2012-08-15 الفكر المعتزلي وإشكالية العقل والنقل
|
| |
إن بروز العقل كإشكالية معرفية
ومرجعية في قضايا العقيدة قد ارتبط بظهور علم الكلام وبالذات، بمدرسة
المعتزلة. وقد تبلور العقل المعتزلي في مرحلة اكتمل فيها الإسلام كحركة
توسع جغرافي واستقر كمجتمع متعدد الديانات، وكدولة انعكس فيها الصراع
السياسي في شكل إيديولوجيات دينية تدعي كل واحدة منها امتلاك الحقيقة
الربانية.
والنظر إلى حركة المعتزلة في سياقها التاريخي أمر يجعلنا ننظر إليها كحركة
تقدمية ساهمت بقسط وافر في النموالحضاري للإسلام، فاتجاهها العقلاني جعل
منها تيارا ذا نزعة إنسانية تجلت في تعاملها الايجابي مع الفكر البشري،
لاسيما مع الفلسفة اليونانية. وقد نشطت حركة الترجمة منذ أيام المنصور،
صديق عمروبن عبيد المعتزلي " 80 ه- 144ه"، لتبلغ ذروتها في عهد المأمون "
188 ه- 218 ه" لما أصبح الاعتزال المذهب الرسمي للدولة.
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن الاتجاه العقلي عند المعتزلة قد شكل
الأرضية التي سمحت بتبلور الفلسفة الإسلامية بالمعنى الدقيق فيما بعد في
القرن الثالث الهجري، فالمعتزلة بهذا المعنى هم أسلاف الفلاسفة في العالم
الإسلامي ورواد النزعة الإنسانية التي سوف تبلغ ذروتها مع الفلاسفة أمثال
الكندي وابن رشد، دون أن يترتب عن ذلك قطيعة مع الدين، سواء عند الكلاميين
أوعند الفلاسفة.
ويبدو الاتجاه نحو البحث والبحث العلمي امتدادا طبيعيا للعقلانية إذا ما
نظرنا إلى الاهتمامات ذات الطابع التجريبي التي نجدها مثلا عند ابراهيم
النظام أحد أقطاب المعتزلة في مجال علوم الطبيعة، إلى جانب ما أورده الجاحظ
في كتاب "الحيوان" عن تجارب وملاحظات واستقراءات في العلوم تتصل بدراسة
الفلك والحيوانات خاصة، كان يقوم بها أعلام المعتزلة. أضف إلى ذلك أن
المعتزلة كانوا أدباء وشعراء ورواة ونقادا وزهادا مما يجعل منهم أبرز طبقة
مثقفة عرفها الإسلام.
لذاك نجد العصر الذي شهد ازدهار حركتهم، زمن المأمون والمعتصم والواثق،
الخلفاء الذين تمذهبوا بمذهبهم، هوفي آن واحد العصر الذهبي للحضارة
الإسلامية. فالنزعة العقلانية قد رافقت الأطوار التي كان فيها المجتمع
الإسلامي في حالة تقدم وقوة، بينما أطوار الانكماش والتراجع كانت تفرز
الفكر المحافظ، فكر الانغلاق والجبر والتصوف، كما في عصر الغزالي.
لذا ليس غريبا أن نجد الاستفاقة الفكرية التي شهدها العالم الإسلامي في
القرن التاسع عشر، كما تجلى عند زعماء الإصلاح أمثال أحمد خان، ومحمد
إقبال، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، تقوم على برنامج يتمحور حول
إعادة الاعتبار للعقل وتأكيد الطابع العقلاني للدين والاستفادة من تجارب
الإنسانية. فتأكيد المعتزلة على أهمية العقل بتطبيقاته المختلفة وبما
يستلزمه من تفتح على الإنسانية، لما في ذلك من إثراء للذات، يبقى برنامجا
جديرا بأن يكون مدخلا إلى الحداثة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
وإشكالية العقل والنقل محور رئيسي في فكر المعتزلة الذين حاولوا إيجاد حل
لها بتأسيس الدين على العقل، أي بجعل العقل حكما ومرجعا في أمور الدين
والعقيدة، رافضين بذلك الاتجاه الذي يؤسس سلطة الدين على النص والنقل لا
غير. وتمثل هذه القضية مدار الخلاف بين المعتزلة وبين "أهل السنة
والجماعة".
