إجراءات التحليل التداولي للخطاب
تقديمإنه لمن الممتع حقا، أن نحلل نصا ما، ما بالوقوف علي إجراءات المنهج التداولي
[1]، نظرا لما توفره لنا التداولية من إجراءات، بعدما استطاع منظرون أمثال أوستين وسيرل و جرايس و بنفنيست، أن يفتحوا أفاقا جديدة وسُبُلا واسعة في النظر إلي اللغة، بالخروج من الفخ الذي سقط فيه البحث اللغوي البنوي؛ وقاموا بإدراج أبعاد جديدة تم إقصاؤها لأسباب تاريخية إبستيمولوجية من البحث اللساني؛ ولم يعد السباق المتعدد الأبعاد عناصر عرضية يتعين علي الباحث إقصاؤها بصرامة من البحث اللساني، بل صارت أسسا يستحيل الاستغناء عنها في فهم أبعاد اللغة والخطاب.
وتمكن الصعوبة التي تعيق الباحث الذي يرغب في تطبيق التداولية علي أي خطاب كان في ذلك الركام الكبير من المصطلحات و المفاهيم التي نشأت من مشارب ومنابع متفاوتة (لسانية و فلسفية وأنثروبولوجية…إلخ)، وتداخلت علي مستويات عديدة، جعلت الباحث يقف حائرا في أمره ويفتقد إلى نقطة بداية، ينطلق منها لدراسة نصه أو خطابه؛ وقد حمل هذا الأمر، بعض الباحثين
[2] إلى إطلاق لقب القمامة الإسبانية على التداولية، ولذلك، دعا بعضهم
[3] إلى محاولة وضع تصنيف منهجي لذلك الركام المعرفي والاصطلاحي، يسمح بمقاربة اللغة بإجراءات تكون أكثر فاعلية ونتائج التحليل أكثر فائدة ووجاهة؛ و قد أشارت فرانسواز أرمنقو، في كتابها عن التداولية، إلى محاولة الهولندي هانسون الذي يعود له الفضل في القيام بهذه المحاولة، وقد ونجح فيها إلى حد بعيد، حينما قسم التداولية إلى ثلاث درجات، بالوقوف على السياق و تجلياته.
وسنقترح، في هذا المقال، بعض الإجراءات، نعتقد أنها ستختصر الطريق لكل من يقوم بتطبيق المنهج التداولي على الخطاب، مهما كان نوعه و طبيعته؛ ولكننا نقر، منذ البداية، أن التداولية بكل إجراءاتها ومفاهيمها، لا يمكن لها أن تقوم مقام العديد من الأساليب والأنماط التي اقترحتها النظريات البنوية، بالرغم من نقائصها؛ فالتداولية، ما هي سوى زاوية من بين الزوايا الكثيرة التي ينظر بها إلى اللغة، وقد نجحت في سدّ العديد من الثغرات التي عجزت عن سدها النظريات اللسانية والنقدية البنوية، فقد تحل التداولية محل البنوية في العديد من المجالات، لكن ليس في كلها.
وعليه، فإن هذه النقاط التي سنعرضها على القارئ، لا ترتكز على مظاهر اللغة الداخلية (الصرفية أو التركيبية…) بصفة مطلقة، بقدر ما تحاول المزج بين عناصر اللغة وعناصر السياق المرتبطة بالمتكلم والمخاطَب وكل الظروف التي كانت سببا في نجاح العملية التبليغية؛ ونحن، مع ذلك، لن نضيف جديدا إلى ما جاءت به بعض النظريات التداولية، إنما سنعيد تنظيم بعض المفاهيم وتأويل مضامينها لتستجيب للغايات التي من أجلها وضعت، وأبرزها فهم التداولية وتيسير إجراءاتها لتحليل الخطاب الإنساني تحليلا سليما ومفضيا.
