التبادل المستحيل
كل شيء ينطلق من التبادل المستحيل. إن لايقين العالم هو أنه لا معادل équivalent له أبدًا ولا يمكن مبادلته بشيء. كذلك فإن لايقين الفكر هو أنه لا يمكن مبادلته لا بالحقيقة ولا بالواقع. هل الفكر هو من يُوقع العالم في اللايقين أم العكس؟ هذا أيضًا يُعد جزءًا من اللايقين.
لا يوجد معادلٌ للعالم. وهذا بالضبط تعريفه، أو لا تعريفه. لا معادل، لا آخر، لا تمثُّل، لا مرآة. فأي مرآة ستشكل جزءًا آخر من العالم. لا يوجد مكان للعالم ولآخَره معًا. وبالتالي، من غير الممكن التحقق من العالم – ولهذا السبب، الكلامُ عن "الحقيقة الواقعية"réalité تضليل. فمن تحققٍ ممكنٍ يتحول العالم إلى وهمٍ أساس. وعلى الرغم من إمكان تحقق جهوي ما، يبقى لايقين العالم في مجمله أمرًا لا شك فيه. لا وجود لحساب متكامل للكون – ربما هناك حساب تفاضلي؟ "الكون على الرغم من كونه مجموعات لا تُحصى، إلا أنه هو ذاته ليس مجموعة". (دينيس غيدج، Denis Guedj)
ينسحب هذا على النُّظم كافة. المجال الاقتصادي الذي هو مجال للتبادلات كلها، إذا ما تناولناه بجملته، لا يمكن مبادلته بشيء، فلا وجود على الإطلاق لمعادلٍ فوق اقتصادي للاقتصاد؛ لا شيء لرده إلى عالمٍ آخر. هو نوعًا ما عصيٌّ، غير قابل للحل على الأقل بالنسبة لذكاءٍ كلي. وبالتالي هو أيضًا يقوم على لايقينٍ أساس.
يسعى الاقتصاد لتجاهل ذلك، إلا أن هذا اللاتعين يُدخل في قلب المجال الاقتصادي بالذات تقلُّبَ معادلاته ومسلماته، وفي المآل، يُدخل جنوحَه المضارباتي spéculatif داخل التشابك المجنون لمعاييره وعناصره.
تتأثر المجالات الأخرى (السياسية، الحقوقية، الجمالية) باللاتعادل ذاته، وبالتالي باللامركزية ذاتها. هي حرفيًا لا معنى لها خارج ذاتها ولا يمكن مبادلتها بشيء. السياسةُ مليئة بالعلامات والمعاني، لكنْ لا يمكن النظر إليها من الخارج، ولا شيء يمكنه تبريرها على مستوىً كلي (هكذا أخفقت كافة المحاولات لتأسيس المجال السياسي على مستوىً ميتافيزيقي أو فلسفي). فهي تمتص كل ما يقترب منها وتحوله إلى جوهرها الخاص. لكنها هي ذاتها لا يمكنها التحول أو الانعكاس داخل حقيقة واقعية أعلى يمكن أن تمنحها معنىً.
هنا أيضًا، يُترجم هذا التقابل المستحيل عبر اللاتقريرية المتزايدة لمقولات المجال السياسي ولخطاباته، ولاستراتيجياته ولرهاناته. هكذا نشهد تكاثرًا للمجال السياسي، لظهوره ولخطابه، يتساوى مع وهمه الأساس.
اللايقين كبير حتى في مجال الكائن الحي والمجال البيولوجي حيث تتشعب المخططات البحثية والتجريبية الوراثية إلى ما لا نهاية. وكلما تشعبت أكثر بقي السؤال الحاسم معلقًا: من يدير الحياة؟ من يدير الموت؟ لا يمكن لظاهرة الحياة، أيًا كان تعقيدها، أن تتبادل بغايةٍ ما قصوى. لا نستطيع تصور الحياة وغايتها معًا. وهذا اللايقين يخيم على المجال البيولوجي جاعلًا منه، مع تقدم الاكتشافات أكثر فأكثر، تنظيريًا هو أيضًا، وهذا ليس بسبب عدم قدرته العلمية المؤقتة، وإنما لأنه يقترب من اللايقين النهائي الذي يشكل أفقه المطلق.
في العمق، ليس للنسخ transcription وللمحصلة "الموضوعية" لمنظومة إجمالية ما من معنىً أكثر من معنى تقدير وزن الأرض بملايين مليارات الأطنان، وهو رقم خال من المعنى بما في ذلك في سياق حساب خاص بالمنظومة الأرضية.
الأمر ذاته ينطبق على المستوى الميتافيزيقي: القيم والغايات والأسباب التي نلم بها لا قيمة لها إلا بالنسبة لفكرٍ إنساني مفرط في الإنسانية. فهي غير ذات صلة irrelevant في ما يخص واقعًا آخر أيًا كان (ربما حتى في ما يخص "الحقيقة الواقعية" ذاتها).
مجالُ الواقعي ذاته غير قابل للتبادل مع مجال العلامة. فالعلاقة بينهما شبيهة بتعويم العملة: تصبح العلاقة غير قابلة للتحديد، وتصبح مطابقةُ المجالين رهينة المصادفة أكثر فأكثر. كلاهما يصبح تأمليًا، كلٌ في مجاله الخاص. تصبح الحقيقة الواقعية تقنية وأدائية أكثر فأكثر إذ كل شيء يتحقق بشكل غير مشروط، لكن من دون أن يدل على شيء. وخطابات اللغة الماورائية للواقع (العلوم الإنسانية والاجتماعية، الخطابات التقنية والعملانية) تتطور هي أيضًا وفق نظام لامركزي، تمامًا على شاكلة موضوعها. أما في ما يخص العلامة، فأصبحت تنتمي إلى التصنع والتأمل المحض للعالم الافتراضي، عالمِ الشاشة الكلية حيث يهيمن اللايقين ذاته على الواقعي وعلى "الحقيقة الواقعية الافتراضية"، وذلك فور انفصالهما. كفَّ الواقعي عن استمداد قوته من العلامة، كما كفَّت العلامة عن أخذ قوتها من المعنى.
