2012-08-16 عنف الأوضاع الظالمة هو أساس العنف المضاد
|
| |
بتصرف عن هدلر كارما
أولا:ـ الجذور البيولوجية للعنف يقول الاستاذ طه باقر ( بعد ان قضى
الانسان القسم الاعظم من حياته في اطوار الهمجية والتوحش، فيما يسمى بعصور
ما قبل التاريخ التي استغرقت اكثر من 99% من حياة الانسان التي تقدر بنحو
مليوني عام ـ قدرتها الكشوفات الاخيرة بخمسة ملايين عام ـ تكون قد دخلت
البشرية بعدها في اخطر تجربة وامتحان ما تزال تعانيها بانتقالها الى اطوار
الحضارة الناضجة وقد تحقق ذلك لاول مرة في تاريخ الانسان بانتقال وادي
الرافدين ووادي النيل من عصور ما قبل التاريخ في أواخر الألف الرابع ق.م
الى الحضارة والتمدن) من هنا وفي ضوء هذه الارقام الفلكية يمكننا ان نسأل،
هل استطاع الانسان حقا ان يتحرر كليا من غرائز الهمجية والتوحش بعد ان دخل
حياة التحضروالتمدن؟ وهل بمقدورنا ان نعتبر مظاهر التحضر والتمدن هذه دليلا
قاطعا وحاسما على ارتقاء مدركات الانسان العقلية والروحية المحضة؟ ام
يمكننا عدهما نتاجا متماهيا لضروب القوة والعدوان وسائر اشكال العنف
الدموي، الذي خلقته رواسب الطبيعة البدائية القاسية المتغلغلة في طوايا
نفسه المضطربة القلقة ـ الامارة بالسوء ـ ما جعلته يعيث في الارض فسادا
ويسفك الدماء؟ لقد اشارت البحوث العلمية المتخصصة في علم فسلجة الدماغ ـ
عند منتصف القرن الماضي ـ بان الانسان لم يستثمر مكنوناته العقلية على نحو
فاعل إلا بحدود 1% فقط ـ طبعا ما عدا الحالات الاستثنائية والقدرات
الثيلابية التي تميز بها بعض القديسين والصالحين الملهمين ـ وهذا ما يشير
بطبيعة الحال الى وجود ضمور هائل وعجز كبير في استثمار الطاقة العقلية
الكامنة لدى البشر، اذ يصل هذا العجز الى 99%!! ما يعني وجود أزمة حقيقية
مزمنة في المدركات العضوية للعقل البشري، شكل وجودها المبهم منذ ملايين
السنين بمثابة عطب مروع في مساحة واسعة من رؤية الانسان لذاته وللطبيعة
وللكون ومجمل قوانين الحياة وما يتصل بها من مفاهيم الخير والشر، فان نظرة
متفحصة لمعظم منجزاته المتحضرة العملاقة على صعيد العمران والعلوم
والتكنلوجيا التي تعد الجانب الامثل والاكبر من عطائه الدؤوب كالصروح
الهائلة والقلاع الضخمة والاسوار المنيعة وسواها من الصناعات الاخرى وما
يرافقها من انساق ثقافية وفكرية، عندها سوف ندرك بان النسبة العظمى من هذه
المعطيات انما يغلب عليها بوضوح ارهاصات الصراع الكوني او المثالي، الى
جانب هواجس النزاعات البشرية المسلحة. وبتعبيرآخر يمكن القول ان الدوافع
الحقيقية التي قامت على اثرها المدن والدويلات منذ نشأتها لدى الاقوام
والامم القديمة انما كانت تعبر اعمق تعبير عن كونها ثكنات او تجمعات او
احلافا عسكرية اكثر منها مدنية. اذ صممت اغلبها لتكون جاهزة على الدوام اما
للدفاع واما للهجوم واعمال العدوان والعنف باقصى ما يتصوره الخيال وما
مظاهر القوة والابهة التي تتميز بها القصور والمعابد المرصعة بنقوش
الحيوانات الخرافيةوالآلهة المحاربين إلا دليل على تلك الهواجس، ومع ذلك
