الأسس الحجاجية للمقال الافتتاحي
"يعتبر المقال الافتتاحي من أهمّ فنون المقال الصّحفي لاعتماده في الشرح والتفسير والإيضاح على الحجج والبراهين، والإحصاءات والبيانات، للوصول في نهاية الأمر إلى إقناع القارئ وكسب تأييده." د. عبد العزيز شرف تقديمخير ما نبدأ به مقالنا هذا مقولة للأستاذ عبد العزيز شرف نبين من خلالها وجود شِبه إجماع بين الباحثين على أنّ النوع الّذي يعكس حقا بعد "الرّأي" في الجريدة، هو المقال الافتتاحي. فقد عرفه معجم الصّحافة المكتوبة بأنه: "مقال يلزم رأي الجريدة، يوقّعه مسؤول التحرير أو يكون موقّعا باسم الجريدة نفسها، ولا يكون هناك أكثر من عمود في عدد واحد منها"
[1]. إنّه المقال الّذي يتخذ موقفا معيّنا من حدث ما ويعبّر عن التوجّه الإيديولوجي الفكري للجريدة، ويلزم الجريدة، جرّاء ذلك، بمسؤولية أخلاقية تجاه القرّاء؛ ويشترط في محرّر العمود أن يكون مسؤولا في الجريدة وعلى إتقان كبير للكتابة مجيدا للّغة.
فالمقال الافتتاحي، كما هو معروف، لا يحمل دائما عنوان "الافتتاحية" Éditorial"، إذ هناك من الجرائد الجزائرية مثلا ما تستعمل تسميات أخرى مثل: "التعليق" (بالنّسبة لصحيفة "الوطن" الناطقة بالفرنسية) و"نقطة نظام" (بالنّسبة لجريدة "اليوم" النّاطقة بالعربية)، أو "راينا رايكم" (رأينا هو رأيكم)، أحيانا، و"Etats des lieux"، أحيانا أخرى (بالنّسبة لجريدة "Le quotidien d’Oran") و"الرّأي" (بالنّسبة لجريدة "الخبر") و"لحظة تأمّل" (بالنّسبة لجريدة "الشّعب").
وحرصا منه على إتمام مهمته الخطابية على أحسن وجه، يقوم الصحافي بتوظيف كل ما توفره له اللغة من تقنيات وأساليب ويقوم باستغلاله ليكون مقاله الافتتاحي أكثر أداء وإقناعا، وهو ما تؤكده مقولة أنطوان موريس
[2] Antoine Maurice من أنّ استخدام الصّور البلاغية كالاستعارة والتشبيه وغيرهما، تساهم بحق في تأكيد هذه الخاصية
* البنية الحجاجية للمقال الافتتاحي ننظر من خلال هذه الدّراسة في الأساليب الّتي يتم توظيفها من قبل محرّري هذا النّوع الصّحفي لتأدية الوظيفة الحجاجية للجريدة، ونتبين استراتيجية الصحافي في هذا المجال.
يعتبر المقال الافتتاحي المنبر الّذي يتم من خلاله التعليق على حادثة حينية، يتولى الصحافي عرضها انطلاقا من مبدأين يضطلع بهما هذا النوع الصحفي، هما مبدأ الإخبار الذي يُضطر فيه الصحافي إلى انتقاء الخبر حسبما يقتضيه توجه الجريدة العام، ومبدأ الانسجام الذي يقتضي استجابة ما تعرضه الجريدة للخط الوحيد الذي رسمه الصحافيون لجريدتهم.
فيما يخص جريدة "الشّعب"، مثلا، الصادرة في الرابع من جويلية عام 1989، تطرق فيه الصّحافي عبد العزيز لعيون لسير أشغال الندوة الوطنية الرّابعة لتعميم استعمال اللّغة العربية، حيث عنونها بـ "لغة الأئمة ولغة المناضلين…؟"، ويمكن أن نستنتج منه أنّ المقال يشكك في مختلف التظاهرات الّتي تنظّم سنويا في إطار التعريب في الجزائر.