يستطيع أي نظام أن يخترع لنفسه مبدأه التوازني، التبادلي والقيمي، السببي والغائي، بحيث يدور في فلك تناقضات منتظمة: بين الخير والشر، وبين الصح والخطأ، وبين العلامة ومرجعها، وبين الذات والموضوع – أي، كلِّ فضاء الاختلاف والضبط عبر الاختلاف الذي، مادام يعمل، يؤمن الاستقرار والحركة الجدلية للكل. لا ضير في هذا حتى الآن، لكن عندما تتوقف هذه العلاقة الثنائية القطب عن العمل، وعندما تَقْصر دارة النظام، يولِّد هذا النظام كتلته الحرجة الذاتية ويفتح المجال لانحراف أُسِّي[1] exponentiel
. وعندما تنعدم المنظومة المرجعية الداخلية، وينعدم التقابل "الطبيعي" والغائية التي تنظم عملية التبادل (كما بين الإنتاج والثروة الاجتماعية، وبين الخبر والحدث الواقعي) ندخل هنا في طور أسيٍّ وفي الفوضى التنظيرية. يتلخص وهم المجال الاقتصادي في زعمه تأسيس مبدأ واقعي وعقلاني ناسيًا هذه الحقيقة الواقعية النهائية للتبادل المستحيل. إلا أن هذا المبدأ لا قيمة له إلا داخل مجالٍ متكون بشكل اصطناعي، فخارج هذا المجال ليس ثمة سوى اللايقين الجذري. شبحُ هذا اللايقين المُبعد المقصي هو الذي يسكن النُّظم ويعلل نفسه بوهم الاقتصادي والسياسي... الخ. هذا الإنكار هو الذي يدفع بالنُّظم إلى التضخم وعدم التماسك، ويقودها نوعًا ما إلى إلغاء ذاتها. لأنه من الداخل ذاته، وبسبب مغالاتها الذاتية، تحرق النُّظم مسلماتها وتنهار على قواعدها.
بكلمات أخرى: هل وجد في وقت من الأوقات "اقتصاد" – أي، تنظيمٌ للقيمة يمتلك تماسكًا مستقرًا ووجهةً كلية، يمتلك معنىً؟ على العموم: لا. وهل وجد في وقت من الأوقات "الواقع"؟ فالواقع والقيمة والقانون ليسوا، في هذا العمق السحيق لـ اللايقين، إلا استثناءات، ظواهر استثنائية. الوهم هو القاعدةُ الأساس.
أي شيء يريد التبادل بشيء ما يصطدم في نهاية الأمر بجدار التبادل المستحيل. المحاولات الأكثر تنظيمًا ودقة لإضفاء القيمة على العالم، لإعطائه معنىً، تخفق أمام هذا الحد غير القابل للتجاوز. وما لا يتبادل بشيء يتزايد بشكل مهتاج. النُّظم الأكثر انبناءً لا يمكنها إلا أن تختل بعودة هذا العدم الذي يحوم حولها. هذا لن يحدث في لحظةٍ كارثيةٍ مستقبلية ما، بل إن كل صرح القيمة يتبادل بهذا العدم هنا والآن، على الفور.
الأمر يتجاوز الاعتبارات الفلسفية أو الأخلاقية. فها هنا الصوغ الحقيقي للعدمية المعاصرة - أي عدمية القيمة ذاتها. هي مصيرنا الذي تتأتى منه النتائج الأكثر سعادة والأكثر بؤسًا معًا. هذا الكتاب يريد أولًا كشف النتائج "المفجعة" fatales، ومن ثم كشف النتائج السعيدة والنافعة للتبادل المستحيل من خلال إسقاط جمالي poétique للحالة.
فمن وراء تبادل القيمة، ومن وراء التنظير المجنون الذي يشكل الاقتصاد الافتراضي ذروته، ومن وراء تبادل الوجود، هنالك تبادل للعدم يقوم مقام المقابل غير المرئي نوعًا ما.
الموت، والوهم، والغياب، والسلب، والشر، والقسم المظلم، موجودون في كل مكان كخلفية للتبادلات كافة. إن استمرارية العدم هذه هي التي تؤسس إمكان اللعبة الكبيرة للتبادل. يمكن اختزال جميع الاستراتيجيات الراهنة إلى التالي: تدوير الدَّين، والقرض، والشيء غير الواقعي، وغير القابل للتسمية، بشكل يستحيل الخلاص منه. على هذا النحو فهم نيتشه استراتيجية الإله: باسترداده هو – الدائن الأعظم – لدَيْن الإنسان عبر التضحية بابنه، ألغى إمكان أن يستطيع المدين تسديد الدين، بما أن الدائن قام مسبقًا بذلك، وبالتالي خلق إمكان تداول الدين إلا ما لا نهاية، والذي سيحمله الإنسان كمستقبله الأبدي. هذا هو مكر الإله. لكن هذا أيضًا مكر رأس المال الذي، من ناحية، يُغرق العالم في دينٍ متنامٍ على الدوام، ومن ناحية أخرى يسعى في الوقت نفسه إلى استرداده بدين آخر بحيث يلغي إمكان سداده أو مبادلته بشيءٍ ما. ويصح هذا أيضًا على المجال الواقعي والمجال الافتراضي: فالسريان اللامتناهي للافتراضي يجعل من المستحيل على الواقعي أن يتم مبادلته بشيء.
إنْ حدث وقادنا نسيان وإنكار العدم إلى الاختلال الكارثي للنُّظم، لن يفيدنا أبدًا تفادي هذه السيرورة عبر الإرداف السحري لتصحيح مفاجئ وغير منتظر – كالضبط الذي نراه اليوم في العلوم الفيزيائية والبيولوجية والاقتصادية التي تبتكر فرضيات جديدة على الدوام، وقوىً جديدة، وجزئيات جديدة بهدف سد الثغرات داخل المعادلات. إذا كان غياب العدم هو الذي يُحدث الخلل، يجب إذًا أن يكون هذا العدم هو موضوعنا، وإلا فنحن أمام كارثة داخلية مستمرة.
لكن الظهور المفاجئ لـ اللايقين الجذري في المجالات كافة، ونهاية عالم الحتم المُطَمْئِن، ليسا بالضرورة قدرًا سلبيًا؛ شريطة أن يصبح اللايقين هو قاعدة اللعبة. هذا لا يعني السعي إلى تصحيحه عبر بث قيم جديدة أو يقينيات جديدة، إنما تدويره كقاعدة أساس. الأمر مماثل لما يجري في مجال الإرادة: لا نستطيع تجزئتها إلا من خلال إسقاط (جمالي) في لعبة الآخرية، من دون الزعم بإيجاد حلٍ للسؤالِ حول غايتها أو موضوعها. فلا تتأسس استمرارية الوجود إلا على استمرارية التبادل المتقابل للعدم والوهم، للغياب واللاقيمة.