وهي إشكالية لا تزال تتنازع إلى اليوم الفكر العربي والإسلامي، كما يتكشف
في مختلف التشعبات والتفرعات السياسية والإيديولوجية المرتبطة بالجدل
المركزي بين الأصالة والحداثة. فالمجتمعات العربية والإسلامية لا تزال إلى
اليوم تبحث لها عن طريقها بين دعاة الأصالة والأصولية وبين دعاة الحداثة
الذين تجمع مختلف تياراتهم على مركزية العقل1.
ويمكن اعتبار مبدأ حرية الإنسان في اختيار أفعاله، وهو المبدأ المؤسس على
قدرة العقل على الفرز والإدراك، كمساهمة من المعتزلة في تحرير الدين من
التوظيف الإيديولوجي والسياسي. فمن المعروف أن الحكم الأموي كان يوظف مبدأ
الجبر والإرجاء لأغراض سياسية، وقول المعتزلة بالحرية وبالاختيار هومبدأ
يجعل كل سلطة مسؤولة عن أفعالها شأنها في ذلك شأن الأفراد.
مع ذلك فإن أي قراءة عصرية للفكر المعتزلي تقتضي أن تدرج في برنامجها نقد
هذا الفكر، ذلك أن حركة المعتزلة على صعيد النظرية أوعلى صعيد الممارسة لم
تخل من مفارقات وتناقضات، لكنها مفارقات وتناقضات تمثل في حد ذاتها مادة
خصبة للتأمل والاعتبار. وإن أول ما ينبغي نقده في المعتزلة هوتصورهم للعقل،
فحينما جعلوا هذا العقل كاشفا عن جوهر الدين وعن حقيقة الله، فإنما قاموا
في الحقيقة بتديينه وتنصيبه مرجعا لا يختلف من حيث الوظيفة وحتى من حيث
المقام عن الوحي وعن الكتاب.
بل إن المعتزلة جعلوا العقل في سلم الاستدلال مقدما على الكتاب والسنة. ففي
كتابه فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" يقول القاضي عبد الجبار: "والأدلة،
"ثلاثة": دلالة العقل، لأنه يميز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن
الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع. وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن
أن الأدلة هي: الكتاب والسنة والإجماع فقط، أويظن أن العقل إذا كان يدل على
أمور فهومؤخر، وليس الأمر كذلك."2
وذا يعني أن "مبدأ قال الله، قال الرسول لا يعتبر حجة"3 على حد تعبير حسن حنفي.
وقد يتساءل المرء من أين للعقل كل هذه السلطة التي نسبها له المعتزلة ؟
والجواب عندهم أن هذا السلطان يستمده العقل من الله، فالله تعالى كما يقول
القاضي عبد الجبار "لم يخاطب إلا أهل العقل" 4 فهوالذي جعله كما يقول
الماوردي "للدين أصلا وللدنيا عمادا" 5.
لكن إذا كان العقل كذلك فإن مقولاته تكف عن أن تكون اجتهادات بشرية قابلة
للصواب والخطأ، بل تصبح حقائق ذات صبغة ربانية، ومن الطبيعي والحال هذا أن
تظهر كل معارضة في الرأي كخروج عن الدين ذاته. وهذا ما حدث بالفعل حينما
راح المعتزلة يمارسون أسلوب التكفير للمعارضين لآرائهم. وإذا علمنا أن
المبدأ الخامس والأخير من مبادئهم وهوالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ينبغي من وجهة نظرهم تطبيقه حتى بحد السيف، أدركنا أن عقلانية المعتزلة
المتعالية والدوغمائية تحمل في طياتها بذور العنف واللاتسامح.
لذلك ليس غريبا أن نراهم يتحولون من حركة تعتمد على قوة العقل إلى حركة
تعتمد على عقل القوة، أي على الدولة كجهاز قمع عندما أصبح مذهبهم المذهب
الرسمي للحكم في عهد المأمون والمعتصم والواثق. فنرى السجون في عهدهم تمتلئ
بمساجين الرأي، وكان معظمهم من أهل الحديث ومن القائلين بأولوية النقل
وتبعية العقل. وكان من أشهر هؤلاء المساجين الإمام أحمد بن حنبل.
