بن الصديق .. "سِيزِيـف" المغربي الذي يصمم على المسير
هسبريس - إسماعيل عزام
الأحد 19 ماي 2013 - 09:55
بعث رسالة خلع بيعة إلى الملك محمد السادس، وأضحى "معارضا" يسعى
إلى فضح ما يراه فسادا تشارك في نسجه مؤسسات نافذة في الدولة.. يناضل من
أجل ما يعتبره حقه الذي لن ينتزعه منه أي كان..هو ابن الصديق، المهندس الذي
ترك لغة الأرقام وجداول الحسابات، واستبدلها بالمقالات السياسية وبيانات
الاستنكار.. يدرك جيدا أنه سلك طريقا، ربما لن يعود منها سالما، بعدما
اختار أن يقف في وجه الدولة بكل قوتها وجبروتها..
كتاباته تزين أعمدة الكثير من المواقع الإلكترونية، وتدخلاته السياسية
تؤثث الكثير من الندوات، ترك حياة الهندسة ليتأبط حقيبة النضال، التي جعلته
طيرا يتنقل من مكان لمكان، قصد إقناع المغاربة بصدق قضيته، تلك القضية
التي كانت تتعلق بحامة يقصدها المواطنون للشفاء من بعض الأمراض، فصارت
تتعلق بالبيعة وبنكيران وصندوق الإيداع والتدبير..
من مهندس دولة..إلى مغضوب عليه من الدولة
ربما أن الانتقال من مكان لمكان كان قدره منذ سنواته الأولى، فبعد
دراسة ابتدائية في مدرسة اللمطيين بفاس، تنقل في دراسته الثانوية بين ثلاث
ثانويات نظرا لتغير محل سكناه، ليحصل على البكالوريا من ثانوية مولاي إدريس
في شعبة الرياضيات بميزة حسن جدا محرزا الصف الأول على الصعيد الوطني،
ويلتحق بمعهد لويس الأكبر، أحد أقدم المعاهد بالحي اللاتيني الذي درس فيه
عدد من عمالقة الفكر الغربي ورجال الدولة ( موليير ،فيكتور هيغو، فولتير،
جورج بومبيدو، ليوبولد سيدار سنغور، ميشال روكار، جاك شيراك...)، في دراسة
تحضيرية دامت سنتين، أهلته ليصير طالبا بالمدرسة المركزية بباريس، المدرسة
التي قدمت لفرنسا والعالم الكثير من المهندسين في شتى الميادين، أمثال بوجو
Peugeot وإيفيلEiffel كما تخرج منها كل من أحمد الشامي وسعيد
الإبراهيمي وسعد بنديدي وخالد الودغيري.
وبعد العودة إلى المغرب والاشتغال في عدد من المؤسسات الخصوصية
والعمومية مثل الخطوط الملكية المغربية، تم تعيينه سنة 2005 مديرا عاما
لشركتين تابعتين لصندوق الإيداع والتدبير، وهما الكولف الملكي لفاس والشركة
الطبية لحامة مولاي يعقوب، وهو التعيين الذي بدأ قصته الفعلية، فالرجل
الذي أطلع الملك، لما كان هذا الأخير في زيارة للحامة شهر فبراير 2006 على
مشروع طموح للرقي بالمؤسسة وبعض الخروقات الخطيرة التي تعرفها هذه النقطة
الطبية، والتي تعني متاجرة بعض المسؤولين فيها بأرواح الناس عبر الغش في
عمليات البناء، صار متهما من طرف إدارة صندوق الإيداع والتدبير، بإساءة
الأدب وعدم احترام شخص الملك، ليضطر مغادرة منصبه..والغريب أن التهمة جاءت
سبعة أشهر بعد لقائه بالملك.
فصول النزاع استمرت مع مشروع فاس 12 قرنا، الذي كان هو صاحب فكرته،
مبتغيا من خلاله الاحتفال بفاس كواحدة من أقدم مدن العالم، وقد وافق القصر
على المشروع فقام الملك بتعيين ابن الصديق مديرا تنفيذيا وتعيين سعد
الكتاني مندوبا ساميا لهذا المشروع الذي رصد له غلاف 350 مليون درهم. بعد
بضعة أسابيع دب الخلاف بين الرجلين واستقال ابن الصديق من كل مهامه
المتعلقة بالمشروع، يقول في هذا الصدد إن الحاجب الملكي إبراهيم فرج كان
صريحا عندما أخبره أن تعيين الكتاني مكافأة له بعد بيعه لبنك الوفاء
للمجموعة المالية أونا التي يمتلك الملك حصة كبيرة من رأسمالها.
وبعد رسائل كثيرة إلى الملك مبديا فيها رغبته في الإنصاف مما يراه حيفا
في حقه، قرر بن الصديق ذات يوم من يوليوز 2011، يائسا من محاولاته
المتكررة، توجيه رسالة أخيرة إلى الملك، خلقت ضجة كبيرة وهي التي تضمنت تلك
العبارة الشهيرة: "لقد يئستُ من عدلك فخلعتُ بيعـتك من عنقي".
