويرى أن العقل الباطن هو الأس والمنبع وأن العقل الظاهر والعقل التجريبي يتفرعان عنه وأن العقل العملي هو المقصد الأسنى الذي نصل إليه.
" فالأول هو الأس والسنخ والمنبع والثاني هو الفرع الأقرب إليه والثالث فرع الأول والثاني، إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب، والرابع هو الثمرة الأخيرة وهي الغاية القصوى. فالأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب"[12].
إن تفاوت الناس في العقل يشمل الأقسام الأولى والثالثة والرابعة ولا يشمل القسم الثاني الخاص بالعلم الضروري بجواز الجوازات واستحالة الاستحالات ويرجع إلى تفاوت الفطر والأفهام واختلاف جواهر الناس وتباين النفوس في غريزة العقل والتباعد ين العلم والمعلوم. " وكيف ينكر تفاوت الغريزة ولولاه لما اختلف الناس في فهم العلوم، ولما انقسموا إلى بليد لا يفهم بالتفهيم إلا بعد تعب طويل من المعلم، والى ذكي يفهم بأدنى رمز وإشارة والى كامل تنبعث من نفسه حقائق الأمور من دون تعليم."[13]
أضف إلى ذلك "انقسام الناس إلى من ينتبه من نفسه ويفهم والى من لا يفهم إلا بتنبيه وتعليم والى من لا ينفعه التعليم أيضا ولا التنبيه."[14] وكأن الغزالي يصنف الناس إلى ثلاثة أصناف أحدهم يفهم بالأمور التخييلية والشعرية وهم العامة والنوع الثاني يفهم بالأمور الجدلية والخطابية وهم النظار من الخاصة والبقية يفهمون بالأمور العقلية ويصلون إلى عين اليقين وهم الأقطاب والحكماء من خاصة الخاصة.
السبب الآخر الذي يؤدي إلى التفاوت في العقل هو أن صناعة الكلام هي التي وضعت حد العقل والمعقول موضع مجادلة وتناول الألسن بالنقاش والتناظر ما كان محل تقدير واتفاق وبروز الخلاف والارتياب.
كما أن من يطلب الحقائق من الألفاظ عوض طلبها من المعاني يسقط في التخبط والغفلة عن نور البصيرة الباطنة التي بها يعرف الله تعالى ويعرف صدق رسله. من هذا المنطلق يميز الغزالي بين تفاوت في الغريزة وتفاوت في الممارسة ويعترف بأن العقل عند الإنسان ينمو ويتطور مثلما ينمو الجسم ويتطور: "فإنه مثل نور يشرق على النفس ويطلع صبحه ومبادئ إشراقه عند سن التمييز ثم لا يزال ينمو ويزداد نموا خفي التدريج إلى أن يتكامل بقرب الأربعين."[15]
على هذا النحو قال صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم واعلموا أن العاقل من أطاع الله"[16]. فالعقل عند الغزالي هو أول ما خلق الله في الإنسان ويرمز إلى البصيرة الباطنة والرؤية الثاقبة والنظر السديد والرأي الصالح.
من جهة أخرى يحدد الغزالي الصفات المشروطة في من تختار صحبته ويرى أنها خمس خصال وهي حسن الخلق وعدم الفسوق وعدم الابتداع وعدم الحرص على الدنيا وأن يكون الصديق عاقلا.
"وأما العقل فهو رأس المال وهو الأصل. فلا خير في صحبة الأحمق، فإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها وان طالت."[17] " ونعني العاقل الذي يفهم الأمور على ماهي عليه إما بنفسه وإما إذا فُهم"[18].
