الحياة في عالم كمومي
لماذا معرفتي محدودة؟ ولماذا حجمي محدود؟ ما هو السبب الذي كان لدى الطبيعة لكي تجعلني بهذا الحجم، ولتختار هذا الرقم دون سواه، ضمن اللانهاية من الحجوم والأرقام التي ليس ثمة فيها سبب يجعلها تختار هذا دون ذاك؟
باسكال، أفكار.
ثمة تعارض يسكن اليوم عالم الفيزياء الحديثة ويثقل على تطورها كما وعلى تعليمها وفهمها. ذلك أن ما نسميه فيزياء الحياة اليومية، أي على المستوى الجهاري، هو في العمق أكثر تعقيدًا بكثير من العالم الصغائري ومن العالم ما فوق الجهاري. فالذرة والنجم النيوتروني وحتى الكون نفسه هي كينونات أكثر بساطة ربما من قطرة ماء أو كسرة زجاج أو كأس من الرمل. كذلك، فليس من السهل أبدًا إدراج مفاهيم الفيزياء من أجل تفسير الظاهرات الأكثر عادية بالنسبة لنا بشكل تام ومقنع. مع ذلك، وكما سوف نرى، فإن أفكارًا أساسية في الفيزياء، تتعلق بالطبيعة العميقة للأشياء، يمكن أن يتم التعبير عنها بطريقة بسيطة بحيث توضح لنا جوانب أساسية من العالم على مستوانا.
لنأخذ على سبيل المثال السؤال التالي: "ما الذي يحدد حجم الكائن الإنساني؟ أو بشكل أعم حجم الكائنات على كوكبنا (أو على كوكب آخر)؟" وعلى عكس ما يمكن أن نعتقد، فإن البيولوجيا التي هي بالتعريف علم فهم الطبيعة ووظيفة المتعضيات الحية، لا تلعب أي دور أساسي في تقديم الإجابة. بل إن أفكارًا فيزيائية عامة جدًا ستكون كافية لتحديد مستوى حجم الكائنات أو تحديدًا القياس الأعظمي للكائنات الحية على الأرض. ودون الدخول في تفاصيل دراسات كثيرة إنما بسيطة نسبيًا وغير معقدة[1]، يمكن استخلاص حجم الكائنات فعلاً من قياسات فيزيائية، قياسات تناسب المتوسط الهندسي بين الأطوال الذرية والكوكبية. بعبارة أخرى، يقع الإنسان في حجمه بما يتناسب مع حجم الذرات المكون منها وحجم الكوكب الذي يعيش عليه. إن هذا الحجم يقع بين لانهايتين، حيث يكون تطوره جامعًا لعالمين لامتناهيين في صورة عالم جهاري. ترى، هل عالمنا المألوف يظل حقيقيًا وموضوعيًا وسط هذا الاتصال العميق مع عوالم الكبير والصغير؟ وماذا لو كانت قوانين العالم الجهاري لا ترتكز، وكذلك حجمنا، على ظاهرات بيولوجية أو فيزيائية كلاسيكية بل تتأسس في الجوهر على مبادئ عوالم غريبة وغير مألوفة أقل ما توصف به بأنها كمومية؟ قد يكون من الغريب جدًا أن نستطيع الحصول على نتائج تخص حجم الكائن الحي دون اللجوء إلى الفيزياء الكمومية التي تحكم الظاهرات الذرية التي ترتكز عليها بنانا. وفي الحقيقة فإن الجواب ببساطة هو أن الأفكار الكمومية ماثلة وليست غائبة في الدراسات التي اعتمد عليها العلماء، لكنها مبطنة في قلب الحجج نفسها. لأنه عند الحديث عن المستوى الذري فإن النظرية الكمومية هي التي تحدد مستوى هذا العالم حجمًا وطاقة. بل وهذه النظرية هي التي تلعب الدور الأعمق فيما يتعلق بالقوى الأساسية التي تحكم جمع الذرات[2]. ولكن ألا توجد حدود بين العالمين الكمومي والذري؟ في كتب الفيزياء، تصف النظرية الكمومية الجسيمات والذرات والجزيئات، وباختصار العالم الصغائري، لكنها تترك المجال للفيزياء الكلاسيكية عند الحديث عن سقوط تفاحة أو عن الأشخاص والكواكب. فلا بد بالتالي أنه توجد في موضع ما بين الجزيئات والتفاحة مثلاً حدود تنتهي عندها الغرابة الكمومية وتبدأ السمة المألوفة للسلوك الذي تصفه الفيزياء الكلاسيكية. إن الفكرة السائدة بأن الفيزياء الكمومية قاصرة أو محدودة بالعالم الذري وما تحت الذري هي فكرة شائعة بين عموم الناس. لكن هذا التقسيم للعالم الفيزيائي ليس سوى خرافة. فقلة من الفيزيائيين ينسبون اليوم للفيزياء الكلاسيكية الأهمية نفسها التي للفيزياء الكمومية. وفي نظرهم فإن الفيزياء الكلاسيكية ليست سوى مقاربة ضرورية في عالم هو عالم كمومي على كافة المستويات. إن تمييز الظاهرات الكمومية على مستوانا الجهاري لا يكمن في الحجم أو الكبر الذاتي للمنظومات، إنما في الطريقة التي تتفاعل هذه المنظومات فيما بينها. لقد ضاعف الفيزيائيون منذ نحو عشر سنوات التجارب التي تظهر فيها الآثار الكمومية على المستوى الجهاري، بحيث بات من الواضح أن هذه الظاهرات ترافقنا في حياتنا اليومية الجهارية أكثر بكثير مما كنا نظن. بل وتكشف أبحاث حديثة أن هذه الظاهرات يمكن أن تلعب دورًا هامًا وأساسيًا على مستوى خلايانا. لا بل إن المختصين أنفسهم في مجال الفيزياء الكمومية بدأوا يعيدون النظر فيما تقوله الفيزياء الكمومية حول الطبيعة. إن السلوكات الكمومية تتجاوز كل ما نعتبره حسًا سليمًا: وهي تجبرنا على إعادة النظر برؤيتنا للكون وعلى تبني وجهة نظر أو رؤيا جديدة غير مألوفة للطبيعة من حولنا، على أكثر من مستوى.
