0inShare
Share on Tumblrإن الخطابات الأدبية والفكرية والسياسية الغربية مثلت الذات والآخر تمثيلا متحيزا ،حيث موضعت الذات في إطار من التعالي والفوقية في حين موضعت الآخر في إطار من الانتقاص والدونية،واستخدمت في ذلك آليات خطابية عديدة ممتثلة للمرجعيات السياسية والاجتماعية والثقافية....فالآخر في المتخيل الغربي ساكن جاهل وحشي.....،في حين أن الذات هي رمز الفضيلة والقوة والعقلانية والحركة،وهي بالتالي مركز الكون والحضارة،إذ لا تمثيل برئ ومن هنا يتحول الشرقي إلى صنعة لغوية على حد تعبير ادوارد سعيد ،أي كما يريده الغرب لا كما هو موجود حقيقي،....وحتى يتم ذلك تستخدم عدة آليات خطابية منها :الطمس والإقصاء ـ إعادة التمثيل والتكييف.
مقدمة:إن كل خطاب ينشأ متحيزا للنسق الحضاري الذي يظهر فيه ،حيث يشارإليه بالاتهام على اعتبار أنه يحمل في طياته رؤية أيديولوجية محددة مما يصعب معها الحديث عن خطاب برئ ونقي.إذن يظهر العالم متكونا من طرفين: مركز في مقابل هامش ....وهذا الانوجاد خضعت لتراتبيته الانسانية وفكرها المنتج....حيث تتحدد المراكز بالنظر إلى جملة من المصالح وتحتكم إلى مجموعة من الرؤى الأيديولوجية، مما يجعلها نظرة تخضع للانحياز ويتم وفقها إعادة رسم الأدوار، وترتيبها بما يضمن للذات كل مظاهر الفوقية والسيطرة....عن طريق تهميش الآخر واستبعاده.... من خلال هذا البحث نحاول تقصي ظاهرة التحيز الأيديولوجي وأبعاده الاستعمارية في كتابات الغرب الفكرية والأدبية ونحاول معها الإجابة عن الاشكال الأساسي:ماهو سبب هذا التفاضل القيمي ؟ ماهو البديل الذي يجب طرحه والذي من شأنه أن يسهم في القضاء على سياسة الإقصاء والإلغاء؟
إجابة عن هذه الإشكاليات ارتأينا التطرق لعدة نقاط أهمها: مفهوم التمركز ـ تجليات المصطلح في الثقافة الغربية ـ آليات التمركز ـ ثم الحلول المقترحة أو التوصيات المقدمة.
1ـ مفهوم التمركز:
يفترض فعل التمركز وجود طرفين متناقضين: الأنا في مقابل الآخر ،حيث ترتسم من خلال هذه الثنائية حدود التعالي/الانتقاص في كل الخطابات التي تمثل أي ذات ،و يتم تركيب صورة منتقصة وهزيلة للمغاير في حين يتم تركيب صورة عن الأنا حدودها النقاء والقوة والأفضلية...،ومن هنا يظهر التحيز للذات في محاولة إقصاء كل من خالفها ،والذي يعرفه عبد الوهاب المسيري على أنه :"انسجام مجمل آليات التفكير والاستنباط المعرفي مع الأنساق الكبرى للثقافة أو الحضارة التي تصدر عنها تلك الآليات.."[1]،إذن أينما حل المركز وجد التحيز حينما تتم صياغة الخطابات الفكرية والسياسية والأدبية.....وهذا ما يطرح عندنا مفهوم التمركز الذي يعنى بإعادة تفسير كل ظاهرة وإرجاعها إلى الذات ،وقد قدم الناقد والمفكر العراقي عبد الله إبراهيم تعريفا لهذا المفهوم ،حيث وضح بأنه "نمط من التفكير المترفع الذي ينغلق على الذات ،ويحصر نفسه في منهج معين،ينحبس فيه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته .ويوظف كل المعطيات من أجل تأكيد صحة مقولاته"[2]،ويوضح حسن حنفي أن تغير ميزان القوى هو الذي يضفي إلى هذه الحالة،"إذ ينسج المركز لنفسه صورا نقيضة مثل العقلانية والإنسانية والتقدم والعلم في مقابل الحضارات الأخرى التي لم تعرف إلا السحر والخرافة والإلهام والنبوات والإلهيات والخلود"[3]،إن هذه العلاقة تعتمد على تصنيف استبعادي ،حيث تفترض إقصاء كل ما لا يدخل في مجال نظام محدد ،بل تجعل من سمة الآخر المميزة كما وضح نبيل راغب و"تجسيده ليس فقط كل ما هو غريب غير مألوف أو ما هو غيري بالنسبة للذات أو الثقافة ككل،بل أيضا كل ما يهدد الوحدة والصفاء"[4]،وينذر بخطر محدق حول الهوية.
