نظرية التناصية والنقد الجديد
(جوليا كريستيفا أنموذجاً)
نعيمة فرطاس
مقدمة
برزت عدة نظريات جعلت النص الأدبي محور اهتمامها، وحقل عملها، ومن هاته
النظريات التي كان لها الفضل في تخليص النص والدراسات الأدبية بصفة عامة من
أسر النظرة الضيقة ومحدودية الأفق "نظرية التناصية"(أ)، التي شهدت
تطوراً، فمنذ نشوء التناص Intertextualitè بداية كمصطلح، وهو يتحرك بحرية
وطلاقة، إذ قد يستخدمه اللساني، أو السيميائي أو الشعري، أو الدارس في مجال
الدراسات المقارنة.
الكل يدعي أن هذا المفهوم الحديث يدخل في حقل تخصصه، بل إن من الدارسين
العرب من يجرؤ على الجزم بأنه يمتلك جذوراً في النقد العربي القديم،
ويستعرض لذلك قائمة من المصطلحات، سواء من الكتب العامة في النقد والبلاغة،
أو كتب الطبقات والتراجم، أو كتب السرقات، أو حتى كتب إعجاز القرآن...
الخ، وذلك ليحاول الاستدلال على صحة ما ذهب إليه.
غير أن ما يعنينا هنا بالتحديد، هو البحث في فكر الناقدة الغربية جوليا
كريستيفا (1941) بوصفها قطباً بارزاً في هذا المجال، وكيفية فهمها للتناص،
مع البحث في التغيرات أو التطورات التي حصلت لهذا المفهوم، ابتداء من
ميلاده الرسمي على يدها، إلى أن وصل إلى مرتبة تعلن صراحة عن قيامه برحلة
عسيرة، جعلت المطاف ينتهي به إلى الانزواء في إحدى الخانات الضيقة، والتي
وجد فيها أنماطاً أخرى تنافسه وتقف له الند بالند(ب).
وعليه، فإننا سنقوم بدراسة دياكرونية Diachronique تاريخية، نستعرض فيها
جهود هاته الناقدة التي اقترحت مصطلح (التناص)، من خلال بحثها عن "نظرية
للنص"، مستعرضين فيها أركان هاته النظرية التي أحدثت ثورة في عالم الدراسات
النصية، مع الوقوف عند كل مصطلح مشكل لها:
من التحليل العلاماتي (السيماناليز sèmanalyse)(ج) إلى التناص:
كانت الانطلاقة الحقيقية لهذا المبحث على يد الناقدة والروائية الفرنسية
ذات الأصول البلغارية والمتخصصة في النقد النصي Critique textuelle جوليا
كريستيفا Julia DRISTEVA (1941)، التي نشرت أبحاثاً لها في مجلتي "كما هو
Tel quell " و"نقد Critique" الفرنسيتين، بين سنتي (1966 ـ 1967)، حيث إنها
عندما "استقرت بفرنسا عام 1966 بعد دراسات حول الصحافة، أخذت موقفاً من
المجادلات التي حركت وسط منظري الأدب واللسانيات، واندمجت في المجموعة
المنظمة حول مجلة كما هو، وتعاونت مع الرموز السائدة المتجادلة حول "النقد
الجديد Nouvelle critique" كبارط Barthes وفيليب سولير Philippe SOLLER
(الذي أصبح زوجها)، قامت كذلك بتقديم مؤلفات حول التحليل النصي كسميرطيقا،
أبحاث من أجل تحليل علاماتي Pour une recherché sèmanalyse shmeivtikh
(1969)، نص الرواية Le texte du roman (1970)، ثورة اللغة الشعرية La
revolution du langage poètique (1974)، عبور العلامات La traversèe de
signes (1975)، لتطور وتنظر للتحليل النفساني النصي"(1).
هذا التصور الكريستيفي حقق "التوليف بين عدة تأثيرات التي منها
الفرويدية، البنيوية Stucturalisme، والفلسفة التفكيكية Dèconstruction
لدريدا Derrida التي مثلت مضرباً لتحديد شعرية نصية Poètique textuelle
شهدت ميلاد التحليل العلاماتي، الذي يتخذ له مكاناً على تخوم السيمياء
Sèmiotique والتحليل النفساني"(2) الذي يتدخل ليمنحها "مفهمة قادرة على
الإمساك بالإمكانية المجازية داخل اللسان، وذلك عبر التعبير المجازي"(3).
وقد ارتبط المفهوم السابق (أي السيماناليز عند ج. كريستيفا ببحوثها
التنظيرية في السيميائية السوسرية وعن ضرورة إيجاد علم النص "أكبر من أن
يكون مجرد (سيميولوجيا) أو سيميائيات، فهو ينبني كنقد للمعنى ولعناصره
وقوانينه ويتأسس من ثمة كتحليل دلائلي"(4)، أي كتحليل يتجاوز وظيفة
السيمياء ويخترقها، وستكون مهمة السيماناليز أن "تدرس التدليل signifiance
داخل النص سيكون عليها أن تخترق الدال مع الذات والرمز، إضافة إلى
التنظيمات النحوية للخطاب، من أجل الدخول إلى هذه المنطقة حيث تتجمع أصول
ما يدل في حضور
اللغة"(5).
إضافة إلى ذلك، فإننا نجد عندها أيضاً مصطلحات كثيرة مستقاة من علوم
متعددة: المنطق، الفلسفة، الرياضيات، التاريخ الاقتصاد، اللسانيات، ك
(الإنتاج Produit، القيمة valeur، البنية السطحية Structure superficielle،
البنية العميقة S.Profonde، الدالة Fonction، المجموعة Ensemble، التحويل
Transformation، الإحداثيات coordonnèes، المجال، الرمز Symbole ).