قطة ميتة/حية
تدرس الجسيمات في الكتب المدرسية كحالات كمومية عندما تكون معزولة ومفردة، أما عندما تكون كثيرة العدد فإنها تصبح حالة كلاسيكية من الفيزياء الإحصائية. إن هذه النظرة خاطئة كما يشير الفيزيائيون الكموميون، وتعود بوادر هذه الرؤية إلى إحدى أشهر التجارب العقلية في عالم الفيزياء، أي تجربة قطة شرودنغر.
ففي عام 1935، تخيل النمساوي إرفين شرودنغر تجربة عقلية تبين الارتباط الجوهري بين العالمين الدقيق والجهاري بحيث لا يمكن فصلهما بحاجز أو حد واضحين. وضمن سيناريو التجربة يتم الإغلاق على قطة في حجرة تحتوي على زجاجة من غاز مميت وعلى عداد للإشعاع وعلى ذرة مشعة. فإذا كشف العداد عن وجود إشعاع في الغرفة فإنه يطلق آلية ميكانيكية تكسر زجاجة السم وتقتل القطة في الحال. إن العداد هو جهاز جهاري لا يستطيع أن يقيس سوى إحدى حالتين محتملتين للذرة: "متحللة" أو "غير متحللة". ولكن، في العالم الكمومي، يمكن للذرة أن توجد في حالة تجمع بين الحالتين معًا، التحلل وعدم التحلل. وهذا ما يسمى في الميكانيك الكمومي بالحالة التراكبية. وهكذا، إذا كانت الذرة المشعة موجودة في هذه الحالة التراكبية، فإن وجود الآلية التي تكسر زجاجة السم تفترض أن القطة موجودة في حالة تجمع بين إمكانية الحياة وإمكانية الموت، تمامًا كما هي حالة تراكب ذرة تجمع بين التحلل واللاتحلل. لكن على الرغم من حذاقة جهاز أو تجربة شرودنغر العقلية، فإنها تبقى تجربة نظرية غير قابلة للتطبيق. لكنها تثبت على الأقل من حيث المبدأ أن الغرابة الكمومية على مستوى المنظومات الدقيقة تتصل مع المنظومات الجهارية. مع ذلك يُطرح السؤال البريء التالي، السؤال الجوهري بالأحرى: لماذا لا يرى الناس سوى قططًا ميتة أو حية فقط، ولا يرون قططًا ميتة وحية في آن معًا؟
إذا كان يبدو أن الفيزياء الكلاسيكية تصف العالم بشكل جيد فذلك أن التفاعلات المعقدة لجسم ما مع محيطه تؤدي إلى الاختفاء السريع للفرادات الكمومية ضمن هذه التفاعلات. فالمعلومة المتعلقة بصحة قطة مثلاً، تعود سريعًا إلى وسطها على شكل فوتونات وتبادل في الحرارة. فكل ظاهرة كمومية يمكن أن تتضمن حالات متراكبة للمنظومة التي تشهد التفاعل (ميتة أو حية)، لكن هذه الحالات تميل للاختفاء. إن الهروب الدائم للمعلومة باتجاه الوسط المحيط هو الآلية الأساسية التي تُدمَّر بها الحالات الكمومية التراكبية أو تنهار، وهي صيرورة تدعى "فك الترابط" décoherence.
والمنظومات الكبيرة أكثر عرضة لفك الترابط من المنظومات الصغيرة، وذلك ببساطة لأنها تترك لمعلومات أكثر بكثير أن تفلت منها. ولهذا يميل الفيزيائيون لربط النظرية الكمومية بالعالم الصغائري. مع ذلك، وفي حالات كثيرة، فإن خسارة المعلومة من قبل منظومة كبيرة يمكن أن يتم كبحها أو إيقافها، مما يثبت عندها كلية حضور الظاهرات الكمومية على المستويات الصغائرية والجهارية معًا.
إن الظاهرة الكمومية بامتياز هي ما نسميه التشابك intrication، الذي يحول مجموعة من الجسيمات المعزولة إلى كل لا ينقسم. وقد تم إدراج هذه التسمية في عام 1935 من قبل شرودنغر في المقالة نفسها التي ناقش فيها تجربة القطة. إن خصائص منظومات من الجسيمات في الفيزياء الكلاسيكية يمكن أن تعود دائمًا إلى خصائص فردية للعناصر التي تؤلفها. ولكن ليس هذا هو الحال في منظومة كمومية تشابكية. وهكذا يكون لمنظومة مؤلفة من جسيمين متشابكين سلوك مدهش: فحتى لو كان الجسيمان بعيدين كثيرًا عن بعضهما بعضًا فإنهما يستمران في السلوك كما لو كانا قسمين من كينونة واحدة غير قابلة للانقسام. وهذا ما قاد أينشتين للحديث عن "الأثر الشبحي عن بعد".
السبينات المتشابكة
يتحدث الفيزيائيون عادة عن تشابك زوج من الجسيمات الأولية، مثل إلكترونين أو فوتونين. إن إحدى خصائص الإلكترونات هي ما يعرف بعزمها الحركي (أو الزاوي) الذاتي (بمعنى الجوهري والباطن في الجسيم)، وهو ما اصطلح على تسميته اللف الذاتي أو "سبين". ولقياس سبين إلكترون يجب بداية اختيار اتجاه، ثم تحديد اتجاه السبين بالنسبة للمحور المختار. لنفترض أن لدينا إلكترونين يسلكان وفق ما تتوقعه الفيزياء الكلاسيكية. ولنجعل أحد الإلكترونين يدور في اتجاه عقارب الساعة حول محور أفقي، والإلكترون الآخر يدور في الاتجاه المعاكس حول المحور نفسه. وبهذه الطريقة يكون السبين الكلي، أي مجموع اللفين الذاتيين للإلكترونين، يساوي الصفر. وبما أن محوري دوران الإلكترونين يظلان ثابتين في الفضاء فإن نتيجة القياس سوف تتعلق بالزاوية بين اتجاه القياس ومحور دوران الإلكترونين. فإذا قسنا اللفين الذاتيين وفق محور أفقي سوف نرى أنهما يدوران في اتجاهين متعاكسين. بالمقابل، فإن قياسًا في الاتجاه العمودي لن يكشف عن دوران في كل من حالتي الإلكترونين.