إذن التمركز "نوع من التعلق بتصور مزدوج عن الذات والآخر ،تصور يقوم على التمايز والتراتب والتعالي يتشكل عبر الزمن بناء على ترادف متواصل ومتماثل لمرويات تلوح فيها بوضوح صورة انتقيت بدقة لمواجهة ضغوط كثيرة"[5]،لكن موضوع الآخر يأخذ أبعادا أخرى عند ميشال فوكو،فهو الذي يتعلق بالذات بشكل تام،إذ يعبر عن اللامفكر فيه أو الهامشي الذي يقوم المركز باستبعاده،"لكنه أيضا جوهري بالنسبة لكينونة الخطاب الذي يستبعده،فنحن لا نعرف الحاضر دون الماضي ولا نعرف الذات دون الآخر"[6]،ويبقى الأخير على مستوى الخطاب مجسدا لكل معالم الانقطاع، الذي يقوم التاريخ باستبعاده تأكيدا لاستمراريته.
2ـ تجليات المصطلح في الثقافية الغربية:
يمارس البعد الأيديولوجي الغربي إكراهاته في رسم حدود المنجز الثقافي ،وفي تمثيل الذات تمثيلا متعاليا مع تمثيل الأخر تمثيلا دونيا ،وفي هذه الجزئية نحاول الكشف عن ملابسات تشكل هذا التمثيل المتحيز من خلال التطرق إلى عديد من المصطلحات التي حملت في طياتها صورة هذا التحيز.
أـ مصطلح الغرب تأسيسا للتمركز:ظهر مصطلح الغرب تأسيسا لمفهوم التمركز ،حيث سعت الخطابات الغربية موضعته في إطار من الفوقية وإبرازه على أنه نموذج مكتمل في مقابل الشرق الدوني الذي يجب أن يبحث عن اكتماله في هذا الغرب، إذ قصد من هذا المصطلح إقصاء الآخر المغاير وتحويله إلى مكون هامشي، حيث تتحدد أهميته ومكانته أو تعدل حسب مدى مطابقته لمنظور الأنا وتصوراتها ،وقد توضح هذا المفهوم أكثر أو تجلى ـ حسب عبد الله إبراهيم ـ من خلال ظاهرتين:الكشوفات الجغرافية الكبرى التي أعلنت عن بداية الزمن الأوربي، وتشكيل هوية محددة إعمالا للمركزية الغربية، مع عبور كولمبوس للمحيط الأطلسي عام 1492،حيث أقصيت أمريكا وتاريخها القديم، وطمست معالمها ابتداء من تحديد تسمية تحتفي بالاتباعية للذات الغربية،هذه التسمية التي حاولت ممارسة الإقصاء بإخفاء هويتها الحقيقية وإخماد وطمس أصلها،ومن ثمة كان الإعلان عن هوية أوربا الغربية وذاتها بقتل الآخر واستبعاده،وفي هذا الصدد بين محمد سعدي أن"الغرب يمتلك دائما القوة من خلال إنشائه وخلقه الصورة التي يريدها عن الآخر"[7]،وقد تم تغطية هذا الإقصاء تحت مسمى ديني حيث وجدت الذات الغربية في قيم الآخر ضلالا وبوهيمية، والذي يقتضي منها التصحيح والتغيير الجذري ،الذي يرافقه الشعور بالتفوق والقوة والجاهزية لتنظيم الأوضاع وترتيبها،"فتحت ستار الدين والثقافة توجد نواة قوية للمصلحة القومية تبقي دائما مستوى التنافس والنزاع مرتفعا"[8]،فيصير الدين بمثابة الوقود الذي يؤجج الصراعات وينميها.