فهي ترى على سبيل المثال بأن النص إنتاجية، أو هذا المفهوم شديد الصلة
بمصطلح الإنتاج، الذي كثيراً ما نجده يتردد في كتابات ماركس، التي تأثرت
بها كريستيفا، فقد "تناول ماركس بالدراسة أنماط الإنتاج وعلاقاته وقواه
ووسائله"(6)، كما ترى "أنه أول من انتبه إلى العمل المنتج كأهم ميزة في
تحديد النظام السيميائي"(7)، هذا الأخير الذي يفتح المجال أمام الأطراف
الثلاثة للعملية الإبداعية (المؤلف، النص، القارئ)، لتحقق تواصلها، حيث
يغدو النص مجال الدراسة محور العملية ككل، فيدخل في صراع تفاعلي مع نصوص
أخرى، معاصرة لـه (متزامنة معه) أو سابقة عليه، لتستنتج بعد ذلك أن كون
النص إنتاجية معناه:
أ ـ أن علاقته باللسان الذي يتموقع داخله هي علاقة إعادة توزيع (هادمة
بناءة)، ولذلك فهو قابل للتناول عبر المقولات المنطقية لا عبر المقولات
اللسانية الخالصة.
ب ـ أنه ترحال للنصوص وتداخل نصي، ففي فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى
ملفوظات عديد مقتطعة من نصوص أخرى(8). وفي المجال نفسه (ما يتصل
بالإنتاجية) نجدها تستخدم ثنائية مستقاة من النحو التوليدي التحويلي
المستعار من تشومسكي N.Chomsky ومن "المصطلحات التوليدية الروسية (سوبوليفا
وسومجان Somjan)(9). إحداثياتها هما (النص الظاهر Phènoteste النص المولد
Gènotexte)(10).
أما الطرف الأول، فهو "الظاهرة العملية كما تبدو في بنية الملفوظ
المحسوس"011)، بمعنى أنه النسيج الجاهز، الذي يتمظهر على الورق وتحكمه
قوانين تركيبية وصوتية وبنيوية، وهو ما يناسب البنية السطحية المعتمدة
كمستوى من مستويات دراسة اللغة حسب نظرية تشومسكي المعروفة.
أما الطرف الثاني (النص المولد) فإنه يطرح العمليات المنطقية الخاصة
ببنية فاعل اللفظ، إنه الموضع الذي تنبني فيه خلقة النص(د)، إنه مجال
مختلط: كلمي وغريزي في آن واحد معاً..."(12).
فهو إذن تلك العملية المعقدة، التي تصاحب ولادة النص الظاهر البارز
للعيان، أو هو تلك البنية الكامنة أو المستترة، والتي تعد رغم هذا الدعامة
الأساسية ليتحقق الطرف الأول، الذي ينضبط إلى قواعد معروفة تحكمه، لوجود
رحم مولد، كان السبب في وجود هذا النص المولد.
نلاحظ، بأن النص الباطن لدى كريستيفا، ليس سوى البنية العميقة لدى
تشومسكي، غير أن هذا ليس معناه حدوث تطابق تام بين مدلولات مصطلحاتها "فتشو
مسكي حسبها إنما استخدم هذه المصطلحات في النحو التوليدي كي يستهدف إنشاء
آليات للجملة، التي قد لا تعني شيئاً، وهي مجرد بنى خطية، مجردة لم يتضح
بعد نحوها ولا معجمها"
(13)، في حين أنها استهدفت بعملها هذا "وضع قطيعة مع السيميولوجيا
التقليدية التي هي مجال النص الظاهر ولا تستطيع أن تتعداه"(14) إلى سواه.
كما سمح لها المنهج التحويلي أيضاً، وبالاعتماد على مفاهيم رياضية،
باستنتاج ما أسمته ب "العينة الأيدولوجية" أو "الأيديولوجيم
Idèologème"(هـ)، غير أن المصطلح في الحقيقة، لا يعود إلى ج. كريستيفا
"إننا في الواقع نجده عند باختين 1928(...) (أي باختين الذي كان يحمل اسماً
مستعاراً هو مدفوداف Medvedev) وعند باختين 1929 أي (باختين بالاشتراك(؟)
مع فولشينوف Volchinov" (15)، وذلك كما يشير ماركو انجينو Marc INGENOT في
مقاله المعنون بـ "التناصية: بحث في انبثاق حقل مفهومي وانتشاره"، والذي
ركز فيه على تتبع مراحل نشوء مصطلح (التناص) في الثقافة الغربية عموماً.
كما أن بروز هذا المصطلح (أي الأيديولوجيم) إلى الساحة النقدية، كان عقب
احتدام الصراع بين أنصار أدلجة الخطاب الأدبي ومعارضيهم، والتساؤل عن
طبيعة أو ماهية العلامة الإيديولوجية Ideological signe والأيديولوجيم،
يقوم البروفيسور "وينفريدنوث W.NOTH" (1944)، وهو أحد المختصين في اللغويات
والسيميائيات: "بينما اقترحت حلقة باختين b.cercle الهيمنة الكلية
للأيديولوجيا في العلامات، وجد أغلب السيميائيين الآخرين أنه من الضروري
التمييز بين الخطاب الإيديولوجي وغير الأيديولوجي no ideological discours.
فالوسائل السيميائية المعتمدة في تحليل الخطاب الإيديولوجي حسب هذا
التقليد كانت عبارة عن تصورات Concepts نظير: الإيحاء Connotation الرمز
Symbole، القيمة السيميائية Semiotic value والمعيار Norme"(16).
وبالتالي، فهاته التصورات لا ترقي إلى مستوى النظرية أو المنهج، الذي
يمكن الاعتماد عليه لمقاربة النص الأدبي، لكن رغم هذا يمكن اعتبارها بمثابة
إرهاصات أولية، لأن لكل عالم مفاهيمه وأدواته ومصطلحاته الخاصة به، التي
تمهد لميلاده، إذ حدث أن لفت هاته الأفكار الانتباه إلى ضرورة إيجاد وسيلة
جديدة، تعين على مباشرة التحليل، وقد كانت "مسألة الوحدة السيميائية الدنيا
للخطاب الأيدولوجي من انشغالات الدراسات التي اهتم بها كل من باختين،
مدفوداف، وكريستيفا، والذين فيما بعد اصطلحوا على أن هذه الوحدة Unit
لتحليل الخطاب يجب أن تكون معرفة على أنها أيديولوجيم. وحسب وجهة نظر حلقة
باختين، فالأيديولوجيم عملياً هو أي علامة sign في التواصل البشري"(17).