نرى انها قد نالت تعظيم الكثير من المجتمعات المعاصرة الى الحد الذي وسموها
بعجائب الدنيا السبع، برغم انها ما كان ليكتب لها النجاح والشموخ لو لا
إعتمال السوط والتقتيل وممارسة سلطة العنف المرير على رقاب الطبقة المسحوقة
من البنائين والرق والعبيد والأسرى يوم ذاك. ان ظاهرة العطب التي اشرنا
اليها تشكل بمثابة الثقب الأسود في وجدان الانسان فان معظم ما أنتجه في صدد
الحضارة والتمدن لم يتم تقديمه في اطار متكافئ مع سر وجود الانسان ذاته لا
على المستوى العقلي ولا على المستوى الروحي، بل يمكننا ان نمضي اكثر من
ذلك في القول بان ما يطرحه الانسان من اشكال التقدم في حضارته المادية لا
يعدو في حقيقته ـ في ضوء المعايير الاخلاقية ـ إلا معادلا موضوعيا لاحتكاره
على اسباب القوة القائمة على العدوان والاستلاب والقهر والعنف، أي ان
الحضارة غالبا ما يكون وقودها الناس والحجارة. وهذا ما يدفع الى التأكيد
بان اكثر الاجناس البشرية كانت وستبقى واقعة تحت تأثير مكوناتها البدائية
الاولى، ولعل جوهر الخطيئة لم يزل يبرّز حاجة الانسان الى اقصى مصادر القوة
الهمجية والتسلط بقصد ممارسة نزعاته السلوكية عبر سيل لا ينقطع ولا يعد من
طبائع العدوان والعنف واقصاء الذات والآخر وافناء الوجود، وان مظاهر
التحضر والتمدن في المنظور الشامل لنزوات العنف والعدوان قد لاتعدو سوى
مراحل متباينة من اجل تنشيط مفهوم الاقوى وادامته الى الابد. ولعل ما ذهب
اليه فريدرك نيتشه بهذا الصدد مدعات للتأمل حين قال (حيثما تكون الحياة
تكون الرغبة. ولكن ليست الرغبة في الحياة ، انما الرغبة في امتلاك القوة)
من هذه الحقيقة التي افنى الانبياء على صغرتها دماءهم وقداستهم يتحتم علينا
اعادة النظر بالمفهوم القائل بان الانسان حيوان عاقل، بل لعل العكس من ذلك
قد بنطبق على 99% من الجنس البشري الذي لم تزل تعتريه سليقة العنف
والعدوان والهمجية والتوحش انطلاقا من رغبة باطنية عارمة تدفعه بمحض اصوله
الغابية الاولى في الجنوح الى الفناء المتبادل عبر ممارسة العنف والعدوان
على امتداد مسيرته التاريخية الطويلة وطبقا لجميع الارقام التي تم ذكرها (
فان سفر الوجود يظهر لنا الانسان وهو لم يزل في الصفحة الاخيرة من كتاب
تكون من ملايين الصفحات) وانه لم يزل يحبو مندفعا خارج شرنقته البيولوجية
ملتمسا وجوده ببطء شديد على طريق الانسنة والارتقاء بعيدا عن عوالق الطبيعة
واخلاطها الهمجية المتوحشةالتي لا يمتاز عنها بكثير ولا يتناقض معها إلا
لماما حتى شاء لها ان تطبع سلوكه المجتر بطابعها العنفي المدمر وترسيخ
شريعتها العشوائية الموحشة في سلوكه المتوارث كصفة عضوية اصبحت حتى اليوم
من اصل الانسان. ( فان ستة آلاف عام من الحضارة والتمدن المزعومين ليس بشيء
امام رحلة الانسان منذ ملايين السنين امضاها في كنف الهمجية والتوحش)، اذ
ما زالت البراهين الفسلجية تؤكد الجانب الجوهري لهذه الحقيقة فالزائدة
الدودية في امعاء الانسان كانت فيما مضى عضوا مهما وظيفته فرز مواد هاضمة
للحوم النيئة ولكنه ضمر بعدما تم اكتشاف النار، وقد رافق ذلك تراجعا كبيرا