إن تديين المعتزلة للعقل وتصورهم إياه متعاليا لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه، قد نزع عنه صفته كظاهرة إنسانية ونسبية. ويبدوأن أبا عثمان
الجاحظ قد حدس هذه النسببية وأدرك الطابع التطوري للفكر البشري حينما قال:"
ينبغي أن يكون سبيلنا بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا، على أنا قد وجدنا من
العبرة أكثر مما وجدوا، كما أن من بعدنا يجد العبر أكثر مما وجدنا.."6 لكن
حدس التاريخ هذا لم يعرف أي بلورة سواء عند الجاحظ نفسه أوعند غيره من
المعتزلة. فهؤلاء لم يدركوا تاريخية الفكر والعقل، وهم في ذلك أبناء عصرهم.
وكونهم نصبوا العقل مرجعا في إدراك حقيقة الدين لا يختلف في الحقيقة عن
القول بأن العقل هوالناطق باسم الله وليس مجرد وسيلة بشرية بفكر بها
الإنسان فيه تعالى. والواقع أن كل معرفة في هذا المجال، نقلية كانت
أوعقلية، لا تعدوأن تكون معرفة بشرية محكومة بشروط إنسانية، تاريخية
واجتماعية. فكما يقول محمد أركون:" إن التعاليم الإلهية لا يعرفها الإنسان
ولا يتقيد بها إلا عن طريق التفسير والتأويل والرواية والاستنباط، وهي كلها
عمليات بشرية يقوم بها العلماء الذين هم أعضاء من أعضاء المجتمع ومشاركون
في تاريخ المجتمع كسائر الناس."7 هذا الالتباس بين العمل الإنساني كاجتهاد
معرفي يقوم على العقل أوعلى الدين، وبين الوحي الرباني المنزل هوسبب الكثير
من المحن والمآسي التي مرت بالمجتمعات الإسلامية.
فأي غرور هذا الذي يجعل المرء يتأكد بأنه فهم الله حق الفهم إلى درجة يجعله
يطمئن، حين يزج بالناس في السجن أو حين يقتلهم، بأنه لا يفعل أكثر من
تنفيذ التعاليم الإلهية؟ إن السؤال لا يعني بالطبع المعتزلة وحدهم "بل كل
الدوغمائيين عقليين كانوا أومن دعاة النقل"، بل ربما كانوا معنيين به أقل
من غيرهم. فلنتذكر مثلا كيف عذب الأمويون معبد الجهني حتى مات وصلبوا غيلان
الدمشقي حيا، وذبحوا الجعد بن درهم في المسجد يوم الأضحى، وهم كلهم من
القدرية القائلين بحرية الإنسان في اختيار أفعاله، ومن المؤولين للآيات
الدالة على التجسيم والتشبيه.
ولنتفكر كذلك فيما يحدث في زماننا من تكفير ومن قتل. إن الحبس أوالقتل
أوالتفكير أوالإقصاء سواء باسم العقل أوباسم الكتاب أوباسم أي تصور مطلق
ودوغمائي آخر، لا يغير من الأمر شيئا، فالنتيجة واحدة، وهي الاستبداد
واضطهاد الناس بسبب آرائهم وأفكارهم.
إن تديين المعتزلة للعقل وتقديسه وإضفاء طابع العصمة عليه، مغفلين طابعه
النسبي وتاريخيته حال دون وصولهم إلى تصور للعقل يتعايش مع حرية الرأي
والفكر، أي مع فكر الآخر. والواقع أن نظرتهم الدوغمائية للعقل قد ساهمت في
تدعيم الفكر المحافظ، ذلك أن ارتباط هذه النظرة بالعنف الذي سلطه المعتزلة
على العلماء القائلين بأولوية النقل قد رفع من شأن هؤلاء في نظر العامة،
خصوصا أن تفكيرهم" تفكير أهل السنة والجماعة" هوتفكير السواد الأعظم الذين
صاروا بعد المحنة يتبركون بالإمام أحمد بن حنبل، ويتمسحون بقبره.
وكان لفشل المعتزلة في فرض تصورهم العقلاني للدين أن انتعش الفكر المحافظ
المؤسس عند الإمام أحمد بن حنبل على الاعتقاد بعجز العقل، وعدم جدواه في
أمور العقيدة، وتحريم الجدل في الدين، وانفصال أبي الحسن الأشعري عنهم،
وإعلانه تبعية العقل للنقل، وتكريس النزعة الجبرية التي ما تزال متفشية إلى
اليوم في المجتمعات الإسلامية. فعلى عكس "أهل السنة والجماعة" الذين لا
يزال مذهبهم ثابتا ومسيطرا إلى اليوم، فإن تأثير المعتزلة قد اقتصر على
النخب المثقفة وظهرت خصوبته خصوصا في المجال الثقافي، إذ أن عصر سيادتهم
السياسية كان أرقى العصور الحضارية التي عرفها العرب، كما سبق القول.