أما بالنسبة للإلكترونات الحقيقية، أي الكمومية، فإن الأمور مختلفة تمامًا. إذ من الممكن أولاً تحضير منظومة من إلكترونين في حالة يكون فيها مجموع السبين معدومًا، حتى دون أن نكون قد خصصنا الحالة الفردية لكل من الجسيمين. وعندما نقيس سبين أحد الإلكترونين نجد لا على التعيين إما أن الإلكترون يدور في اتجاه عقارب الساعة أو بعكس اتجاه عقارب الساعة. فكما لو كان الإلكترون يقرر بنفسه بأي اتجاه يدور. مع ذلك، أيًا كان اتجاه القياس المختار فإننا نلحظ أن اللفين الذاتيين المقاسين يكونان دائمًا متعاكسين. فكل شيء يجري كما لو كان قياس لأحد اللفين يجبر اللف الذاتي الآخر على اتخاذ القيمة المعاكسة له. فكيف يقوم اللفان الذاتيان بتبادل المعلومات أو بالتشاور فيما بينهما للحفاظ على هذه النتيجة؟ لا يزال ذلك أمرًا غامضًا. في المقابل، فإن قياس سبين أحد الجسيمين في الاتجاه الأفقي لا يمنع من الحصول أيضًا على نتيجة في الاتجاه العمودي، الأمر الذي يوحي بأنه ليس للجسيمات محاور دوران محددة. وبكلمة واحدة، فإن نتائج القياسات على الإلكترونين يتم ضبطها بطريقة لا تفسرها الفيزياء الكلاسيكية.
كانت معظم الإثباتات التجريبية على ظاهرة التشابك تشتمل بضعة جسيمات قليلة لا أكثر. أما المنظومة المؤلفة من عدة جسيمات أو من جسيمات كثيرة فمن الصعب عزلها عن محيطها أو بيئتها. فلمركباتها أو مكوناتها احتمالية أعلى بكثير على التشابك مع جسيمات غير مضبوطة من المحيط، الأمر الذي يدمر ارتباطاتها المتبادلة الأصلية. بعبارة أخرى، ووفق المصطلحات التي تصف فك الارتباط، فإن الكثير من المعلومات تفلت من المنظومة في البيئة المحيطة، الأمر الذي يعطي للمنظومة سلوكًا كلاسيكيًا غير كمومي. نفهم بالتالي أن الصعوبة الرئيسية بالنسبة لجميع الذين يحاولون استثمار التشابك، كما على سبيل المثال في محاولة بناء حاسوب كمومي، هي صعوبة الحفاظ على التشابك.
في عام 2003، أثبتت تجربة أن منظومات أكبر في الحجم يمكن أن تظل متشابكة عندما نستطيع الحد أو إحباط هرب المعلومة. فقد وضع غابرييل آيبلي G. Aeppli، من جامعة كوليج في لندن قطعة من فلوريد الليثيوم في حقل مغنطيسي. واستنتجوا أن السبينات تنتظم بسرعة أعلى مما هو متوقع. ووفقًا للباحثين فإن التفسير الممكن الوحيد هو أن حالة تشابك جهارية قد تشكلت ابتداء من حالات فردية من السبينات لنحو 2010 ذرة تشكل قطعة الملح...
أنجز فريق آيبلي تجاربه في درجات حرارة منخفضة جدًا لا تتجاوز بضعة ميلي كالفن فقط، وذلك من أجل تجنب آثار فك الارتباط للتهيج الحراري. ومنذ ذلك الحين برهن ألكسندر مارتينز دو سوزاAlexandre Martins de Souza ورفاقه، من المركز البرازيلي للبحوث الفيزيائية في ريو دي جانيرو، بالعمل على مواد مثل كربوكسيلات النحاس، على إمكانية الحصول على تشابكات جهارية في درجة الغليان بل وأعلى منها. ففي المنظومات التي درسوها كان التفاعل بين السبينات قويًا جدًا بحيث يحبط التهيج الحراري. وفي حالات أخرى كان من الممكن الحصول على تشابك جهاري بواسطة قوة خارجية تعدم آثار التهيج الحراري. وهكذا فقد خلق الفيزيائيون التشابك في قلب منظومات أكبر فأكبر وأعلى حرارة دائمًا، بدءًا من الإيونات المأسورة في فخ حقول كهرمغنطيسية وحتى الذرات فائقة البرودة.
إن كافة هذه المنظومات تشبه منظومة قطة شرودنغر. لنأخذ ذرة أو أيونًا. إن إلكتروناتها يمكن أن توجد قرب النواة أو بعيدًا عنها، أو الحالتين معًا. فمثل هذا الإلكترون يتصرف بالتالي كما الذرة المشعة الموجودة في قفص قطة شرودنغر، والتي تكون في آن واحد في حالة تحلل وفي حالة عدم تحلل. تستطيع الذرة، بشكل مستقل عما يفعله الإلكترون، أن تتحرك على سبيل المثال نحو اليسار أو نحو اليمين. وتلعب هذه الحركة دور القطة الميتة أو الحية. وقد توصل الفيزيائيون باستقطاب الذرة بواسطة الليزر مزاوجة حالات موضع الإلكترون وحركة الذرة. فعلى سبيل المثال، يمكن التدخل بحيث إذا كان الإلكترون قريبًا من النواة، فإن الذرة تنتقل إلى اليسار، وإذا كان الإلكترون أبعد عن النواة، فإن الذرة تنتقل إلى اليمين. وهكذا فإن حالة الإلكترون تكون متشابكة مع حالة حركة الذرة، بالطريقة نفسها التي يكون فيها التحلل الإشعاعي متشابكًا مع حالة القطة. وبالتالي يمكن أن يكون لدينا حالة تشابك مع تراكبات، حيث يتم استبدال القط الميت والحي في آن واحد بذرة تنتقل في آن واحد نحو اليمين ونحو اليسار.