القصدية
تتعلق النقطة الأولى، بالمتكلم و بما يدور في خلده باستمرار أثناء إصداره لملفوظاته، ونريد بذلك القصدية، حيث يرتبط هذا المفهوم بكل ما من شأنه أن يحفّز المتكلم على تحريك العملية التبليغية، سواء ارتبط ذلك بما تم التصريح به من ملفوظات أو لم يرتبط، وتكتنفه علاقة، أيضا، بوظيفة المتلقي الأساسية، كمساعد في تأويل الملفوظات أو في التبليغ عموما؛ فمن الناحية المنهجية، يلعب القصد دورا محوريا في تأويل الملفوظات والنصوص، باعتبارها صادرة عن شخص قد لا يصرح عن مقاصده إلا قليلا، وعلى المحلل، في هذا المجال، أن يبحث عن هذه المقاصد في كل شبر من ملفوظات المتكلم، هذا من من جهة، وفي مختلف الظروف التي أسهمت في صدور الملفوظات، من جهة أخرى، وفي هذا المجال، لا يمكن الحديث عن انسجام الخطاب، إلا بالتحرر من الخطابات ذاتها، والركون إلى معرفة القصد الذي أصدر هذه الخطابات؛ تقول آن روبول: " إنه لمن تحصيل الحاصل أن نقول إن مفهوم الحالة الذهنية، أو بمعنى أدق، القصد، يشكل محور إنتاج وتأويل الملفوظات والخطابات"،
[4] وتذهب إلى أبعد من ذلك، بتصريحها إن تأويل الخطابات يتوقف نهائيا على تأويل الملفوظات الذي يتوقف تأويلها بدوره وبصفة كلية، على معرفة القصد، وهي في هذا السياق، ترفض اللجوء إلى مكونات الداخلية للملفوظات، في تتابعها أو تباعدها، للوصول إلى وضع تفسير منطقي ووجيه للخطاب؛ وعليه فهي تشطب بجرة قلم النظريات الشكلية
[5] التي تنطلق في تأويلها للخطاب من إعادة الصياغة والسرد والشرح والتفسير…التي تعتمد بدورها على الروابط والعوامل الحجاجية وأزمنة الأفعال وغيرها…
وقد انطلقت آن روبول، في منهجيتها لبناء نظرية تعتمد على القصد لتأويل الخطابات من تمييز ويلسون وسبربر
[6] بين نوعين من المقاصد:
- القصد الإخباري، الذي يكمن في رغبة المتكلم في إظهار مجموع ما يضطلع عليه للمخاطب.
- القصد التبليغي، وهو أن يعلن المتكلم صدقه بحقيقة قصده الإخباري.
يمكن القول، انطلاقا من هذا التحديد، إن إستراتيجية المؤول تكمن في التنبؤ بسلوكات الأشخاص بالوقوف على مقدمتين :
تشير المقدمة الأولى إلى أن الأشخاص هم عوامل أو ذوات عقلانية، وتشير الثانية إلى أن هؤلاء الأشخاص، هم نتاج معتقداتهم ورغباتهم وأحوالهم الذهنية. ففي هذا التمييز بين المقاصد الإخبارية والتبليغية، تُميّز روبول بين القصد المحلي intention locale الذي نجده على مستوى الملفوظات والقصد التبليغي intention communicative المتواجد على المستوى التبليغي؛ وفي نطاق آخر جعل طه عبد الرحمن ما أسماه بقاعدة الصدق، ضمن قواعد التهذيب: فيترتب عن قاعدة الصدق، التي تََمَثلها في قوله: " لتتفقد قصدك في كل قول تلقي به إلى الغير أمران أساسيان: " أحدهما وصل المستوى التبليغي بالمستوى التهذيبي للمخاطبة، والآخر إمكان الخروج عن الدلالة الظاهرة للقول،
[7] أما الأمر الأول، فهو على حد تعبيره، الوصل بين المستويين، فإن المتكلم متى تَبيّن حقيقة قصده من قوله، أثمر عنده هذا التَبيّن، نتيجتين، تقوم إحداهما في تعيّن وظيفته العملية أو قل تحدد مسؤوليته الأخلاقية، وتقوم النتيجة الثانية بصيانة قوله عن اللغو يحمله على العمل في إفادة المخاطب المعني والمقصود منه؛ أما الأمر الثاني، والذي هو إمكان الخروج عن الدلالة الظاهرة، فإن كان التعويل على القصد، جاز أن يتفاوت مقصود القول عن مضمونه، فلا يتسارع إلى فهم المخاطب، فيحتاج المخاطب إلى الدخول في العمل وتحمل مسؤولية المراد من القول، كما تحمله المتكلم في تفقده لقصده، نظرا لأن المتكلم يكون قد بلغه إليه بطريق التلميح لا بطريق التصريح، فيكون المخاطب مطالبا بتعقبه بمعونة القرائن المقامية والمقالية، والتي تتعلق بهذا القول، من غير أن يحصل له اليقين بأنه عين مقصود المتكلم، ولا يأمن رد المتكلم له.