الثورة الفكرية والعلمية:حيث تم التخفف من أعباء الكنيسة ،فحلت الرسالة العلمية العقلية محل الرسالة الدينية ،ومن ثمة صار الغرب رمزا للتحضر بينما العالم الآخر هو رمز للتوحش والهمجية،ونابت ثنائية حيوية أوربا/خمول العالم عن ثنائية الإيمان/الكفر التقليدية أو ثنائية التمدن/التوحش، والتي كرست تمركز الأنا وتعاليها عن الآخر الذي همش،من هنا ظهر الغربي بمظهر كوني، مظهر من يريد إخراج الآخر من جهله بحقيقته ،وليس دفعا له للحاق بركب الحضارة ،عن طريق قتل هويته وتركيب شخصية تابعة خاضعة للذات الغربية، تنفذ أوامرها وتتغاضى عن ارتباكاتها.إن هذه الثنائيات لا تعني فقط صراعا بين كيانين متعارضين ،بل أكثر من ذلك حيث يتحدد كل طرف منها بتعارضه مع الآخر،"إن اليونانيين والرومان كانوا يتعرفون على هوياتهم من خلال البرابرة،والمسيحية لم تتعرف على نفسها أثناء القرون الوسطى إلا من خلال تقديم الإسلام كآخر خصم وعدو"[9]،ومع الاكتشافات الجغرافية صارت ثنائية الشرق والغرب هي التي تحدد هوية الغرب كما يذهب لذلك محمد سعدي.
بـ ـ الغرب الكوني إقصاء للمحددات الغيرية:
إن أهم مقررات المركزية الغربية ـ كما يذهب إلى ذلك عبد الله إبراهيم ـ هو إقرارها بوجود تاريخ خاص مطلق للغرب،أدى إلى ظهور حضارة غنية ومتنوعة، وأن ما وصل إليه الغرب من تقدم وازدهار لن يكون عند باقي الأمم إلا بإتباع خطواته"والأخذ بالأسباب ذاتها التي أخذ بها الغربيون.وليس أمام تلك المجتمعات إلا التخلص من خصوصياتها الثقافية ،لأن تلك الخصائص هي المسؤولة عن تخلفها،وهي المعيقة لتطورها"[10]، ومن ثمة نتجت فكرة التوسع الاستعماري المنبثقة من الفكر الغربي عن ضرورة تعميم نموذجه،بالقضاء على مقومات الآخر المختلف ونهب ثرواته باسم مستعار يدعي الإنسانية ،ليتخلص من مسؤوليته أمام العالم تشويها للتاريخ الحقيقي، وإعمالا لتاريخ يكتبه الأقوياء،في حين"أن محاولة تعميم هذه القيم،هو فعل لا أخلاقي إذا ما أصبح مشروعا يستند إلى القوة والإكراه"[11]،وفي نفس السياق يجد عبد الله إبراهيم إن ولادة الظاهرة الاستعمارية اقترنت"بفكرة التأصيل العرقي،والقول بالتفوق والتوهم بوجود خصال رفيعة عند أمم دون سواها.."[12].إن عنف الخطاب يمارس ضغطه على التصور الإنساني ،حيث يتم النظر للعالم وفق نظرة شمولية عامة ،ويتم إرباك الأبعاد المغايرة واستبعادها من نطاق الاهتمام،بل والأكثر من ذلك يتم تعبئة الجميع إيديولوجيا ،بطريقة تجعل فعل التمثل بتلك المعايير أمرا مسلما به،إذ الذات تشعر بدونية إزاء الآخر،ويصف إدريس هاني هذا الوضع بأنه طبيعي ،إذ"ليس ثمة حضارة قامت في التاريخ لم تنظر لنفسها وكأنها مركز العالم"[13]،وهذا ما صرح به ابن خلدون حينما بين أن المغلوب مولع بتقليد الغالب دوما،ومن ثمة تحاول جميع الذوات الهروب من صفة التهميش، واللجوء إلى الاحتماء بهوية المطابقة مع الغير،يتم معها طمس كل الحدود الثورية التي تريد خلق ذاتها من جديد،والاحتفاء فقط بكل ماهو داخل في نطاق الاعتراف ،أي اعتراف الآخر بهذه الذوات الامتثالية.إن هذه النظرة من وجهة نظرنا تشبه طرح فوكوياما حول نهاية التاريخ،ونحن هنا لا نقصد بها "نهاية في اتجاه بقاء نموذج الليبرالية أو الديموقراطية الحرة على حساب كافة الأشكال التاريخية،بل هي انتصار للغرب بوصفه مركزا للكون"[14]،حيث يتم معه إعاقة كل انوجاد مغاير يحاول البروز في الساحة الدولية،هذا ما يجعل فعل الحوار والاختلاف مغيبا،ومن ثمة تصير أطروحة حوار الحضارات من قبيل الطوباويات أو الآمال الحالمة،إذ الواقع يثبت ألا وجود لهذا الحوار والتعايش على أساس من المساواة واحترام الهويات ،ولا تحقق حتى لأطروحة صدام الحضارات ـ كما طرحها همنتنغتون ـ لأن الصدام قائم على افتراض وجود قوى متكافئة تتصارع،في حين أن مشروع الغرب هو تمكين لنموذج واحد متعالي .