ويذكرنا عجز المعتزلة عن توفير الطابع الجماهيري لمذهبهم بنفس العجز الذي
يجده في العصر الحديث الحداثيون الذين يشتركون معهم- كما سبق القول- في
النزعة العقلانية، في مقابل الانتشار الذي تحظى به التيارات الإسلامية، كما
كان شأن أسلافها من "أهل السنة والجماعة" في عهد المأمون والواثق وغيرهما.
وربما يفسر الطابع النخبوي للإعتزال زواله في عصرنا كمذهب وإن لم يختف
كمرجع لبعض النزعات المسماة تقدمية وتحررية في الإسلام.
فهولم يكن معتقدا جماهيريا في الحقيقة في يوم من الأيام، بل كان أساسا مذهب
أوإيديولوجية نخبة مثقفة متنورة متشبعة بثقافة مزدوجة إسلامية وإنسانية.
وربما في هذا الطابع النخبوي – وليس فقط في عدم استعداد الإنسان لتقبل دين
مؤسس على العقل كما يرى غولدزيهر – ما يفسر انعدام تأصيل الحركة اجتماعيا،
فالاعتزال يمثل تيارا فكريا قبل أن يكون تنظيما سياسيا حزبيا يرتكز على
تأطير الجماهير، كما كان شأن أكثر الفرق الإسلامية الأخرى المتنافسة حول
السلطة.
وتعتبر تجربة المعتزلة كنخبة مثقفة مارست السلطة السياسية أو بالأحرى شاركت
في ممارستها تعبيرا عن تلازم الدين والدنيا، النظرية والممارسة، في
الإسلام، الشيء الذي حال تاريخيا دون استقلال السياسة عن الفكر وكذا الفكر
عن السياسة. هذا التلازم الذي لا نجد له نظيرا، مثلا، عند اليونان حيث يمثل
– إلى حد ما- الفكر المتجسد في الفلسفة مجالا مستقلا، قائما بذاته، مطلوبا
لنفسه، يرجع إلى سريان مبدأ المشروعية في الإسلام سواء في الفكر أوفي
السياسة، في النظرية أوفي الممارسة.
وترتبط هذه المشروعية بالطابع الديني للفكر،على أساس أن الدين يشكل منظومة
شمولية تؤسس للتعاطي مع مختلف مظاهر الوجود والحياة. ولأن الفكر اليوناني
كان فكرا فلسفيا، وبالتالي إنساني المصدر، فهو لم يتأسس على مبدأ
المشروعية، ومن ثمة كان، قياسا بالفكر الإسلامي، محدود التأثير في الحياة
السياسية للمجتمع8.
وحتى الفكر الفلسفي الإسلامي، الذي أخذه المسلمون عن اليونان كما نعرف، لم
يكن له تأثير يذكر في الحياة السياسية، لا في ثباتها ولا في تقلباتها. وذلك
على خلاف الفكر النابع من الدين. ومبدأ المشروعية المؤسس للنظرية
والممارسة، الفكر والسياسة، يفسر كون المثقف ظل دائما طرفا في مختلف
التقلبات السياسية التي عرفتها المجتمعات الإسلامية وضحيتها في كثير من
الأحيان.
وتوحي لنا تجربة المعتزلة بأنه في ظروف تتسم بانعدام حرية الرأي والفكر،
يغدوالمثقف المندمج في السلطة أداة تساهم في إنتاج القمع والقهر.
لكن الحكم على العقلانية المعتزلية وعلى تطبيقاتها السياسية ينبغي أن يأخذ
في الحسبان طابع العصر، حتى لا يكون هذا الحكم مجرد إسقاط لتصوراتنا
الحاضرة على تجربتهم.
وهذا يعني أن حدود عقلانية المعتزلة هي في الحقيقة حدود عصرهم وقمته في آن
واحد. أما مهمة أنسنة العقل وتأسيسه على مبدأ الحرية في الفكر والسياسة،
وبالتالي نسبيته، فهي مهمتنا نحن اليوم. ويكفي المعتزلة فخرا وفضلا أنهم
كانوا رواد الفكر العقلاني في حضارتنا، بل إن مرتكزات حركتهم متمثلة في
العقل والعلم والنقد والأصالة والإنسانية تمثل المدخل لأية حداثة