يصبح اللايقين بهذا المعنى شرط تشاركية الفكر. وعلى نحو مشابهٍ لـ اللايقين في الفيزياء (الناتج عن أن الموضوع أيضًا يحلل الذات بالمقدار نفسه الذي تحلل الذات فيه الموضوع) يَنتج لايقين الفكر من أن الأنا ليست وحدها التي تضع العالم موضع تفكير، فالعالم أيضًا يضع الأنا موضع تفكير.
العدم هو الحقل الوحيد، أو الحقل المضاد، الذي على أساسه ندرك العالم، فهو مصدر كمون غيابِه أو عدمِه، لكنه أيضًا مصدر كمون طاقته (مقارنة مع الفراغ الكوانتي). لا شيء بهذا المعنى يُوجد إلا انطلاقًا من لا شيء.
لا يتوقف العدم عن الوجود منذ اللحظة التي يوجد فيها شيء ما. يستمر اللاشيء بـ (اللا) وجود كخلفية للأشياء. هذا هو "الاستمرار الأبدي للعدم"، بحسب ماسيدونيو فيرنانديز Maccedonio Fernandez. كل ما هو موجود يستمر في الوقت نفسه باللاوجود. هذه النقيضة لا يمكن ملكتنا الذهنية النقدية تخيلها.
من العدم إلى العدم: إنها دورة العدم. إنه فكرُ اللااستمرارية ضد فكرِ الأصل والنهاية، فكرِ التطور والاستمرارية. وحده إضمار النهاية هو الذي يسمح بتصور الاستمرارية، وعلومنا وتقنياتنا عوَّدتنا على رؤية كل شيء من منظور التطور المستمر، الغريب عنا في الحقيقة، والذي هو ليس إلا الشكل اللاهوتي لتفوقنا. بينما الشكل الجوهري هو اللااستمرارية.
وحدها اللااستمرارية هي المحتملة في كل أرجاء الكون. فرضية الانفجار الكوني تمثل نموذجًا مطلقًا لذلك. ألا ينسحب هذا على الكائن الحي، على الحدث événement واللغة؟ مهما كان العبور من شكل إلى آخر متناهيًا في الصغر، فهو يشكل قفزةً على الدوام، كارثة تنتج عنها وعلى حين غرة الأشكال الأكثر غرابة. وها هي الألسُنُ، قريبًا جدًا منا، تشكل أيضًا مثالًا مناسبًا لهذه اللااستمرارية (من دالٍ إلى آخر، من لسان إلى آخر)، تبعًا لتطورٍ اتفاقي إلى حد كبير، من دون أي تقدمٍ مستمر أو فوقية لواحد على حساب الآخر.
بالنسبة للفكر التحليلي، يشكل تطور وتقدم الأشكال الحية الفرضية الوحيدة. إن كان للعالم تاريخٌ، فيمكننا الزعم بالوصول به إلى شرحه النهائي. لكن كما يقول سيوران Cioran "إذا كان للحياة معنىً، فهذا يعني أننا جميعًا فاشلون". هذا يعني أن لا رجاء من فرضية نهائية. فهي تشير إلى عجزنا وتغوص بنا داخل لايقينٍ بائس. ومن ناحية أخرى، إذا صح أن العالم وِلِدَ بلحظةٍ واحدة، فهذا سيعنى أن لاوجود لا لنهاية أو لمعنىً محدد له. نحن بمنأى عن نهايته بفضل اللامعنى هذا الذي يكتسب قوة وهمٍ شعري. صحيح أن العالم يصبح مبهمًا بشكل كامل، إلا أن هذا اللايقين ناجح، كما هو لايقين المظاهر. فالوهم الذي هو بامتياز فن الظهور، وفن الانبثاق من لاشيء، يحمينا من الوجود. وإذ هو فن الغياب، يحمينا من الموت. فالعالم بمنأى عن نهايته بفضل لاتعيٍّنه الشيطاني.
وفق هذه الفرضية الثانية، ظهرت الكتلة الحيوية biomasse بلحظة واحدة، إنها موجودة هنا بشكل كامل منذ اللحظة الأولى، ولا يتناقض التاريخ اللاحق لأشكالها المعقدة مع فرضية الانفجار الكوني للكائن الحي. تمامًا كما بالنسبة للكون، حيث كل شيء هنا منذ اللحظة الأولى، وتمامًا كما بالنسبة للغة عند ليفي شتراوس، الكتلةُ اللغوية logomasse، كتلةُ الدال، تنبثق بلحظة واحدة. لن نضيف إليها شيئًا بما يخص المعلومة الكامنة. فعلى العكس، يوجد منها الكثير، أي إن هناك إفراطٌ في الدال لا يمكن اختزاله على الإطلاق (لنأمل ذلك). وما إن تظهر حتى تصبح غير قابلة للهدم. كذلك الجوهرُ المادي للعالم غيرُ قابل للهدم، أو كذلك أيضًا، وعلى مقربةٍ منا، الكتل السوسيولوجية ذات الظهور المفاجئ اللاعكوس (حتى في الانهيار المحتمل الذي لا يمكن التنبؤ به كما لا يمكن التنبؤ بظهورها).
كلٌ من الكتلة الفلكية والكتلة الحيوية والكتلة اللغوية والاجتماعية والدلالية مقدرٌ له بلا ريب أن ينتهي، لكن ليس بشكل تدرجي: وإنما بشكل مفاجئ، تمامًا كما ظهرت. فعلى شاكلة الثقافات التي ظهرت هي أيضًا بلحظة واحدة، لا يمكن شرح انبثاقها بمفردات تطورية، وتختفي أحيانًا بلا سبب معروف، كما الأنواع الحية.