ج ـ العولمة شكل من أشكال التهميش: إن خطاب العولمة مارس اكراهاته المختلفة ،من خلال التبشير بقيم غربية وتعميم نموذجها وإصباغها بصبغة كونية، دون مراعاة شروط تشكل المجتمعات وخصوصيتها الثقافية وهويتها، وهذا ساعد في ظهور الفكر الامتثالي للآخر"واختزال الذات إلى عنصر هامشي واستبعاد المكونات القابلة للتطور،وتفجر الحراك الاجتماعي بطريقة فوضوية وكل ذلك بسبب انهيارات متعاقبة في الأنساق الثقافية الأصلية"[15]،مما يسبب زعزعة للنظم وانفلاتا للاختلاف ،على اعتبار أن القيم الغربية"حتى ولو تبناها مجتمع بملء إرادته فإنه لن يحقق بذلك سوى تمزقا في الهوية"[16]. إن العولمة بما تمارسه من سياسة للاستبعاد والطمس للتشكيلات الثقافية الأصيلة ،إنما تسهم في ظهور أيديولوجيات تخلق مفاهيم جديدة حول صفاء الهوية ونقاء الأصل،كما أنها تؤصل لمفهوم المحاكاة للنموذج الغربي الذي يقود إلى "سلسلة لا نهائية من التقليد المفتعل الذي تصطرع فيه التصورات ،وهو يصطدم بالنماذج الموروثة التي ستبعث على أنها نظم رمزية تمثل رأسمال قابل للاستثمار الأيديولوجي عرقيا وثقافيا ودينيا"[17]،ويلاحظ محمد سعدي أن البعد الثقافي يقوم بإعادة خلط التوازنات الجيوسياسية العالمية المختلفة،إذ يقوم بمنحها أبعادا جديدة بسبب امتلاكه قوة تعيد ترتيب المواقع ،"هذا ما فتح الباب لشعور عدة فضاءات ثقافية غير غربية بضرورة مواجهة المد الثقافي الغربي وذلك عبر التمركز حول الأصول والخصوصيات الثقافية كسلاح ورد فعل ضد موجة التغريب"[18]،التي كانت نتيجة الاستعلاء الثقافي والمركز الذاتي الذي حال دون الاعتراف بالآخر.
د ـ إشكالية التمركز في الخطاب الغربي الفلسفي:
إن فكرة التمركز موجودة في ثنايا الخطابات الفكرية الغربية ،التي تعبر عن منظومات فكرية تؤصل لهذا المفهوم وتحاول تركيب صورة نقية للأنا،وفي مقابل ذلك تقصي الآخر وتتعامل معه بالتهميش،حيث تصطنع له صورة مشوشة كما تجلى ذلك في نظرية الطبائع مثلا التي أصلت لولادة الغرب الحديث ،حيث بين عبد الله ابراهيم أنها ادعت وجود خصائص نوعية تؤهل تفوق الجنس الآري على باقي الأجناس، وتدعي الصفاء المطلق وتقصي كل المؤثرات الخارجية"لقد علمتنا التجربة الغربية درسا بليغا في مجال كيفيات تغييب وعي الإنسانية المؤمنة بذاتها،كمقدمة لطمس هويتها........فتبدو في انطباعات الفكر الإنساني على غير جدارة بالاستقلالية أو الاستحقاقية الحضارية"[19]،ومن هنا يمارس التغييب والإقصاء.
إضافة إلى ذلك وجد تجليات المصطلح في نظرية الكيوف الأرسطية التي بانت ملامحها في كتاب"السياسة"لأرسطو، والتي أرجعت طبائع الشعوب إلى تأثير المناخ،وتقسيمهم تبعا لذلك إلى:"الشعوب الأوربية القاطنة في الأراضي الباردة،وهؤلاء يتصفون بالشجاعة،لكنهم منحطون من جهة الذكاء والصناعة،والشعوب الآسيوية وهم يتصفون بالذكاء والإنتاج الفني،إلا أنهم يفتقرون إلى القلب الأمر الذي جعلهم يقبلون الاستعباد والطغيان.وأخيرا الشعب الإغريقي وهو يجمع بين كيوف النقيضين،وتحديدا يجمع المظاهر الايجابية من تلك الكيوف،وذلك يحكم موقعه الجغرافي،فهو ذكي وشجاع،ولذلك فهو مرشح لفتح العالم إذا توحد في دولة واحدة"[20]،وهذه الأحكام تمثل انطباعات متسمة بالعمومية،إذ لا تخضع لمعيار علمي بل ينقصها التدقيق والبرهان والتحليل المنطقي.