تنقل تجارب أخرى على مستويات أكبر هذه الفكرة الأساسية، بحيث أن عددًا هائلاً من الذرات توجد في حالة تشابك، وهو أمر مستحيل في الفيزياء الكلاسيكية. والحال أنه إذا كان بالإمكان إعطاء حالة تشابك لمواد صلبة حتى عندما تكون كبيرة وحارة، فلن يعود ثمة ما يمنعنا من التساؤل حول إمكانية وجود تشابك أيضًا في الكائنات الحية.
أحد الأمثلة على هذه المتعضية الكمومية نجده لدى نوع من العصافير يسمى أبو الحناء Erithacusrubecula، وهو عصفور صغير مدهش، يهاجر في كل سنة بين سكندينافيا وأفريقيا الاستوائية. ويبدو أن هذا الطير الصغير المميز ببقعة حمراء يقطع مسافة نحو 13000 كلم دون صعوبات تذكر، ودون أن يضيع. فكيف يفعل ذلك؟
هل يملك طير أبو الحناء نوعًا من بوصلة داخلية؟ في السبعينيات من القرن الماضي، أسر الزوجان وولفغانغ Wolfgang وروزويثا وايلتشكو Roswitha Wiltschko، من جامعة فرانكفورت في ألمانيا، طيور أبي الحناء كانت قد هاجرت إلى أفريقيا ووضعوها في أقفاص ضمن حقل مغنطيسي صنعي. واستنتج الزوجان أن هذه الطيور لا تلحظ انقلابات اتجاه الحقل المغنطيسي. حيث لم تكن الطيور تميز بين الشمال والجنوب، بل كانوا حساسين لميلان الحقل المغنطيسي الأرضي، أي للزاوية التي تشكلها خطوط الحقل مع سطح الأرض. وفي الواقع تبين أن هذا هو كل ما تحتاجه هذه الطيور لكي تعرف كيف تتوجه وتعود إلى موطنها. ولكن ما كان مثيرًا في التجربة أن طيور أبي الحناء التي تم عصب عيونها لم تعد تتبع الحقل المغنطيسي. هذا يعني أنه إذا كان لدى طيور أبي الحناء بوصلة داخلية ما فلا بد أن تكون داخل عيونها أو لها صلة بعيونها.
في عام 2000 اقترح فيزيائي مهتم بالطيور المهاجرة، هو ثورستن ريتز Thorsten Ritz، تفسيرًا لذلك فكانت المرة الأولى التي يتم فيها الإشارة إلى التشابك الكمومي. ووفق هذه الفكرة المستلهمة من أعمال لكلاوس شولتن Klaus Schulten، فإن الشبكية في عين طير تتضمن جزيئًا يمثل فيه إلكترونان زوجًا متشابكًا من اللف الذاتي يكون مجموعه معدومًا.
في النموذج النظري لريتز، عندما يمتص جزيء فوتونًا ضوئيًا مرئيًا، فإن الإلكترونات تتلقى ما يكفي من الطاقة لكي تنفصل وتصبح بالتالي حساسة للحقل المغنطيسي الأرضي. فإذا كان الحقل المغنطيسي مائلاً، فإنه يؤثر بطريقة مختلفة على الإلكترونين، خالقًا على هذا النحو خللاً أو عدم توازن يغير من رد الفعل الكيميائي الناجم عن الجزيء. إن آليات كيميائية تترجم هذا الاختلاف على شكل دفقة عصبية، يحولها دماغ الطير إلى صورة للحقل المغنطيسي الأرضي. وهكذا فإن الطير مزود بجهاز توجُّه جهاري، إنما لا ينتج عن الفيزياء الكلاسيكية ولا يعبر عنها.
على الرغم من أنه لا يوجد سوى براهين فردية على وجود هذه الآلية، قام كل من كريستوفر روجرز Christopher Rogers وكيمينوري مايدا Kiminori Maeda، من جامعة أكسفورد، بدراسة جزيئات مشابهة للتي درسها ريتز، وبينا أن التشابك بين إلكتروناتها تجعلها حساسة للحقول المغنطيسية. ووفق حسابات فلاتكو فدرال Vlatko Vedral وفريقه من جامعة أكسفورد، فإن الآثار الكمومية تدوم في عين الطير مدة 100 ميكروثانية تقريبًا. وفي هذا الإطار فإن هذه المدة تعتبر فترة طويلة، فالرقم القياسي الأطول المسجل في بقاء منظومة صنعية من السبينات الإلكترونية المتشابكة لا يتجاوز مدة 50 ميكروثانية... ويقول العلماء إنهم يجهلون حتى الآن كيف تستطيع منظومة طبيعية الحفاظ على هذه الآثار الكمومية طوال هذه المدة، بل لعل الإجابة على هذا السؤال بالذات تقدم حلاً للعلماء في كيفية حماية الحواسيب الكمومية من آثار فك الارتباط.
من جهة أخرى، لا يجهل البيولوجيون أن قوانين كمومية توجد بالضرورة في أساس كيمياء الكائن الحي، فالحموض النووية والبروتينات والأنزيمات وكل مكونات الحياة يمكن أن تمثل بواسطة كريات تربط بينها روابط على شكل عصي صغيرة ربما أو وصلات. إن الصيرورات البيولوجية التي تحرك مجمل هذه الكينونات هي عبارة عن تفاعلات وتحولات في تجمعات الذرات الأساسية المكونة لهذه الجزيئات. فكل خلية من خلايانا تستمد جوهر وجودها بالتالي من استقرارية المادة الأساسية المكونة لها. وهو أمر لا يمكن تفسيره إلا في إطار الفيزياء الكمومية، التي تحدد ما هي الروابط الكيميائية وما هي كثافتها المطلوبة من أجل استمرار هذه الكينونات. غير أن البيولوجيين ينظرون حتى الآن نظرة آلية لهذه التركيبات المحكومة بقوانين نظرية الكم الغريبة، ويعملون مثل المهندسين على تطبيق التراكيب الأساسية في فهم التحولات والتفاعلات، دون اعتماد قوانين فيزياء الكم في بناء جسر أو ناطحة سحاب. وفي الحقيقة كان الجميع يظن حتى وقت قريب أنه بإمكان المهندس كما والبيولوجي تخطي هذه القوانين الغريبة التي تظل محصورة وفاعلة على مستوى الجسيمات الدقيقة!