[8]ويبدو من خلال ما ذهب إليه طه عبد الرحمن في تفسيره لقاعدة القصد أنه لم يخرج تماما عن التصور الذي وضعه جرايس، والذي لم يسلم من النقد، سواء أكان ذلك من قبل سيرل أو من قبل روبول وموشلر، فقد حدد جرايس القصد من خلال ما توفره لنا أعراف اللغة من معطيات، وهو الأمر الذي رفضه سيرل، إذ أورد مثالا يشرح فيه رفضه الاعتماد على اللغة وعناصرها لتأويل القصد، حيث يتلخص هذا المثال فيما يلي: سقط جندي أمريكي في قبضة الجنود الإيطاليين (وذلك أثناء الحرب العالمية الثانية)، فظل السجين يخاطبهم بالجملة الوحيدة التي يعرفها باللغة الألمانية وهي : هل تعرف البلاد التي تُزهر فيها أشجار الليمون؟
[9] فهذه الجملة لا تعني للإيطاليين الذين لا يعرفون الألمانية، سوى أن الجندي ألماني الجنسية، بتأويلهم كلام الجندي: أنا جندي الألماني، ولذلك لا يمكن معرفة القصد بالاعتماد على اللغة.
الإستراتيجيات التخاطبية
بعدما تبيّنا الوظيفة المحورية للمقصد في أية عملية تأويلية وتحليلية للخطاب، آن الأوان أن نشير إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أن الإستراتيجيات التي يتبناها المتكلم في خطاباته، لا بد أن تكون نتاج القصد؛ وعليه، تكمن غاية المتكلم أثناء مخاطبته للآخر في انسجام مقاصده بالأساليب التي يصوغ عليها ملفوظاته، لذلك فإننا لا نتصور شخصا يقصد التأثير في الآخر – مهما كانت طبيعة هذا التأثير – ما لم يتبنّ إستراتيجية معينة، يفرضها عليه المقام التبليغي ومختلف سياقاته، وقد جاء في معجم تعليمية اللغات أن" تحقيق أي قصد – تبليغي– لا بد أن يتم طبقا لإستراتيجيتي التي قد تكون استفهاما موجها لمخاطبي، أو إعلانا عن جهلي– بمعرفة ما – أو قول أشياء بغير حقيقتها– "أي الكذب"، آملا أن تصحيح مخاطبي لهذه الأكاذيب سيجعله يمدني بالحقيقة؛ وبأسلوب آخر، يلجأ المخاطب من أجل تحقيق غاية تأثيرية، إلى تبني بعض الأساليب الكلامية."