وإذا استمرينا في تقصي مظاهر التمركز في ثنايا الخطاب الغربي ، المنتج وفق تحيزات مرجعية فرضتها سلطة المكان والزمان، مع عبد الله إبراهيم نجد تجلياته أيضا في مفهوم هيغل للتاريخ، والذي اعتبر أن تاريخ العالم يتجه من الشرق إلى الغرب على أساس أن أوربا تمثل نهاية التاريخ وآسيا بدايته، وبالتالي فالتحقق الفعلي لمفهوم الروح"التي تكشف عن مضمونها على مر الزمان دون أن تتأثر بواقع الزمان المشخص"[21]، والمؤدي إلى الحرية بلغ أوجه واكتماله في الأمة الجرمانية ،ومن هنا ربط هيغل "بين تطور العقل البشري وبين جغرافيا العالم ،مؤكدا أنه في المناطق المتطرفة،سواء كانت حارة أو باردة،لا يستطيع الإنسان أن يكون حرا في حركته"[22]،حيث إن الحر والبرد في هذه المناطق تؤثر على الروح فلا تقيم عالمها الذاتي،بحيث تتوجه اهتمامات الإنسان إلى الطبيعة ومكوناتها ،ومن هنا تصبح المنطقة المعتدلة مسرح التاريخ الحقيقي.إذن توظف الأفكار من أجل خدمة البعد الأيديولوجي والسياسي وتسهيل اختراق الآخر للذات،فتساعد من ثمة الاختلافات الثقافية على تعميق الصراعات والاختلافات السياسية بين الحضارات،ومن هنا كما لاحظ محمد سعدي تصير"الأديان والثقافات مجرد وسائل توظف لإدارة الصراع والتعبير عنه والتعبئة له وتأجيجه في بعض الأحيان"[23]،ومن ثمة تقوم الاختلافات الثقافية بدور التغطية عن الأبعاد الحقيقية للصراع.
انكشف الخطاب المتمركز حول ذاته في ثنايا الكتابات الاستشراقية التي قدمت صورة معقدة للشرق في المخيال الغربي،وأسهمت في انوجادها ترسبات الماضي حيث أن الشرق العربي الإسلامي من وجهة نظر الناقد ظهر بوصفه مكانا متخيلا،لا يوجد فيه إلا ماهو غريب ومثير،ومن هنا بدا وكأنه"موطن السحر والخرافة،ومكان ألف ليلة وليلة وعلاء الدين،والمصباح السحري،وأغاني شهرزاد وقصصها،الشرق يمثل الإنسانية في طفولتها الأولى قبل أن تشب وتكبر"[24]، وعلى هذا الأساس لم يستطع النشاط الاستشراقي التحرر من مضامينه الغربية في قراءاته، التي"يمكن بسهولة تبين جوانبها السلبية والتعسفية الواضحة أو الغامضة،بالإضافة إلى أن المستشرق ينطلق من أرضية ثقافته الخاصة بإسقاطات غير عادلة عند التناول والتقييم،ومن منطلقات الفكر الأوربي نفسه في مراحل تفوقه.."[25]، إن هذا النشاط لا توجهه حاجة معرفية في أغلب تشكلاته وإنما هو "ضرب من الممارسة الفكرية التي اقتضتها حاجة العقل الغربي لأن يشمل بـ"كليته"،المعطيات الثقافية لـ"الآخر"،وإعادة إنتاجها ،بما يجعلها تندرج ضمن سياقات المركز،وهو يفكر ويتفكر في شؤونه وشؤون غيره"[26]، من ثمة رتبت شؤون الآخر وفق نظم عقلية تعمد لإيجاد مكانة في منظومة التمركز، حيث صار الاستشراق موضوعا هامشيا تحركه موجهات مركزية، على اعتبار أن الشرق هو مكون هامشي في البنية الثقافية ،لكن دراسته قائمة على إعادة إنتاجه غربيا لتحويله إلى آلية من آليات عمل المركزية الغربية.