تخلّلت هذا الفعل الكلامي الجامع ( التشكيك) الّذي تضمنه المقال، أفعال كلامية جزئية هي: التيئيس والتأسّف والتّفسير والتوجيه والتّحذير. هذا التّشكيك مرتبط بشروط تتعلّق بـ"الواقعية الحكيمة" الّتي على هؤلاء التحلي بها، والمقصود بـ "هؤلاء" ما أسماه "الأنتليجنسيا المعرّبة". ومن هنا، نتساءل عن المسار الحجاجي لهذا المقال، عن الأسباب الكامنة وراء عجز هؤلاء المعرّبين عن الوصول بالتعريب إلى درجة يرتفع فيها شأن اللغة العربية إلى مقام الرقي والسيادة. إنّ ما أراد الكاتب إثباته، من خلال هذا المقال، هو كيف أنّ الجزائر لم تتمكّن من إعطاء اللّغة العربية مكانتها رغم جيوش العاملين في سبيل ترقيتها والملايير الّتي تصرف في سبيل خدمتها ؟
يؤكد الكاتب في البداية (من خلال عبارتي بدون شك…. وأي نعم…) أنّ الوجهة الّتي نحتها عملية التّعريب جعلت (اللّغة العربية تنتظرها أياما صعبة ومعركة أخطر من كلّ المعارك الّتي جرت حتّى الآن)، وهي المعارك الّتي بدأت منذ محاولات الاستعمار الفرنسي الساعية لطمسها، إضافة إلى معركة تعريب الإدارة والمؤسسات التعليمية الّتي تصدى لها أشخاص وهيئات في السلطة وخارجها. هذا المنحى أو الوجهة تمثل في "المهرجانات" الكثيرة الّتي تقام في سبيل التّعريب، أمّا مصير توصيات هذه "المهرجانات" (فسيكون أشبه بمصير قصيدة شعر في ختام جلسة سمر)، وسبب ذلك، حسب الكاتب، فمرده إلى (أن الّذي يكثر في الكلام غالبا ما يذهب جهده هباء منثورا)، وقد كثرت الندوات والتوصيات حول التّعريب دون تطبيق ذلك في الواقع. فالتعريب، كما طبقته تلك "الأنتلجنسيا"، هو "عملية ضد اللّغة العربية" ومبرر ذلك أن (معركة اللّغة العربية توجد… في أماكن وجهات أخرى من النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وليس في القاعات والصالونات)، وأنّ التّعريب الحقيقي (يتوقف على عتبة أبواب النشاط الاقتصادي من تجارة ومالية وصناعة وغيرها)، وهو في واقع الأمر (المجال الّذي يحدد في حقيقة الأمر مصير اللّغة العربية، لأنّه الحقل الّذي تتلاقى فيه المنظومة التربوية والجهاز الإنتاجي وبين التنمية الثّقافية والعلمية والتقنية)، ولم تتمكن عملية التّعريب إلاّ من (إنتاج إطارات إيديولوجية لتزويد جبهة التحرير الوطني خاصة بالإطارات السّياسية وبمناضلين لترؤس المجالس المنتخبة أو لتزويد الحقل الديني بالدعاة والأئمة…)، وكان له ذلك (الأثر السيّئ على التماسك الاجتماعي)، أما مسببات هذا الوضع فراجعة إلى أنّ "الإطارات المفرنسة" أصبحت (في كافة الهياكل الثقافية والاقتصادية، أي قوى المال والعلم… في حين لا تجد الإطارات المعربة مكانتها إلاّ في المجال الإيديولوجي لجبهة التحرير الوطني والحقل الديني…).
ويختم الكاتب بفعل التحذير من أن تفقد اللّغة العربية حتّى مجالها الإيديولوجي والديني وأن تصير لغة غرس البطاطا وجنْيِها وعودة الاستعمار من جديد.
ويبدو من خلال ذلك أنّ الاقتضاءات الّتي سيطرت على أسطر المقال تشير كلها إلى أن التّعريب هو "عملية إيديولوجية" من اختصاص فئة المعربين. أمّا مقاليد الحكم، فهي بين أيدي المفرنسين الّذين لا يبالون البتة بهذه العملية. ويقتصر انشغال المعربين الوحيد على إقامة مهرجانات وندوات حول تلك القضايا الّتي يدافعون عنها، دون أن يكون لذلك أثر في الواقع. والغالب أن العناوين تتشكل فيها أحيانا الاقتضاءات الّتي بنيت عليها المقالات، و نلمس ذلك مثلا في العنوان "لغة الأئمة والمناضلين…" الّذي يحيل بدوره إلى الأسئلة التالية: هل اللّغة العربية هي لغة الأئمة والمناضلين فقط؟ ألا يمكن لها أن تكون لغة التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا؟ ما الّذي جعلها لا تكون كذلك رغم ما يصرف من أجلها من أموال طائلة؟
البلاغة كاستراتيجية للحجاج في المقال الافتتاحيتوظف مقالات عديدة في افتتاحياتها بعض الفنون البلاغية كالاستعارة والتشبيه والكناية، ليكون خطابها أكثر تأثيرا. وقد قلنا فيما سبق إن المقال الافتتاحي نوع يدخل في إطار صحافة الرّأي الّتي تضطلع بوظيفة الحجاج والإقناع، باستخدام كلّ الوسائل الّتي توفرها لها اللّغة، وأهمها المجاز. يقول طه عبد الرحمن
[3]: "فلا حجاج بغير مجاز، ولا أدل على هذا من أن اللسان العربي يطلق على الحجاج المجازي اسم "الاعتبار"، ومقتضى الاعتبار هو الاستدلال بالعبارة على "العبرة" الّتي تحتها أي الاستدلال بالمقصود على المقصد، وهو مقتضى المجاز نفسه"، والمقصود هنا هو الإقناع.