أمَّا ما يخص عالمنا العقلي، فهو يعمل من دون شك وفق القاعدة الكارثية ذاتها: كل شيء هنا منذ البدء، ولا يتدرج مرة بعد مرة. الأمر شبيه بقاعدة لعبةٍ ما: فكما هي عليه تكون ممتازة، وأيُّ فكرة لتطويرها أو تغييرها عبثية. تنبثق من الفراغ، ولا يمكنها أن تختفي إلا بشكل مفاجئ. هذه الفجائية، هذا الانبثاق انطلاقًا من الفراغ، وهذه اللاأسبقية للأشياء على ذاتها، تستمر بالتأثير في حدث العالم حتى في مجرى صيرورته التاريخية. فالحدث هو القطيعة مع كل سببية سابقة. فحدث اللغة هو ما يجعلها تنبثق من جديد وبشكل إعجازي كل يوم، كشكل ناجز، بعيدًا عن كل دلالات سابقة، وحتى بعيدًا عن معناها الراهن، كما لو أنها لم توجد يومًا. وهذا يلخص فرضية ومفارقة رسل[2] Russel
. في النهاية، على أي حال، نحن نفضل الانطلاقة من العدم، فلها سحر الاعتباطية وغياب الأسباب والتاريخ. ما عاد بإمكان أي شيء أن يسعدنا إلا ما يظهر ويختفي بلحظة واحدة، إلا تسلسل الفارغ وراء تسلسل المليء. الوهم مصنوع من هذا القسم السحري، من هذا الجزء المظلم الذي يخلق نوعًا من القيمة الزائدة المطلقة من خلال إسقاط الأسباب، أو اعوجاج النتائج والأسباب.
اللايقين الأساس هو في مكننة العدم هذه، في آلة العدم الموازية. ووهم تجاوزها ليس سوى خيال ذهني، خيال ينتشر خلف نظم القيم وتمثلات العالم الموضوعي كافة، بما في ذلك السؤال الفلسفي التقليدي: لماذا كان هنالك وجود ولم يكن عدم؟ بينما السؤال الحقيقي هو بالأحرى: لماذا كان هنالك عدم ولم يكن وجود؟
ولكن إن كان الأمر كذلك، أي إذا كان العدم هو مجرى الأشياء جميعها، فأبديته إذًا أكيدة، ولا يفيد بـ "شيء" الانشغال به وبالهيمنة الظاهرة لعالمٍ موضوعي. فمهما يحدث، سيتعرف العدم على أشياءه. لكن العدم ليس بالضبط مجموعة من الظروف، بل ينتج من الوهم المأسوي للظواهر. وهو هدفُ مشروعِ الحقيقة المعدِّ سلفًا، هدف تحقق ووضعنة العالم – مشروع هائل للمعالجة التجانسية للعالم عبر مبدأ الحقيقة الواقعية الوحيد – مُنهيًا هذا الوهم المأسوي، ومنهيًا عبر تماسكٍ حاسمٍ اللاتماسكَ الإلهي للعالم، تماسكٍ لا يتناسب مع غايته الخاصة، ولا يتناسب مع العدم.
لولا وجود هذه "المادة السوداء"، لكان عالمنا قد تبخر منذ زمن طويل. وإذا ما نجحنا بإلغائها، سيكون هذا مصيرنا الأكثر احتمالًا. حيثما سنحذف هذا الفراغ، هذا الكون الموازي والمضاد، هذا الوهم الجذري الذي لا يقبل الاختزال إلى معطيات المجال الواقعي والمجال العقلاني، ستقع كارثة الواقعي بشكل فوري. لأن المادة في ذاتها خديعة، والعالم المادي لا يتماسك إلا من خلال الكتلة الناقصة التي سيكون غيابها في هذه الحالة مفجعًا. الواقعي المطهّر من الواقعي المضاد يصبح واقعًا مفرطًا، أكثر واقعية من الواقعي، ويتلاشى في التصنُّع. المادة المطهَّرة من المادة المضادة منذورة إلى الأنتروبية entropie. بحذف الفراغ، تصبح المادة محكومة بالانهيار الجاذبي. والذات المتحررة من كل آخرية تنهار على ذاتها وتهلك في التوحُّد. إلغاءُ اللاإنساني يحمل الإنساني على السقوط في الكريه والمضحك (هذا هو كل زعم وغرور أصحاب النزعة الإنسانية).
في قصة إيشي Ishi مثل جميلٌ جدًا عن هذه الحالة. إيشي هو الهندي الأخير في قبيلته نُقل إلى سان فرانسيسكو. دُهش إيشي من مشهد هذا الحشد الكبير الذي رآه هناك، فافترض أن كل الأموات من الأجيال السابقة كافة موجودة هنا بين الأحياء. هكذا، يجنبنا الأموات أن نكون حاضرين مع بعضنا بعضًا. إن ألغينا الأموات، يصبح الأحياء غريبين عن بعضهم بعضًا من كثرة الاختلاط. هذا ما يحدث في حالتنا مع الاكتظاظ السكاني المديني، وكثرة الأخبار، وزيادة التواصل: الفضاء مخنوق بهذا الإفراط في الحضور. إنها فوضى لا وجود فيها إلا للأموات/الأحياء.
ومع ذلك يبقى السؤال: لماذا نريد مطاردة الفراغ بأي ثمن، مطاردة الغياب والموت؟ لماذا الرغبة في طرد المادة السوداء، وفي جعل كل شيء مرئي، وفي تحقيق كل شيء والتعبير بالقوة عن ما لا يريد ذلك؟ في النبش عنوةً عمَّا يحفظ استمرارية العدم والسر؟ لماذا إرادة الشفافية المميتة هذه، الهوية والوجود بأي ثمن؟ سؤال عصي على الحل. لكن ربما يكون لهذه الحركة باتجاه استنفاد كل سر مآلٌ خفي؟
قديمًا، كان الإله محرك الخير من خلال الخلق والطبيعة وهو في تعاليه رباني. ولأن الإله خير بشكل طبيعي والإنسان كذلك بالضرورة، في نسخته الحديثة والروسُّويَّة rousseauiste، لم يكن علينا تبديل العالم لجعله أكثر إيجابية، فالشر لم يكن إلا عرضًا.
لم يصبح العالم عبئًا علينا إلا بعد موت الإله، إذ لم يعد بالإمكان تبريره في عالمٍ آخر بل يجب تبريره بذاته. إن إنجاز المعادل لمملكة الإله يعني تحايث عالمٍ وضعي بشكل كامل (وليس تعالٍ لعالمٍ مثالي)، الأمر الذي سيعتبره اللاهوتيون هرطقة كاملة. تُعتبر مملكة الخير محاولة شيطانية لأنها تعني تعبيد الطريق نحو الشر المطلق. إذا استأثر الخير بحكم هذا العالم، سيتأثر الشر بحكم العالم الآخر. لا يمكننا الإفلات من انقلاب القيم، وسيصبح العالم حقلٌ لانبثاثات موت الإله.