في نص من 1937 يكتب باختين: "كل كلمة تشي بأيديولوجيا قائلها... فكل متكلم هو
إذن إيديولوجي ldèologue، وكل تعبير هو إيديولوجيم"(18) (Bakhitn 1937-38:429).
ثم تأتي ج. كريستيفا سنة 1969 في "سيماناليز"، لتستعمل أيضاً مصطلح
(أيديولوجيم)، معرفة إياه على هذا النحو: "إن الأيديولوجيم دالة تناصية
Fonction intertextuelle، مجسدة" في مختلف المستويات لبنية كل نص". هذه
"الدول المعرفة على المجموعة Ensemble التناصية الخارج روائية Extra
romanespue ن خ (و) TE ن خ وذات قيمة في ن ر TR. بمعنى آخر يوجد نوع من فوق
ـ نص Sur texte الذي يعين بتحويل يتم بوساطة الدالة ذات الإحداثيات
التاريخية والاجتماعية، النص الحقيقي الذي نقرؤه في راي ما"(19). أو على
أنه "النقطة البؤرية Focal point التي من خلالها يظهر تحويل الملفوظات
(التي لا يمكن تقليص النص فيها) كمجموع (كنص)"(20).
نلاحظ جيداً، أن كريستيفا تقترض مصطلحات متداولة ومستخدمة في حقل
الرياضيات، ك (الدالة Fonction، المجموعة، القيمة، التحويل Transformation،
العلاقة Relation، الإحداثيات،...) كما تنزع إلى اختزال الكلمات إلى أحرف،
مما يثبت بأن المفهوم السابق عندها "لا يتعلق بتأويل إيديولوجي مسبق
وتتكلم جيداً عن دالة ذات معنى رياضي للمصطلح، بمعنى أنه يوجد" علاقة
متبادلة بين الكلمات أو إتباع الكلمات (لفوق النص وللنص)"(21)، وكأنها
بتأكيدها هذا تريد أن تنفي أي لبس قد يتبادر إلى الذهن نتيجة لاستخدام كلمة
(Fonction)، والتي لها معنيان في اللغة الفرنسية، المعنى الأول متداول
ومعروف لدى العام والخاص (وظيفة)، بينما المعنى الثاني (الدالة) يستخدم في
مجال الرياضيات فقط، ويكتبان إملائياً بالحروف نفسها.
أما في اللغة العربية، ترجمت الكلمة السابقة ب (وظيفة) أو (دالة)، وذلك
حسب معاجم الرياضيات، بحيث إن (الدالة) عبارة عن علاقة تفاعلية بين عنصرين
على سبيل المثال، إذ يوظف أحدهما الآخر.
وعليه، فإن الاحتكام إلى السياق هو الكفيل لوحده بجعلنا نستنتج أيهما
الاستعمال المقصود، وبالتأكيد إن تصريح كريستيفا السابق، يثبت جيداً أنها
تقصد المعنى الرياضي وليس الأدبي.
غير أن هذا التوظيف المكثف لتلك المصطلحات السابقة والتروع إلى اختصار
الجمل في معادلات رياضية، أو ما شابهها، ومحاولة علمنة الأدب وإخضاعه
لمناهج العلوم التجريبية، ليس معناه أن كريستيفا تتحكم بدقة في مفاهيم تلك
العلوم التي كانت تنهل منها، فقد لاحظ الفيزيائي الأمريكي آلان سوكال Alan
SOKAL (1955)، والمنظر الفيزيائي البلجيكي بريكمنت BRICMONT بأن "الكثير من
المفكرين الفرنسيين يستعينون بالرياضيات والفيزياء، بدون فهم حقيقي
لمفاهيم هذين العلمين، رغبة منهم في إدهاش أو إرباك القارئ، الذي يمتلك
معلومات علمية قليلة أو لا يحوز عليها مطلقاً، أمثال لا كان Lacan
(المعادلات الجبرية)، وبالمثل ج. كريستيفا وبخاصة في سيميوطيقا"(22).
هذا ما جعل هذين الباحثين يقومان بدراسة قاسية، ليثبتا فيها "الاستعمال
اللاعقلاني والمفرط، الذي يفعله بعض المثقفين الفرنسيين بالمصطلحات
العلمية، من بينهم: لاكان دولوز Deleuze، كريستيفا، بودريار Baudrillard
فيريليو Virilio..."(23).
ومن ثم أظهرا في مؤلفهما "الخدع الثقافية Impostures intellectuelles
1997) قلة معرفة كريستيفا في مجال الرياضيات، الذي كانت مع ذلك تستخدمه
دوماً طوال سنوات السبعينات"(24)، ويستشهدان على ذلك بمجموعة من الشواهد
يسوقانها من خلال مؤلفاتها، فهي حسبهما "لا تميز المجموعة البوليانية(ح)
Boolèen (1.0) المستعملة في المعلوماتية من المجال [1.0] ليس لديها أي
مفهوم عن الاختلاف بين مجموعة منتهية وأخرى غير منتهية. وبالنسبة للمجموعات
غير المنتهية أيضاً لا تميز بين المجموعات المنتهية العددية واللاعددية،
ومع ذلك تستعملها باستمرار كمرجع للمفاهيم السابقة بربطها مع "اللانهائي
Infini" للغة والأدب. وككل الناس الذين يتكلمون دون تمحص عن نظرية قودل
G?del (ط)، تعتقد كريستيفا أنها تخص استحالة برهنة تضاد نظام، في حين أنها
تخص استحالة برهنة خطأ جملة"(25).
كما بينا أنها "تجمع مصطلحات رياضية، في فقرات مجردة من معنى: فالمنطق
الجملي يصبح تحت قلمها منطقاً نسبياً"(26)، ليستنتجا في الأخير "أن لها
بصفة عامة فكرة غامضة عن الرياضيات التي ترجع إليها حتى ولو أنها لا تستوعب
علناً دلالة المصطلحات التي تستعملها"(27).