ونجد هذه الاستراتيجية في المقال الأول المعنون بـ "لغة الأئمة والمناضلين" أثناء تشبيه الصحافي لما يجري في تلك الندوات الّتي تنظم في قضية التّعريب، من كلام وتوصيات، بقصيدة شعر في ختام جلسة سمر، وهو تشبيه يحدث أثرا تصويريا في دماغ القارئ ويختصر له الفكرة الّتي أراد الكاتب إيصالها، بطريقة كاريكاتورية، "وهذا من شأنه أن يفتح الخطاب على سياقات جديدة، يخرج فيها عن الصرامة الفكرية"
[4]؛ إن الصّحافي عبد العالي رزاقي في مقاله الافتتاحي لأسبوعية الشروق الثقافي الصادرة بتاريخ السابع من شهر أفريل1994، يشبه فيه منتجي الثقافة في بلادنا بمنتجي أدوات مثل أدوات التجميل والمصبرات وعلب السجائر، وكأن الثقافة الّتي تحتوي، في رأيه على كلّ مقومات الشخصية الوطنية صارت سلعة مثل باقي السلع الموجودة في الأسواق، فإنتاج مثل هذه السلع لا يحتاج فيه صاحبها إلى المغامرة في اتخاذ موقف ما تجاه ما ينتجه، فما عليهم إلاّ أن يعرضوها في الأسواق ويتركوا المشتري يختار ما يحلو له ويتوافق ومزاجه واحتياجاته. وهنا يكمن البعد الحجاجي لهذا التشبيه الّذي يقضي بعدم إنزال الثقافة إلى هذه المنزلة، وإن حدث ذلك فإن مرده، عند منتجي الثقافة عندنا إلى "لا موقف" و"لا رأي".
وفي المقال الافتتاحي لجريدة Le Matin الصادرة بتاريخ الثالث والعشرين أفريل 1993، وفي سياق حديث الجريدة عن محاولات بعض الشّخصيات الوطنية اقتراح فكرة إصلاح المنظومة التربوية الجزائرية، جاء أن كلّ من حاولوا الحديث عن إصلاح هذه المنظومة (قد دفعوا ثمن ذلك، ويعود السبب إلى مختلف "اللّوبيهات" الّتي "سيّست" و"أدلجت" المدرسة الجزائرية)، وشبّه هذه الجماعات بـ "الكامورا البعثية" "La Camorra Baathiste"
[5]، وهي تلك الجماعات، في السلطة وخارجها، الّتي تتبنى التوجه العربي الاسلامي. ومن هنا فإن البعد الحجاجي لهذه الكلمة يكمن في أن هذه الجماعات توظف كلّ الوسائل، ومنها التصفية "المعنوية" للوصول إلى أغراضها، خاصة إذا تعلق الأمر بقضية مثل "الثوابت الوطنية". ويأخذ التشبيه بعدا واصفا، حينما يتعلق الأمر بوصف الآخر ماديا أو معنويا، وذلك باعتماد استراتيجية الاقتضاء. مثال ذلك ما جاء في المقال الافتتاحي لجريدة Liberté الصادرة بتاريخ الرابع عشر من شهر جويلية 2000 حينما شبه الصّحافي عبروس أوتودرت، وهو رئيس تحرير الجريدة، الحملة الّتي شنها أصحاب "المدرسة الجزائرية الأصيلة" والتي دعمتها أحزاب إسلاموية مثل "حمس" و"حركة الإصلاح الوطني" "بالحملة الصليبية" "Croisades"، وهو وصف يقترب إلى حد ما من دلالة صحافي Le Matin المذكورة سابقا، إذ إن الدلالة الاقتضائية لهذه الكلمة توحي بإمكانية توظيف أي وسيلة لقهر العدو، ومن ذلك التصفية، لأن الحروب الصليبية كما وصفها بعض المؤرخين كانت تقضي على الأخضر واليابس. ثمّ تلى تشبيه هؤلاء "بالطفيليين" الّذين حاولوا التشويش على فكرة إصلاح المنظومة التربوية (نتيجة إخفاق محاولات بعض المقربين من الحركات الإسلاموية في إحداث البلبلة (في محاولات إصلاح المنظومة التربوية)، مشبّها إيّاهم بـ "حفاري الخنادق والقبور Les fossoyeurs" وقد جاء في معجم اللّغة الفرنسية أن هذه الكلمة تحمل معنيين: معنى حقيقي وهو حفار الخنادق و القبور ومعنى مجازي هو الكيد للغير، وهو المعنى المقصود في هذا التشبيه الّذي أورده الصّحافي. ومن هنا يلاحظ القارئ أن الصحافي، بهذه التشبيهات، يحاول أن يرسم صورة أو بورتري لتلك الشّخصيات المعارضة للتوجه الثّقافي والإيديولوجي للجريدة.
أمّا الاستعارة فقد وظفها صحافي جريدة Le Matin لإظهار إلى أي مدى يمكن "لتلك المافيا" أن تصيب بالضرر كلّ من يمس مصالحها أو تسوّل له نفسه الاقتراب منها: هناك آخرون أمثال هذا المفكّر (المقصود هنا هو مصطفى الأشرف) الذي تمّ إطفاء شعلته لأنه تجرأعلى الحديث عن هز شجرة جوز الهند الّتي تثمر في كلّ سنة ثمارا مُرة من الخيال المحدود واللا تسامح. فالشجرة قصد بها المنظومة المدرسية الجزائرية، أمّا الثمار المُرّة فهي أولئك الأشخاص الّذين يتميزون في نظر الجريدة، "بالخيال المحدود واللا تسامح" اتجاه كلّ من يختلفون معهم في التفكير.
ولفهم البعد الحجاجي لهذه الاقتضاءات الّتي احتوتها العبارة، لا بد من فهم البنية الحجاجية العامة للمقال، فقد جاء مدافعا عن رغبة حكومة عبد السلام في فتح ملف المنظومة التربوية بعد أن فشلت المدرسة الجزائرية في مهمتها لبناء مجتمع راق ومتوازن، بسبب خضوعها عقودا من الزمن "للصراعات الإيديولوجية والسياسية" ولمختلف اللوبيهات و العصب " الّتي منعت أية "محاولة للإصلاح"، فقد ظل مصير كلّ من حاول الحديث هذه الأخيرة "الصمت القمعي".