في حجم الاسنان والانياب، ولعل من المفيد ان نذكر بان هذا الكائن (الانسان ـ
كان قبل عشرة آلاف عام يأكل الوحوش نيئة مثلما تفترسه الوحوش وتقتات عليه
نيئا) وليس ادل على ذلك من وجود اصناف من البشر تأكل لحوم البشر حتى يومنا
هذا وفي مناطق متفرقة من العالم، ومن الظريف بالذكر فان هناك اساطير لبعض
الاقوام الآسيوية تصر حتى يومنا هذا بنسبها الى الدببة بينما يدعي الرومان
حتى وقت قريب بانهم ابناء الذئبة!! وبرغم اننا لسنا بصدد صحة هذه الاقاويل
إلا اننا نعتقد بانها تأتي متساوقة ومنسجمة مع تركيبة الانسان البدائية
والكامنة في الشطر الاعظم من مكنونات العقل الباطني والفسيوبيلوجي له، وفي
ضوء مجمل ما تقدم من حقائق يصبح بمقدورنا القول دون ادنى تردد او مجازفة
بان الغلبة الغالبة من الجنس البشري لم تزل تمكث فيما يمكن ان نطلق عليه
بمرحلة (الفطام البيولوجي) وانه لم يرتق كثيرا الى مستوى الغائية الألهية
بعد التي يتعين ان يلقي عند اعتابها اوزار خطيئته العدوانية والمتمثلة في
(الهمجية والتوحش). ثانيا:ـ الجذور المثيولوجية للعنف لقد ظل الفكر
المثيولوجي يحتل هو الاخر المكانة الأبرز وراء مظاهر العنف والعدوان طوال
الجزء الأكبر من تاريخ البشرية، جنبا الى جنب مع التطورات الآخذة بالنمو
السكاني والاقتصادي والتجاري والسياسي بلوغا الى مستويات عليا من السلطات
التي تنطوي في جوهرها على مبدأ احتكار القوة والعنف انطلاقا من جملة مفاهيم
ذرائعية شكلت منذ وقت مبكر القاعدة الاساسية المتينة لتبرير العدوان ومنحه
صفة واسعة من الجمال والقداسة. ومع الايام تكون قد تحولت قيم البطولة التي
كانت من اختصاص الآلهة عند تصديها لعوالم الشر الى الملوكية النصف مؤلهة
ثم الملوكية المطلقة حتى انتهت سدتها الى زعماء القبائل او لكل من يمتلك
ناصية القوة كموصلة أخيرة لتزين رأس البطل بتاج اهاب باركته الآلهة
والاقدار. ويستطيع المتتبع ان يلمس حجم التوغل الشامل لمظاهر الاسطورة
والخرافة في العمق العقائدي للكثير من الديانات القديمة والحديثة (وما تفرع
عنها من ايديولوجيات معاصرة!) وقد تجلت الكثير من مظاهر العنف والعدوان
المقدس آنذاك في عدد لا يحصى من تنوع الآلهة؟ فمنها ما كان يتصف بالمحلية
ومنها ما كان يتصف بالقومية والعالمية الخ. وقد اتسمت الشرائع والقوانين
الميثولوجية في سمتين اساسيتين:ـ 1ـ الخطوة الكبيرة التي تحتلها الحروب. 2ـ
الحمد والثناء الوفير الذي تسبغه الآلهة على النشاط العنفي ـ العدواني ـ
الحربي، وتشجعه وتحميه. وفي هذا الاتجاه تحديدا فاننا نجد اكثر الأمم
المتحضرة في يومنا هذا قد اعتمدت المنطلقات الميثولوجية والخرافية بما لا
يقل عن المقاصد التي كانت سائدة في لغة التعبير لدى الاقوام البدائية
الاولى فمن العرق الآري سليل الدماء الزرقاء الى قوم الله المختار الى آلهة
اليابان الى طواطم افريقيا الى آخر القائمة التي تشي بتقهقر العقل الادبي
امام عقم الانتماء الموهوم، تكون قد دفعت البشرية عشرات الملايين من ارواح
البشر في الحربين العالميتين، ولم يزل التعطش الى حروب الفناء هو الصفة