وبعد انكباب مطول على مؤلفاتها، تصول سوكال إلى أنها كانت تطمح أن "تؤسس
نظرية شكلية Thèorie formelle للغة الشعرية Langue Poètique، التي كانت
تزعم تأسيسها على مفاهيم رياضية كنظرية المجموعات Thèorie des ensembles
لكننا نلاحظ بوضوح العلاقة بينهما. وفي بعض الحالات ترتكب أخطاء ـ حقا ـ
كبيرة لكن يجب أن نسجل هنا أن الأمر يتعلق بأعمال قديمة لنهاية سنوات
الستينات. ثم غيرتها.."(28) فيما بعد.
وحتى تضفي كريستيفا على عملها هذا بعداً تاريخياً واجتماعياً، وجدت
نفسها فيما بعد مرغمة أن تقترح مفهوم (التناص) الذي اكتسح مفهوم
الأيديولوجيم، حيث لم تتح له الظروف أن يشتهر، لتكون بذلك صاحبة براءة
استعمال مصطلح (التناص)، إذ لم تظهر الكلمة إلا على يدها أول مرة، فهي كما
يقول ليون سومفيل Lèon SOMVILLE "التي أدخلت في الاستعمال مصطلح "التناص
Intertextualitè" لكي تعرض الحدس الأساسي الذي استوحته من ميخائيل باختين
Mikhaïl BAKHTIN في دراساته حول دوستوفسكي Dostoïevski (1963) ورابلي
Râblais (1965). وهي تستعين في مبدئها "السيميائية اللانظمية Sèmiotique
paragrammatique" على سوسير وباختين أيضاً لتؤكد السمة الاستشهادية
Citational للنص الأدبي: كل خطاب يعيد خطاباً آخر وكل قراءة تتكون هي نفسها
مثل خطاب. ويحدد الفعل المتناسق العوامل الثلاثة: الفاعل ـ المكتسب،
والفاعل ـ المرسل إليه والنصوص المؤلفة من قبل في مدونة محددة ككثير من
الأبعاد، الفضاء الذي ينتمي أي نص على الخصوص. والعلاقة (العمودية) للنص
بسياقه تضاعف العلاقة (الأفقية) للكاتب بقارئه. هذا الأخير يقيم مع نص أي
كاتب الحوار Le dialogue الذي بدأه المؤلف مع المؤلفات المعاصرة له أو التي
سبقته"(29).
إذن، فقد تنبهت ج. كريستيفا لهذا المصطلح من خلال قراءتها لمنجزات
الباحث الروسي باختين (1895 ـ 1975)، والتي كانت مغمورة آنذاك لدى القارئ
الفرنسي أو قليلة الشهرة، إن لم نقل مجهولة، بحيث إن "مؤلفات باختين لم تكن
معروفة في الغرب إلا في بداية سنوات 1970. لقد لعبت دوراً حاسماً في تطور
النظرية الأدبية واللسانية. ففي الواقع، لقد ساهمت في إحداث تغيير وجهة
النظر حول الكلام. في حين أن التحليل كان ذلك الحين مركزاً أساساً على
بنيات الملفوظ Lènoncè (لساني أو أدبي)، ثم انتقل الاهتمام تدريجياً باتجاه
تحليل التلفظ ènonciation" (30)، غير أنه رغم هذا لم يستعمل مصطلح
"التناص" صراحة، وإن كان في أعماله ما يشي بكونها مصدراً مهماً من المصادر
التي استلهمت منها ـ ج . كريستيفا نظرتها، بحيث وضع مفهومين بديلين "تعددية
الأصوات Polyphonie والحوارية Dialogisme وهما المصطلحان اللذان يبقيان
أكثر ارتباطاً بمؤلف باختين(ي) إلى حد أن تودوروف عنون كتاب تقديمه لدراسة
المفكر الروسي ميخائيل باختين، المبدأ الحواري Le principe dialogique"
(31).
وقد حضر المفهومان أولاً في حقل التحليل اللساني والأدبي من طرف المنظر
الروسي ميخائيل باختين، قبل أن يبعثا ويعاد تحديدهما من طرف اللسانين
الغربيين(32)، منطلقاً في ذلك من فرضية أو مبدأ جمالي مفاده، "أن غير
الضروري Autrui لإتمام الوعي"(33) بالعالم الخارجي، الذي يجد الإنسان فيه
نفسه يخضع لطقوس وعادات وتقاليد سلوكية وكلامية معينة، تحتم عليه أن يتصرف
وفق منطق معين، يرضي الجماعة التي ينتسب إليها، يقول باختين معبراً عن وجهة
نظره هذه: "لا أستطيع إدراك أناي في منظري الخارجي، دون الإحساس بالإحاطة
والتعبير عني.. بهذا المعنى، يمكن القول بالحاجة الجمالية المطلقة للغير،
بهذا النشاط من الغير الذي يشمل، النظر، والحفظ، الجمع والتوحد، والذي وحده
يستطيع خلق الشخصية التامة خارجياً، أي إذا كان الغير لا يخلقها، فهاته
الشخصية لن تتواجد"(34).
فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي يتفاعل مع الغير، لا يستطيع أن يعيش بمعزل
عن المحيطين به، حتى ولو توهم ذلك لبضع لحظات "إنه لا يمتلك إقليماً
داخلياً يسوده، إنه كلية ودائماً على حد ما"(35) في تصرفاته مع الآخرين،
كما أنه بحاجة إلى التواصل معهم عن طريق وسيلة مشتركة ألا وهي اللغة "التي
تعكس بصفة كاملة هاته التحويلات التأسيسية. في الحقيقة لا نبتكر لغة
لاحتياجاتنا الذاتية الفردية. إننا لغة نرث الغير وتبقى كلماته معلمة
marquè باستعمالات الغير. تكلم Parler إذن معناه كان متموقعاً في اللغة
المشتركة ولا يملك مكاناً إلا نسبة إلى كلمات الغير"(36).
يقول باختين مبرزاً دور الغير في تأسيس ذات الفرد "إن أي عضو من الجماعة
الناطقة لا يجد أبداً كلمات من اللغة تكون محايدة، معفاة من تطلعات
وتقويمات الغير، غير مسكونة بصوت الغير، وهذه الكلمة باقية فيه، إنها تتدخل
في سياقه الذاتي انطلاقاً من سياق آخر، مستوعباً اهتمامات الغير، وحتى
اهتمامه الخاص به يجد كلمة مسكونة مسبقاً"(37).
