الحوار بين الثقافات:العوائق و شروط الإمكان
D. Shayegan : les illusions de l'identité.; Paris-serf.P 175 1- مفارقة العصر: تضاعف إمكانات التواصل و تضاؤل حظوظ التفاهم.
لعل إحدى المفارقات الأساسية لهذا العصر الذي نعيشه هي هذا
التناسب العكسي بين ثورة الإعلام والتواصل و انفتاح الفضاءات المغلقة من
جهة، وانبعاث الخصوصيات، والهويات الصغيرة، وكل أشكال الارتداد إلى الذات،
وبموازاة ذلك استفاقة أشكال النزاع و الصراع بين الثقافات من جهة أخرى.
الظاهر أن هناك آليتين موضوعيتين تعملان بشكل متواز، أولهما
تقنية تجارية تتمثل في اكتساح التقنية لكل ثنايا المعمورة، والتقريب بين
أبعادها، وتقليص المسافات،والأزمنة،وتوحيد العالم في سوق واحدة ليصبح قرية
تجارية ضخمة، وآلية موضوعية مضادة هي آلية النكوص إلى الحميميات الجماعية
والمميزات والفوارق والخصوصيات وخاصة على المستوى الثقافي.
تبدو الثقافة هنا - بمعناها الواسع كنمط حياة وإطار للعيش –
بمثابة حضن معنوي مولد لأشكال المقاومة ضد الصهر القسري الذي تمارسه
التقنية المتحالفة عضويا مع قوة المال كما تمثل ذلك الشركات الدولية
الكبرى العابرة للقارات
.إن الغرب في صورتيه الرئيسيتين : أوربا كأصل وأمريكا كفرع،
هو اليوم المفرخ الرئيسي للتقنية و المهيمن الأكبر على الأسواق
المالية والتجارية في العالم، وهو المالك لأكبر حلف عسكري عالمي (وحيد)، و
المتحكم الكلي في كل المضايق والبحار ومعابر القارات ، والمراقب الكوني
الدقيق بأقماره الصناعية البثية والتجسسية لكل كبيرة وصغيرة على وجه
(البسيطة) ، وبنفس الوقت الطرف الذي لا يكتفي بفرض سيطرته السياسية
والاقتصادية والعسكرية والتقنية والمالية على مختلف أرجاء المعمور، بل
يفرض بالقوة رؤيته وخططه الاستراتيجية، ويعتبر نفسه النموذج المحتذى والآمر
الذي لا راد لأوامره ولا محيد عن طاعته. بل الأدهى من ذلك أنه يمارس على
نفسه وعلى الآخرين أشكالا رفيعة ماكرة من الكذب، والكذب على النفس
والتضليل وقلب الحقائق.فهو يقدم الحروب المدمرة للشعوب على أنها أعمال
سلم، و تخريب بلد على أنه إعمار، والاحتلال على أنه تحرير، والتكييف
الكامل للإعلام على أنه حرية أخبار، وازدواجية المعايير على أنها عين الحق
والصواب ،والحكمة، والخوصصة (التي هي في العمق تقديم الاقتصادات المحلية
لقمة سائغة لاقتصادات المركز ولشركاته و العابرة للقارات) على أنها تنمية
مستديمة ، ويقدم بضاعاته ومخترعاته ومنتوجاته الثقافية الجماهيرية
الاستهلاكية على أنها عين الحداثة والتقدم الخ.، والغرب يتعمد
أيضاالخلط القصدي بين المقاومة المشروعة للعدوان والاحتلال وبين الإرهاب،
ويرفع معايير القوة إلى مرتبة المنطق والأخلاق، ويقدم الحرب على أنها
تضحية من أجل الوطن أو من اجل الإنسانية، ولا يكف عن ترديد نشيد
الديمقراطية بمحاذاة فوهة المدافع وأزيز الطائرات الحربية وثنايا القنابل
العنقودية، وكذا اتهام الآخرين بأنهم يكرهوننا لما نحن عليه لا لما نفعل
في سياستنا تجاههم، وبالمقابل يبلور الوعي العربي الإسلامي، أمام الدونية
والتفاوت الحضاري الشامل، رؤية ذاتية مضادة مفادها التميز بالتفوق الروحي،
والتقدم الأخلاقي، والأفضلية الأنتروبولوجية واللسانية، وامتلاك فضيلة
الحق وميزة البلاء، وبالتالي امتياز الهداية والنور ...