شرح آخر لبليتنا: أُعطي العالم لنا، ويجب أن يكون بإمكاننا رد ما أعطي لنا. قديمًا، كان بإمكاننا الرد على العطية بوساطة الأضحية. من الآن فصاعدًا، لم يعد أمامنا أحدٌ نردها إليه. وإذ لم نعد نستطيع إعطاء شيء بالمقابل عن هذا العالم، يصبح هذا الأخير غير مقبول.
سيترتب علينا إذًا تصفية العالم المعطى، أي هدمه بمبادلته بعالم صنعي يكون مبنيًّا من كافة جوانبه، بحيث لن يترتب علينا أي حساب نرده لأحدٍ ما. هنا نفهم المشروع التقني الهائل لإلغاء العالم الطبيعي في أشكاله كلها. كل ما هو طبيعي سيُلغى بأكمله باسم هذه القاعدة الرمزية للرد أو التبادل المستحيل.
إلا أنه سيتحتم علينا، تبعًا لهذه القاعدة الرمزية ذاتها، إيفاء هذا الخلق الصنعي حقه، أي تخليصه من هذا الدَّين الجديد إزاء أنفسنا. كيف يمكننا الصفح عن أنفسنا من هذا العالم التقني ومن هذه القدرة الكلية الصنعية؟ أليس عبر الهدم، أي الإخلال بالتوازن الممكن الوحيد لهذه الحالة الجديدة، عبر الحدث المفاجئ الوحيد الذي لن يكون لزامًا علينا رده؟
هكذا، تجتمع كل نظمنا في جهدٍ يائس للهرب من اللايقين الجذري، والإفلات من هذه القدرية للتبادل المستحيل. تبادل السوق، وتبادل الدلالة، والتبادل الجنسي، كل شيء يجب مبادلته. كما يجب إيجاد المعادل النهائي لكافة الأشياء، ومعنىً وغاية لها. عندما نمسك بهذه الغاية والصيغة، عندما نمسك بالمآل، نبرئ ذمتنا من العالم، وكل شيء سيسترد. الدين سيدفع واللايقين الجذري سينتهي. حتى الآن أخفقت كل النُّظم في ذلك. النُّظم السحرية والميتافيزيقية والدينية التي أثبتت في القديم ثباتها، وقعت في البطلان. لكن، يبدو هذه المرة أننا نمسك تمامًا بالحل النهائي، بالمعادل النهائي: الحقيقة الواقعية الافتراضية في أشكالها كافة – المجال الرقمي، المعلومة، احتساب الزمن، الاستنساخ. باختصار، صنعٌ artefacte كامل، افتراضي وتكنولوجي، بحيث يمكن أن تتم مبادلة العالم بنسخته الصنعية. هو حل أكثر جذرية من جميع الحلول الأخرى، لأنه لن يترتب على العالم التبادل بتعالٍ ما أو بغائيةٍ آتية من مكان آخر، وإنما بنسخة أكثر "صدقًا" بكثير من السابقة، وأكثر واقعية بكثير من العالم الواقعي – وبالتالي، هذا الحل يضع حدًا لمسألة الحقيقة الواقعية والتردد في إعطائها معنىً ما. فالحل هو كتابةٌ آلية للعالم في ظل غياب العالم، تعادلٌ كلي، وشاشة كلية، وحلٌ نهائي، وراحة مطلقة للشبكة كعش حيث يصبح من السهل الاختفاء. الإنترنت يجعلني موضع تفكير، والمجال الافتراضي يجعلني موضع تفكير، وتتوه نسخة عني على طول الشبكات، المكان الذي لن ألاقيها فيه من جديد على الإطلاق. فهذا الكون الموازي منفصل تمامًا عن العالم الحقيقي. هو يشكل نَسْخًا صنعيًا له، ارتدادًا كاملا عنه، لكنه ليس انعكاسًا له. المجال الافتراضي ليس واقعيًا بالقوة كما كانت الحالة عليه قديمًا. لم يعد له مرجعية، إنه مداريٌ orbital وجاحظ، وليس من أهدافه فصل العالم الواقعي. فلأنه استغرق الواقع الأصلي، يُنتِج العالمَ بوصفه غير قابل للتقرير.
ولكن، أليس هذا العالم الموازي الذي يعيش من اختفاء العالم الآخر محكوم هو أيضًا بالزوال، ثمَّ، ألا يقع في قبضة غير القابل للتقرير؟ قد لا يكون هذا العالم إلا استطالة للعالم الآخر الذي يسعى إلى مضاعفة نفسه، لكنه كيف سيستمر بالوجود كما هو، ونحن لا نقوم إلا بالتباهي بالمجال الافتراضي؟ تمامًا كما الحال مع العوالم الماورائية الدينية، حيث كنا نتباهى بالتعالي – هذه المرة نتباهى بالأحرى بالتحايث وبالقدرة العملياتية opérationnelle، نتباهى بالفكر الوحيد والكتابة الآلية للعالم. وبالتالي هنا أيضًا بنظام محكوم بالفشل، بمشهد خارق للطبيعة غير قادر على الالتفاف على اللايقين والاختلال الناتج عن التبادل المستحيل.
لا يوجد في أنثروبولوجيتنا العامة معنىً إلا للإنساني. لا يوجد معنى للتاريخ إلا عندما يندرج داخل تطور أو غائية عقلانية. لا يوجد سبب للتاريخ أو للعقل إلا داخل هذه التطورية المنتصرة. نريد أن نقدِّر الحياة بمعناها، والعالم بالمجال الإنساني، والحدث بالتاريخ، والفكر بالواقع، والعلامة بالشيء، الخ. وذلك بدلًا من أن نقدِّر أنفسنا بالعالم، وبالحدث، وبالفكر...