ف "كل كلمة تحس الوظيفة، الجنس، التيار، الحزب، المؤلف الخاص، الرجل
الخاص، الجيل، العمر واليوم. كل كلمة تحس السياق والسياقات التي من خلالها
عاشت حياتها الاجتماعية المكثفة"(38).
هذا ما جعل لوران جيني Laurent JENNY يستنتج وذلك بالتركيز على الآراء
السابقة بأن هناك "في اللغة ما يسمى بالحوارية اللسانية D.Lingiustique أو
الحوارية السلبية D.passif بمعنى أن تنتج عن معطى لساني وليس عن مقصد
للكلام Parole"(39).
غير أنه يستدرك ويضيف للنوع السابق نوعاً آخر، يسميه بالحوارية
الاستدلالية D.Discurisif يقول بخصوص هذه المسألة: "لكن، إلى هاته الحوارية
اللسانية ينضاف، في الحقيقة الكلام، بعد حواري آخر، بحيث يمكن القول إنه
حقاً مكون للخطاب. في الواقع إن خطابي يصدر دائماً عن الغير بمعنى أنه ينشأ
باعتبار من الغير. إن معجمي lexique وتركيبي للكلام Syntaxe ينشأ بوضوح
على أن آخذ بالحسبان لغة مخاطبي Interlocuteur"(40).
وعلى هذا، ف "الحوارية، حسب مفهوم باختين، تخص الخطاب Discours إجمالاً.
وهو يشير إلى أشكال حضور الغير في الخطاب: فالخطاب في الواقع لا يبرز إلا
في مسار تفاعلي بين وعي فردي وآخر. الذي يستلهمه ويجيب عنه"(41).
كما نجد أنه يشير من ناحية أخرى إلى أنه "يميز بين الحوارية الخارجية
D.Externe (الحوار بالمعنى الجاري للمصطلح) ومحاورة داخلية Dialogisation
intèrieure... هاته الحوارية تعمل بخصوص ما يسميه باختين slovo، ترجمت ب
"كلمة mot"، لكنها فسرت من مختلف النقاد أو المترجمين بحيازتها لمعنى
"خطاب"، "كلام Parole" (42).
وعلى هذا الأساس أسقط باختين آراءه وأفكاره التأسيسية لنظرية في هذا
المجال على الأعمال العظيمة للكاتب الروسي دوستوفسكي، والتي تجمعها ميزة أو
خاصية واحدة، وهي كونها جميعاً روايات ديالوجية (حوارية)، تتعدد فيها
الشخصيات والأصوات ووجهات النظر والضمائر على نحو كبير، وربما لهذا السبب
نجده يفضل الصنف الأول (أي الحوارية الخارجية)، والتي وجد بعد بحث مستفيض،
أنها تتجلى في ثلاثة أنواع أساسية هي:
1ـ التهجين 2ـ تعالق اللغات القائم على الحوار 3ـ الحوارات الخالصة (43)
يقول معرفا التهجين lhybridation بعد أن يتساءل عن ماهيته: "ما التهجين؟
إنه مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، وهو أيضاً التقاء وعيين لسانيين
مفصولين بحقبة زمنية،وبفارق اجتماعي، أو بهما معاً، داخل ساحة ذلك
الملفوظ"(44)، غير أنه لا يعطينا أمثلة حية يشرح من خلالها المقصود
بالتهجين، بل يكتفي بالإشارة إلى عناوين روايات استخدمت هذه التقنية، دون
أن يوقفنا على مقاطع ملموسة تزيل بعض الغموض الذي لحق التعريف السابق، ومن
هاته الروايات يذكر "الأمثلة الكلاسيكية التي تساق في هذا الصدد هي: دون
كيشوت، وروايات الكتاب الساخرين الإنجليز: فيلدنج، سموليت، ستيرن، ثم
الرواية الألمانية الرومانسية الساخرة: هيبيل وجان ـ بول"(45).
لكن، رغم ذلك فهاته العناوين لا تشفي غليل المتعطش إلى معرفة كيفية حدوث
هذا المزج، أو التداخل بين لغتين، أو الالتقاء بين وعيين، لأن الدارس أو
الناقد بحاجة إلى أمثلة تطبيقية حية تشرح بها هاته الظاهرة الأسلوبية، أو
الخاصية الكتابية حتى ولو أعطانا باختين بعض التوضيحات التكميلية المقتضية،
فهو إضافة على ما سبق يفرق بين التهجين الإرادي (القصدي) والتهجين اللا
إرادي (اللاوعي)، وهو ما أوضحه في قوله هذا: "وهذا المزيج من لغتين داخل
الملفوظ نفسه، هو طريقة أدبية قصدية (بدقة أكثر، نسق من الطرائق). لكن
التهجين اللا إرادي، اللاوعي، هو إحدى الصيغ المهمة للوجود التاريخي،
ولصيرورة اللغات، ويمكن القول بوضوح بأن الكلام واللغات، إجمالاً، تتغير عن
طريق التهجين"(46).
إذن، فالتهجين يحدث "عادة بين اللغات في كلام الناس اليومي المألوف،
ولكنه لا يكون إرادياً، بل يدخل في سياق تبادل التأثير المألوف بين اللهجات
واللغات التي تتعايش في حقل اجتماعي واحد، وهذا النوع من التهجين ليس له
بعد جمالي إطلاقاً، وإنما تتحاور اللغات بطريقة أدبية إبداعية، في التهجين
الإرادي داخل الفن الروائي"(47).
ونجد الناقد حميد لحميداني يحلل وجهة نظر باختين حول (الحوارية)، وذلك
بالعودة إلى رواية "الفقراء" لدوستويفسكي، حيث يتم "عادة المزج في ملفوظ
واحد بين صوتين أو لغتين أو موقفين، ومن خلالهما تتم صياغة هجنة لغوية يكون
لها دلالة معينة في سياق العمل الروائي بكامله، وأفضل مثال يمكن أن يقدم
في هذا الصدد ما ورد في رسالة وجهها البطل مكارد يفوشيكن لصديقته فرفارا
ألكسفينا"(48)، وذلك حسب حميد لحميداني.