3ـ آليات التمركز: تم التأسيس لنظام فكري جديد، رتبت على إثره الوقائع والأحداث بما يتناسب مع الرؤية المنبثقة من فعل الخطاب الأيديولوجي،وعدلت التوجهات بما يوافق السنن الثقافية والدينية الغربية المهيمنة في العالم،ومن ثمة وقع تكييف وإعادة نظر في صياغة الموروث الثقافي والتاريخي والسياسي...فالتمثيل يتم عبر آليات خطابية مختلفة منها:
أ ـ آلية الطمس والإقصاء:يتم حجب كل الخطابات المتعارضة مع النسق المهيمن،حيث يتم إعادة إنتاج الخطابات القديمة والتلاعب بها لتساير القيمية السائدة،و التلاعب بالنصوص والحقائق لتساير حاجات التلقي في حكم الموجود.
إن التمثيل يتم عبر آليات مختلفة تمتثل لهذه التوجهات،منها الإقصاء أو اقتطاع جزء من الذاكرة تخدم فعل التمركز،وقد تقصى عبد الله إبراهيم هذه الحيل ابتداء من الفلسفة القديمة ،فأرسطو أقدم على بناء فلسفة عقلية مجردة أساسها العقل المطلق الذي ترأس الكون ثم العقل الإنساني الذي ترأس الطبيعة،وبناء على ذلك عرض الأفكار التي تهمه وغذاها ببراهين عقلية ومنطقية ،وانتقى من سلفه ما يخدم تصوره وأقصى الباقي ،فمثلا قام بانتقاء بعض آراء طاليس وقدم قراءة ذاتية تدخلت فيها المرجعيات ،مما جعلها تخفي حقيقتها،وذلك بفعل الاستقطاع، حيث أبعدت هذه المقتطفات عن سياقاتها الفلسفية القديمة،وبنيت الأفكارعلى أساس من الانتقاء، سعيا منه لبناء تاريخ فلسفي متماسك ومستمر ابتداء من لحظة سقراط/أفلاطون /أرسطو ،خاصة إذا علمنا أن الفلسفة الشفاهية تعرضت للاكراهات أثناء تدوينها.من هذا المنطلق يرى الباحث أن الفكر الغربي في محاولة إثباته لأولية أرسطو في تأريخ الفلسفة كتابيا، لم يكن يمارس سوى عملية دمج واستبعاد لما يخالف منظومته الفكرية،التي حاول فيها إثبات المركزية للعقل ،ومن ثمة إصدار حكم منحاز يتم من خلاله وسم الفلسفة الإغريقية بأنها فلسفة العقل ،
2ـ إعادة التمثيل والتكييف الحاصل: يخضع التمثيل إلى تحيزات مختلفة فكل ذات تحاول خلق صورة متعالية لنفسها،واصطناع ماض عريق أو تاريخ متماسك لها،فيعاد تشكيل المرويات على هذا الأساس بما يضفي عليها رفعة وسموا وصفاء،وبما أن للخطاب تلاعباته فهو يسعى لإعادة ترتيب القيم وفق هذا التصور ،فالأنا هي الحاملة لكل قيم الخير والعدل والمساواة....بينما تركب صورا تبخيسية للآخر تهيئة للمسار الاستعماري وللنظام الاستبعادي،فحتى يسهل استغلال المغاير يجب أن يسبق عمليات هذا الاستغلال تمثيل رمزي للذات والآخر،تركب على أساسه صورة متخيلة تدعي للآخر كل القيم المخالفة، والتي يقصد منها الانتقاص له والحط من قيمته ،وإلصاق كل ماهو دوني به من جهل وتخلف،ومن ثمة تصبح"التقاليد الثقافية والفكرية للتراث اليهودي والمسيحي تمثل التقدم والتنوير والعقلانية،بينما يمثل العالم الاسلامي الشر،الظلمات،اللاعقلانية،والتعصب....."[27] ،كما ذهب لذلك محمد سعدي.إن النسق الثقافي المهيمن يسهم في تأطير هذه النظرة إزاء الذات والآخر في عملية تتعالى فيها التصورات حتى تصبح هي ذاتها التاريخ الحقيقي ،ويصبح معها العقل منتجا لآليات التمركز في ثنايا خطاباته المختلفة
إذن التمثيل يؤدي وظائف عديدة فهو يصون القيم المتعلقة بالذات، ويخرب قيم الآخر بتضخيم سلبياته ونواقصه عن قصد ويكون هذا في المدونات الكبرى التي تغذي المخيال الجماعي عند الأمم.