ألم يكن إرفين شرودنغر هو نفسه من ساهم في فصل العالم الجهاري عن العالم الكمومي، وأكد أن النظرية الكمومية لا تتعلق بالكائن الحي في كتابه ما هي الحياة؟ وأن الجزيئات يجب أن تظل هي المستوى الأدنى لوصف العالم البيولوجي. غير أن ذلك كله يتغير اليوم كما لو بلمسة ساحر. ما يطرح لغزًا جديدًا: إذ كيف نفسر انبثاق وظهور آثار كمومية في قلب الكائنات والمتعضيات الحية؟ في حين أن هذه القوانين الغريبة التي تحكم عالم اللامتناهي في الصغر لا تنطبق على العالم الجهاري، باستثناء طبعًا تلك القطة الشهيرة الحية والميتة في آن واحد وهي في علبتها! لكن الأمر لا يتوقف عند ظاهرة الطيور المهاجرة، فقد تتالت الاكتشافات حول أصالة الظاهرة الكمومية في قلب العالم الحي.
التركيب الضوئي، وظاهرات حيوية أخرى، كموميًا
إن التركيب الضوئي، وهو الآلية المعقدة التي تحول النباتات بواسطتها الطاقة الشمسية إلى طاقة كيميائية، هو صيرورة بيولوجية أخرى تقدم كمثال يمكن أن يكون التشابك لاعبًا أساسيًا فيها. ففي الخلايا النباتية، يطلق الضوء في النبتة إلكترونات، حيث تأخذ هذه الإلكترونات كلها طريقها نحو مركز للتفاعل تطرح فيه طاقتها وتطلق التفاعلات الكيميائية الضرورية لخلايا النباتات. ونعرف أن الفيزياء الكلاسيكية لا تفسر الفعالية شبه الكاملة لهذه الآلية.
أجريت تجارب كثيرة مؤخرًا من قبل عدة فرق علمية، بينها فريق غراهام فلمينغ Graham Fleming وموهان ساموفار Mohan Samovar، من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، أو فريق غريغوري سكولز Gregory Scholes، من جامع تورنتو، تدعم فكرة أن المردود المرتفع للتركيب الضوئي لا يمكن تفسيره إلا بواسطة خصائص كمومية.
مثال آخر على فعالية الفيزياء الكمومية في عالم البيولوجيا يتبدى لنا في دراسة الأنزيمات. فما هو السر الذي تعتمده الإنزيمات لكي تستطيع إدارة مليارات التبادلات الكيميائية الضرورية لحياة المتعضية؟
فمن غير الإنزيمات ستكون كيمياء الحياة عطالية ببساطة. لأن المتعضيات الحية هي معامل حقيقية للتفاعلات الكيميائية تتحول فيها مليارات مليارات الجزيئات باستمرار في تبادلات بين الذرات أو المجموعات الكيميائية. ولا غنى عن الإنزيمات في هذا الغليان في قلب المتعضية الحية. فعلى الرغم من أنها لا تتغير خلال الصيرورات الكيميائية لكن أثرها يسمح للأجسام المتفاعلة بتجاوز حدود طاقية تفصل بين الحالات البدئية والنهائية، مع تسريع هذا التفاعل بشكل كبير. يشبه ذلك إلى حد بعيد عندما نمسك بمقود دراجة طفل ونشدها معه مما يعطيه دفعًا لا بأس به يتجاوز معه تلة أو صعودًا أو حاجزًا ما. غير أن جزءًا من نجاح الإنزيمات في هذا العمل يعود إلى أثر كمومي يسمح لجسيم بأن يقوم بلعبة تخطي الحواجز، وهو ما يعرف بالأثر النفقي. وينتج الأثر النفقي عن الطبيعة الموجية لجسيم كمومي. ففي حين يكون من المستحيل على جسيم نقطي أن يقفز فوق حاجز عالٍ جدًا بالنسبة له، فإن قرينه أو أناه الكمومية، بما هو يتحرك مثل موجة تمتد في المكان، له احتمالية غير معدومة بأن يوجد وراء هذا الحاجز الذي لا يمكن اجتيازه. فالكرة الكمومية إن جاز التعبير لا تجتاز الحاجز فعليًا، بل تكون بحظوظ واحتمالات لا يمكن إهمالها وراء الحاجز ببساطة. وهذا الأثر بات معروفًا تمامًا في الفيزياء الكمومية بحيث أن العلماء اخترعوا مجهرًا يعمل وفق الأثر النفقي، ويسمح برؤية سطح بدرجة أقل من حجم ذرات السطح.
مع ذلك لم يكن يخطر في بال أحد أن الأثر النفقي يمكن أن يلعب دورًا في التفاعلات الكيميائية في قلب الخلايا الحية. لكن هذا ما بدأ يطرح فعليًا منذ عام 1989 بعد ما حققته جوديث كلينمان Judith Klinman من جامعة بركلي في الولايات المتحدة. فقد درست هذه الكيميائية وظيفة إنزيم يسمى alcool déshydrogénase (ADH)، نجده على سبيل المثال في الكبد، ووظيفته هو تفكيك جزيئات الكحول بإجبارها على التخلي عن أيون من الهيدروجين، أي عن بروتون، وهو جسيم موجب الشحنة يشكل نواة الذرة. وبينت قياسات تتعلق بالحرارة وعوامل أخرى أن هذا البروتون مرَّ بالأثر النفقي خلال هذا التحول. وأدت هذه الفرضية إلى تفسير فعالية الإنزيمات في تسريع التفاعلات بين الجزيئات. فلو اقترب جزيآن من الإنزيم المناسب، فإنه يسهل التبادل بينهما كما لو بفعل سحر، بفضل الأثر النفقي حيث يترك أحدهما بروتونا للإنزيم فإذا به ينتقل مباشرة نحو الجزيء الثاني. وتتم العملية خلال وقت قياسي جدًا!