من أي منبع تشّرب خالع البيعة أفكاره؟
في جل المقالات التي يكتبها ابن الصديق، من الصعب على الواحد أن
يموقعه أو أن يقحمه داخل تيار إيديولوجي ما، فهو ينتقد وزراء العدالة
والتنمية بشكل كثيف، ليس لأنه يساري أو علماني، ولكن لأنه غير راضٍ على
تسييرهم لدواليب الحكومة المغربية، وعن ما يراه تراجعا منهم عن وعودهم،
وينتقد سياسات القصر الملكي، ليس لأنه منتمٍ للعدل والإحسان أو لليسار
المعارض خارج الحكومة، بل لأنه يرى أن جزءا كبيرا من سوء الأوضاع
الاقتصادية المغربية ناتج عن التداخل بين السلطة والثروة.
يقول عنه مراسل القدس العربي باسبانيا، الحسين المجذوبي:" يرتكز ابن
الصديق في مقالاته على قيم رفض الظلم والمطالبة بالعدالة، وهي قيم إنسانية
أكثر منها سياسية". وهو كلام يتفق معه القيادي في حزب الأمة محمد المرواني
الذي يقول بدوره: " إنني أجد الرجل ينهل من الهوية الحضارية الجامعة لأمتنا
ومن الحكمة الإنسانية. ولذلك لا يجد عشاق الوطن من الوطنيين اليساريين
والإسلاميين الديمقراطيين أية مشكلة في التواصل معه."
ويمكن الحديث عن أن ابن الصديق لا يبحر بمقالاته ذات اليمين وذات
الشمال، بل يركز على انتقاد سياسات من يمتلكون سدة القرار، بلغة رصينة
تعكس عمق اطلاعه اللغوي والديني كذلك، ربما لأن ذهنية المهندس حاضرة
باستمرار، كما كتب ذات يوم في أحد مقالاته المعنونة ب"ديمقراطية الركوع":'
الصحافة لم تقل هل الوضوء ضروري أم يكفي التيمم ليكون الركوع للملك جائز
شرعا حسب المذهب المالكي في نسخته المنقحة من طرف وزير الأوقاف السيد أحمد
التوفيق بمباركة من المجلس العلمى الأعلى، لأن كتاب الموطأ للإمام مالك لا
يتضمن بابا حول أحكام فقهية عن الركوع أمام الملك".
من أين يستمد ابن الصديق "جرأته"؟
أن تخلع بيعة الملك المغربي في عصر الأنترنت بوجه مكشوف وانطلاقا من
الدار البيضاء، وتضيف في رسالتك: "لقد ظلمتني أشد الظلم أيها الرجل"، ثم
تختم في نبرة التحدي: "فافعل ما بدا لك واقتلني مرة إضافية ولا تكترث
كعادتك"، فهو أمر يدعو للكثير من التأمل، لأن المتابع لمسار الرجل والقارئ
لكل تلك الرسائل التي كان قد أرسلها في وقت سابق إلى الملك يسميه فيها
ب"جلالة الملك"، قد يقتنع أن الإحساس بالظلم هو السبب وراء نتيجة كهاته،
وهو ما يؤكده الحسين المجذوبي عندما يقول" هناك من اختلف مع أحمد ابن
الصديق من الناحية الدينية وهناك من اتفق معه من مبادئ سياسية وإنسانية.
عموما يجب فهم قراره الجريء في إطار الظروف التي عان منها والضغط الذي
تعرض له والظلم الذي لحقه، مادامت البيعة تعني الإنصاف وحماية المظلوم".
"الوجه المكشوف مسألة مبدئية وأيضا ذهنية لأني أحب الوضوح في كل
شيء" هكذا يجيبنا ابن الصديق على سؤال متعلق بالسبب وراء اختياره الدخول
إلى المعركة دون غطاء سياسي وبهوية مكشوفة، وربما أن هذا الموقف في
"النضال" دون سند اللهم من بعض الإطارات الحقوقية والسياسية التي تتعاطف مع
قضيته، هو الذي جعله موضوعيا إلى حد ما في كتاباته عن الفساد، رغم أن
الكثيرين، ومن بينهم الشيخ عبد الباري الزمزمي، يرى أن كتابات ابن الصديق
حول سياسات القصر الملكي نابعة من كونه لم "ينتفع " من مشروعه في حامة
مولاي يعقوب، وأن خلعه للبيعة غير صحيح من الناحية الدينية على اعتبار أن
كان يريد من الملك تمكينه من مصلحة شخصية.
ولم يكن ابن الصديق يريد من تصريحاته حول الحامة قبل وبعد الفصل من
عمله، سوى إماطة اللثام عن مجموعة من الخروقات لم يتم التأكد منها أبدا
لغياب تحقيق حول الموضوع، رغم أن حادثا وقع قبل أيام، أكد فيه موقع
إلكتروني بفاس، وفاة مسن داخل الحامة بعد اختناقه دون أن يتم إسعافه من
الفريق الطبي المفروض تواجده بالمكان، وهو ما كان قد نبه إليه ابن الصديق
معتمدا على تقرير لجنة طبية رفيعة المستوي أنشأها لمواكبة إصلاح الحامة في
وقت سابق. ابن الصديق يتساءل اليوم: الصمت يقتل والتواطؤ يقتل وحسابات
السياسيين الجبناء تقتل.