إذن تحاول كل مركزية أن تختلق ماضيا مرغوبا، من خلال خطاباتها المختلفة التي تمثل رغباتها الرمزية وتطلعاتها،ويتم اصطناع ذاكرة تمتثل لهذا التصور بما يضفي رفعة على الذات ودونية على الآخر ،ومن هنا يتم التلاعب بالزمن الحقيقي من قبل أصحاب هذه التمثيلات وذلك بطمس مالا يوافق التصور المأمول ،وإظهار صورة موسومة بالنقاء الخالص أمام العالم، بمحو أجزاء من الذاكرة لا يخدم وجودها وفق مبدأ التعالي ،ثم إعادة تركيب وترتيب الأجزاء بما يعطيها صورة مشوهة ومنقوصة من اللحظات التاريخية والذاكرة الإنسانية.
أسهمت الرؤية الأيديولوجية في تقديم تمثيل للذات والآخر مستندا إلى آلية مزدوجة من أجل ذلك أخذت شكلين،حيث أنتج هذا التمثيل ذاتا متعالية تتضمن الصواب المطلق والقيم الرفيعة،في حين أن التمثيل المعاكس للآخر شابه التوتر والانفعال والالتباس...."وبذلك أقصى كل المعاني الأخلاقية المقبولة عنده،واستبعد أمر تقبل النسق الثقافي له،فحمل الآخر،من خلال تفسير خاص،بقيم رتبت بتدرج لتكون في تعارض مع القيم السائدة وبذلك اصطنع التمثيل تمايزا بين الذات والآخر،أفضى إلى متوالية من التعارضات والتراتبات التي تسهل إمكانية أن يقوم الطرف الأول في اختراق الثاني،وتخليصه من خموله،وضلاله،وبوهميته،ووحشيته،وإدراجه في عالم الحق"[28].وفي هذا الصدد يبين إدريس هاني أن التوتر أو الأزمة الحاصلة بين الشرق والغرب"لا يمكن أن نعلقها على مشجب الغرب والثقافة الغربية،طبعا مثلما في الغرب فظاعات،أيضا لنا فظاعتنا ونسبتنا من الفظاعات.لكن نحن حينما نتحدث عن الغرب.نعني بذلك،النقد المزدوج للأنا وللآخر"[29]،ومن هذا المنطلق لا يجب السماح ـ حسب هاني ـ للأنا أن تطرح نفسها بهذه الاصطفائية،حتى لا تسقط في التمركز المعكوس.
الحلول ـ التوصيات ـ :
نتساءل الآن هل علينا التسليم بهذه النظرة الاقصائية؟وإن كان الجواب نفيا فما هو الحل؟ .لا يمكن تغيير راهنا إلا إذا قمنا بنقد كل خطاباتنا وخطابات الآخر ونحن في هذا المقام نؤيد المفكر عبد الله إبراهيم الذي أوجد حلا للكشف عن أيديولوجيا التمركز الإقصائية المقدمة للآخر بصورة مشوهة، يكمن في سلاح النقد بحكم أنه قادر على الوقوف على التناقضات الكامنة في ثنايا هذه الثقافة المتمركزة، إذ أن هذا السلاح سيسمح لنا بمعرفة مضمراتها ،وذلك بتتبع كل الممارسات الملتوية للمفاهيم المكونة لها ،وبالتالي سيهيئ"لهوية ثقافية جديدة قائمة على مسار متحول ومتجدد ومتشعب الموارد من المنظورات والمكونات الثقافية المنتجة،أو المعاد إنتاجها في ضوء الشروط التاريخية للذات الثقافية"[30]، هذه الهوية هي هوية الاختلاف التي تتركب من عدة موارد، ويتوسع نطاقها اعتبارا من نقد الذات ونقد الآخر.
إذن لابد من الحوار الدائم، والمساءلة النقدية الواعية التي تأبى الامتثالية وترى الاختلاف بديلا ضروريا للقضاء على ثقافة المطابقة . فعملية النقد ممارسة تسعى لتأكيد هذا المفهوم، وذلك بطرحه تعريفا متضمنا لهذا المعنى، إذ يصبح معه الاختلاف "انفصال إجرائي عن الآخر،بما يمكن من رؤيته بوضوح كاف،وانفصال رمزي عن الذات بما يجعل مراقبة أفعالها ممكنة.والنقد هو الممارسة التي يمكن اعتبارها دعامة الاختلاف الشرعية"[31].وهذا التحدي الذي يجب رفعه هو ما يجده علي حرب ضرورة ملحة،تقف في وجه شرطة المعرفة،إذ يساعد على "اجتراح قراءات للنصوص والرموز والتراث والثقافة،تسهم على أقل تقدير في تجديد المعنى وإعادة البناء،ذلك أن كل قراءة خصبة ومبتكرة،تفتح أبوابا للمعنى،بقدر ما تشكل فرصة لاختراق الحدود وإعادة ترتيب الأولويات أو صياغة المعادلات"[32]،وفي هذا كله خلق لعالم يحترم التعدد والاختلاف.
