الربيع العربي والقوى الجديدة.. بين المصالحة والاجتثاث
الانتقال الخشن جاء ابن خلدون بنظرية
اجتماعية سماها "العصبية"، وهي باختصار أن أهل "الوبر" البادية أو القبائل
يغزون أهل "المخزن" أي المدن، عندما تضعف عصبية الأخيرين، ويبدأ حكم جديد
في سلالة العصبية الجديدة الغازية، حتى يهنأ لهم العيش ويتحولون من قساة
إلى جباة، تضعف بينهم العصبية ويتفرق شملهم جراء السسعى الحميم للاستحواد
على الثروة ويميلون إلى الدعة، فتأتي عصبية أخرى جديدة لتحل محلهم بعد
ثلاثة أجيال أو حولها.
وإن عدتم عدنا!!
ثورات الربيع العربي يمكن تفسيرها بتفسير مزدوج، بين النظرية الخلدونية
والنظرية الماركسية، التي تعترف ان اساس الصراع في المجتمع هو بين من يملك
ومن لا يملك، فمن جهة “حرمان” اقتصادي لجزء من المجتمع، ومن جهة آخرى عصبية
المحرومين ضد الحارمين، لقد تغير الزمن، إلا أن الفكرة الأساسية في الصراع
كما هي، بين الحُكام أهل الغني والمحكومين أهل الفقر بين اهل اليسر
والمهمشين.
اليوم نرى أن النظرية، وهي كما قلت خلطة من نظرية ابن خلدون (العصبية)
ونظرية كارل ماركس (الشعور بالحرمان الاقتصادي)، يمكن ببعض مؤشراتها تفسير
ما حدث ويحدث الى حد كبير في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا، وربما في
غيرها من البلدان التي يمكن أن يمر عليها ربيع العرب.
في تونس وفي ليبيا وفي مصر نجد أن الأطراف هي من قامت بإشعال شرارة
الثورة، ففي تونس حرق محمد البوعزيزي نفسه في منطقة داخلية محرومة هي سيدي
بوزيد في الجنوب، التي لا تكاد تظهر على الخريطة، ومن انتصر له لاحقا هم
الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى – السفلي من المجتمع التونسي المحرومون من
ثمار التنمية التي كانت تونس (الشمالية) تنعم ببعض منها، وفي ليبيا كانت
الأطراف أيضا، فقد بدأت شرارة الثورة الليبية على حكم معمر القذافي القمعي
من بنغازي البعيدة أيضا عن ثمار التنمية في طرابلس العاصمة، والتي عاني
أهلها من القمع والتهميش في آن واحد، تبعتها مناطق لا تقل عنها تهميشا
كالزنتان والجبل الأخضر، وغيرها من المناطق المهمشة.
في مصر لم يكن الأمر مختلفا، فقد قاد التفجر ما حدث لخالد سعيد في
الإسكندرية – بعيدا عن العاصمة – إلا ان جذور المشكلة المصرية هي مرة أخرى،
طائفة واسعة من المحرومين من أبناء مدن المقابر والمهمشين في أطراف
القاهرة، هؤلاء هم الذين حموا أبناء الطبقة الوسطى – السفلى الذين أشعلوا
الشرارة في وسط القاهرة – ميدان التحرير – فقد تجمع عددٌ كبيرٌ منهم
ليكونوا طوقا حول المحتجين في ميدان التحرير، وقد عرفهم العالم حين وجد أن
19 قتيلا (الشهداء) في ميدان التحرير لا اسم ولهم أو عنوان، فدفنوا في
مقابر الدولة، وتكرر الأمر حين نشرت جريدة (الأهرام) أنواع الأعمال والمهن
التي يمارسها من قبض عليهم في أحداث مجلس الوزراء، ووجد أن معظمهم يشتغلون
في أعمال يدوية بسيطة. من جديد في سوريا نجد أن الأطراف هي التي فجرت
الثورة، فأولى شرارة انطلقت في سوريا كانت من مدينة درعا الحدودية الجنوبية
والبعيدة عن العاصمة، كما انتشرت الثورة السورية في الاطراف ومدينة حمص،
التي قدمت الحجم الاكبر من الشهداء، هي مدينة طرفية في شمال دمشق، كما حمل
العبء الاكبر في الحراك السوري ابناء المدن الصغيرة، ولم تشترك المدن
(المليونية) أي التي بها مليون نسمة فأكثر إلا بشكل ضئيل في الحراك السوري.