وقد اختتم المنحى الحجاجي بأمنية الصّحافي في أن يكون هذا الحديث، الّذي باشرته الحكومة عن الإصلاح التربوي، لبنة لإصلاح شامل حتّى ولو "سقطت المصالح".
أمّا الكناية، فقد تم توظيفها بنفس البعد الحجاجي الّذي وظفت فيه التشبيهات والاستعارات. فقد وظفها صحافي جريدة La Tribune في مقالها الافتتاحي لعددها الصادر بتاريخ السابع والعشرين من شهر فيفري1997، ليصف، من جهة، ما آلت إليه الحركة الديموقراطية الجزائرية من ترد و هي الّتي كانت تتميز بالمطالبة المستمرة، على رأسها "الحركة الثّقافية البربرية"، وما آلت إليه "القضايا الديموقراطية المرتبطة بالتحرر الاجتماعي في مجمله" من جهة أخرى. فجاءت الكناية الأولى للتعبير عن انحسار الحركة البربرية إلى درجة انفجارها إلى تيارات متعددة، وفي ذلك كناية عن عجز هذه الحركة عن التجنيد والاقتراح والمطالبة بالقضايا الديموقراطية مع أنها شكلت في وقت ما "قطب المطالبة الديموقراطية" أمّا الثانية، فقد وردت في عبارة معروفة، تداولتها الصّحافة الجزائرية الناطقة باللغة الفرنسية بكثرة، للدلالة على تخلي السلطة عن قضية أو قانون أو مطلب ما، وهي العبارة Les Calendes grecques، التي تعني غرة الشهر لدى الإغريق وهي تواريخ غير محددة وغير مستقرة في الرزنامة الإغريقية، فهي كناية تضرب عن المواقف والمقامات الّتي يتم فيها تأجيل القيام بأمرما إلى آجال غير محددة. جاء هذا في الحديث عن تأجيل الحكومة للنظر في تعديل قانون الأسرة إلى ما بعد الانتخابات التشريعية الّتي لم يحدد تاريخها بعد. هذا التأجيل لم يكن يحدث لو كانت المطالبة الديموقراطية، وعلى رأسها "الحركة الثّقافية البربرية" قوية على حكومة أحمد أويحي. ناهيك عن أن هذا "التأجيل" لما بعد الانتخابات سيترك "قانون الأسرة" وسط تلاعبات سياسية أثناء الحملة الانتخابية.
الخطاب التحاوري وعنصر الحوارية في المقال الافتتاحيإنّ هذين العنصرين يضفيان على المقال عنصر الحيوية ويجعلانه ذا بعد تفاعلي، إذ تتدخل فيه مجموعة من الأصوات تتحاور وتتحاجج وتتبادل أطراف الحديث، ويتم ذلك باستحضار الأمثال والحكم الّتي تدخل ضمن ما يسمى "بالعبقرية الجماعية"، وذلك ليدعم الصّحافي رأيه باقتضاءات جماعية غير قابلة للنقاش وإحضار أصوات المؤيدين في سبيل تدعيم الرّأي أو المعارضين من أجل دحض فكرته أو انتقاد شخصيته والسخرية منه.
في حالات عديدة، اختتم المقال بعبارات تدخل ضمن الاقتضاءات التي تشكل قيما غير قابلة للنقاش. نقتصر هنا على حالتين، حالة واحدة عُنون بها المقال، المقال الأول اختتمه صاحبه (جريدة الشّعب المذكورة آنفا) بآية قرآنية ]وكفى الله المؤمنين القتال[
[6]، وقد أخذت بعدا تحذيريا لأولئك الّذين لا يبالون بالمنحى الّذي اتخذته عملية التّعريب. ورأينا فيما سبق أن الكثير من الصحافيين يعتمدون الاستشهاد بالقرآن الكريم كدعامة حجاجية، لأن المعروف أن القرآن ليس بكلام البشر، وهو بالتالي كلام "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، والذات التي صدر عنها هي ذات إلهية متعالية.
أمّا المقال الثاني، فهو للصحافي أحمد قدوري، من جريدة الأحرار، الصادرة يوم 10 جوان 2000، ويحمل عنوان "باسم الديموقراطية… تزحف الفرنسية" فقد جاءت خاتمته مذيلة ببيتين شعريين مشهورين للإمام عبد الحميد ابن باديس، و يلخصان "ثوابت الأمة الجزائرية" فيما يلي:
شعب الجزائر مسلـم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب
وممّا لا شك فيه أن استحضار شخصية الإمام ابن باديس وكلامه جاء للرد على أولئك الّذين يسعون إلى "إعادة اللّغة الفرنسية إلى حالها قبل الاستقلال ". ويأتي ذلك نتيجة مخاطبة الصّحافي نفسه وأمثاله من "جيل أبناء الشهداء" باستخدام ضمير الجمع "نحن"، (بل ندافع عن أحد مبادئ آبائنا الّذين ضحوا بالنفس والنفيس من أجل أن تتحرر البلاد من الاستعمار بشكليه العسكري والثقافي)، فقد أورد، بشأن الأخير، مقولة شاعت قبل كتابته للمقال مضمونها أن الاستعمار الفرنسي في الجزائر استعمار ثقافي" ومن أجل تثبيت هذه المقولة، يذهب الصحافي إلى القول (سنتصدى لمواجهة هذه الأفكار الّتي تريد فرنسة الجزائر بعدما فشلت بالنار والبارود)، يستحضر بعد ذلك كلام الخصوم، بأسلوب غير مباشر، ليرد عليه ويدحض حججه، بقوله:(ولا يعتبرنا البعض بأننا متحجرون، بل ندافع عن أحد مبادئ آبائنا…). ويكمن البعد الحواري أيضا في تلك الأسئلة الّتي طرحها الصّحافي عبد العالي رزاقي في أسبوعية الشروق التي تضمنت اقتضاءات تشكل في رأينا إجابات صريحة يمكن أن نذكر بعضها:
الإجابة عن السؤال الأول: نحن (صحافيي الجريدة) تجرأنا على فتح "المسكوت عنه" في الثقافة الوطنية.