كل هذه المؤشرات تدل على وجود اختلال بنيوي على المستوى
العالمي يتميز بالتفاوت الفادح بين الشعوب والمجموعات الثقافية في الثروة،
والسلطة، والقوة، والمعرفة، والوعي بالذات كما يتميز باستشراء مظاهر
الوعي الإيديولوجي المقلوب لدى كل الأطراف، وهو السياق العملي الذي تنبعث
فيه اليوم نداءات الحوار بين الثقافات
2- الحوار كمثال و كشعار و كوسيلة:
فكرة الحوا رفي حد ذاتها فكرة جميلة ومغرية.لكنها هي نفسها
محل صراع، ومجال اختلاف، وربما هي أحيانا أداة تضليل، ووسيلة وتحايل
وتمويه على السيطرة.
الشعار الحواري في حد ذاته مطالب بأن يكون واعيا لذاته،
ولملابساته، وسياقاته، واستعمالاته الواعية، القصدية والخفية، ولعوائقه،
ولآفاقه وشروط إمكانه الفعلية. فهو مثال جيد (Idéal)ومثل يحتذى به إذا ما تحول فعلا إلى أداة للتفهم والتفاهم.
لكن الحوار يفترض أولا(حسن النية)، وإرادة التفاهم ، ويفترض
قبل كل شيء فكرة الاعتراف بالآخر ، الاعتراف بحقه في الوجود ، والاعتراف
(La Reconnaissance) بحقه في
الحياة وبحقـه في التميز والاختـلاف، لا الاعتراف فقط بالتفوق وبحق الأقوى
والأغنى والأعلم في فرض رؤيته على الآخر. الحوار الحقيقي ينطلق من مسلمة
أساسية هي مسلمة التساوي في الوجود وفي الحق
قد يكون هذا التصور للحوار تصورا مثاليا و عسير المنال ، لكن
لابد من استحضاره كشرط مسبق لكل حوار أو تفاعل. فالشرط الأولي والأساسي
لأي حوار مثمر هو حسن صياغة مفهوم الحوار نفسه.
وإذا ما تم إقرار مثل هذا التصور كمنطلق فإنه بالإمكان
تفعيله وتصريفه وتطويره كأداة وكوسيلة وكمثال . كأداة للفهم، والتفهم،
والاعتراف المتبادل.
يتطلب الحوار عناء فكريا ، ونقدا مزدوجا للذات وللآخر ،
وتفكيرا في العوائق الفكرية والنفسية والحضارية المتراكمة وفي كتل الأحكام
المسبقة (Préjugés) المترسبة عبر العصور وفي
وظيفتها الثقافية هجوما ودفاعا،وهذه المهام النقدية تزداد عسرا عندما
يتعلق الأمر بفضاءين ثقافيين مختلفين يتنافسان على ضفة المتوسط منذ أكثر
من ألف سنة.