كان إثبات هذا الانتقال على يد جوديث كلينمان غير متوقع أبدًا. فالبروتون ثقيل نسبيًا وفعالية الأثر النفقي تتناسب عكسًا مع كتلة الجسيم المعني. وإن كنا نعرف هذا الأثر بالنسبة للإلكترون بحيث ينتقل بين موضعين طاقيين، لكنه لم يكن معروفًا بالنسبة للبروتون الذي يزيد 2000 مرة في كتلته عن الإلكترون. لكن منذ هذا الاكتشاف حصلت اكتشافات أخرى على يد فرق بحث أخرى. تقول جوديث كلينمان: "أعتقد أن التطور قد انتخب بروتينات إنزيمية بحيث يسهل تموضعها النشط، حيث تجري التفاعلات الكيميائية، الأثر النفقي للبروتونات"، وتضيف: "أصبح لدينا نتائج حديثة تميل إلى تأكيد ديمومة أو طول مدة الأثر النفقي بالنسبة لنقل ذرات أثقل، مثل ذرات الكربون والأكسجين". غير أن إحدى الصعوبات التي تواجه حسم المسألة هي أن كل هذه التجارب لا تسمح برصد مباشر للأثر النفقي. وقد اقتُرحت طرائق عدة لمحاولة رؤية هذا الأثر بشكل مباشر. يقول داميان لاج Damien Laage من قسم الكيمياء في إيكول نورمال l'Ecole normale في باريس: "يجاهد الأخصائيون اليوم في سبيل تحديد دور الأثر النفقي الدقيق في عملية التحفيز التي يقوم بها الإنزيم. ومن غير المحتمل أن يكون هذا الأثر هو المسؤول 100% عن التحفيز الإنزيمي نفسه، لكن لا شك بأنه يساهم فيه وأنه عامل أساسي فيه".
وحاسة الشم، كموميًا!
تشير الأبحاث الحديثة إلى أن حاسة الشم ترتكز على هذا الأثر النفقي أيضًا. فمع أن مستقبلات الشم كانت معروفة منذ التسعينيات، لكن أحدًا لم يكن يفهم حتى اللحظة وظيفتها وكيفية عملها. غير أن دراسات عديدة بدأت تشير مؤخرًا إلى أن التفسير يأتي من جانب العالم الكمومي! ودون الدخول في التفاصيل، يشير مارشال ستونهام Marshall Stonham ورفاقه الذي بدأ الاهتمام بالموضوع في عام 2007 إلى أن المسألة تبدو مؤسسة علميًا بشكل جيد رغم وجود نقاط كثيرة تحتاج إلى إيضاح، وهو ما يحاول القيام به، محاولاً وضع نموذج كامل يتضمن الجزيء الحامل للرائحة والمستقبلات. ومن المهم الإشارة إلى أعمال Markus Arndt من جامعة الفيزياء في فيينا الذي يحاول وضع أسس نظرية للتفسير الكمومي للحاسة الشمية. وقد تمكَّن مؤخرًا فريق من الباحثين اليونان من القيام بتجربة هامة في هذا المجال، حيث بينوا أن ذبابة تستجيب بشكل مختلف لرائحة جزيء بحسب ما إذا كانت ذرات هيدروجين قد استبدلت بذرات ديتريوم الأثقل، وبالتالي كان التواتر الاهتزازي في المستقبلات العصبية مختلفًا. إنه مؤشر إضافي للاعتقاد أن لدينا في نهايات أنفنا مجاهر حقيقية ذات أثر نفقي.
البيولوجيا الكمومية
في العالم الكمومي يسلك جسيم كافة الطرق في آن واحد، حيث يكون كل طريق متأثرًا باحتمالية معينة. إن الحقول الكهرمغنطيسية الموجودة في قلب الخلايا النباتية يمكن أن تستجر الإبطال المتبادل لبعض هذه المسارات وتدعيم مسارات أخرى، مما يقلص من حظوظ أن يقوم الإلكترون بانعطاف أو تغيير لمساره بشكل غير اقتصادي، ويزيد من الحظوظ بأن يكون موجها مباشرة باتجاه مركز التفاعل. إن تشابك حالات التموضع (أي الطرقات التي يسلكها الإلكترون أو المسارات) الممكنة لا يدوم سوى جزء من الثانية ويؤدي إلى تدخل جزيئات لا تحتوي على أكثر من 100000 ذرة. ترى هل توجد أمثلة أخرى على تشابك أوسع وأكثر ديمومة في الطبيعة؟ نحن نجهل ذلك، لكن السؤال بات مطروحًا وهو مثير جدًا بحيث يحرِّض انبثاق علم جديد كل الجدة باتت له بعض مراكز الأبحاث في الجامعات الكبرى: البيولوجيا الكمومية.
لم يكن ثمة معنى بالنسبة لشرودنغر أن تكون القطة حية وميتة في آن واحد. فكل نظرية تقوم بمثل هذه النبوءة لا يمكن أن تكون سوى نظرية ناقصة أو تحمل عيبًا ما. وقد تقاسمت أجيال من الفيزيائيين هذه الحالة المزعجة، معتقدين أن النظرية الكمومية لا تطبق على المستوى الجهاري. وفي الثمانينيات من القرن الماضي اقترح روجر بنروز Roger Penrose على سبيل المثال، من جامعة أكسفورد، أن تكون الجاذبية هي المسؤولة عن حالة انتقالية من الفيزياء الكمومية إلى الفيزياء الكلاسيكية فيما يتعلق بأجسام أكبر من 20 ميكروغرام. أما جيانكارلو غيراردي Giancarlo Ghirardi وتوماسو ويبر Tomaso Weber من جامعة ترييستا، مع ألبرتو ريميني Alberto Rimini من جامعة بافيا، فكان رأيهم أن الجسيمات كثيرة العدد تعتمد مباشرة وآنيا سلوكًا كلاسيكيًا. على أية حال لم يستطع العلماء في الحالتين تقديم تفسير واضح لحدود ما بين العالمين الكمومي والجهاري. وتأتي الاكتشافات الحديثة لتؤكد أن فضاء العالم الكمومي لا ينحصر فقط في إطار الجسيمات الدقيقة.