الإجابة عن السؤال الثاني: نحن تجرأنا على طرح الموضوعات الّتي لها علاقة …
الإجابة عن السؤال الثالث: نحن تجرأنا على القول بأن مثقفينا وباحثينا …
الإجابة عن السؤال الرابع: نحن تجرأنا على الاعتراف بأن ما يربط السّياسي والثقافي …
وما هو أكثر دلالة في هذا السياق ما صرح به في نقطة متقدمة من المقال بأنّ: (الشروق الثّقافي أقدمت على فتح "الملف"…)
وفي الأخير يفتح مجالا للحوار بمخاطبته لفئات من المثقفين ومن رجال السياسة فنجده يخاطب "عشاق سي امحند أومحند" بقوله: (ماذا نقول لعشاق سي محند أومحند سوى أنّ الساسة ضيعوه في خضم البحث عن انتماء آخر)، ولدعاة كتابة الأمازيغية بالحروف اللاتينية: (وماذا نقول لدعاة الأمازيغية بالحروف اللاتينية سوى أن الفرنسية لن تكون بديلا للأمازيغية… وأننا لا يمكن أن ننتمي للحضارة العربية الإسلامية ما لم …)؛ ولأهل المتوسطية: (فقليلا من "التواضع" يا أهل "المتوسطية")؛ ولمعارضيه دون ذكر أسمائهم: (وقليلا من احترام موتانا البرابرة من أبوليوس إلى سي امحند أومحند)، ولا شكّ أنّه يخاطب هنا مناضلي الحركة الثّقافية البربرية.
إن الحوار، بينه وبين الآخرين، جسّده استخدامه للضمائر "نحن" و"أنتم"، ويعتبر توظيف الأمثال والحكم الشعبية نوعا خطابيا مصغرا. ويعتبر د. منغونو
[7] هذه الظاهرة من أهم الظواهر الّتي تتجسد فيها الحوارية. فحينما يتلفظ الشخص بهذا النوع الخطابي، يكون قد أسس لإثبات مشروع مصدره كيان غير محدد هو "عبقرية وحكمة الشعوب". ويقدم قوله ذلك بمثابة صدى لعدد غير متناه من الملفوظات السابقة ويحدث الأمر نفسه خلال توظيف الصّحافي عبد العالي رزاقي لمثل لا نعرف مصدره، وهو "ماذا يضر الشاة بعد الذبح إذا تفنّن الجزارون في تعذيبها؟"
* وماذا يضر الجزائر إن فقدت رجولة أكاديمييها وكتابها ومثقفيها، مادامت حاملة لماض عريق وشعب عتيد". وهنا تتجلى رغبة الصّحافي في الاستناد إلى "العبقرية الشعبية" لتدعيم حجته، بالإحالة إلى الاقتضاءات الّتي تدخل، حسب أموسي، في إطار الاقـتضاءات العامـة.
ولكي يفند صحافي جريدة Liberté الصـادرة بتاريـخ الرابع عشر من شهر جويلية 2000 حجج الشيخ نحناح "ومن يدور في فلكه"، يستعرض أقواله بأسلوب مباشر، ويقف على الكلمات والعبارات الّتي تحمل اقتضاءات لا يمكن إلاّ أن تتعرض للنقد. من هذه الكلمات: "الانتفاضة" الّتي تحمل دلالة ثورة الشّعب الفلسطيني على الاحتلال الإسرائيلي، لأن كلمة "انتفاضة" قد دخلت المعاجم في كلّ اللغات بمعنى خاص مرتبط بسياق الصراع المحتدم في فلسطين بين أطفال عزل سلاحهم الوحيد الحجارة وجيش مدجج بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا الحربية. فبالنسبة للشيخ نحناح، نحن نعتقد أنه استخدم هذه الكلمة، "تبركا بانتفاضة الشّعب الفلسطيني" على حد تعبيره ـ فقد عبر عن ذلك في عدة مناسبات في التلفزيون وفي بعض تجمعاته ـ كرد فعل على بعض السياسيين والإعلاميين، في السلطة وخارجها، الّذين يريدون "إعادة اللّغة الفرنسية إلى السنة الأولى ابتدائي"، وحصر مادة التربية الإسلامية في مادة التربية المدنية هو(مساس بثوابت الأمة الجزائرية، أهمها اللّغة العربية والإسلام). أمّا بالنسبة للصحافي فلا يمكن أن تنطبق هذه المشابهة على الوضع في الجزائر، خاصة وأنه وضعها بين مزدوجتين، لأن دلالة الانتفاضة تقتضي وجود كيانين مستقلين: مستعمِر ومستعمَر، وهو ما لا نجده في الساحة السّياسية الجزائرية، إضافة إلى ذلك أن حزب الشيخ نحناح هو عضو في الائتلاف الحكومي.