[10] وتجدر الإشارة إلى أن مصطلح الإستراتيجية ليس مصطلحا مستوحى من تقاليد البحث اللساني، بل هو استعارة من مختلف العلوم الحربية، التي تقتضي أنه لا يمكن الدخول في معركة دون إستراتيجية تأخذ بعين الاعتبار كل الأبعاد والعوامل التي من شأنها أن تشكل سندا وعونا في سبيل الانتصار على العدو، ولكل طرف في المعركة إستراتيجية الخاصة به؛ ونجد هذه الاستعارة، أيضا، بارزة في نظرية الألعاب، وهي مجموعة من القواعد، التي تتعدد بها سلوكيات اللاعب في أي مقام معين من اللعب
،[11] فيقوم اللاعبون بوضع سيناريوهات عن الأساليب التي سيهاجمون بها على الطرف الآخر وعن كيفية الدفاع عن أنفسهم أثناء هجوم الخصم عليهم. ولا يمكن تحديد الإستراتيجية إلا في الميدان أثناء البدء في عملية اللعب؛ ومن المؤكد أن هذا المصطلح قد تبنته ميادين معرفية عديدة، سبق أن أشرنا إلى ميدان نظرية الألعاب، ويمكن أن نضيف إليها ميدان علم النفس الذهني الذي يحدد مفهوم الإستراتيجية على أنها تتابع لعمليات تعكس خيارات يتبناها الشخص بغرض الوصول إلى غايته قبل أن تتحقق، وبأسلوب فعال وغير مكلّف، كأن يسعى المخاطب إلى إقناع الآخر بأحقية تأويله في قضية ما؛ وتختلف هذه الإستراتيجيات باختلاف العقبات والمعوقات، وباختلاف القدرات الذهنية للمتخاطبين؛ أما في علم النفس الاجتماعي فقد تتحدد الإستراتيجية بتوفر الشروط الآتية: وضعية تتميز بتردد أحد المتخاطبين أو كليهما، ومن غاية المتكلم الواعية أو غير الواعية، بقواعد اللعبة، يليه أخيرا تتابع منظم لمجموعة من الخيارات تعكس خطة معينة؛ أما في تحليل الخطاب فأفضل تحديد لهذا المفهوم، هو ذلك الذي حصر بنية اللغة في فضائين: فضاء من العقبات، يحتوي على معطيات دنيا، لا بد أن تتوفر ليكون الفعل اللغوي متحققا، ثم هناك فضاء الإستراتيجيات الذي يُحيل إلى الخيارات الممكنة للمتخاطبين أثناء مشهدة الأفعال اللغوية،
[12] ومن هذه المعطيات كلها، يمكن أن نستنتج أن الإستراتيجيات هي من صميم الخيارات التي تتبناها الذوات المتخاطبة، سواء أكان ذلك بوعي أو بغير وعي، والغاية من ذلك هو تحقيق عمليات لغوية؛ وتخضع هذه العملية لمجموعة من العقبات التي تتشكل من قواعد أو أعراف أو مواضعات، ويضيف شارودو إلى كل هذه الشروط، شرط توفر عامل العقد الذي يضمن الاستقرار والقابلية على توقع السلوكات، بصفة تمكّن الذات من اللعب بمعطيات ذلك العقد أو داخل هذه المعطيات، ويضيف شارودو بعد تحديده للإستراتيجيات اللغوية أنها تتمحور حول عدد من الرهانات، منها رهان إضفاء الشرعية الذي يحدد وضعية سلطة المتكلم، ورهان الصدق الذي سعى إلى تحديد وضعية صدق المتكلم، ورهان الإثارة الذي تكمن الغاية منه في حمل الآخر على المشاركة في العملية التبادلية التبليغية، انطلاقا مما يفكر فيه المتكلم.
[13]وبعد هذا التحديد المقتضب لمفهوم الإستراتيجيات اللغوية، يتعين علينا أن نشير إلى نقطة في غاية الأهمية، تكمن في أنه تم تحديد أنواع الإستراتيجيات في نوعين، على غرار أنواع المقاصد: فهناك الإستراتيجية الشاملة التي تتلخص في التوجه العام للفعل الذي يسعى المتكلم إلى تطبيقه أثناء العملية التفاعلية، ثم هناك الإستراتيجية المحلية التي تميز فترة محددة للعملية التفاعلية، و تفضل أوركيوني مصطلح مراتب المتكلمين، أو علاقات التموضُع rapports de place، عن استراتيجيات الكلام الشاملة والمحلية، فأثناء العملية التفاعلية يتموضع أحد المتخاطبين في مرتبة المهيمن على العملية الخطابية، بفضل مجموعة من المعطيات الاجتماعية أو المؤسساتية أو الدينية…الخ وبالتالي، يتعامل مع الآخر المهيمن عليه بمنطق الإلزام والرغبة في الخضوع، وينجر