أما بالنسبة للنوع الثاني فنجد باختين يصفه على أنه تلك "الإضاءة
المتبادلة المصاغة في حوار داخلياً، التي تنجزها الأنساق اللسانية في
مجملها، تتميز عن التهجين بمعناه الخاص. ففي الإضاءة المتبادلة لا يكون
هناك توحيد مباشر للغتين داخل ملفوظ واحد، وإنما هي لغة واحدة معينة
ملفوظة"(49).
أما الشكل الثالث (الحوارات الخالصة D.pures) فيقول باختين بخصوصه:
"وحوار الرواية نفسه بصفته شكلاً مكوناً، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بحوار
اللغات الذي يرن داخل الهجنة وفي الخلفية الحوارية للرواية. كذلك، فإن هذا
الحوار هو من صنف خاص"(49).
معنى هذا الكلام، أن هذا الشكل مرتبط بالشكلين الآخرين ارتباطاً وثيقاً
إلا أنه رغم ذلك يبقى محتفظاً ببعض خصوصياته، كشكله الطباعي الذي يميزه،
حيث إنه يمكن للمؤلف أن يسبق تلك المقاطع بـ "علامات معلنة ترافقها،
كالمطة، أو يتبعها بأقفال تدعيمية مثل: بادر، قال، أضاف، هتف،
تساءل،...الخ"(50)، وإلى غير ذلك من الإمكانيات والبدائل الاختيارية
المتوافرة، وعلى العموم، يمكن تلمس تلك التقنية بسهولة، فصوت الراوي أو
السارد في هذه الحالة يتوقف، ويفسح المجال للشخصيات لتعبر عن مكنونات
دواخلها.
إذن، فقد لعبت الحوارية بشقوقها الثلاث، دوراً كبيراً في تطوير مجال
التحليل النصي، الذي كان مسيجاً ومحاطاً بجملة من الضوابط والقوانين، جعلت
النص السردي يبدو أشبه ما يكون بهيكل جامد، إنها بمثابة "فرصة لنقد بنيوي
أدبي. لقد أعادت فتح التحليل النصي، أكثر تركيزاً على البنيات الداخلية،
بالنظر إلى خارجيتها Extèrioritè. وقد سمحت الإشكالية الحوارية بالانفلات
نحو عودة بسيطة إلى لصق Collage المعلومات التاريخية، السير الذاتية،
والنفسانيات، التي كانت غريبة تماماً على النص، الذي ميز النقد ما قبل ـ
البنيوي Prèstucturaliste" (51).
إضافة إلى ذلك لفت مفهوم الحوارية انتباهنا إلى "مقابلات أخرى تقترب منه
وتوضحه كمفهوم تعددية اللغات Polylinguisme أو مفهوم تعددية
الأصوات"(52).
فما المقصود بتعددية الأصوات Polyphonie كإحدى الوسائل أو الأدوات الإجرائية، التي يراها باختين ممكنة لتحليل بنية الرواية؟
إنها ثاني أهم المفاهيم التي استفاض هذا الناقد في استعراضها، وقد "وضع
من طرفه لوصف بعض ميزات روايات دوستوفسكي، ثم عرف بالمتابعة توظيفات
متعددة، خصوصاً في لسانيات التلفظ Enonciation أين تعين خطاباً يعبر عن
تعددية صوتية"(53).
وقد عرف المفهومان (الحوارية، تعددية الأصوات) نشاطاً كبيراً، ليس عند
اللسانيين الغربيين فقط، بل حتى عند صاحبهما، إذ كانت تعددية الأصوات عند
باختين "أولاً علامة مميزة للرواية الدوستوفسكية Dostoïevskien على النقيض
من محاورات الذات للرواية التقليدية، ثم أصبحت فيما بعد خاصية للرواية
عامة، ثم للغة في مرحلة معينة من تطورها (...) وأخيراً لكل لغة"(54).
كما نجده أيضاً لا يتوانى عن التنازل عن الحوارية، مفضلاً عليها مفهوماً
آخر، وذلك لأسباب وجيهة لعل أهمها ما لاحظه ليون سومفيل L.SOMVILLE من أن
"ما هو موضوع تحت شعار الحوارية، لا يترك المؤلف يقرر الحقيقي أو المزيف،
والخير أو الشر مكان شخصياته، ويضع فوراً البينشخصية (غير الذاتية)
Lintersubjectivitè" (55).
ولعل هذا التغير والتقلب، وعدم الاستقرار على مصطلحات بعينها، هو ما جعل
بعض الغموض ينتاب فكر باختين، وهو ما حذا بلوران جيني أن يقترح القيام
بربط تعددية الأصوات بفن الرواية كنوع من التخصيص، يقول معبراً عن رأيه:
"لرد المفهوم الباختيني Bakhtinienne أقل غموضاً، اقترح أخذ المعنى الذي
اصطلح عليه في علاقة مع الجنس الروائي وتخصيصه كتعددية أصوات أدبية
Polyphonie littèraire" (56).
ففي روايات دوستوفسكي، حقل الدراسة المفضل لدى باختين "ليس عدداً كبيراً
من الأقدار والأرواح التي تتطور في وسط عالم. موضوعي مستقل، مستضيء بالوعي
الوحيد للمؤلف، أي إنها بدقة تعددية ضمائر، لهم حقوق متساوية، يملك كل
واحد منهم عالمه الذي ينضم في وحدة حدث، دون أن يختلط (...) وضمير الشخصية
معطى كضمير آخر، كانتماء إلى الغير، دون أن تتحول إلى شيء، ومنغلقة دون أن
تصبح الموضوع البسيط لضمير الكاتب"(57).
وعلى هذا الأساس يستنتج ل. جيني أن "تعددية الأصوات الأدبية لا تمثل فقط
كثرة أصوات، لكن أيضاً كثرة ضمائر وعوالم إيديولوجية. ويمكن الاعتقاد
بأنها حالة كل رواية أين تتجادل شخصيات، كشخصيات بلزاك Belzac أو فلوبير
Flaubert على سبيل المثال. لكن باختين لاحظ أنه في الاختلاف، تشكل شخصيات
روائية أخرى وضمائر أخرى لوحدها، كحالة شخصيات دوستوفسكي، التي جربنا
الدخول في مناقشة معها، فصوتها ليست ترجمة لفلسفة المؤلف. ولا نكراناً لهذه
الفلسفة، إنها صدى لهذا الصوت، مع احتفاظها بمركزها واستقلاليتها"(58).
