هل ذهبوا بدلا منا إلى المشانق ؟!
“الجمال والحماسة واستقبال مستقبل غامض بابتسامة واسعة”
قبضتان مضمومتان مرفوعتان، وشاب وفتاة شعرها منسدل على كتفيها، ابتسامتان واسعتان، وإشارات جسدين مبتهجين، وفي الخلفية سيارات متوقفة.
الصورة واحدة من الصور الشهيرة التي تنسبها مواقع عديدة لاحتفال في شارع ما في إيران، في لحظة ما من لحظات الثورة الإيرانية، بالتأكيد قبل أن تتحول إلى “الثورة الإسلامية” وتتغير هيئة المحتفلين بها في الشوارع. بينما ارتفعت أجساد “غير إسلاميين” في صور أخرى على مشانق مثبتة في أوناش احتلت شوارع المدن الإيرانية، ربما ليكونوا عبرة.
لهذا نشر صديق صورة الشاب والفتاة في ديسمبر الماضي مع تعليق: “الجمال والحماسة واستقبال مستقبل غامض بابتسامة واسعة”.
في كل لحظة كانت تطاردنا هجائيات التقدم في طريق الثورة أن مصير “غير الإسلاميين” سيكون كمصيرهم في إيران، تحت أقدام شعبوية حشود الإسلاميين وسلطوية سيستخدمونها حتى الثمالة بعد ما لطموا اللطميات، وشقوا الجيوب في الشكوى منها.
في ديسمبر 2012، كانت خطوات الإخوان الواثقة على الطريق. بينما كنا نخوض المواجهات مع حشود الإخوان ومناصريهم قوات الشرطة بعد الخطوات التي اتخذها الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي ليختص ببعض الصلاحيات الكافية لتمرير الدستور والسيطرة على مقعد النائب العام. كانت خطوة واسعة في اتجاه التمكين، وكذلك في اتجاه مستقبلنا الغامض.
أرسل لي ناشط إخواني أنه كتب بيده اسمي في بلاغ للنائب العام، وتوعدنا بالسجن أنا وزملاء آخرين، كنا في وقت ما – للمفارقة – زملاء في “التيار الإسلامي” بجامعة القاهرة، قبل أن تفرقنا السنوات والانحيازات.
كانت أوقاتًا عصيبة، خاصة وقد بدا أن الإخوان مهرة في تمرير رغباتهم بإجراءات “الشرعية” أو ببعض “الالتفاف الاستثنائي” المدعوم بجماهير يتم حشدها مسبقًا إلى أماكن التأييد قبل صدور القرارات. ولكن لم يكن هناك مانع من بعض المزاح الساخر المختلط بوعيد صادق.
كتبت وقتها تعليقًا على الصورة إياها: أنه سيأتي يوم ننظر فيه إلى صور مؤيدي الرئيس مرسي بأسى وإشفاق كما ننظر الآن إلى الشاب والفتاة اللذين لا نعلم مصيرهما، ولكن نعلم مصير أقرانهما. وأضفت أنني – كمساند للحريات والحقوق- سأقنع الناس أن من حق الإخوان أن يمارسوا شعائرهم بحرية، ولو في دار مناسبات ملحقة بجمعية (في إشارة إلى حال المسيحيين الذين يحصلون بصعوبة على تراخيص بناء كنائس جديدة، فيقومون بممارسة الشعائر في دور مناسبات ملحقة بجمعيات إلى أن يصدر الترخيص).
لم أكن أتوقع أن وعيدي -ووعيدنا- الذي كنا نسعى إليه في الشوارع سيتحقق بهذه السرعة، بعد أن شاركنا السعي أطياف أخرى، وانقلبت أجهزة الدولة نفسها على السلطة بفضل حماقات الإخوان والإسلاميين. ولكن كان متوقعًا أن مثل هذا “الانقلاب” سيصحبه رد فعل انتقامي و”طائفي” يضع الإسلاميين مكان “طائفة منتهكة” وهي خانة متوافرة ومعتادة في الحالة المصرية.
في قرية “زاوية أبو مسلم” بالجيزة، حيث تم سحل أربعة من المصريين الشيعة كانوا يحتفلون سرًّا في بيت صغير. صرخ رجل في كاميرا سجلت كلماته: “هم الشيعة والإخوان دول اللي خاربين البلد!”. نبهته امرأة: “لا. الشيعة. الشيعة بس”. فردد: “الشيعة.. الشيعة”.