زيادة على هذا فإن الغاية من هذه "الانتفاضة" هو "حماية اللّغة العربية من الخطر الرسمي"، والمعروف حسب الاقتضاءات الإيديولوجية لهذه الجريدة، أن الائتلاف الحكومي يتشكل أساسا من الأحزاب الّتي تسعى من خلال برامجها إلى حماية "الثوابت الوطنية" الّتي أساسها اللّغة العربية. فلا يمكن إذن لانتفاضة أن تقوم على سلطة تتشكل من الأحزاب الّتي تتفق على "ثوابت"، وهي السلطة الّتي أمرت بتشكيل "لجنة لإصلاح المنظومة التربوية" والّتي لم تسلم من الانتقادات.
البعد الحجاجي للسّخرية في المقال الافتتاحيإنّ الظواهر المذكورة هي ظواهر متعددة الأصوات على المستوى المحلي يتم تحديدها في إطار المقاطع. أمّا السّخرية فغالبا ما تقع خارج هذا الإطار المقطعي، إلاّ أننا نجدها أحيانا في استخدام بعض الكلمات بتحويرها وباستعمالها في غير سياقها الأصلي. والسخرية في مجال تعدد الأصوات، هي في نفس درجة الاستعارة الّتي توظف من أجل إبراز قيمة شخص معين، كأن نقول "زيد صخرة" وأخذناه بالمعنى المخالف قاصدين بذلك السّخرية
*؛ "إذ يقوم المتلفظ بتقليد نصّ أو نوع بغرض الحط منه"
[8]. ويتوقف هذا التقليد، في الخطاب الشفوي، على حركات وإيماءات المتكلم، أمّا في الخطاب المكتوب فالسياق هو الّذي يتكفل بتأويل الخطاب على أنه سخرية. ويرى منغونو أنّ ما يجعل هذه الظاهرة تصنّف ضمن الظواهر المتعددة الأصوات هو أنّ "تحليل هذا الصنف من التلفظ يتم على أساس تجسيد ما يقوم فيه المتلفظ بالتلفظ بأقوال شخص هازئ يتكلم بجد، وبالابتعاد عنه ومخالفته له بالحركات والنبرات، في تلك اللحظة الّتي يسمح له فيها بالكلام"
[9].
وتتجلى السّخرية في هذا المقطع من مقال الصّحافي محمد بوازيدية من جريدة "اليوم" الصادرة بتاريخ الخامس عشر من ماي لعام 2000، حيث جاء فيه أن: (المدرسة الجزائرية مريضة، لا شك في ذلك، مريضة لأنها تنتج متعلمين ولا علماء، ولا باحثين ولا سياسيين ولا قادة، ونسبة كبيرة من الّذين ذهبوا في يوم من الأيام إلى المدرسة الجزائرية، يجب على المجتمع أن يتحمل أميتهم وعلى الدولة أن تفكر في إعادة تمدرسهم، في محاولة يائسة للقضاء على الأمية، ولكن نسبة الأمية لا تزال ترتفع من سنة إلى أخرى، والذين يجتازون مراحل التعليم إلى الجامعة، أكثر المتخرجين منهم يحتاجون إلى إعادة تكوين فوري، وذلك من أجل تحسين مستواه في اللّغة الأجنبية التي ظل يتعلمها لسنوات دون جدوى، ومن هنا نجد مهندسين لم يدخلوا مخبرا في حياتهم وهكذا دواليك).
نعتقد من خلال ما جاء في المقطع السابق أن الصّحافي يسخر ممن وصفهم "بالمشتغلين بالسياسة" الّذين ظلوا يطلقون مختلف الألقاب على المنظومة التربوية الجزائرية ليس لهدف إلاّ "لإعادة اللّغة الفرنسية بقوة" إلى المنظومة التربوية والثقافية والاجتماعية. ولا أدل على ذلك المقطع الّذي اختتم به مقاله الافتتاحي بقوله: "وأصبحت اللّغة عند المشتغلين بالسياسة عندنا هدفا لا وسيلة تخاطب وتواصل مع أن كلّ الدول الّتي انتزعت استقلالها أعادت الاعتبار إلى لغتها في المدارس والجامعات دون ضوضاء" و"الضوضاء" هنا يتمثل في المقطع المذكور آنفا.
أمّا فيما يتعلق بالسخرية في استخدام بعض التعابير والكلمات، فإن البعد الحجاجي فيها يبرز بوضوح إذا نظرنا إلى اقتضاءاتها. حيث صارت كلمة "عائلة Famille" تحمل في الاستعمال الصحفي الجزائري في الفترة التي احتدم فيها النقاش حول "قانون الأسرة" دلالتين متناقضتين في الاستخدام الغالب.