ومسألة التحرر من الأحكام النمطية الجاهزة المسبقة المتراكمة
عبر العصور، والمترسخة في الأذهان والوجدان ليست مسألة سهلة، ولا إجراء
إبستمولوجيا بيّن الخطوات، ولا مهمة يمكن إنجازها بين يوم وليلة، أو من
طرف فرد واحد، أو من جهة دون أخرى، بل هي مسالة ترتبط بسيرورة الحوار ذاته
وبآلياته وبمقاصده وشروطه ، إضافة إلى توافر إرادة وشروط التفاهم بين
الثقافات
3- المحطات الكبرى للصراع عيش ظهور الإسلام وانتشاره ا لسريع في
الفضاء المتوسطي منذ البداية بمثابة تنافس روحي وحضاري وإمبراطوري قوي
من طرف العالم المسيحي. وقد تنامي هذا الشعور تدريجيا في هذا العالم،
وجاءت أحداث كبرى كسقوط القسطنطينية وانتشار الإسلام في آسيا وأفريقيا ثم
في أوروبا لترسخ مشاعر التنافس والعداء، خاصة و أن هذا الانتشار السريع تم
على حساب، وفي مواجهة الإمبراطورية المسيحية عامة، وعلى وجه الخصوص في
مواجهة الإمبراطورية الرومانية في شمالي أفريقيا ابتداء من القرن الثامن،
الميلادي، وهو الأمر الذي أدى إلى استقلال جنوب المتوسـط عن الإمبراطورية
الرومانية،وقد تعمق هذا التصور مع غزو المسلمين لشبه الجزيرة الإيبيرية
وإقامة دولة الأندلس فيها بين سنتي711م إلى سنة 1492م.
وبعبارة أخرى فقد شكل ظهور الإسلام في قلب العالم
القديم حدثا رئيسيا فارقا أدى إلى بروز كيان ديني وحضاري و إمبراطوري جديد
في قلب العالم القديم، حيث أصبح غرب المتوسط بحيرة إسلامية لم يعد يتيسر
فيها بسهولة المرور التجاري والانتشار الديني نحو الشرق وأعماق
أفريقيا،دون المرور عبر هذه المنطقة الجديدة العازلة بين أوروبا وأفريقيا
وآسيا . وهكذا بدأت فكرة (الخطر الإسلامي)
تتبلور في العالم المسيحي، ولعلها ستكون الفكرة الممهدة لما سمي بالحروب
الصليبية، التي اندلعت بعد نداء البابا اوربان الثاني (UrbainII)
سنة 1095 م إلى التعبئة لشن الحرب دفاعا عن الصليب، من حيث هي مسعى لفك
الحصار ولاستعادة الأراضي ، والأماكن المقدسة، وطرق الحج إلى القدس،
والطرق التجارية التي استولى عليها المسلمون.
والحروب الصليبية ربما هي الوجه الشرقي لحروب الاسترداد (Reconquistas)التي
قام بها الاسبان في غرب المتوسط. لكن هذه الحروب لم تستطع إ يقاف انتشار
الإسلام الذي استوعب العديد من الإمبراطوريات والحضارات الفرعية الفارسية
والتركية والآسيوية ، بل إن التوسع الإسلامي طال أروبا نفسها شرقا وغربا
إلى حدود القرن السابع عشر حيث كانت بلغراد و بودابست محكومة من طرف
الباشوات الأتراك , حيث قامت الجيوش السلطان العثماني بمحاصرة فيينا ,
بينما شن بعض القراصنة هجمات أو غارات على شواطئ إنجلترا وايرلندا
وأيسلندا كما يذكر برنار لويس في كتابه ( الإسلام في أزمة ) (الطبعة
الفرنسية 2003 )
لكن ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر تغير الوضع على
المستوى الدولي العام وبدأ العد العكسي السريع بالنسبة للعالم الاسلامي. و
نقطة التحول الكبرى كانت هزيمة الجيش التركي بعد الحصار الثاني لمدينة
فيينا سنة 1683م، التي دشنت مسلسلا من الهزائم و التراجعات ما تزال
مخاضاتها تتواصل إلى اليوم .