لكن ألا "نريد بالعقل ما يريده بعين اليقين ونور الإيمان"[19]؟ وهل العقل هو بصيرة الباطن أم بصيرة الظاهر؟ وألا يصلح العقل عند ابن خلدون لمعرفة درجات الوحي واكتساب العلوم والمعارف اليقينية؟ وألا يساعد على الارتقاء في الموجودات نحو درجة الوجود الأعظم والمطلق؟
2- أصناف العلوم العقلية والحكمة عند ابن خلدون:
"إن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه. "[20]
من المعلوم أن العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها وهو كذلك معيار سليم للأشياء وتسند إليه براهين وأقيسة ثابتة ولا تقبل الخطأ وقد ارتبط العق ل بقوة الفكر وجودة الروية وملكة الإدراك ومثل جوهر الإنسان. ومن نافل القول أن ابن خلدون تعلم علوم العقل في رحلته المعرفية وولع بها وبرع في تعليمها، إذ يذكر المؤرخون:"ثم خرج تلمان هاربا إلى المغرب...ولزم العالم الشهير أبي العباس بن البناء الشهير الذكر فحصل سائر العلوم العقلية وورث مقامه فيها وأرفع...ثم اختصه السلطان أبو الحسن ونظمه في جملة مجلسه وهو في خلال ذلك يعلم العلوم العقلية ويبثها بين أهل المغرب حتى حذق فيها الكثير. "[21]
إن القرار المنهجي الحاسم الذي اتخذه ابن خلدون منذ مقدمة الكتاب الأول هو نقد الخبر عن الاجتماع البشري وتمحيص الرواية عن حقيقة التاريخ الإنساني بمعرفة طبائع العمران عن طريق العقل باعتباره قانون نميز به الحق من الباطل وليس بالتعديل والتجريح والثقة بالناقلين وتوهم الصدق وإنما باعتبار المطابقة وبلوغ المقاصد واستيعاب الأسباب وتطبيق الأحوال على الوقائع واعتبار الأخبار الممكنة فقط وسبرها بمعيار الحكمة وتحكيم النظر والبصيرة وغربلة الأخبار المستحلية وعدم الذهول عن تبدل الأحوال وإمساك النفس عن الانتحال والابتعاد عن قياس الغائب بالشاهد والحاضر بالذاهب.
لقد ترتب عن ذلك تأسيس ابن خلدون لعلم العمران البشري والاجتماع الإنساني على قاعدة البرهان العقلي مع العلم بقواعد السياسة والاختلاف في السير والأخلاق والعوائد. وتظهر هذه العقلانية التاريخية في قوله" وأما الأخبار عن الواقعات فلابد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة، فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه وصار في ذلك أهم من التعديل ومقدما عليه...وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه."[22]
لقد طرح ابن خلدون من جهة ثانية مجمل نظريته في العقل ومراتبه وأصنافه ووظائفه وحدوده في الفصل 33 من الفصل الخامس من الكتاب الأول والمعنون: "في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا وخصوصا الكتابة والحساب" ونجد فيه التعريف التالي: " النفس الناطقة للإنسان إنما توجد بالقوة وان خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولا ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا فتكون ذاتا روحانية ويستكمل حينئذ وجودها"[23].
إن العلوم عند ابن خلدون كثيرة وتنقسم إلى علوم وضعية و وعلوم عقلية والحكماء عند الأمم متعددون وكل حقيقة أو مفهوم علم من العلوم هو العناية بالثمرات وثمرة العلوم هي إدراك المعقولات وتحقيق الذات الإنسانية تحقيقا كاملا ولذلك "وجب أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفدها عقلا فريدا".[24]
والحق أن ابن خلدون لا يعرف العقل بشكل منعزل ومعطوف على طبيعة الإنسان فقط بل يصله بالعالم الخارجي وبمعرفة الأشياء ويحدد بمفاعيله ونتائجه وتشابك علاقاته مع أحوال العمران وعناصر الكون. زد على ذلك يقسم ابن خلدون ملكة التعقل إلى بعدين هما العقل النظري والعقل النظري.
إن العقل النظري هو جملة البديهيات والعلوم الضرورية والعقل المجرد هو الذي يتعرف على نظام الأشياء وغايته تحقيق ذاته بعقل نفسه ومعرفة الأشياء كما هي وتحصيل معنى الإنسانية في الإنسان. ويستدل عليه ب" ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة فيكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل ويحصل به قوة فطنة وكيس"[25].
أما العقل العملي فينقسم إلى عقل تمييزي بين الخير والشر وبين الجيد والرديء في المألوف والعادات ومهمته هي تنظيم الأعمال الإنسانية وعقل تجريبي يكتسبه الإنسان ببذل الجهد في الصنائع والمثابرة والحنكة والتدبير ومهمته إعادة تنظيم الأعمال الإنسانية وتحقيق الغايات النبيلة. إن" الصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة، فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلا."[26]
من المعلوم أن ابن خلدون يقسم العلوم التي يتداولها الناس تحصيلا وتعليما إلى صنفين طبيعي عقلي ونقلي وضعي وإذا كانت العلوم النقلية الوضعية لا مجال للعقل فيها إلا في إلحاق الفروع بالأصول وتستند إلى الخبر عن الواضع الشرعي فان العلوم الحكمية الفلسفية "يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها."[27]
من جهة أخرى يقر ابن خلدون بكونية علوم الفلسفة والحكمة ونفي الخصوصية عنها وعدم تأثرها بتغير اللغات واختلاف الأديان وتعدد الثقافات وتنوع المجتمعات وذلك لاحتوائها على مبادئ كونية ومناهج يقينية وحقائق أبدية والتصاقها بالإنسان من جهة تكوينه الطبيعي وملكاته ومنذ كان له تاريخ وعمران.