نتجه في كل مكان نحو إلغاء المجال اللاإنساني، نحو نزعة أنثروبولوجية محافظة تهدف لإخضاع كل شيء لسلطة الإنساني. إنَّ مشروع تعميم النوع الإنساني على الحيوانات والطبيعة وعلى الأنواع الأخرى كافة في عصر حقوق الإنسان وعصر أنثربولوجيا أخلاقية وإيكولوجيا كونية، ليس إلا رأس حربة لإلحاق المجال اللاإنساني بالفكر الوحيد للإنساني. وجهةٌ كوكبية لإبادة اللاإنساني في كل أشكاله، وجهةٌ محافظة لتدجين كل حقيقة غريبة، تحولٌ متطرف لإمبريالية نتخلى من خلالها عن كل فكر لـ الإنساني بما هو كذلك، وهنا المفارقة الساخرة والانتقامية. فلا يمكن هذا الفكر أن يأتينا إلا من خلال المجال اللاإنساني. لا يمكن أن يكون لدينا رؤية لأنفسنا وللعالم إلا انطلاقًا من تبدُّل altération جذري لوجهة نظرنا، ليس للوقوع في عالم اللامعنى وإنما لاستعادة قدرة العالم وأصالته قبل أن يكتسي قوة المعنى ويصبح في الوقت نفسه مكانًا لكافة القوى.
وعلى الفكر ذاته أن يشارك في هذه السيرورة. عليه القيام بقفزة، بتحول، بصعود. ليس الهدف من ذلك وضع النظام في تناقض مع ذاته (نعلم أنه يتجدد داخل دوامة التناقض هذه)، لكن من أجل زعزعة استقراره عبر تغلغل فكر ذو طبيعة فيروسية، أي لاإنساني؛ فكرٍ يمكن اللإنساني أن يتناوله بالتفكير.
وعلى نحو أعمق، أليس الفكر أحد أشكال اللاإنساني؛ خللٌ وظيفي تَرِفٌ يخالف تطور الحي بأكمله بإعادته إلى ذاته وبالتشكيك بصورته الخاصة؟ أليس النموُّ العصبي للدماغ مرحلة خطرة إزاء التطور والنوع؟ لماذا إذًا لا نسرِّع بالسيرورة ونستبق تسلسلات وأشكال أخرى لمصيرٍ موضوعي لا نملك عنه أدنى فكرة؟
هذا الإقصاء للاإنساني سينتهي بنا إلى أن نكون موضوع تفكير له. لا نستطيع الإمساك بالعالم إلا انطلاقًا من نقطة نهائية خارج المجال الإنساني، انطلاقًا من موضوعات وفرضيات تلعب دور الجاذب الغريب. لقد اصطدم الفكر قديمًا بهذا النموذج من المواضيع على تخوم اللاإنساني – من خلال الصدمة مع المجتمعات البدائية، على سبيل المثال. لكنْ علينا أن ننظر اليوم إلى أبعد من هذا الفكر النقدي الوليد للإنسانوية الغربية نحو موضوعات أكثر غرابة من ذلك حاملةٍ لـلايقينٍ جذري، موضوعاتٍ لا نستطيع فرض منظوراتنا عليها.
إن لقاء الفكر ليس لقاء مع الحقيقة، وإنما مع تواطؤٍ مع الموضوع وقاعدة لعبة يكف الفكر فيها عن كونه سيدًا.
هل لهذه الفرضيات كافة التي صغناها هنا معادلٌ، هل لها قيمة تداولية أو تبادلية؟ على الإطلاق، فتبادلها مستحيل. إنها لا يمكن إلا أن تلامس نقص العالم، ولا يمكن الفكر إلا أن يلغي ذاته في الموضوع الذي بدوره يجعله موضوع تفكير. بهذه الطريقة يفلت الفكر من الحقيقة. لكن يجب عليه الإفلات من الحقيقة، فهذا أقل ما يمكن. وللإفلات من الحقيقة لا يجب على الخصوص الوثوق بالذات، بل يجب الوثوق بالموضوع وبجاذبيته الغريبة، الوثوق بالعالم وبلايقينه الحاسم.
يكمن لب المشكلة في التخلي عن فكر نقدي يشكل جوهر ثقافتنا النظرية، وينتمي إلى تاريخ وحياة سابقين.
إن العالم الاصطلاحي للذات والموضوع، وللغاية والوسيلة، وللصح والخطأ، وللخير والشر، لا يتطابق مع حالة عالمنا الراهنة. فالأبعاد "الطبيعية" normales، كأبعاد الزمان والمكان والتحديد والتمثُّل وبالتالي أيضًا الفكر النقدي والتأملي، خادعة. العالم الخطابي للمجال النفسي والسوسيولوجي والأيديولوجي المحيط بنا هو فخٌّ. فهو مازال يعمل داخل مجالٍ إقليدي. ليس لدينا أي حدسٍ نظري لهذا العالم الذي أصبح كوانتيًا من دون علمنا – كما أننا لا نملك إلا وعيًا نظريًا ضئيلًا بنسق التصنع الذي انقلب إليه عالمنا الحديث منذ فترة طويلة من دون علم منَّا، نحن الذين بقينا مخلصين بشكل أعمى لفكرة الحقيقة الواقعية الموضوعية. يمكنني القول إن النفاق الحقيقي لعصرنا هو في هذا التشاؤم وفي هذه الهيستيريا المتعلقة بـ"الواقعي" وبمبدأ الحقيقة الواقعية.
قمنا بتحليل حتمي لمجتمع حتمي. يتعين علينا اليوم القيام بتحليل غير حتمي لمجتمع غير حتمي، مجتمع كُسوري الأجزاء fractales اتفاقي وأسِّي، مجتمعِ الكتلة المادية الانشطارية والظواهر المتطرفة، مجتمعٍ محكوم بكامله بعلاقة اللايقين.
كل شيء في هذا المجتمع يقع في قبضة العلاقة اللايقينية. وبالتالي، لا يمكن تناوله بمصطلحات التعيين الاجتماعي، حتى وإن كان ذلك بمصطلحات نقدية. افترضت الأزمة دومًا جعبة من التوترات والتناقضات، إنها الحركة الطبيعية لتاريخنا. لكننا لم نعد في أزمة، بل نمضي في سيرورة كارثية، ليس بمعنى نهايةٍ مادية للعالم، لكن بمعنى الخلل في كل ضوابط اللعبة. الكارثة تعني انفجار شيء ما يكف عن العمل وفق الضوابط المتبعة، أو يعمل وفق ضوابط لا نعرفها وربما لن نعرفها على الإطلاق. لا وجود لشيء حينها متناقض ببساطة أو غير عقلاني، كل شيء له طابع المفارقة paradoxal. الانتقال إلى ما وراء النهاية، أي إلى الإفراط في الحقيقة الواقعية وفي الوضعية positivité، إلى الإفراط في الحوادث وفي الخبر يعني الدخول في حالة مفارقة لا يمكن الاكتفاء معها بإعادة تأهيل القيم التقليدية، بل تتطلب هي أيضا فكرًا مفارقًا لا يخضع إلى مبدأ الحقيقة، ويتقبل حتى استحالة التحقق منه.