حدود قابلة للإزالة
فكما رأينا، تشير تجارب كثيرة بالأحرى إلى أن الحدود بين العالم الكلاسيكي الجهاري والعالم الكمومي الصغائري لم تعد حدودًا جوهرية، وهناك ما يكفي من الوقائع التجريبية الحاذقة لإزالة هذه الحدود كليًا. إن عددًا قليلاً جدًا من الفيزيائيين يرى اليوم أن الفيزياء الكلاسيكية تفرض نفسها بالفعل على مستويات معينة أيًا كانت. بل على العكس تمامًا، فإن الشعور العام لدى غالبية الفيزيائيين هو أنه لو جاءت نظرية أكثر فعالية لتحل محل النظرية الكمومية فإنها ستبين أن العالم أكثر تعارضًا مع ما هو بديهي في تصورنا أو فهمنا الكلاسيكي من كل ما رأيناه حتى الآن حول العالم الجهاري.
وبالتالي، فإن حقيقة أن النظرية الكمومية تطبق على كافة المستويات بما فيها الجهارية أمر يجبرنا على مواجهة التساؤلات التي يطرحها تفسير هذه النظرية نفسها. فنحن لم نعد نستطيع حصرها في مجرد تفاصيل لا تعني سوى التجارب على مستوى الجسيمات الأولية. وعلى سبيل المثال، فإن المكان والزمان هما مفهومان جوهريان في الفيزياء، لكنهما لا يلعبان في الفيزياء الكمومية سوى دور ثانوي. فالتشابك هو الظاهرة الكمومية الأساسية. وهي تربط بين منظومات بلا مراجع مكانية أو زمانية. فإذا كان هناك فعلاً حدود يجب رسمها بين العالمين الكمومي والكلاسيكي، فيمكن الاعتماد على الإطار الزماني المكاني الكلاسيكي لكي نزود النظرية الكمومية بإطار مماثل. وبدون هذا التحديد، وخاصة لأن العالم الكلاسيكي غير موجود أصلاً، فإننا لا نعود بحاجة إلى هذا الإطار. بل يكون علينا بالأحرى البحث عن تفسير للمكان والزمان كظاهرتين تنبثقان بطريقة أو بأخرى من فيزياء أكثر جوهرية خالية من الإطار الزمكاني.
ربما تساعدنا هذه الفكرة لاحقًا في التوفيق والجمع بين الفيزياء الكمومية والنظرية النسبية العامة لأينشتين، التي تصف الثقالة وفق مصطلحات هندسة الزمكان. وتفترض النسبية العامة أن للأجسام مواضع محددة تمامًا ولا تكون أبدًا في أكثر من موضع في آن واحد، الأمر الذي يتعارض مع الفيزياء الكمومية. ويرى فيزيائيون كثيرون اليوم ومنهم ستيفن هوكنغ من جامعة كامبردج أن نظرية النسبية يجب أن تخلي الساحة لنظرية أعمق منها لا يكون ثمة مكان فيها للمكان والزمان. فالزمكان الكلاسيكي سينشأ في هذه النظرية الجديدة عن تشابك كمومية عبر صيرورة فك الترابط.
إن التطبيقات التي يمكن أن تنشأ عن واقع أن أجسامًا جهارية تسلك وفق القفزات الكمومية هي تطبيقات تصل حد الهلوسة في مفهمونا الكلاسيكي، بحيث تضع الفيزيائيين أنفسهم في حالة معقودة من التشويش والدهشة...
نحو علم جديد أم نظرية جديدة؟
التركيب الضوئي، النشاط الإنزيمي، بنى الحموض الريبية النووية، آليات الشم وحس الاتجاه لدى الطيور المهاجرة، بل وأسس تطور الحياة وبقائها... لعل على البيولوجيا أن تواجه اليوم ثورة في المفاهيم الكمومية في عقر دارها. ولا بد بالتالي من طرح السؤال حول نتائج مثل هذا "التشابك". هل نرى في ذلك علامة، بعد سيادة طويلة لعلوم البيوكيمياء، على تغيير جذري في المفاهيم والأفكار يمكن أن يقود مجمل البيولوجيا إلى عالم الميكانيك الكمومي؟ أم أن الأمر لا يتعلق سوى ببعض مظاهر الكائن الحي، الهامة بالتأكيد، إنما المحلية وفق المصطلح الفلكي؟
الأمر المؤكد هو أن مجموعات بحثية وفرقًا من العلماء في مخابر الأبحاث والجامعات قد انطلقوا منذ بضعة سنوات في أبحاث المغامرة التي باتت تعرف بالـ "حيوية الكمومية" bioquantique. يقول ماركوس أرندت: "لا يمكننا حتى الآن الحديث عن علم جديد أو مجتمع علمي جديد، لكن الواقع بات يفرض نفسه، إذ إن العديد من العلماء المعروفين ينضمون يوما بعد يوم لدراسة الظاهرات الكمومية في الصيرورة البيولوجية". ويدل على ذلك تضاعف المؤتمرات الدولية العلمية خلال السنوات الأخيرة حول هذا الموضوع. ويقول أليكس شين Alex Chin من معهد الفيزياء النظرية في جامعة أولم بألمانيا: "بدأ انتشار هذا الموضوع في عام 2007 مع نشر بحث غراهام فلمنغ Graham Fleming حول رصد ظاهرات كمومية مرتبطة بالتركيب الضوئي لدى النباتات". وكان لنشر هذا الموضوع أثره المباشر على الصناعة حيث استفاد منه مباشرة صانعو ألواح الطاقة الشمسية! وتؤكد إليزابيث ريبر Elisabeth Rieper من مركز التكنولوجيا الكمومية في سنغافورة: "لقد نجم عن انتشار البحوث الحيوية-الكمومية مقاربة متعددة الاختصاصات ذات غنى كبير نتوقع له أن ينتج اكتشافات وأفكارًا جديدة". والحقيقة أن الأبحاث الجديدة تعيد طرح أفكار قديمة، لأن اللقاء بين العالمين البيولوجي والكمومي كان مطروحًا خلال القرن العشرين. وكانت هناك محاولات جادة لسبر بعض المفاهيم التي يمكن إريادها تحت مسميات "الطاقة الحيوية" أو التخاطر أو حتى الوعي. لكن هذه المقاربات المبكرة تركت خوفًا لدى العلماء في تلك الآونة من المزج بين المناحي السرانية والعلم.