الغالبة لفضائل الاقوياء. فمنذ كانت الآلهة الملهم الروحي والايديولوجي لشن
الحروب وتأجيج مشاعر العنف بين الشعوب والأمم الى بانثيون العصر ـ جمع
الآلهة ـ الراهن والمتمثل بمجلس الأمن الدولي وفراعنة البنتاكون ونظرية
الفيتو الصماء في السياسة الاميركية، فقد رسمت الحروب والنزاعات منذ ذلك
الحين حتى يومنا هذا ملامح العقلية الميثولوجية بأبلغ صورها، كونها تشكل
آلية لا ارادية في عقلية القرار العدواني للاقوى اكثر من كونها ناجمة عن
صراعات طبقية كما تذهب الى ذلك النظرية الماركسية التي كان لها هي
الاخرىدور بارز في تراث العنف الثوري ولغة الاحتواء والتمنطق بالجهنم
النووي، فكلا الطرفين اعتاد على القول بان موت انسان تراجيديا اما موت
ملايين فمسألة احصائية!!. فعندما درس (غاستون بوتول) في معهده الذي أنشأه
لدراسة (ظاهرة الحرب) التي تفتك اكثر من كل الأوبئة والكوارث، رأى انه خلال
3500 عام من التاريخ الانساني كانت كل 13 سنة من الحروب تقابل بسنة سلام
واحدةّذلك لأن العنف يمثل اهم ثوابت الفعل والتاريخ الانساني، وقد رأى
الفرنسي (باسكال) تحت فكرة (النهايتان) هذا التناقض المحير في اجتماع
التوحش والنبل في الانسان فانه مكان القداسة بنفخة من الله ولكنه في الوقت
نفسه بالوعة الضلال ومكان الاجرام، وقف باسكال في النهاية ليقول من يحل هذا
اللغز؟ هناك شيء لا عقلاني داخل الانسان يتفجر باستمرار معبرا عن نفسه
بالعدوان والعنف!! ان الفجور بالغ مداه وان التقوى بالغة امرها. الرؤية
الفلسفية المعاصرة للعنف: (قد افنى المفكر الفرنسي المعاصر جان ماري ولر
نصف حياته في دراسة مظاهر العنف واللاعنف ومن بين جملة ما توصل اليه بخصوص
ظاهرة العنف ثلاثة مستويات وهي على التوالي: 1ـ عنف الاوضاع الظالمة. 2ـ
عنف حركات التحرير. 3ـ عنف اعمال القمع. فوجد في عنف الاوضاع الظالمة اساس
كل انواع العنف دون استثناء، ويأتي في مقدمتها العنف الاقتصادي الذي يبقي
ملايين من الناس في اوضاع من التخلف وسوء التغذية، الى العنف الايديولوجي
والسياسي الذي تمارس فيه. الانظمة ـ وقوى الشر ـ اوضاعا من الاضطهاد والقهر
ضد الجماهير عند تنكرها لحرياتهم وحقوقهم السياسية والمدنية ووجد في عنف
حركات التحرير حقا مشروعا ينبغي التضامن معه سياسيا مع تأكيده في البحث عن
الوسائل المثلى التي تقلل من دماء المظلومين وصولا الى تحقيق ذات الهدف.
دون ان يكون لاحد ان يتخذ قرارات نيابة عن الذين يتعرضون للظلم يوميا. اما
عنف اعمال القمع فيقول (مولر) يحاول الممسكون بزمام السلطة القائمة على هذا
النوع من العنف بالقضاء على حركات التحرير، وان التضامن معهم مسألة
اخلاقية ومبدأية قصوى. من كل ما تقدم لنا يقينا بان الاحساس المرير الذي
تتلظى بوحدته الشعوب المغلوبة التي تعيش تحت نير الهيمنة والاستلاب انما
منشأه بقايا الهمجية والوحشية التي يتصف بها عادة وابدا جنون الاقوياء
الذين يشربون رحيق العنف والعدوان دهاقا من جماجم المظلومين بمباركة الهية
خطتها يد الاقدار المقدسة بكل ما ينطوي عليه من اوهام