لقد اجتزنا نقطة اللاعودة التي تتطور وراءها الأشياء وفق منحنى آخر. لم يعد المجرى الخطي ممكنًا. كل شيء ملقى في شواش يجعل من مسألة السيطرة مستحيلة – بما في ذلك السيطرة على الزمان. فالتزامن العالمي للخبر، هذه الشفافية لكافة الأمكنة المجمّعة في لحظة واحدة ليست بعيدة الشبه مع جريمة كاملة اقترفت في حق الزمان.
إن مبدأ اللايقين، الذي يعني استحالة حساب سرعة جزيء وموضعه في الوقت نفسه، لا ينحصر في الفيزياء. فالأمر ذاته في ما يخص استحالة تقدير واقعيةِ الحدث ودلالته معًا في الخبر، واستحالة التمييز بين الأسباب والنتائج في سيرورة معقدة كهذه؛ الإرهابي والرهينة (في متلازمة ستوكهولم syndrome de Stockholm
[3])، والفيروس والخلية (في علم الأمراض الفيروسية)، تمامًا كاستحالة الفصل بين الذات والموضوع في التجريب الفيزيائي المجهري. يقف كل فعل من أفعالنا في الطور غير المنتظم الذي يقف فيه الجزيء المجهري: لا يمكننا تقدير الغاية والوسيلة معًا. لم يعد بإمكاننا حساب ثمن حياة إنسانية ما وقيمتها الإحصائية معًا. توغلَ اللايقين في جميع مجالات الحياة. وهذا ليس وفقًا لتعقد العوامل paramètres
(التي يمكننا بلوغ نهايتها مهما تعقدت)، ولكن وفقًا للايقينٍ حاسم مرتبط بالخاصية التنافرية للمعطيات الحاضرة. إذًا، لم يعد بإمكاننا الإمساك بنشأة الحدث وفرادته في الوقت نفسه، وبظاهر الأشياء ومعناها. واحد من اثنين: إما أن نتحكم بالمعنى فتفلت منَّا الظواهر، أو ننقذ الظواهر فيتفلت المعنى. فمن خلال لعبة المظاهر ذاتها تبتعد الأشياء عن معناها أكثر فأكثر، وتقاوم عنف التأويل. على كلِّ حال، إننا نعيش الواقع ضمن نسق التعيين العقلاني كما لو أننا نعيش في حالة استثنائية، في رباط مزدوج لا مخرج منه: إخلاص مزدوج وواجب مزدوج. نحن نعيش في عالم نيوتوني، لكن العالم قائم على معادلات غير حتمية. هل هو تباين غير قابل للحل؟ الأمر ذاته في الفيزياء الاجتماعية وفيزياء الطبيعة، حيث ما تزال الظواهر العيانية macroscopique تستجيب للتحليل الحتمي، أما الأمر فيختلف تمامًا مع الظواهر المجهرية microscopique. صحيح أننا لا نرى على مستوى السيرورات الفيزيائية تناقضات صارخة، فما زلنا نعيش تمامًا في عالم نيوتوني، لكنْ في العالم الاجتماعي والتاريخي والعلائقي، الاعوجاجُ السلوكي والتحليلي ظاهر وجلي. ما زال قسم بأكمله من العمل الاجتماعي يتناسب مع تحليل حتمي، ومع سوسيولوجيا "واقعية" ( أكانت ماركسية أو أمبيريقية أو سلوكية أو إحصائية)، وتتطور تحليلاتنا بنسبة كبيرة في مجال "الواقعي" هذا. لكنْ، تزامنًا مع هذا القسم، يوجد نموذج آخر من العمل، احتماليٌ نسبوي اتفاقي، يسود ويأوي إليه القسم الأول بسريَّة. وداخل هذا الفضاء الاجتماعي غير المستقطب dépolarisé (هل مازال اجتماعيًا، هل مازال تاريخيًا؟) لم يعد التحليل التقليدي ممكنًا، والحلول المُعدة على هذا المستوى تُخفق على وقع لايقينٍ إجمالي، تمامًا كما تخفق الحسابات التقليدية في الفيزياء الكوانتية.
انتهت الحتمية الاجتماعية: التسارع يجعل من كافة المواقع غير محتملة. في حقل إقصائي، لا يمكننا حساب الموقع الراهن لفرد و سرعة إقصاءه معًا. لا يمكننا انطلاقًا من نموذج عمل ما أو نظام عيني ما (أو سهم في بورصة) حسابُ القيمة الواقعية وسرعة هبوط القيمة معًا. ومن فئاتٍ مجتمعية برمتها، لا يمكننا حساب الترقية والإبعاد الاحتمالي معًا (تتصاحب ترقية النساء مصادفةً بإبعادٍ متعاظم للمهنة يُلغي الفائدة الاجتماعية للترقية). ولا نستطيع، انطلاقًا من العلامات، حساب المعنى وفقدان القيمة بمرور الزمن obsolescence. ومن كافة الأشياء على العموم لا نستطيع حساب الأثر الفوري والديمومة. هكذا هو اللاتعيُّن في المجال الاجتماعي.