يصبح الاختلاف آلية فعالة تنزع إلى تجاوز الاستبداد الحاصل من المركز الغربي وهيمنته ومن هنا تصبح الحداثة المرجوة هي المنبثقة من فعل الاختلاف والتي لا تعترف بالثبات، وإنما تسعى لبناء نموذجها المتجدد وفكرها المتحول، تخطيا لجاهزية اليقين وثبات الهوية من أجل، خلق هوية ثقافية منفتحة على الآخر ومتحولة عن طريق التفاعل والحوار والتواصل،ومن هنا يرجى "الاختلاف الذي لا أقصد به القطيعة إنما الحوار الفاعل والخصب مع الذات والآخر"[33].وقد مثل هذا الاتجاه فلاسفة غرب نذكر منهم:ميشال فوكو،وجيل دولوز وجان فرانسوا ليوتارد وجوليا كريستيفا،ويعد الاختلاف وصف يستمد خصائصه من النقد الموجه لفكرة الهوية،وقد تطور هذا النقد عند أدورنو،فأن نفكر في الاختلاف معناه أن نتجاوز التفكير بمنطق المثل والشبيه،وهذا ما يعني مراجعة الكثير من العادات الفكرية،إذ التصورات الفلسفية كانت متأثرة بفكر الهوية ،مما يعني الاتجاه نحو الواحد،ومن هنا لابد من نفي هذا الفكر وتحويله وتحطيمه من الداخل،حيث يفسح لنا الانفتاح على إمكانات متعددة للخطاب الفلسفي.
إن المأمول هو الاختلاف المبني على الحوار إذ"نحن نتحاور مع الآخر،لا لكي نشبهه أو نصير مثله،ولا لكي يشبهنا أويصبح على شاكلتنا،بل لكي نكسر قوقعتنا ونتزحزح عن مركزيتنا،بحيث نختلف عما نحن عليه أو فيه قدرا من الاختلاف،بقدر ما نسهم في تغيير الآخر،وذلك بخلق وسط للتفاهم أو صيغة للتعايش أو مكان للتبادل أو إطار للبناء المشترك.هذا شأن الحوار الفعال،فمن مفاعيله التحول المتبادل بين أطرافه"[34].إن الاختلاف الذي يسعى لتأصيله "ثمرة لتلاقي الرؤى والمنظورات والأفكار والعقائد"[35]. حيث يصير العالم منفتحا على التعدد والتباين والتحاور.
الخاتمة:
كل مركز يسعى لإعادة التماسك لعالمه عن طريق التلاعبات الخطابية والإنشائية ،وقد سبق أن وضح ذلك ادوارد سعيد ،حينما بين أن العوالم هي منشآت خطابية وتلاعبات لغوية،الشرق صنعة غربية عن طريق اللغة.............ومن هنا فالحديث عن خطاب محايد هو من قبيل المغالطة ،إذ المركزيات الكبرى وتعزيزا لمكانتها تمرر رسائل من خلال تمثيل الذات تمثيلا متعاليا وتمثيل الآخر تمثيلا منتقصا هزيلا ،فالغرب قبل أن يسيطروا علينا عسكريا وسياسيا تمكنوا منا خطابيا فصاغوا الوعي العام العالمي بما يخدم هذه الصورة النمطية عن الأنا/الآخر ،لكن ما يجب علينا الآن وتصديا لهذه الهيمنة الغربية أن نؤمن بحدود إمكاناتنا وبذواتنا من خلال فتح باب المساءلة والحوار واحترام الاختلاف بما يؤمن عدم المساس بالحريات أو إلى التحجر الذي يضفي إلى نوع من الارتماء على الآخر والذي في نهايته يؤدي إلى إحساسنا بالاغتراب.إن الإسلام بفتحه لباب التحاور إنما مكن من تجاوز هذا المنظور الضيق وفتح العالم على تعددياته المختلفة حيث يتم احترام الآخر بما يكفل التعايش سلميا معه ومن ثمة القضاء على عقدة التعالي والاصطفاء الأيديولوجي حتى تحترم الهويات ويكون التوجه اختياريا .