يتحدث هنا المرواني: لقد أراد أن يجعل من حامة مولاي يعقوب محطة من
محطات التنمية المستديمة من خلال تحويل المكان إلى منتجع للسياحة الصحية
العالمية، ولكنه وُوجه ببروقراطية المفسدين".
بعيدا عن السياسة..كيف يعيش ابن الصديق؟
منذ مغادرته عمله، وابن الصديق تقريبا بدون منصب قار، ليس لأنه لم
يعد يريد الاشتغال، ولكن لأن الأبواب أقفلت في وجهه بعد موقفه السياسي، غير
أنه ينجز من حين لآخر دراسات و يقدم خبرات وخدمات استشارية ويعترف أن
الأمر ليس سهلا، فالرجل بكبريائه يرفض تماما أن يشفق عليه أحد، سواء في
مدينة الدار البيضاء التي تسكن فيها أسرته الصغيرة، أو الرباط التي يزورها
مرارا وتكرارا من أجل لقاء أصدقائه أو الحضور إلى ندوات فكرية، تجده دائما
شديد الاعتناء بملابسه ومظهره، متواضع إلى حد الثمالة، لا يجد غضاضة في
الازدحام مع راكبي الترام، ولا في أن يتناول ساندويتشا بسيطا على قارعة
الطريق.
يحب كثيرا ابن الصديق قراءة الشعر وكتابته، وليس غريبا أن تجد الكثير
من قصائده تجول بين دفات الفايسبوك، وقد أنشأ أخيرا مدونة ليجمع كتاباته
العربية والفرنسية وأشعاره ومقاماته اللاذعة. لا سر في ذلك سوى عشقه الكبير
للغة العربية، عشق يجعله يتردد على المكتبات، معترفا بعفوية بأنه وجد نفسه
ودون سابق إشعار مهتما أيضا بالمقامات لوصف ما يراه فسادا سياسيا وماليا.
عشق ابن الصديق للغة العربية، لا يمنعه من المطالعة باللغة الفرنسية،
فتكوينه في عاصمة الأنوار، جعله متضلعا في لغة موليير التي تشده أكثر في
المجلات الاقتصادية، فحنينه الدائم للأرقام والمعاملات التي شكلت يوما ما
عماد مهنته، يجعله مدمنا على الاقتصاد وعلى تفكيك خباياه.
عندما يأتي التقدير من الرأي العام
في أواخر سنة 2010، جريدة أخبار اليوم المغربية تضع ابن الصديق كواحد
من أربعة رموز الإصلاح بالمغرب، رفقة الصحافي أبو بكر الجامعي والقاضي جعفر
حسون ومحمد المرواني، بالنظر إلى ما قاساه الأربعة في صراعهم مع مقاومة
ينابيع الفساد ببلادنا.
ونهاية السنة الفارطة، يتوج بلقب كاتب الشعب من إحدى الصفحات الفايسبوكية الكبيرة.
كتبت عنه جريدة القدس العربي والفايننشال تايمز والباييس الإسبانية وحاورته قنوات تلفزية وإذاعية خارج المغرب.
يقول عن هدفه:" أن يعيش أبناؤك أنت في وطن ديمقراطي يحفظ كرامتهم
وحقوقهم ويعاملهم كمواطنين أحرار مسؤولين متساوين أمام الحقوق والواجبات"،
فلم تعد المسألة بالنسبة إليه شخصية أو أن يقطع مسيرة نضاله إن تمكن من
انتزاع حقه، فمواجهة الظلم صارت شغله الشاغل، يؤدي من أجلها ضريبة غالية
تمثلت في مصير حياته الذي لم يعد سهلا رغم كل التضامن والتعاطف الذي يجده.
صديق حميم للرجل، رفض الكشف عن اسمه، يخبرنا أن ابن الصديق سيتعب يوما
ما، ولن يستطيع إكمال المسير، لأنه يحارب لوحده وعلى عدة جبهات، يحارب
بعدما ضحى بكل شيء، وسيأتي يوما يرجع فيه خطوات إلى الوراء، عندما يحس أن
المخزن بالفعل أقوى منه.
هل سيتوقف أم لا؟ ذلك سؤال لا نعرف إجاباته، لكن الأكيد، أن الرجل،
وطوال مسيرة من النضال بدأت تقريبا منذ سنة 2006، لم يمتهن خلالها سوى
قضيته الذي أغنت مكانته وأفقرت جيبه، صبر على الكثير من المضايقات، وردد في
الكثير من اللقاءات أنه مصمم على المسير، حتى ولو كان سيزيفا يحمل صخرا،
فينزلق من ظهره كلما اقترب من الوصول، احترمه الخصوم – بالمعنى الفكرى-
الذين يكنون له الكثير من التقدير؛ وأحبه الأصدقاء، وهم كثر، وبين هذا
وذاك، نال بن الصديق احترام الكثيرين، لأنه آمن بمبادئه، في وقت، بيعت فيه
المبادئ، في أسواق الانحطاط والاستبداد