كان التصعيد الإعلامي من القنوات الفضائية والصحف المعادية للإخوان على أشده، واختلط فيه مواجهة سلطوية الإخوان بكل أشكال الافتراء الممكن عليهم، طبعًا كان ذلك في مواجهة مع افتراء وتحريض مماثل من القنوات الفضائية الدينية واسعة الانتشار وصحفهم البائسة محدودة التأثير.
كل ذلك كان مخزونًا فيما بعد لصيحات حرب ضد “الإرهابيين” الذي كانوا في السلطة قبل قليل! وأصبح الأمر فعلاً في حاجة لمن يحاول إقناع الناس بـ”حقوق الإسلاميين” مهما كنا في خصومة ومعركة معهم.
جرى ما جرى، وسالت دماء الآلاف في الشوارع، ثم ارتفعت قبضات الإسلاميين هذه المرة في الصور. ولكن هذه المرة مفتوحة بأربع أصابع، علامة “رابعة” التي تحاول استثمار ذكرى المقتلة الكبرى أثناء فض اعتصامي رابعة والنهضة.
متظاهر فوق مسجد رابعة العدوية في القاهرة
- اقتباس :
- المعركة معقدة، المعركة مرعبة، الصفوف تتغير، أصوات الخوف والتوحش تطغى، صوتنا لا يزال يحاول منازعة الأصوات العتيقة الزاعقة التي اعتادها المكان والزمان.
في منتصف ديسمبر الماضي أيضًا، في سينما التحرير بالدقي، كنت أشاهد الفيلم الأمريكي “أرجو”. الفيلم يحكي قصة تهريب عاملين في سفارة كندا من قبضة قوات الأمن الإيرانية بعد اقتحام الحشود الإيرانية لسفارات أجنبية، والاحتجاز الشهير لرهائن السفارة الأمريكية.
رسائل الأخبار العاجلة قالت لي إن حشودًا من شباب إسلاميين مؤيدين لحازم أبو إسماعيل هاجموا مقر حزب الوفد القريب من السينما، حيث تجتمع هناك أحيانًا “جبهة الإنقاذ” (الجبهة المعارضة لسلطة الإخوان).
شعرت بتوتر .. آخرين عرفوا الأخبار من هواتفهم الذكية. ولكن توترنا كان سابقًا على ذلك بسبب الفيلم. قبل سنوات كنت سأتعاطف مع حشود هذه الثورة الشعبية الإيرانية – مهما كان “انحرافها” – ولكن الآن “الموضوع شخصي”. تعاطفي الحاسم كان مع من يريدون الهروب من غشم “حرس الثورة” الإيرانيين، الذين يذكرني خطابهم وهيئتهم وحضورهم الأحمق بحشود الإسلاميين التي نواجهها في الشوارع.
ساعتها فكرت أنني لم أحب ولا أحب أن أكون من نوع “المناضلين العقائديين” الذين يتساهلون مع “انحراف ثورة” تذهب بهم إلى السجون أو المشانق؛ لأن النظرية تطالبهم ألا يأخذوا الأمر على محمل شخصي، فيتعاطفون مع “دولة ناصر” أو يبدون تفهما للمسار الشعبوي للثورة الإيرانية.
“ملعون أبو الإخوان المسلمين!” غمغم بها أكثر من واحد ونحن خارجين من قاعة السينما وهو يزفر ارتياحًا لأن أبطال الفيلم تمكنوا من الإفلات والهروب، وزاد آخرون سبابًا بذيئًا في مزاح جانبي فشاركتهم إياه واستعرت شعار حازم أبو إسماعيل في مزاح لم يتقبلوه تمامًا وقلت لهم: “سنحيا كراما” واضطررت أن أردف “كلنا .. رغم أنفهم .. وإلا هايطلع عين أبوهم”. خالفوني وقالوا: “لأ ، هؤلاء لا ينفع معهم إلا القوة وإلا سيسحقوننا.. لازم يطلع عين أبوهم!”
في المقهى الفاخر في الحي “الراقي” حيث يسكن قال لي صديقي السلفي الذي أصبح من مؤيدي حازم صلاح أبو إسماعيل: “أمثالك يا عمرو ممن يفتنون الناس في دينهم، سيكون لديهم فرصة التوبة عن ذلك عندما تتمكن سلطة إسلامية من إعادة الشعب لهويته وتطبيق الشريعة، وستكون لديكم الفرصة للتوبة والعودة. العلماني ليس بمسلم، هذا كلام من تقولون عليهم إرهابيين، ولكنه أيضًا كلام الشيخ الشعراوي، وسيكون كلام الأزهر تحت سلطة جديدة، لا مهرب يا عمرو. ارجع أحسن لك”. يضحك بقوة فأقول له “بعينك!” فيردف بجدية “ساعتها سيكون حد الردة في انتظاركم، لن أستطيع حتى أن أشعر بالأسف من أجلك إن توفرت لك كل سبل الهداية والرجوع وأصررت على جاهليتك. ستموت للأسف”.
