من المفيد أن نتابع حوارا بين شيخ وجامعي: الشيخ بشير بن حسن والجامعي يوسف الصدّيق ولكن النتيجة تكون عكسيّة حين يتقن الشيخ دوره ولا يقوم الجامعي بدوره كباحث يلتزم الموضوعيّة والحياد العلمي ويلاحق الإشكالات القافزة وسط «الحوار». وقع اللقاء يوم الخميس 4 أفريل 2013 في قناة «حنبعل». وكان الحوار فرصة للشيخ بشير بن حسن لكي يقوم بالدور، المعتاد لغالبيّة الشيوخ إن لم نقل كلهم، وهو الدور المتمثل في إظهار درجة إتقانه لحفظ وترديد الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة والمسلمات الفقهيّة والتفسيريّة لعدد من شيوخ وأئمة السلف.
كل شيخ يقوم بمثل هذا الدور يتمكن عادة من السيطرة على السامع. فهو يردد مقاطع من التراث الديني، ثم يردد مقاطع أخرى، ويردد دون كلل إلى أن يفتك من السامع انتباهه وينقله من حالة الحوار والفهم إلى حالة التأثر والتصديق المجاني لما يسمعه من تفسير وفقه قد لا يتماشى بالضرورة مع المنطق والمعقول أو حتى المصلحة. لكن الشيخ بشير لم يتمكن من السيطرة على محاوره الذي شاكس وقاوم بل أنكر إحدى مسلمات الفكر الديني السلفي وصرح برفضه لها وهي مقولة «الناسخ والمنسوخ».
كان رد بشير بن حسن على إنكار يوسف الصديق لتلك المقولة سريعا ومباشرا، واكتفى، في رده، بالاستدلال بوجود عبارة «نسخ» الآيات في النص القرآني وبالتحديد في الآيّة (2/106).
يتبين من الحوار التلفزي أن الشيخ بشير بن حسن يعتبر أن وجود عبارة النسخ في أحد الآيات القرآنيّة يكفي للبرهنة على صحة مقولة «الناسخ والمنسوخ». هل أن الآيّة: «ما ننسخ من آيّة أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها“(2/106) تكفي لإقامة البرهان على صحة مقولة الناسخ والمنسوخ مثل ما يبدو من كلامه؟
هنا كان يتوجب الرد على الشيخ. هل أن عبارة النسخ الواردة في نص الآيّة (2/106) تعني نسخ حكم الآيّة ونهاية العمل به مع بقائها ضمن النص القرآني، حسب ما يقول به أصحاب نظريّة «الناسخ والمنسوخ»، أم هي تعني رفع الآية تماما وغيابها نهائيا؟
عبارة «نسخ الآيّة» لا تعادل ولا تتماثل مع عبارة «نسخ حكم الآية»، لكن المفسرين وفقهاء السلف والشيخ بشير بن حسن، مقتديا بهم، ذهبوا في تفاسيرهم إلى إظافة عبارة «حكم» لكي يتغير المعنى والمقصد من «نسخ الآيّة» إلى «نسخ حكم الآيّة» رغم بقائها ضمن النص القرآني.
إذا بحثنا لغويا في عبارتي «النسخ» والنسيان الواردتين في الآيّة (2/106) سنجد أن النسخ يتعلق برفع وزوال ما وقعت كتابته والنسيان يتعلق برفع وزوال ما وقع حفظه. النسخ والنسيان يردان إذن في الآية (2/106) بنفس المضمون والمعنى وهو رفع الآية وإنهاء وجودها إن كان نصا أو حفظا.
هناك آيات أخرى تشير أيضا إلى نفس هذا المعنى وتدلنا إلى نفس معاني الرفع والمحو والزوال من بينها:
* «وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون» (16/101)..
*»يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب»(13/39)..
دون إثارة المزيد من الكلام حول الواضح من المعنى في كل الآيات سابقة الذكر سأمر إلى عرض البرهان التاريخي الذي يؤكد هو أيضا معانى الرّفع والزّوال للآيات لا لأحكامها.
البرهان التاريخي، هو أيضا، لا يقل وضوحا وطرافة على ما تقدم من القول حول مضمون عبارات «النسخ» و»النسيان» و»المحو». يتبين البرهان التاريخي فيما جاء من أحاديث منسوبة إلى نبي الإسلام حول الآيات «المنسوخة تلاوة».
هذه الأحاديث، التي كتبت في عصر التدوين أي بعد عصر الدّعوة بحوالي قرنين من الزّمن، تؤكّد لنا أن مجتمع عصر التدوين وحكامه وفقهاءه لم يكن يتبادر إلى أذهانهم أن ينكروا القول بالرّفع والحذف من النص القرآني، فقد كان آنذاك القول بالرفع والحذف والمحو متداولا وغير منكر؛ وهو ما سمح ولم يمنع من تدوين تلك الأحاديث الواردة حول الآيات المنسوخة تلاوة والباقية حكما.
سأنقل هنا ما جاء في موقع «إسلام تو داي» على الشبكة العنكبوتيّة حول الآيات «المنسوخة تلاوة» لكي يتبين القارئ من صحة ما قلته حول اعتقاد كل «المجتمع» الإسلامي حتى عصر التدوين في حقيقة النسخ بمعنى الزوال لعدد من الآيات وحذفها وغيابها من النص القرآني:
1-
آية القراء الذين قتلوا في بئر معونة: ”أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا“..
أخرجه البخاري ومسلم
ثم أنزل الله تعالى”وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون“
2-
ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: ”أَنْ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ“
أَوْ”إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُم“...