عن ذلك مفاوضات مستمرة بين المتفاعلين، تجعل أحدهم يتبنى منطق المقاومة والهجوم المعتاد الذي قد ينجح فيستعيد مكانة المهيمن، وقد تفشل فيلبث في مرتبة المهيمن عليه؛ ومن هذا كله، يمكن أن نقول إن البعد التداولي لهذا الموضوع، يكمن في أن مختلف النظريات التي تندرج ضمن المنظور التداولي للغة، تدخل ضمن دراسة مختلف الإستراتيجيات التي يتبناها المتكلمون أثناء تفاعلهم، انطلاقا من إدراكهم الواعي أو غير الواعي لمعطيات السياق، فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن ندرس الأفعال الكلامية الصادرة عن المتكلمين، ما لم نفهم القواعد والمواضعات اللغوية والاجتماعية والدينية والعرفية التي يخضع لها الفعل الكلامي الناجح، و قد لخصها أوستين في شروط النجاح Conditions de félicité وسيرل في القواعد التأسيسية Les règles constitutives ، التي تعطي الآمر القوة على القيام بفعل الأمر، والحكيم بفعل إسداء الوصية والقاضي بفتح الجلسة…الخ و تتجسد هذه الإستراتيجيات في قوانين الخطاب وأحكام المحادثة التي وضعها جرايس، وقنّنها ديكرو، والتي تحمل المتخاطبين على احترام أعراف التفاعل، كأن يُوجزوا في كلامهم، ويخبرون بقدر ما تفرضه عليهم العملية التبليغية، وأن يكونوا كذلك أكثر صدقا أثناء خطاباتهم، وهذا بقدر ما تسمح به العملية التبليغية، وأخيرا أن يستفيد المتخاطبون من هذه العملية؛ وتكمن الإستراتيجية في نظريات الحجاج في قدرة الذوات المتخاطبة على بناء نسق استدلالي لخطاباتهم، تكون قادرة على التأثير في أفكار ومعتقدات وسلوكات الآخر بناء على المقدمات التي تشكل أرضية المحاججة والنتائج التي تنجر عن صياغة المقدمات؛ ويمكن أن نوسع هذا المفهوم على جميع النظريات التي تشكل مجال التداولية، باعتبار هذه الأخيرة تنفرد بدراسة اللغة وقوفا على مختلف العناصر النفسية والخارجية للمتكلمين التي تشكل عالم السياق.
الغاية التأثيرية للعملية الخطابية
لا يمكن لنا أن نتصور فعلا تبليغيا أينما كان، ومهما كانت طبيعته، يخرج عن الغاية التي سعى إليها المتخاطبون، فقد يجادلنا أحد بقوله إن وضعيات عديدة في التاريخ تحيل إلى عدم رغبة أصحابها في تبليغ شيء ما، مثال ذلك الكاتب كافكا الذي رفض نشر دفاتره، نجيبهم في ذلك أن كافكا أدرك أن خطاباته لم تصل الجمهور كما أراد لها هو، وهو الأمر الذي دعاه إلى تبني إستراتيجية أخرى تختلف عن فعل الكتابة، وهي فعل شد الانتباه بأسلوب يجعل الجمهور الافتراضي يفهم الغاية التي من أجلها أخفى دفاتره، فهذه الغاية التأثيرية في الكلام تهدف إلى حمل الآخر على تأويل خطاب المتكلم بالصفة التي يريدها هذا الأخير، وهي الغاية التي تخضع أساسا لمقاصد المتكلم؛ ويلي ذلك الإستراتيجية التي تبناها هذا المتكلم باختياره لأساليب معينة انطلاقا من مجموع المعوقات التي تخضع لها العملية التخاطبية، فغاية الخطاب الإعلامي مثلا، تكمن دوما في التأثير على الجمهور وحمله على تبني أفكار الوسيلة الإعلامية، رغم التخفي وراء فعل الإعلام والإخبار، بل يمكن لنا أن نصرح دون أي تردد أن جميع الأفعال التبليغية وبدون استثناء ومهما بلغت درجة بساطتها أو تعقيدها، تسعى إلى تحقيق غاية معينة نسميها الإقناع أو التأويل أو التأثير أو الحمل على القيام بفعل…أو جعل فلان يقول كذا أو يفعل كذا…
ولا يسعنا في نهاية المطاف إلا أن نقر بأن أفضل إجراء لتحليل أي خطاب كان، هو الأخذ بعين الاعتبار أن الخطاب، مهما كان مصدره أو طبيعته أو درجة تعقيده، لا يمكن أن يخرج عن الماهية التي من أجلها صدر وهي القصد، والنسق الذي يبنى عليه يخضع هو أيضا لهذا القصد الذي يحدد بدوره الغاية التي من أجله صدر الخطاب.