وأشار إلى الساقي يطلب كافيه لاتيه.
طلبت (شاي) وقلت له بابتسامة : “ليكن .. بس شوف إزاي أنا هاقلق راحتك”. في إشارة لعنوان مقال سابق لي – مقتبس من عنوان أغنية لمريام فارس- الذي وعدت فيه بأن أضع ولو مسمارًا في نعش سلطة الإسلاميين إن استكملوا السير عكس حريتي.
يوم 30 يونيو أرسلت لصديقي رسالة اقتبست من الأغنية الأحدث لميريام فارس :” كيفك إنت؟ .. إن شالله منيح .. بعدك متذكرني منيح؟”.
وكان رده المقتضب: “الشرعية معنا .. موتوا بغيظكم”.
ثم جرى ما جرى. ومات من زملائنا ومعارفنا العشرات، وعشنا نحن بغيظنا.
عشرات الساعات قضيتها في محاولة الكتابة منذ 30 يونيو باءت بالفشل، انتهت غالبًا بتدوينات غاضبة وسريعة على مواقع التواصل الاجتماعي، كنت أبصق المرارة في حلقي. أبصق قرفي ممن يرحبون بالموت في سبيل استعادة سلطتهم، وبين من يرحبون بقتل “الإرهابيين”.
“في صفنا الجنرال.. المعركة مرعبة” .. “أنا خايف.. مش م الهزيمة .. إنما م النصر .. مفروش طريقه بالجثث للقصر” ..
هكذا كتب أخي الشاعر محمود عزت في قصيدته “صلاة خوف” ملخصًا مشاعر من لا يعتقدون أنهم الآن في طريقهم للقصر، وأن الطريق لا زال طويلاً. وأن ذهابهم بدلاً منا إلى “المشانق” ليس “انتصارنا” ولكنه معكوس “انتصارهم” القبيح. لا تزال هناك “مشانق”، في انتظار المنهزمين.
صديقي الذي نشر صورة “المستقبل الغامض” رغم كل شيء يشارك في مظاهرات “أنصار الشرعية”، الشرعية الساقطة طبعًا وليس الحالية. يعتقد أنه من الضروري المشاركة في مقاومة السلطة القمعية القاتلة الآن، مهما كان “المستقبل الغامض” وراء ذلك، ومهما كان استياؤنا من هتافاتهم من أجل سلطتهم ومن أجل مشروعهم “إسلامية .. إسلامية” لأنها شعارات من أجل سراب بعيد المنال.
يعود صديقي من “مظاهراتهم” ويكتب ساخرًا أن فتاة جميلة أشارت إليهم من شرفتها بعلامات الاستياء، يضيف: “لا يمكن أن يكون الباطل بهذا الجمال”.
لا يمكن لوم الفتاة الجميلة في أن تكون في عداء من يلقون بشخصها إلى “مستقبل غامض” على طريقتهم يا صديقي. لا يمكن أن أشارك سلطويين مظلوميتهم التي تنضج عليها سلطتهم.
ربما غامرنا دائمًا بـ”مستقبل غامض” ، كل مشاركة في “ثورة” هي مغامرة بمستقبل غامض، ولكن نحن نحاول أن نشده إلى طريق معاكس، إلى طريق “الكل”.
عندما كانوا يشاركون في “حشودنا” -جميعًا- كانوا يكتمون شعارات التسلط باسم الهوية في صدورهم تقية وسط هتافنا : “عيش. حرية. كرامة إنسانية”. هكذا في المطلق. هتافنا جميعًا. هتاف الكل.
لم ينتصر بعد هتاف الكل، لم ننتصر، هذه انتصارات كل سلطة جديدة على كل سلطة قديمة. كنا شركاء في بعض المعركة، في صفنا جنرال، لم يكن هناك مهرب من مواجهة، لم يكن هناك مهرب من الموت، ومن الأسف، من يحبون لعبة المشانق قد تطولها أعناقهم، ولا أحب أن أغامر بعنقي، الموضوع شخصي، للأسف مرة ثانية، المعركة معقدة، المعركة مرعبة، الصفوف تتغير، أصوات الخوف والتوحش تطغى، صوتنا لا يزال يحاول منازعة الأصوات العتيقة الزاعقة التي اعتادها المكان والزمان.
ربما نجونا، ولكن هذا ليس انتصارنا!.