أخرجه البخاري
3-
آيّة التَّحْرِيمِ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ:
”عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ“ثمَّ نُسِخْنَ”بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ“
أخرجه مُسْلِمٌ
4-
آية الرجم وهى من سورة الأحزاب: وآيّة الرجم هي”وهذه الآية مما نسخ لفظها وبقي حكمها“:
حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ آيّة الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ..
أخرجه البخاري ومسلم..
وهى:
”الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا، فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ“
أخرجه ابن ماجة:
قال الشيخ الألباني : صحيح
”الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا، فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ“
أخرجه النسائي والحاكم في المستدرك
عَن أُبيٍّ أَنه قَالَ : «كَانَت سُورَة الْأَحْزَاب توازي سُورَة الْبَقَرَة، وَكَانَ فِيهَا آية الرَّجْم”الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالاً من الله وَالله عَزِيز حَكِيم“. وَفِي هَذِه الرِّوَايّة تعْيين مَحل هَذِه الْآيّة من الْقُرْآن”.
أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وإسناده لا بأس به
5-
آية لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ لَابْتَغَى ثَالِثًا وكانت من سورة البينة “تحديد السورة من مسند أحمد”
“لو كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ”
أخرجه البخاري
“لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ”
أخرجه مسلم عن أَبي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وقال كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ..
ثم نسخت تلاوتها بسورة التكاثر أخرجه مسلم
6-
نسخت من سور الْمُسَبِّحَاتِ: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ”
أخرجه مسلم عن أَبي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ
من سور الْمُسَبِّحَاتِ..
7-
نسخ آيّة “وعلى الذين يصَلّون في الصفوف الأُوَل” : روت حميدة بنت أبي يونس، قالت : “قرأ عليَّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة «إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلموا تسليماً وعلى الذين يصَلّون في الصفوف الأُوَل”. قالت : قبل أن يغير عثمان المصاحف.. ثم نسخت “وعلى الذين يصَلّون في الصفوف الأُوَل”
أوردها السيوطي في الإتقان في علوم القرآن 2 / 53..
8-
آية نسخ صلاة العصر وكانت في سورة البقرة: فى مصحف عائشة رضي الله عنها:
“حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِوَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ”
ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ
“حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ”..
أخرجه مسلم وأحمد..
9-
نسخت من سورة البينة: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيّة غَيْرُ الْمُشْرِكَةِ وَلَا الْيَهُودِيّة وَلَا النَّصْرَانِيّة وَمَنْ يَفْعَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ”
وكانت من سورة البينة
أخرجه الترمذي وأحمد والحاكم في المستدرك
قال الشيخ الألباني : حسن
10-
“جَاهِدُوا كما جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ” أخرجه أبو عبيدة في كتاب كنز العمال وأيضا أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار.. عن الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ
11-
نسخت من سورة الإسراء: من مصحف أبي بن كعب:
“وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا إِلَّا مَنْ تَابَ فإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا”.. أخرجه العلامة علاء الدين علي المتقى في كنز العمال:ج0/ص0 ح4744 وأيضا أخرجه أبو يعلى، وابن مردوي..
12-
نسخت من سورة الفتح: عن أبي إدريس الخولاني قال: «كان أبي يقرأ: “إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّة حَمِيّة الْجَاهِلِيّة ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ”
أخرجه النسائي في سننه الكبرى والحاكم في المستدرك على الصحيحين
تعليق الذهبي في التلخيص : على شرط البخاري ومسلم..
13-
نسخت من سورة الأحزاب: من مصحف أبي بن كعب
“النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ” وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ “وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ”
أخرجه البيهقي في سننه الكبرى والحافظ بن حجر في المطالب العاليّة وقال: هذا إسناد صحيح على شرط البخاري..
هكذا يتبين أن المسلمين حتى عصر التدوين كانوا يعتقدون في حقيقة الرفع والحذف والزوال لعدد من آيات القرآن؛ وهو ما يبرهن -البرهان تاريخي هنا- على أن عبارة «النسخ» في الآيّة (2/106) إنما تعني الرفع والغياب والزوال.
في الختام أقول إن ذهاب المفسرين من فقهاء السلف إلى تأويل معنى الآية «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها... « بشكل يتناسق مع مقولة «الناسخ والمنسوخ» لا يبرر عدم إعادة قراءتها وإعادة تفسيرها بشكل يلتزم الموضوعيّة والحياديّة العلميّة.
كنت أنتظر أن يرد الجامعي والسوربوني يوسف الصديق على محاوره وكنت أترقب رأيه حول تفسير الآية (2/106)، وما كنت أتوقع أن تشح الذاكرة لديه أو أن يفتقد العناية للرد على الشيخ بشير بن حسن.
الحوار مفيد ولكن.. عندما يجمع الحوار نجما تلفزيا ومسجديا مثل الشيخ بشير بن حسن مع من لا يلتزم الحياد العلمي أو هو ممنوع من الالتزام تكون النتيجة عكسيّة ويصبح الحوار مجرد مسرحيّة...
وتتواتر التساؤلات: ما هي نتيجة مثل هذه الحوارات المشوّهة؟ ما هي غاية الإعلام الرّسمي، وما هو مصير الفكر في تونس بفعل التشويهات التي يحدثها العطب أو الإعاقة الملتحمة بالعقل النخبوي التونسي في غالب الأحيان إن لم يحدثها العائقان الاستبدادي والإرهابي؟ ما هو مصير بلد يتغنى بالثورة في غياب حريّة الفكر أو عطب المفكرين؟
كل احترامي للدكتور يوسف الصديق ولعدد من الإعلاميين والصحافيين الذين أظهروا اهتمامهم بالفكر ونهضته ولكن بقدر الاحترام يتوجب النّقد وبازدياد الاحترام يتوجب المزيد من النّقد...