كان أربعة فيزيائيين معروفين قد حاولوا المزاوجة في القرن الماضي بين البيولوجيا والفيزياء الكمومية. وأولهم كان نيلز بور. وكان طرحه أشبه باستعادة غريبة في ثلاثينيات القرن العشرين لأفكار كانت معروفة في القرن التاسع عشر حول "الطاقة الحيوية" كان العلماء ينسبونها آنذاك للمادة الحية مقابل المادة العطالية، فكان نيلز بور يقارن العلاقة بين الجسم والروح مع ثنوية الجسيم-الموجة المميزة للعالم اللامتناهي في الصغر. ثم جاء النظري السويسري يورغ فروليش Jurg Frohlich الذي اقترح في عام 1968 أن نمط اهتزازات الأغشية في الخلايا يمكن أن يكون مرتبطًا بظاهرات كمومية مشابهة لطرح أينشتين-بور حول الحالة الحدية للمادة حيث تصبح كافة الجسيمات غير قابلة للتمييز فيما بينها. بعد نحو عشرين سنة، أكد الحائز على جائزة نوبل للفيزياء بريان دافيد جوزفسون Brian David Josephson أنه على غرار الجسيمات المتشابكة، فإن يمكن لمتعضيتين منفصلتين مكانيًا أن يكون بينهما اتصالات "داخلية" متبادلة، ومن هنا كان اعتقاده بالتخاطر. وفي السنة التالية اقترح الرياضي والفيزيائي النظرية الشهير روجر بنروز Roger Penrose أن اللاتحديدية الكمومية يمكن أن تفسر انبثاق الوعي الإنساني والمسار الحر، مع تلمسه في الوقت نفسه لوجود تكاثفات مادية مماثلة في قلب العصبونات تشبه تلك التي ذكرها فروليش. ويعلق على هذا التاريخ الفيزيائي نيكولاس جيزان Nicolas Gisin بالقول إن شهرة هؤلاء العلماء لم تمنح لآرائهم هذه مصداقية كافية بحيث لم تعتبر من العلم. حتى استطاع فريق أسترالي في عام 2009 من البرهان أن تكاثفًا للمادة وفق فروليش إذا وجد لا يمكن أن يتشكل سوى في درجة حرارة تتراوح بين 100000 و10 مليون درجة. وفيما يتعلق بالتخاطر، فلم تنجح أي تجربة علمية حتى الآن في إثبات وجوده. أما بالنسبة للقوة الحيوية، فقد تجاوزتها البيوكيمياء بكثير. بل إن الظهور الحديث للفيزياء الكمومية في معادلات الحياة يذكرنا بأن المادة الحية كما المادة العطالية يتألفان من الجوهر نفسه.
أما اليوم فقد تغيرت المفاهيم، وأصبحت علوم الحياة أكثر نضجًا لتقبل الميكانيك الكمومي في مبادئ الحياة نفسها. يقول ألكسيس غرينبوم Alexei Grinbaum من مخبر الأبحاث حول علوم المادة في Saclay: "يتأتى الاختلاف الكبير اليوم من أن الأبحاث حول الروابط بين الكائن الحي والميكانيك الكمومي يقودها التطور الأداتي، الذي يسمح برصد الجزيئات وما دون الجزيئات". فلم تعد هذه الأفكار ترتكز على الحدس أو التوقع. بل يؤكد ألكسيس شين قائلاً: "لقد بات لدينا اليوم نماذج نظرية تسمح بالقيام بتنبؤات كمومية قابلة للاختبار والرصد". وباختصار، يمكن القول إن البيولوجيا الكمومية أصبحت منهجًا علميًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
علينا من جهة أخرى أن ندرك مدى اتساع هذه الظاهرة. ففي حين تزداد التجارب التي تكشف عن رسوخ الميكانيك الكمومي في البيولوجيا، فإن هذه الأخيرة مدعوة للاستجابة على المدى الطويل ربما للأفكار والمبادئ الكمومية، أم أن ذلك كله لا يمس سوى بعض الظاهرات الاستثنائية في علوم الحياة؟ يرى بول ديفيس Paul Davies من جامعة أريزونا "أنه لا يزال من المبكر أن نعرف إذا كانت الحياة تستثمر فعلاً بعض القوانين الكمومية هنا وهناك، أم على العكس إذا كانت الفيزياء الكمومية تلعب دورًا مركزيًا في الكائن الحي". مع ذلك يتفق الفيزيائيون عمومًا على ضرورة المضي قدمًا في هذه التجارب.
أما نيكولاس جيزان الأخصائي بالميكانيك الكمومي فيتساءل: "إذا توصلنا مثلاً إلى التأكيد بشكل نهائي أن التركيب الضوئي يستخدم خصائص كمومية، فذلك سوف يكون هامًا جدًا في مسيرة العلم. وسيكون من المدهش أن تظل مثل هذه المشاهدة أمرًا معزولاً وسط التقدم العلمي وتفسيره. ولهذا قد يكون من المهم تصور إدخال مناهج الميكانيك الكمومي على طلاب دراسات البيولوجيا المتقدمة التي لا تزال حتى الآن علمًا جهاريًا كلاسيكيًا. وبعبارة أخرى، إنها دعوة لفتح النموذج paradigme العلمي للبيولوجيا على مناحي وأنماط جديدة".
يبقى إذن إقناع الأخصائيين بالكائن الحي بضرورة وفائدة هذا التطور العلمي. لأنه إذا جمعت البيولوجيا الكمومية حتى الآن الكيميائيين والبيوفيزيائيين والفيزيائيين الكموميين، فلا بد من الاعتراف أن البيولوجيين هم الغائبين الكبار عن هذه الساحة وعن هذا المجتمع العلمي الوليد. والسبب ليس فقط تأهيلهم الذي يبعدهم عن العالم الكمومي. يرى ميشيل مورانج Michel Morange[font:0966=