"وأما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث أنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل بوجه النظر فيها إلى أهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها وهي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة."[28] وتشتمل على المنطق والعلم الطبيعي والعلم الإلهي والرياضيات التي تنقسم إلى علم الهندسة وعلم العدد وعلم الموسيقى وعلم الفلك. وكل علم له فروع إذ يفرع الطب عن الطبيعيات.
وواضح هنا أن ابن خلدون في إحصاء العلوم يقوم بتصنيفها على أساس شرف الموضوع ورتبته في الوجود وتبدأ من الأقرب إلى النفس إلى الأبعد عنها. "هذه أصول العلوم الفلسفية وهي سبعة: المنطق وهو المقدم منها، وبعده التعاليم، فالأرتماطيقي أولا، ثم الهندسة، ثم الهيئة، ثم الموسيقى ، ثم الطبيعيات، ثم الإلهايات."[29]
وينبغي أن لا ننسى من الصنائع التي تختص بها الملة الإسلامية دون غيرها وتستعمل النظر العقلي بطرق متفاوتة وأبرزها علم التفسير وعلم القراءات وعلوم الحديث وأصول الفقه والفقه وعلم الكلام وعلوم اللغة. وإذا كان علم الكلام "يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية"[30] فإن الفقه انقسم إلى طريقة أهل الرأي والقياس عند أبي حنيفة النعمان على سبيل المثال التي تستعمل العقل وطريقة أهل الحديث التي تكتفي بالمأثور وتستعمل النقل عند أحمد ابن حنبل كنموذج ولكن في علم أصول الفقه كما يظهر عند الشافعي أو جعفر الصادق يتعلق الأمر بالجدل العقلي في الخلافيات وتجويد طرق الاستدلال والقياسات.
من هذا المنطلق "تطلب غريزة العقل أيضا مقتضى طبعها وهو المعرفة والعلم فتُحرك الفكر إلى تحصيله وتشتاق إلى الكمال الأعلى بمعرفة خالقها"[31].
غير أن ابن خلدون يلاحظ أن العجم أميل إلى الاهتمام بالعلوم العقلية والحكمة الفلسفية من العرب: "وأما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه واستقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم ."[32] فهل هذا يعني أن العرب أميل إلى العلوم النقلية الوضعية كثر منه إلى العلوم العقلية الطبيعية أم لانشغالهم بالملك والسياسة؟ ولماذا تواصل نفور العرب من علم الحكمة والفلسفة إلى الآن وإقبال المستشرقين عليها؟ وماهي أوجه التقارب والتباعد عند المقارنة بين منزلة العقل عند الغزالي وابن خلدون؟ وهل ثمة اتصال أم انفصال بين الرجلين؟ وماذا حدث للعقل التأويلي في الثقافة العربية؟
خاتمة:
" إن المعتزلة لا ينكرون أن الله هو الشارع للأحكام والموجب لها والعقل عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي"[33]
إن قيمة العمل الذي قام به كل من الغزالي وابن خلدون هو استحسان العقل والتعويل عليه في مهام غير معهودة بعد تفقد ملكاته ونقده ونقله من دائرة المنطق والرياضيات والميتافيزيقا إلى دوائر جديدة مثل التصوف والدين عند الغزالي والمجتمع والتاريخ والسياسة والاقتصاد عند ابن خلدون وكان هاجسهما الأول هو محاولة عقلنة اللامعقول وفهم المجهول وتقصي الظواهر العصية والأسرار الخفية.
إن نقطة التلاقي بين الغزالي وابن خلدون ليس الأشعرية والتصوف وإنما إيمانهما بأن العقل هو القاسم المشترك بين جميع الناس ومبدأ التكامل الإنساني وأساس التكليف وتحمل المسؤولية والمحاسبة على الأفعال ومصدر من مصادر التشريع إلى جانب الشرع وقادر بنفسه على إدراك معاني الأشياء وحقائق الموجودات ويمكن استخدامه في إدراك الأحكام الشرعية واستنباط معايير الفعل وتلازم حكم العقل وحكم الشرع إذ " كل ما حكم به العقل حكم به الشرع...والعقل رسول في الباطن والشرع عقل في الظاهر".
