4 محمد أبو أنيسأثناء الجامعة, التقيت بأخ يدرس العلوم الإسلامية, تجاذبنا
أطراف الحديث حول قضايا الجامعة وأحوال ومشاكل الطلبة في الحي الجامعي, ثم
كان سؤاله الاعتيادي المألوف الذي يطرحه الطلبة فيما بينهم بشكل عفوي,
ماذا تدرس؟ قلت له أدرس علم الاجتماع, قال لي معقبا: يا أخي هذا كفر, قلت
له بعفوية وارتجالية دون تفكير, مدافعا عن تخصصي: يا أخي سنبقى نكسر
أقدامنا هكذا كل مرة, لأننا نقفز على المجتمع دون فهمه, يا أخي.. المجتمع
لا يقبل من يقفز عليه.
شرحت له أهمية فهم المجتمع والتعقيدات التي تتحكم فيه, من
أجل تطبيق المبادئ والأفكار التي نؤمن بها, ونريد إيصالها للمجتمع
(الإنسان) من أجل التطبيق والفاعلية.
وأنا استرجع ذكرياتي مع هذا الأخ وأحلل ما قلت له حينها
دفاعا عن تخصصي, وان كنت أوافقه الآن فيما ذهب إليه حينها, إذ أن مدرسينا
للعلوم الاجتماعية حينها كانوا ممن تشربوا الثقافة الغربية والمناهج
الإلحادية التي تبعد الانسان موضوع البحث عن الدين والوحي, فهي تعزله عن
خالقه وعن هدي الوحي مما أثر في الدراسات التي قاموا بها, فظهرت دراسات
اجتماعية لا تسمن ولا تغني من جوع, تتحدث عن مجتمعات لا نعرفها ولا نجد
أنفسنا فيها, وما تصريح أحدهم معترفا بهذا الخلل إلا تأكيدًا لزيغ نظرتهم:
“إن علماء الاجتماع قد خيبوا آمالنا, إذ قدموا لنا مجتمعات غير مجتمعاتنا”.
تذكرت تلك المقولة وتأكدت لي يومًا بعد يوم, وأنا أنظر
حالنا, فمثلا على مستوى التنظير نجد نقص فادح في الدراسات السوسيولوجية
الموضوعية التي اهتمت بالمجتمعات الإسلامية ومحاولة فهم الجوانب الثقافية
والتربوية التي تشكل النسيج المجتمعي المعاصر, وما هي أبعاده وتأثيراته في
الحياة الاجتماعية؟
ما الخطاب الذي يجب أن نقدمه للشباب اليوم من أجل تفاعل إيجابي مع متطلبات الحضارة المعاصرة والإرث التاريخي الثقافي؟
ما اهتماماتنا بالمرأة كمربية أجيال وحاضنة الأمة؟
وغيرها من الأسئلة التي يفرضها الواقع الاجتماعي الثقافي,
التي تحتاج إلى أجوبة منضبطة وحاسمة, والملاحظة نفسها تنطبق على الدراسات
النفسية التي تهتم بالمسلم المعاصر أو بتعبير مالك بن نبي, رحمه الله,
إنسان ما بعد الموحدين, كيف أصبحت نفسيته بعدما كان رجلا قائدًا رياديًا؟
كيف أصبح يرزح تحت سلطة العادات والتقاليد ويلغي سلطة العقل والعقلانية؟
لا يعرف أين ينتهي, ومتى ينتهي, في الأمور المباحة, وغير المباحة؟
ما مقدار الحاجة التي يحتاجها لتلبية حاجاته وضروراته؟
وهنا تدخل إشكالية التوازن في حياة المسلم المعاصر, وفقه الاعتدال في الأمور كلها؟
لماذا نجنح للتمرد إما إفراطا أو تفريطًا؟
إن سوء فهم المجتمع والإنسان تضعك في موقف لا تحسد
عليه, كالواقف بين يدي مريض مجهول ملقى على الأرض, لا نعرف علته ولا نملك
عنه شيئًا يفيدنا بتاريخه الطبي السابق. إن كانت له مضاعفات وحساسية لبعض
الأدوية.الأمر الثاني, هو انطلاقنا في مشاريع النهضة والتنمية للأمة
دون أدنى تحديد لمتطلبات الزمان الحاضر والفترة المعاصرة وفهم للواقع
ولروح العصر وعقل المجتمع. والتعرف على إمكاناتنا وقدراتنا الكامنة
والظاهرة, وحدود السرعة التي يجب احترامها. فدروب النهضة فيها مسالك وعرة,
منعرجات, منحدرات, طرق ملتوية ومستوية.. الذي يستدعي ضبط السرعة المطلوبة
في كل حال.. وتحديد الأهم والمهم في الانطلاق.