حتى الآن فضلنا بشكل واسع تحليل الأشكال التاريخية المحددة وفق تعارضات واضحة: رأس المال والعمل. لكن اليوم مجال العمل أصبح عائمًا، والمفهوم ذاته فقد تعريفه. اجتزنا "النقطة العمياء" للاجتماعي – كما يقول كانيتي Canetti
عن التاريخ، وانتقلنا بشكل غير محسوس إلى ما وراء رأس المال والعمل، وتضادهما الديناميكي. تجتاز الآلة الاجتماعية من الآن فصاعدًا دورة إجمالية، أو بالأحرى شريط موبيوس[4] un anneau de Moebius
، والفاعلون هم دائمًا وفي الوقت نفسه على طرفي العقد. مصطلح "الصدع الاجتماعي" ذاته ما هو إلا محاولة لإعادة تأهيل الشروط القديمة الموضوعية لرأس المال والعمل. تمامًا، كما كانت الحال مع طوباويي القرن التاسع عشر الذين كانوا يحاولون في خضم النهضة الصناعية إعادة إحياء القيم المرتبطة بالأرض والصنَّاع، نحاول نحن اليوم في خضم العالم المعلوماتي والافتراضي إعادة إحياء العلاقات والصراعات الاجتماعية المرتبطة بالعصر الصناعي. إنها الطوباوية ذاتها والوهم ذاته. فليذهب هذا العصر الذهبي لعلاقات القوة وللتناقضات الديالكتيكية في مهب الريح. حتى تحليل ماركس يندرج ضمن تبسيطية حتمية للصراعات والتاريخ، لكنه كان مرتبطًا بحركة صاعدة، وبإمكان سلبٍ محدد: المجال الاجتماعي، كما البروليتاريا، كانت مفاهيم مصنوعة بحيث تُلغي وتتجاوز ذاتها. هذا يختلف جذريًا عن الرمزية الوضعوية للاجتماعي وللعمل في سياقنا الراهن. ما فُقِدَ في اجتماعيتنا "المابين تفاعلية" هو تمامًا عمل السالب وإمكان سلبٍ محدد للشروط الموضوعية. انتهت "الشروط الموضوعية". وعلى نحو أعم، لم تعد افتراضية المعلومة تفسح المجال لإمكان سلب محدد للحقيقة الواقعية. انتهت الواقعية "الموضوعية". حري بنا إدراك ذلك بدلًا من الحلم بحالةٍ ميتة. لم نعد في السالب ولا في التاريخ. نحن نعيش داخل شكل من نزع الحيوية عن روابط القوة والروابط الاجتماعية لمصلحة واجهة افتراضية وأدائية جماعية متغلغلة، وذلك على ملتقى كافة التدفقات المضارباتية؛ تدفقِ الوظيفة ورؤوس الأموال وتدفقِ المعلومة. لكن يجب تناول هذه المسألة كوضع جديد، وإذا أصبح التاريخ ألعوبة، حسب تعبير ماركس، ربما تصبح هذه الألعوبة، بحدوثها مرة أخرى، تاريخنا.
نحن أمام مراجعة مؤلمة لمبدأ الواقعية، ومراجعةٍ مؤلمة لمبدأ المعرفة. يفترض هذا الأخير فعليًا ديالكتيكية الذات والموضوع التي تكون فيها الذات سيدًا بما أنها هي التي اخترعت الموضوع.
إلا أنه يكفي لقواعد اللعبة أن تتغير، وأن نكف عن كوننا أسياد المبادئ وأن يمتنع الموضوع عن الانكشاف وفق المصطلحات التي تُدرجها الذات فيه، يكفي ذلك لكي تصبح الذات مستحيلة ميتافيزيقيًا. هذه الاستحالة ليست ميتافيزيقية فحسب، فمنذ الآن، تصبح العلوم غير قادرة على إعطاء موضوعها وضعًا قانونيًا قطعيًا.
لم يعد الموضوع كما كان عليه سابقًا، فهو يتملص في المجالات كافة. لم يعد يظهر إلا على شكل آثار لحظية على شاشات الإنتاج الافتراضي virtualization. لا تستطيع العلوم الأكثر تقدمًا وفي أقصى خبرتها إلا أن تلحظ اختفاءه. ألا يتعلق الأمر هنا بثأر تهكمي للموضوع، بإستراتيجية رادعة تهزأ من بروتوكولات التجريب، مُفقدةً الذات عينها موقعها كذات؟
في العمق، لم يتوقف العلم عن فبركة سيناريوهات مطمئنة تَعِدُ بفك رموز العالم عبر الخطوات التقدمية للعقل. لقد "اكتشفنا" العالم ضمن هذه الفرضية، واكتشفنا الذرات والجزيئيات والجُسيمات والفيروسات، الخ. لكن الفرضية لم تُصَغْ أبدًا بحيث تكتشفنا الأشياء في الوقت الذي نكتشفها فيه، أي، بحيث يكون الاكتشاف علاقة ثنائية. هذا لأننا لا ندرك الموضوع في أصليته. نراه ساكنًا في انتظار اكتشافه، على غرار الإسبان والقارة الأميركية. غير أن الوضع مختلف هنا. عندما تكتشف الذاتُ الموضوعَ – أيًا كان، فيروسًا أو مجتمعات بدائية – يحدث اكتشافٌ مقابل، غير بريء على الإطلاق، للذات عبر الموضوع. جرت العادة اليوم على القول إن العلوم لم تعد "تكتشف" موضوعها وإنما "تخترعه". ربما يجب القول إن الموضوع يقوم أيضًا بأكثر من "اكتشافنا"، أي "يخترعنا"، وبكل بساطة يجعلنا موضوع تفكيره. يبدو أننا اقتلعنا بزهو الموضوع من سباته ومن لامبالاته ومن السر حيث كان مدفونًا. لكنِ اليوم وأمام أعيننا يستيقظ لغز العالم مصمِّمًا على الصراع كي يصون سره. المعرفة ثنائية، وهذه الثنائية بين الذات والموضوع تؤدي إلى فقدان الذات لسيادتها على نحوٍ يجعل من الموضوع ذاته أفق زوالها.
يبدو على كل حال أن الحقيقة الواقعية غير المبالية بأي حقيقة، تهزأ كليًا من المعرفة التي يمكننا استخلاصها من ملاحظتها وتحليلها. فهي تنصاع بلينٍ وإفراط لكل الفرضيات وتحقِّقُها بشكل متساوٍ. كل هذا ليس بالنسبة لها إلا اعتقالٌ تقني arraisonnement (بالمعنى الذي استخدمه فيها هيدجر) سطحي ومؤقت. أصبحت الحقيقة الواقعية ذاتها متصنّعة، وتحيلنا إلى لامعقوليتها الأساس التي ليس فيها أي نوع من الباطنية، وإنما هي بالأحرى من نوع تهكمي. ما أن تصل إلى طور الذروة paroxystique (تمامًا، ما قبل النهاية كما يدل اسمه على ذلك) تنقلب من ذاتها إلى الطور الهزلي– التهكم والهزلية هما الوميض الأخير الذي تبعثه الحقيقة الواقعية قبل اختفاءها، العلامةُ الأخيرة الذي يبعثها الموضوع من أعماق سره.
يريد الفكر النقدي لنفسه أن يكون مرآة العالم، إلا أن العالم لا يعرف طور المرآة. على الفكر إذًا أن يتجاوز هذا الطور النقدي نحو طور لاحق للموضوع الذي يجعلنا موضوع تفكيره. هذا الفكر/الموضوع ليس تفكّريًا réflexive
، وإنما عكوس [/font