لا مصالحة قبل المحاسبة والقصاص
في اليمن نسبة العاطلين عن العمل تضعها بعض التقديرات بـ40 في المائة من
اليمنيين كثير منهم من المتعلمين، وهكذا زحفت ملايين البشر من خارج صنعاء
العاصمة إلى وسطها، من اجل رفض بقاء النخبة المتخمة بالسلطة والمال، وعلى
الرغم من أن اليمن بلد قبلي، إلا أن فكرة التهميش جمعت كثيرا من أبناء
القبائل فوقفت صفا واحدا ضد الظلم والقهر، ولعل كلمات مفتاحية تعطينا نظرة
سريعة عن مشعلي الثورة، منها كلمات بن علي في خطابه (فهمتكم، فهمتكم) أو
كلمات القذافي (من انتم، من انتم)؟
وعلى الرغم من امتلاك السلطة في الدول المختلفة لقوة الإعلام الرسمي التي
قبضت عليه بقوة وشراسة، استطاعت القوى المضادة من أبناء (الطبقة الوسطى –
الدنيا) أن تقوم بالتشبيك بين بعضها من خلال وسائل الاتصال الجديدة، (الفيس
بوك والتويتر ويوتيوب) التي لم تكن في حساب الأنظمة القمعية التقليدية،
كونها لم تطور وسائل لمواجهتها! ولم تزن قدرتها الحقيقية على الحشد وجلب
الانصار.
العصبية القديمة:لقد اعتمدت العصبيات الحاكمة في بلدان الربيع العربي على ثلاثة مرتكزات:
السلطة والثروة والاعلام .
طبقة من المستفيدين (سياسيين وتجار).
أجهزة رقابة صارمة (سواء أمنية أو رقابة على حرية التعبير).
هذا المثلث الذي أحكم القبض على السلطة لم يكن في الجهاز التنفيذي، بل
وحتى في الجهاز الرقابي الشعبي (المنتخب من قبل الناس) فقد كان الانتخاب
سمة ظاهرية لإعطاء الشرعية كغطاء لتلك الأنظمة، الا ان الانتخاب كان مراقبا
بدقة، وتحول من (غلبة مريحة) يحققها النظام على خصومه، أي أن يترك لهم بعض
المقاعد، الى (غلبة كاسحة) ومن ثم (غلبة ماحقة) كما حدث في انتخابات
المجلس النيابي المصري عام 2005 (غلبة كاسحة) فقط ترك 80 مقعد للإخوان
المسلمين وبعض المقاعد لحزب الوفد، إلى غلبة ماحقة في عام 2010 (حيث لم
ينجح احد من المعارضة)!، لم يكن هناك اي تمثيل شعبي حقيقي في ليبيا، حتى
ولو ظاهريا، فقد احتفظ العقيد وأسرته بالسلطة والثورة الليبية حتى كاد
يتآله ورفع شعار (من تحزب خان). وفي اليمن استولى الحزب الذي تحول إلى شلة
ثم أسرة (المؤتمر الشعبي) لصاحبه علي صالح فمحق المعارضة، وكان واضحا تسارع
تقلص مقاعد المعارضة في البرلمان اليمني من دورة الى اخرى، وكذلك فعل
(البعث) في سوريا، والحزب الدستوري الجديد في تونس، كلها تحولت إلى أسرة
يقودها (شخص) واحد لا شريك له. وكانت هذه القوى ممثلة بتحالف مصلحي مع بعض
القوى (المركنتيلية) التجارية في الوقت ذاته أحكمت الرقابة البوليسية
والرقابة على الرأى المخالف إلى درجة إقصاء المخالفين وتشتيتهم حتى خارج
الوطن.
على الصعيد الاقتصادي امتصت الطبقة العليا المتحالفة مع السلطة – دون رحمة –
عرق الفقراء والمهمشين، وساعدت القوة البوليسية على إسكات شكواهم، فأصبح
هناك أزمات دورية اقتصادية متفاقمة، من أزمة الخبز الى أزمة (البوتاجاز)!