إذن، فهذان المفهومان المستقيمان من المعجمية الباختينية، يعلماننا "أن
نكون متيقظين في الأدب ليس فقط للمحتويات لكن أيضاً للأصوات، يبين كيف أنه
حتى الأدب الأكثر ظهوراً كمنفرد يقيم علاقة كلية مع الآخر. في هذا المعنى،
لا يرسي الأسس لشعرية التلفظ فقط، إنه يقدم لفكر الغير في الخطاب"(59).
وهذا ما جعل ج. كريستيفا تطلق فيما بعد مصطلح التناص Intertextualitè
"الذي أعطته معنى أكثر عمومية عن الذي أعطي للحوارية التي لا تخص سوى بعض
الحالات الخاصة للتناص"(60). حيث طورت فكرتها هذه في كتابها "أبحاث من أجل
تحليل علاماتي Recherche pour une sèmanalyse، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن
التناص ميزة أو خاصية لا يستطيع أن ينفلت منها أي مكتوب على الإطلاق، فـ
"كل نص ينبني كفسيفساء Mosïpue من الاستشهادات Citations أنه امتصاص وتحويل
Information لنص آخر" (61).
وحتى تشرح أكثر المقصود بمفهوم التناص، لجأت إلى رواية الكاتب الفرنسي
"أنطوان دولا سال A. De la Sale" التي تحمل عنوان "جيهان دو سانتري Jehan
de saintrè" متخذة إياها كحقل عمل تطبيقي، فوجدت بعد دراستها بأن البنى
التناصية تتمظهر فيها في أربعة أشكال هي:
1ـ نص التقسيم التقليدي (تصميم الرواية بحسب الأبواب والفصول، النبرة الوعظية، الإحالة الذاتية في الكتاب والمخطوط).
2ـ نص الشعر الغزلي (حيث "السيدة La Dame مركز اهتمام وتمجيد مجتمع ذي
علاقات مثيلة homosezuelle تجعل صورتها تنبعث من خلال... المرأة والبكر
وحيث شبق الشعراء الجوالين (التروبادور Troubadours).
3ـ النص الشفوي للمدينة (الأصوات الإشهارية للباعة، لافتات وعناوين المحلات، لغة "اقتصاد العصر"..)
4ـ وأخيراً خطاب الكرنفال (حيث يتجاور التجانس والغموض والضحك واستشكال الجسد وجنس المشارك والقناع... الخ)(62).
وعلى هذا تعبر الرواية على أول ميدان قامت ج. كريستيفا بإخضاعه لمقترحات
التناص، وذلك اقتداء بأستاذها باختين "الذي وسع مفهوم الحوار في الرواية
في سعيه إلى البحث عن مكونات الرواية النفسية في بعض النصوص النثرية
الإغريقية والرومانية القديمة"(63)؛ لأنه لاحظ بـ "أن الرواية تسمح بأن
تدخل إلى كيانها جميع الأجناس التعبيرية الأدبية منها كالقصص والأشعار
والقصائد والمقاطع الكوميدية، وغير أدبية كالدراسات العلمية أو الدينية
وغيرها"(64).
كما ميزت من خلال تعاملها مع الرواية السابقة، بين نوعين من التناص هما
(التناص المضموني، التناص الشكلي)(65)، حيث إن الشكل الأول يعني "توظيف بعض
الأفكار أو المعلومات الواردة في كتاب معين في الرواية حسب السياقات التي
تقتضي ذلك التوظيف"(66)، أما الشكل الثاني، فيتجلى من خلال "مجموعة من
التقاليد الشكلية التي سار عليها مؤلفو العصور الوسطى وهذه التقاليد على
مستوى الألفاظ المستعملة أو الدلالات المعجمية الموظفة أو العبارات أو
التراكيب، تنتقل إلى كتابة المؤلف منحدرة إليه من رصيده الثقافي الهائل
الذي يصدر عنه أثناء ممارسته لعملية الكتابة"(67) غير أن هذا الاحتفاء بهذا
المصطلح في منابعه الأولى، لم يمنع مؤسسة هاته النظرية من التراجع عنه
مفضلة عليه مصطلحاً آخر، يقول سومفيل: "فالتناص بصفته أداة للتحليل، اكتسب
أيضاً حق ذكره في قطاعات بعيدة عن النقد الجديد Nouvelle critique وهذا ما
أسفت له ج. كريستيفا في سنة 1974: بما أن المصطلح (التناص) فهم غالباً
بالمعنى المبتذل لـ "نقد الينابيع critiques des sources" لنص ما، نفضل
عليه مصطلح المواضعة Transposition (.......)
(ج كريستيفا 1985: 59 ـ 60)(68).
إذن فقد تراجعت ج. كريستيفا عن مصطلح (التناص) بعد أن تلقفته أيد كثيرة،
أساء بعضها استعماله وتوظيفه، بل إنه "يختلف من باحث إلى آخر، انتشاراً
وفهماً، (بتلازم مع المفهوم الذي يمتلكه الباحث عن النص نفسه)، وأنه ينتمي
عند بعضهم لشعرية توليدية وعند الآخرين إلى جمالية التلقي، وأنه يتموضع عند
بعضهم في مركز الفرضية الاجتماعية التاريخية، وعند الآخرين في تأويلية
فرويدية أو شبه فرويدية، وأنه يحتل عند بعضهم موقعاً بديهياً كل البداهة في
أساس مفاهيم النظرية"
(69)، ولهذا وصف بعدم البراءة، وبأنه يستعصي على الضبط والتقنين حتى في
منابعه الأولى، فتعددت تعاريفه واختلفت مفاهيمه، وكثرت الاقتراحات
والإضافات والتعديلات حوله، غير أن الشيء الوحيد الأكيد أنه ظل حاضراً عبر
جميع الاتجاهات والتيارات النقدية المعاصرة.