إننا لم نعط تفسيرات واضحة وتحليلات وافية عميقة
علمية لما يجري لنا, وما هي الأسباب الظاهرة والكامنة التي تحول دون أن
نتخلص من سيطرة الظروف والتقاليد والعادات التي تكبل العقل الجمعي بمفاهيم
عامة وسطحية في الغالب, غير ممحصة علميا. وذاك ظاهر في الثقافة الشفوية
التي نعبر عنها. إذ أصبحت المرجع العلمي في أحكامنا وقراراتنا. يقول المرء
سمعت فلانًا يقول بأن الامر الفلاني كذا وكذا دون تصفية وتنقية, ويسمي
مالك بن نبي رحمه الله بعض هذه الثقافة بالأفكار القاتلة المميتة التي
تقتل العقل والإبداع, ولا تغذي آفاق المعرفة الإنسانية بما يخدم جذوة
الحضارة والبناء الحضاري.أما الثقافة المقروءة (الكتاب, البيان) هي المرجع والضابط
المكتوب المضبوط, الممكن تمحيصه والرجوع إليه, ويعد أهم رافد للرقي
الثقافي والإنماء الاجتماعي. فالقراءة تشكل العقول وتنسج الافكار وتنظم
الطروحات وتثمر الخطط والاستراتيجيات.
إنّ أول خطوة في طريق النهضة وتحقيق الريادة والنهوض
بالإنسان والمجتمع, أن نحدد نقطة الانطلاق, كالذي تقطعت به السبل في مكان
مجهول, حري به أن يحدد أول الأمر بعض المعالم والإشارات كي ينطلق منها,
وإلا بقي يراوح مكانه وقتًا طويلاً. وبذلك يكون قد ضيع وقتًا وبدد جهدًا
دون التقدم في مساره. والمجتمعات كذلك, يجب أن تحدد معالم البداية
ومرتكزات الانطلاق, وذلك بطرح الاسئلة. أين نحن؟ اين نعيش؟ وفهم خصائص
الزمان والمكان, والظروف التي تتحكم فيه ومعرفة طبيعة الثقافة السائدة,
كيف وصلنا إلى هذه النقطة الزمنية المكانية؟ ولماذا كان هذا؟ لماذا انطفأت
شعلة العطاء وتوقفنا عن المسير الحضاري والعطاء الإنساني؟ وأسئلة ومسألات
كثيرة يجب أن نواجه بها أنفسنا بكل جرأة وشجاعة ولا نزوق أحوالنا
المجتمعية بعمليات تجميل وترقيع, فالمجتمع يحتاج أجوبة صريحة ودقيقة
وشجاعة.أريد أن أقول, لا يجب أن نضيع الوقت أكثر مما مضى, بالبحث في
أمور هامشية, تستنزف طاقاتنا الفكرية وقوانا العقلية. وبذلك تضيع علينا
أوقاتًا أقل ما يقال عليها أوقات ذهبيىة. فعصرنا عصر السرعة وعصر الأجزاء
من الألف من الثانية, فالشعوب الأخرى تقيس زمانها بمقاييس غير مقياسنا.
إنّ معرفة أين نحن وتحديد النقطة الزمنية المكانية بدقة
علمية في نظري أول نقطة وأهم أمر قبل حمل الأمتعة والزاد في مسيرتنا, وذلك
يكون بالدراسات التي تهتم بأدب الزمان والوقت المعاصر. وتحديد ما يجب فعله
من استراتيجيات للانطلاق وأولويات الطريق, فمن الحماقة أن تمشي وأنت لا
تعرف المكان الذي تمشي فيه والزمن الذي تعيش فيه.
هنا أدعو لإنشاء مراكز علمية تهتم بالبحث
السوسيولوجي الذي يهتم بتشخيص الامراض الاجتماعية التي تنخر جسد الأمة
وتكبل قواها العقلية والروحية والبحث النفسي الذي يشخص نفسية المسلم
المعاصر وأحواله ومزاجه وطبعه.مراكز من مهامها دراسة المجتمعات الإسلامية, وفهم
واقعها وتركيبتها الاجتماعية, وطبيعة تشكل ثقافتها المتنوعة, وفهم مدى
تأثير التاريخ في الحاضر والحاضر في المستقبل وكيف نتعامل مع الواقع ونؤثر
فيه والاستعلاء عليه وتوجيه اتجاه الحركة فيه, ومعرفة الطريقة التي نواجه
بها اتجاه وروح العصر من أجل الريادة وتحقيق الخلافة.