عام على الثورة ودعوات الاجتثاث ومحاسبة المسؤولين السابقين مازالت قوية من تونس الى مصر الى اليمن الى ليبيا
الانتقال إلى النظام الجديدلم يكن الانتقال إلى النظام الجديد (ان كنا حتى هذه الساعة نسميه نظاما
جديدا) سهلا بكل المعاني، فلقد دفع الثمن من دماء الناس، بعضه أخذ وقتا
قصير نسبيا اي ما يمكن أن يسمى (الانتقال الآمن) Soft landing والآخر أخذ
وقتا أطول وتضحيات أكثر (الانتقال الخشن) .Hard landing في الأولى ربما مصر
وتونس، وفي الأخيرة ليبيبا وسوريا واليمن، وربما أماكن أخرى قادمة.
استخدمت في (الانتقال الخشن) كل القوى القمعية من طائرات ودبابات ومدافع،
وقدمت تضحيات بشرية هائلة. في كل الأحوال كان تصميم الناس غير مسبوق، ولكن
لا يمكن أيضا تجاهل (العامل الخارجي) قوى هذا العامل او ضعف، كما لا يمكن
تجاهل (دور العسكر) المحليين، الذين ضاق بهم أما (التسلط القمعي الفاقع) أو
(تهديد التوريث) فوقفوا أولا على الحياد، ثم ثانيا مالوا الى كفة التغيير.
ولعبت القبيلة من دون شك دورا في بعض المناطق من التحشيد في ميادين اليمن،
الى حمل السلاح في مدن ليبيا.
القوى الجديدةحتى الآن استفاد من ربيع العرب في كل من مصر وتونس وليبيا وربما اليمن
ويمكن سوريا في المستقبل، قوى الاسلام السياسي المنظمة أو شبه المنظمة،
لعدد من الأسباب، اولها المظلومية التي حملوها لفترة طويلة من الزمن
كـ(تيارات) سياسية، فذهب بعضهم للمنافي وآخرون للسجون، كما كانوا مطاردين
في عيشهم، وثانيا أن هذه التيارات قريبة من (الشعور المتدين الشعبي) الذي
يجد فيهم (صلاحا وتقوى) من دون النظر الى برنامجهم الانتخابي، ولكن الفترة
التي نحن بصددها، يمكن ان تسمى (فترة انتقالية) تنتظر فيها قطاعات المجتمع
صيرورة الأحداث وتقلباتها، ويعتمد تطورها الاجتماعي – السياسي على مرونتها
في قبول التعددية، والتبادل السلمي للسلطة، وبعض المراقبين يشككون في ذلك،
كون هذه القوى مركزية وطاردة للرأى الآخر!
ومع ذلك فإن هذه القوى الجديدة امامها ثلاث قضايا:
كيفية التعامل فيما بينها.
كيفية التعامل مع الآخر المختلف (محليا وخارجيا).
كيفية التعامل مع اهل النظام السابق.
التعامل فيما بينها هو القادم المباشر، فهناك تياران على الأقل في
(الاسلام السياسي) هناك السلف صاحب الخبرة المتواضعة في السياسة، وهناك
الاخوان اصحاب قدرة كبيرة في التنظيم ومسار تاريخي، ولكن كلا منهما له
تفكير مخالف في كيفية ادارة الدولة الحديثة، وما المطلوب تحقيقه للمواطن،
هناك ايضا بجانب الانشقاق الرأسي، انشقاق أفقي أي بين الجيل الجديد والجيل
القديم في كلا التجمعين، فهناك آمال واجتهادات مختلفة بينهم أفقيا، مما قد
يقود الى تشقق في الجبهتين معا، ولا يمكن تأسيس عدل اجتماعي من دون معرفة
علمية حقيقية، وهنا قد يؤخذ البعض بالشعارات العامة والعاطفية من دون
الاعتماد على العلم من اجل البحث عن الحقيقة المجتمعية، وبالتالي تتعطل
آلية تحقيق العدل.
شباب الثورة في 2011 يبدأ ثورة جديدة في 2012 بعد تهميشه وانقضاض الأحزاب والعسكر على البلاد التي شهدت ثورات
التعامل مع الآخر المختلف في الداخل سواء كان سياسيا او دينيا او في
الخارج، فهذه المجتمعات يوجد بها قوى اجتماعية حديثة يسارية او قومية او
حتى ليبرالية من حيث الاحتكاك بالآخر والحصول على التعليم الحديث، وهي قوى
لا ترغب ان تهيمن عليها سياسيا، مقولات تراها قادمة من عصور خلت، ففي
السنوات الاولى من القرن العشرين، لم يبق في مجتمعات العالم ما يمكن ان
يسمى بـ (مجتمعات النمل) الخضوع لقيادة مركزية واحدة لها الطاعة في (المنشط
والمكره) .