الحواشي:
أـ اتفاقاً مع رأي عزت محمد جاد، فيما يخص ترجمة الكلمة الفرنسية
intertextualitè وتماشياً مع رأي الكثير من المعربين، نفضل استعمال
"التناصية" للإشارة إلى النظرية أو المنهج، و"التناص" كلما تحدثنا عنه
كمصطلح أو كظاهرة، أو كلما ورد عرضاً، (بنظر كتابه: نظرية المصطلح النقدي، ص
298).
ب ـ يصرح الشعري الفرنسي جيرار جينيت G.GENETTE بأن هناك خمس أنواع من
العلاقات التي تقيمها النصوص فيما بينها ليس التناص إلا واحداً منها فهو
يسويه بالأنواع التالية (النصية الجامعة Architextualitè، التعلق النصي
Hypertextualitè النصية البعدية Mètatextualitè، النصية الموازية
Transtextualhtè) ويجعله فرعاً من مصطلح أعم وأشمل هو "المتعاليات النصية
Paratextualitè".
(Voir son livre: Palimpsestes (la literature au second degree), Edition du seuil, 1982, p.p1 –17.
ج ـ سيماناليز: مصطلح مركب أو منحوت من كلمتين (sèma + analyse) الأولى
بمعنى علامة signe وذلك بإرجاعها إلى أصولها الإغريقية (sêma) والثانية
بمعنى تحليل. إذن فالترجمة الدقيقة لهذا المصطلح هي "تحليل علاماتي"، وهذا
ما اعتمده أيضاً م. خير البقاعي في كتابه "آفاق التناصية". وليس تحليل
دلالي، أو تحليل دلائلي، أو تحليل سيميائي... كما يذهب إلى ذلك كثيرون.
دـ يفضل م. خير البقاعي ترجمة مصطلح Phènotexte بخلقة النص، أما Gènotexte بتخلق النص. (ينظر كتابه: أفاق التناصية، ص 42).
هـ ـ أيديولوجيم: يبدو أن ج. كريستيفا صاغت هذا المصطلح المركب من كلمتي
أيديولوجي Idiologie (علم الأفكار، واللاحقة، يم eme"، التي نجدها في
مصطلحات رياضية وعلمية وتقنية ك: تيوريم thèorème، ستراتاجيم Stratagème
على هذا النحو:
نأخذ على سبيل المثال كلمة نظرية (تيوري Thèorie) ثم نتتبع الخطوات
التغيرات التي لحقتها بعد ذلك نخضع أيديولوجيم لنفس الخطوات، سنجد بأن:
تيوري (نظرية): تؤدي تيوريم بحيث إن تيوريم تعرف رياضياً على أنها "تعبير عن نظام Système شكلي قابل للبرهنة داخل هذا النظام".
(Voir: Petit Larousse, Edition 1983, p919) أما تيوري فهي "مجموعة من
التيوريمات والقوانين المرتبة بمنهجية خاضعة لمراجعة تجريبية، والتي تهدف
إلى إثبات صحة نظام علمي" Le même. P920
إذن فهناك علاقة منطقية تربط بينهما، وبتعبير رياضي يمكن أيضاً أن نصوغ
علاقة على هذا النحو: تيوري = ? التيوريمات (يشير هذا الرمز ? إلى الدلالة
مجموع).
وعلى هذا، فإن كريستيفا استوحت المصطلح السابق و ما يماثله لتنحت مصطلحاً جديداً من منطلق الاحتذاء:
إيديولوجي ldèologie <-- أيديولوجيم. ولا شيء يمنعنا من افتراض ذلك،
وبخاصة أنها تستعين برموز ونظريات رياضية معقدة محاولة منها للوصول إلى
نتائج قد تضاهي دقة وصرامة النتائج التي نحصل عليها في العلوم التجريبية.
ز ـ ميخائيل ميخالوفيتيش باختين Midhaïl mikhaylovich bakhtin (1895 ـ
1975): يعتبر مارك أنجيو بأن باختين ومدفوداف ليسا سوى شخص واحد (المنظر
الروسي) حسب ما هو وارد في المتن، بينما يعتبر ل. جيني بأنهما شخصان
منفصلان. وبالعودة إلى قاموس النظرية النقدية: Dictionary of critical
theory نجد أن صاحبه ديفيد ماسي D.MACEY وهو يعطي نبذة عن حياته وأهم
أعماله الأدبية، يذكر أن من بين مؤلفاته "الصادرة بالاشتراك: المنهج الشكلي
مع مدفوداف The formal method with Medvedev سنة 1998 الماركسية وفلسفة
اللغة (مع فولوشينوف) Maxism and the philosophy of language with
Moloshinov سنة 1929، (voir p 28)، دون أن يبدي أي ملاحظة تشير إلى احتمال
أنه كان ينشر أعماله بأسماء مستعارة، بل أنه يؤكد على أن مؤلفاته المعروفة
كانت معهما، لوجود نقاط اتفاق كثيرة بينهما إلى درجة أنهم وضعوا الخطوط
العريضة والمميزة لموضوع الحورية dialogisme حسبه.
وـ T:TE رمز لكلمة Texte نص ن، و E رمز لكلمة Externe خارج خ، أما TR: ف R رمز لكلمة Roman رواية ر
ح ـ نسبة إلى جورج بول (1815 ـ 1964) وهو منطقي ورياضي إنجليزي، وإليه
ينسب الجبر البولياني، وتعد نظريته في الجبر أحد أسس المنطق، مجموعته تتكون
من عنصرين فقط مثل: (1.0)، (لا ، نعم)، (صحيح ، خطأ).
ط ـ اشتهر كورت غودل بمبرهنته Thèorème de G?del والتي ملخصها" إذ لم
تكن نظرية ح متناقضة وإذا كانت موضوعات الحساب مبرهنات ل ح، فإن ح ليست
فئوية.. ينتج عن ذلك استحالة إثبات أن أية نظرية حاوية للحساب ليست
متناقضة"، (ينظر صلاح أحمد وآخرون: معجم الرياضيات المعاصرة، مؤسسة
الرسالة، بيروت، ط1، 1983، ص 154).
ي ـ يقصد به كتابه "شعرية دوستوفسكي La poètique de DOSTOIEVSKI الصادر عن دار Seuil ، 1970.