"اعلم أن الله سبحانه خلق هذا الإنسان مركبا من جثمان ظاهر وهيكل محسوس وهو الجسد ومن لطيفة ربانية أودعه إياها وأركبها مطية بدنه...وهي التي يعبر عنها في الشرع تارة بالروح وتارة بالقلب وتارة بالعقل وتارة بالنفس وان كانت هذه الألفاظ مشتركة بينها وبين مدلولات أخرى. وان أردت مزيد من الشرح لهذا فعليك بكتاب الغزالي"[34] ( ويقصد كتاب إحياء علوم الدين).
لقد اتفق المسلمون على قابلية العقل لإدراك ذاته ومعرفة العالم المحيط عليه وأجازوا النظر العقلي في كل ما ورد في القرآن والحديث وفي أمور الدنيا ومقتضيات الدين لكون العقل هو الدال على الأصل المنتج للحكم الشرعي وكما رأي الغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد: إن العقل مع الشرع هو نور على نور. لكن الصلة بين حجة الإسلام ومؤرخ العرب لا تقف عند رسمهما حدود للعقل وجعل المغيبات موضوع إيمان وبحثهما عن حكمة عربية أصيلة يتم استلهامها من التفقه في القرآن والشعر العربي ولغة الضاد وإنما تتعدى ذلك إلى حالة من الانفصال والتجاوز من طرف الثاني للأول عندما انتصر للعقل التجريبي على حساب العقل النظر وجعل البرهان العقلي القاعدة الصلبة التي أقام عليها علم العمران البشري.
ربما خير ما كُتِبَ في العقل هو نص الماوردي في الباب الأول "فضل العقل وذم الهوي" من كتاب "أدب الدنيا والدين" الذي جاء فيه:" اعلم أن لكل فضيلة أسا ولكل أدب ينبوعا وأس الفضائل وينبوع الآداب هو العقل الذي جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمادا، فأوجب الدين بكماله وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه، وألف به بين خلقه مع اختلاف هممهم ومآربهم، وتباين أغراضهم ومقاصدهم، وجعل ما تعبدهم به قسمين: قسما وجب بالعقل فوكده الشرع وقسما جاز في العقل فأوجبه الشرع فكان العقل لهما عمادا."[35]
إن العقل دعامة المرء وصديقه الوفي وسبب نجاته ومصدر مروءته وحسن خلقه يعصمه من الزلل ويقيه من الرذيلة ويبعد اليأس ويجلب الأمل ويطرد عنه الشقاء ويساعده على تحصيل السعادة والطمأنينة.
إذا سرنا بالعقل من الغزالي إلى ابن خلدون فأن ما يسقط من الحساب وما لم يعد له وجود هو نظرية الفيض الإشراقية ومصطلحات من قبيل العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد والعقل الفعال وان المفاهيم الجديدة هي العقل النظري والعقل التمييزي والعقل التجريبي والتأويل الباطني والرمزي وما يحضر هو التفسير بالطبائع والوقوف عند الأسباب والقوانين التي تحدث التغيرات.
لكن هل العقل هو "الاستعداد المحض لإدراك المعقولات وهي قوة محضة خالية من الفعل"[36] أم أنه"جوهر مجرد يدرك الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة"[37]؟ وهل بقي يدل على"جوهر مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله وهي النفس الناطقة التي يشير إليها كل واحد بقوله أنا"[38] ؟ وهل اقتدر العقل العربي بالفعل على منع الناس من "العدول عن سواء السبيل"[39] كما نظر إلى ذلك حكماء حضارة الضاد؟
المراجع والمصادر:
- أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، المجلد الأول، تصحيح عبد المعطي أمين القلعجي، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 2010.
- أبو الحسن الماوردي، أدب الدنيا والدين، ، تحقيق ابراهيم الأبياري. دار الكتاب اللبناني، بيروت، طبعة، 1991.
- بدر الدين الزركشي ، البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية ، بيروت، الطبعة الأولى، 2007.
- الشريف أبي الحسن الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2000.
- محمد ابن أبي بكر الرازي،مختار الصحاح، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1994.
- محمد بن تاويت الطنجي، رحلة ابن خلدون، دار الكتب العلمية ، بيروت، الطبعة الأولى، 2004.
- عبد الرحمان ابن خلدون، شفاء السائل لتهذيب المسائل، تحقيق أبي يعرب المرزوقي، الدار العربية للكتاب، تونس، طبعة 1991.
كاتب فلسفي