صحيح ان مجتمعات النمل اكثر فعالية اقتصادية، ولكن لا احد في عصر
العولمة يريد ان يصبح نملة، فقد وسعت العولمة ووسائل الاتصال الحديثة من
التعددية الاجتماعية، واتسعت دائرة المشترك في القيم العالمية، حتى قيل إن
بعض تأثيرات العولمة هي التي مهدت للتغيرات الكبيرة في دول الربيع العربي،
فنقل توماس فريدمان الكاتب الاميركي المعروف أن (العرب عندما وجدوا ان
الشعب الأميركي انتخب رجلا اسود للرئاسة، وان رئيس جمهورية إسرائيل يدخل
السجن بسبب تحرشه بامرأة، قد اثر بهم ذلك على انه تغيير كبير في العالم،
وهم لم يتغيروا) على الرغم من سذاجة التحليل السابق، الا انه يعني تأثر
العرب بما حولهم من أحداث. اما التعامل مع الآخر في الجوار وفي العالم،
فإنه يطرح مجموعة من القضايا الشائكة، مثل القول ما العلاقة المستقبلية
بإسرائيل، وعدد من الدول العربية الربيعية كان لها بشكل أو بآخر علاقة ما،
اما تعاهدية او دبلوماسية، كما تطرح قضية العلاقة بالفلسطينيين بجانب ذلك،
هل هي باتجاه المقاومة او باتجاه المسالمة؟ أما الإشكالية الكبرى فهي
العلاقة مع الغرب خاصة أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، التي تربت
كوادرها على تحميلها كل مصائب ومصاعب العرب!
كيفية التعامل مع أهل النظام السابق، ولدينا نظريتان، واحدة من نلسون
مانديلا ورفاقه في جنوب افر يقيا، وهي التسامح والمصالحة، والثانية في نظام
العراق الذي آتي بعد البعث وهو الاجتثاث، ويبدو ان بلدان الربيع العربي
اتجهت مبدئيا إلى طريق النظرية الثانية، اي الاجتثاث، وهذا يخلف ثقافة
قمعية وصراعا اجتماعيا وإشاعة ثقافة الكراهية، التي سوف تظهر من جديد في
شكل سلوكيات ربما يسميها البعض “ثورة مضادة” اي صراعا أهليا، كما يحدث في
العراق اليوم وربما في ليبيا وربما في اليمن وفي أماكن أخرى، فالتسامح
وقبول الآخر ليس مؤسسيا في ثقافتنا العربية حتى الساعة.
الخروج من التيه:كان الانتقال الأفقي للقوة المجتمعية في البلاد العربية بعد الحرب
العالمية الثانية من شريحة اجتماعية (شبة إقطاعية) إلى شريحة أخرى هي
(العسكر وأهل الأمن) في كل من مصر وليبيا واليمن وتونس الى حد كبير، واليوم
تنتقل القوة بشكل رأسي الى قطاعات كانت محرومة، الا انها ذات خبرة قليلة
في الحكم وذات افق اقتصادي اقل ما يقال عليه انه مشوش، تنتابه عاطفة وتنقصه
العلمية، وما تحتاجه مجتمعات الربيع اكثر من غيرها هو بناء مؤسسات حديثة،
وإقامة بناء قانوني حديث يتعامل مع كل شرائح المجتمع بسواسية قصوى.
هذا هو التحدي الذي يمنع تفعيل قانون ابن خلدون في المستقبل!!
الدكتور محمّد غانم الرميحيد.
محمّد غانم الرميحي هو أستاذ في علم الاجتماع السياسي، في جامعة الكويت
وقد قدّم كتاباتٍ عديدة تتعلق بمواضيع علم الاجتماع السياسي، وشغل مناصب
كثيرة، ومنها رئيس قسم ومساعد عميد كلية الآداب والتربية في جامعة الكويت.
كان رئيس التحرير في عدد من المجلات والصحف على رأسها مجلة (العربي)
الشهرية الشهيرة. له عدة مؤلفات.
More Posts مواضيع مشابهة
الاجتثاث,
الثورات,
الثورة,
الربيع العربي,
المحاسبة,
المصالحة,
اليمن,
تونس,
سوريا,
ليبيا,
مصر