إن الصحافي يستند في تحديده لمفهوم العائلة إلى التشريع الجزائري الذي ينظم الأحوال الشخصية للعائلة بعامة كالزواج والميراث والطلاق، وهو الذي حصر مكوناتها في الزوج والزوجة والأطفال.
المعنى السياسي، والمقصود به العائلة السّياسية "الّتي تتشكل من مجموعة من الأحزاب والجمعيات والشخصيات داخل السلطة وخارجها تناضل من أجل الإبقاء على التشريع الحالي للأحوال الشخصية الجزائرية، وهي (الأحزاب والجمعيات والشّخصيات) الّتي تشكل ما أسمته الصّحافة بالتيار "الوطني المحافظ" أو "الإسلاموي المحافظ"، فقد وردت عبارة la famille politico-idéologique مرادفا لعبارةLa majorité islamo-conservatrice في المقال الافتتاحي لجريدة الوطن
El Watan في عددها الصادر بتاريخ الثامن والعشرين جانفي 1997، حين استخدمت العبارة مرادفاً لعبارة (الأغلبية الإسلاموية المحافظة) والبعد الحجاجي في استخدام الدلالة السّياسية لكلمة العائلة هو الإثبات بأن هذه العائلة تقف موقف المعرقل للتطور الطبيعي والسوي "للعائلة" بالمعنى التقليدي، تحت غطاء الحفاظ على "ثوابت الأمة"، لأن كلّ القضايا الّتي لا تزال محل نقاش في الساحة السّياسية والإعلامية الجزائرية، تخضع دائما ودون أي استثناء للاقتضاءات الّتي تشكل الثنائيات التالية: العربية مقابل الفرنسية، والمحافظ مقابل العصراني أو ديموقراطي والديـني مقابل العلماني أو اللائكي.
الوظيفة الحجاجية للسرد في المقال الافتتاحينسعى في هذا المبحث إلى إثبات أن المقطع السردي هو في الحقيقة ذو ماهية حجاجية؛ فالأسلوب أو القالب اللغوي والمقطعي الّذي تنتظم فيه القضايا من تقديم وتعقد للأحداث ومن فك للأزمة، هو أصلا موضوع لخدمة الغاية الحجاجية للنص الصحفي، وبخاصة إذا تعلق الأمر بالمقال الافتتاحي
*. ولكننا في هذا المقام سنثبت من خلال بعض المقالات الصحفية أن المقطع السردي قد يتغير في شكله رغم حفاظه على ماهيته، بمعنى أنه لن يظهر دوما بالأسلوب الشكلي الّذي حدده الأستاذ ج. م. آدم ففي بعض الأحيان يتعمد الصّحافي ترك الأزمة على حالها، دون أن نلحظ فكا لهذه الأزمة، مما يضفي على المقال طابعا دراميا مستمرا ينعكس على البعد الحجاجي1 (بالمعنى العاطفي لهذه الكلمة).
نلاحظ ذلك مثلا في المقال الافتتاحي لجريدة الأحرار المذكورة سابقا، والتي يفتتح فيها بحدث دفاع علماء الجزائر عن اللّغة العربية ومعاناتهم جراء ذلك "رغم ما لحق بهم من أذى"، أخيرا "تحرّرت البلاد من قبضة الاستعمار". قبل أن نواصل في التحليل لا بد أن نعرف أن قيمة الاقتضاءات تكمن في مساعدتنا على استمرار الحدث وحتى على فهم الحدث أو الأحداث رغم عدم تصريح المتكلم لها، خاصة وأننا نتعامل مع نوع صحافي تكمن أهميته في أنه يعتمد على الحجاج أكثر مما يعتمد على الأخبار.
ونتيجة لهذا "التحرير"، "فكّ قيد العباد وأطلق لسان الخطباء للتكلم بلغة الشّعب"، و"كعبرة" لكل ما حدث "يكون الانتماء المصطنع بالقوة قد زال مع زوال أهله".
هذه العبرة الّتي احتواها الملفوظ تمثل نقطة انتماء المقطع السردي الأول للمقال، وهو مقطع جاء على صيغة السرد في الحكايات الخرافية على غرار ألف ليلة وليلة ولافونتين وحكايات أندرسن. إلاّ أن هذا المقطع قد تضمنه مقطع آخر، ابتدأ مباشرة بالرابط الحجاجي "لكن"، إذ أن "ما حدث بعده كان أمرّ…"، وهذه المرارة تكمن في أنّ كلّ ما جرى للجزائر منذ عقود من الزمن كان بسبب استرجاع اللّغة العربية كسند أساسي لمقومات اللّغة العربية، وأن "كلّ هذه المحطات لم تؤخذ بعين الاعتبار ولم تعرف صمودا في تطبيقها (تعميم اللّغة العربية) وازداد التعنت في استعمالها (الهاء هنا يعود على اللّغة الفرنسية) لا سيما في الآونة الأخيرة…" إلاّ أن الحل، حسب الصّحافي، هو أن "نتجند جميعا للدفاع عن هذه المبادئ لتحرير أنفسنا من الثقافات المفروضة ونختار طريقنا بأنفسنا دون توجيه خارجي" لكن ذلك لم يعطنا حلا لتأزم الأحداث".
إن "لكن" هو الرابط الّذي استعمله الكاتب للدخول بنا في تأزم درامي للأحداث: "لكن ما حدث بعده …"، "لكن كلّ هذه المحطات في تاريخ الجزائريين …". وقد أكد ج. م. أدام
[10]، وقبله ديكرو، إلى الأهمية القصوى الّتي يضطلع بها الرابط "لكن mais" في التّوجيه الحجاجي والتأدية التداولية للخطاب، إذ إن الاستعمال الوحيد لـ "لكن" في الخطاب والذي لا تتغير دلالته هو الاستعمال في سياق المنطق، حينما يمكن تسميته بالرابط المنطقي أمّا باقي الاستعمالات في الخطاب عموما فهو استعمال حجاجي، أي أنه يفضي إلى نتائج لم تشر إليها اقتضاءات الملفوظ، وعدد هذه النتائج لا نهائي يستحيل حصره، ، فحينما نقول: السماء ماطرة لكنني سأخرج.
إنّ المنطق يقتضي أنه إذا كانت السماء ماطرة، فإن المتكلم سيلتزم المكوث في البيت، إلاّ أن المنطق الحجاجي قد يجعل المتكلم يصدر عدداً لا متناهياً من الملفوظات حسب تعدد السياقات ولانهائيتها. أمّا البنية السردية في العمود الصحفي لجريدة le Matin فإنها تتجسد فيما يلي: لم يكن للجزائر مدرسة، وهو ما أنتج وضعية شكلت مصدرا للبطالة والبؤس الثّقافي. هناك محاولات للخروج من هذه الوضعية مثل "محاولات الأساتذة اليائسة" وبعض الشّخصيات السّياسية والثقافية على غرار مصطفى الأشرف، الّذي دفع ثمن محاولته تلك "غاليا". إلاّ أنه بعدما قررت حكومة بلعيد عبد السلام فتح هذا الملف، فكت العقدة، وسيؤدي ذلك، حسب الصّحافي إلى سقوط ذوي الامتيازات والمصالح.
أمّا المقطع السردي في مقال يومية Liberté الصادرة في الرابع عشر جويلية2000، فقد تشكل من تقديم مضمونه أن السلطات قد فتحت "ورشة حقيقية" تمثلت في تشكيل لجنة لإصلاح المنظومة التربوية جل أعضائها متخصصون وذوو تجربة في الميدان، غير أن مجموعة من الأحزاب السّياسية لم تفوت هذه الفرصة لشن "حملة صليبية" على هذه اللجنة الّتي بدأت تبشر بالأمل. إلاّ أن تركيبة اللجنة لم تتأثر البتة بهذه "الحملة" ولا تزال تواصل بجد عملها دون الخضوع للضغوطات ممن أسماهم الصّحافي "بالتيار الإسلاموي" وهذا ما يبينه الشكل التالي:
الوضعية الأولى التأزم فك التأزم
(تشكيل لجنة إصلاح (شن بعض الأحزاب (عدم خضوع أعضاءاللجنة
المنظومة التربوية) حملة ضدّ اللّجنة) للضغوطات ومواصلتهم العمل)
هذه إذن هي الحالات الّتي يتجلى فيها المقطع السردي ذو الوظيفة الحجاجية، والتي تلعب فيه كلّ من الاقتضاءات والتناص دورا لا يستهان به من الناحية الدلالية والتداولية، في الوقت الّذي صارت فيه ظروف الإشارة تلعب دورا هاما في تحديد المفاهيم، إذ تعمل على توجيه الإطار الدلالي وتحدد مضامين الأحداث. مثال ذلك
: هذا الزحف … تلك هي المشكلة … Cette déclaration de guerre …Cette reculade
… وقد جاءت هذه العبارات كنتيجة لوصول الأحداث إلى وضعية ما وهي، لو أمعنا النظر فيها، وضعية تأزم الأحداث وتعقدها.
خلاصةيمكن القول في آخر هذه المداخلة إن المقال الافتتاحي يمثل بحق المجال الذي تتجلى فيه الأساليب الحجاجية التي تعكس أيديولوجية الجريدة. إن الصحافي لم يتوان عن توظيف أي وسيلة من أجل الدفاع عن أفكاره وآرائه ومعتقداته ودحض أفكار الغير ومعتقداتهم وآرائهم.
إن المقال الافتتاحي يضطلع بدور إضاءة القارئ وتوجيهه أثناء قراءته لباقي المقالات ويمثل أيضا "الواجهة" السياسية والأيديولوجية والثقافية التي تنظر بها الجريدة إلى الأحداث.
يعمد الصحافي، كاتب المقال الافتتاحي، إلى التفنن في اختيار أفضل ما توفره له اللغة من أساليب لغوية وبلاغية، في سبيل بناء هيكل حجاجي، يراعي فيه قواعد الاتساق والانسجام، من جهة، مع الأخذ بعين الاعتبار مقتضيات لسياق والمقام، من جهة أخرى.
ويعمل الصحافي على تضمين المقال الافتتاحي كل فكرة من شأنها أن تسهم في الدفاع عن التوجه العام للجريدة في النظر إلى الحدث، في الوقت الذي يسعى فيه إلى دحض أفكار ومعتقدات خصومه السياسيين والأيديولوجيين. ويتم هذا في إطار ما يسمى "الفضاء العام Espace Public" الذي يضمن تفاعل الخطابات الناتجة عن مختلف الأحزاب والوسائل الإعلامية والسلطة والمجتمع المدني.