و من ابرز محطاتها غزو نابليون لمصر سنة 1798، و اقتطاع
مصر من الدولة العثمانية , و احتلال الهولنديين لاندنوسيا سنة 1800
والفرنسيين للجزائر سنة 1830، والبريطانيين للسودان، ودخول جيوش الحلفاء
إلى بيت المقدس سنة 1917و إنهاء الخلافة العثمانية 1924 واحتلال فلسطين
لإنشاء إسرائيل سنة 1948، والهجوم الثلاثي على مصرسنة 1956 والهزائم
العربية المتلاحقة بدعم من الغرب عامة وأمريكا على وجه الخصوص لإسرائيل منذ
سنة 1967. وآخرها شن الحرب على العراق بذرائع مختلفة. إلا أن الجديد في المنعطف
الجيواستراتيجي الكبير الذي حدث في الغرب الأوروبي ،هـو ظهور حركة
تحرر من المسيحيـة والتصـور الـديني
(Dechristianisation) لدى
العديد من النخب الفكر والسياسية في الغرب كما عبرت عن ذلك الثورة
الفرنسية التي سجلت بداية الفصل بين الدين والسياسة، بموازاة عملية تقدم
في مجال معرفة الطبيعة وازدهار العلوم التجربية في الفيزياء والكيمياء
والفلكيات وفي تطبيق الرياضيات في كل العلوم ، و في ترافق مع التوسع
الجغرافي واكتشاف فضاءات جديدة و استقدام ثروات طائلة من المستعمرات
ساهمت في خلق دينامية اقتصادية وسياسية وعلمية وفكرية داخلية. ولعل مفهوم
الغرب كما نتداوله اليوم، وخاصة في صيغته الأوروبية الأصلية، هو تعبير عن
الانصهار الكامل للروح المسيحية ضمن رؤية جديدة قوامها التوسع الجغرافي
والتجاري والتطور العلمي والمعرفي و التقني الهائل الذي جعل أوربا لمدة
ثلاثة قرون تشكل الطليعة الحربية و الاقتصادية و الفكرية للبشرية برمتها ،
إضافة إلى اكتسابها طابع القوة الاستعمارية الاولى في العالم ، وهو الدور
الإمبراطوري الإمبريالي الذي ستلعبه الولايات المتحدة الأمريكية منذ منتصف
القرن العشرين وراثة و امتدادا للدور الأوربي ، وإنْ دخل مفهوم الغرب
اليوم في فترة تشقق تدريجي. 4 الأشكال الكبرى للأحكام المسبقة السلبية المتبادلة. :
على خلفية هذا التنافس و الصراع الذي دام لأكثر من ألف سنة
تشكلت في الثقافتين معا تصـورات و أحكام و تخيلات تطفح بهما الثقافتان معا
دفاعا أو هجوما.
إذا كانت الوظيفة الأساسية للثقافة هي سمنتة الهوية و
إذكاؤها ، وتصفيحها، وتحفيزها على الفعل، فإن الآخر، القريب أو البعيد،
الغريم أو المنافس، يدخل في صلب هذه العملية القائمة على التنا فس، و
المحاكاة، والإسقاط ، وقلب العلاقات، في إطار القاعدة الأساسية التى تحكم
كل هوية ثقافية وهي تمجيد الذات و تبخيس الآخر(1). أ- الصورة النمطية السلبية للإسلام والمسلمين في الثقافة الغربية :
تطفح الثقافة الغربية بالأحكام النمطية السلبية تجاه
الإسلام والمسلمين ونبي الإسلام كما تجاه العرب وتاريخهم ولغتهم وثقافتهم.
فقد صور الإسلام في الثقافة الأوروبية المسيحية منذ بداية
التعرف عليه كشكل جديد من أشكال الوثنية، و كنمط جديد من الهرطقة. بل إن
الإسلام ظل في نظر العديد من رجال الدين المسيحيين، بل في نظر الكثيرين من
المثقفين والكتاب الأوربيين بمن فيهم المنفتحون و المتنورون، عقيدة
ابتدعها رجل متنبئ اسمه (ماهومي)، وهي عقيدة تتسم بالانحلال الخلقي،
والميل إلى الملذات الدنيوية، والتزمت، واللجوء إلى العنف، والقسوة،
والانحراف الجنسي، وتغليب النظرة الجبرية، والقدرية، والتواكلية، في حين أن
الثقافة المسيحية في هذا التصور، هي على النقيض من ذلك، ثقافة الأخلاق
الصارمة، والمحبة، والسلام، والتسامح، والانتشار السلمي عبر الإقناع لا
عبر السيف و قوة السلاح (2).
ويرى العديد من الكتاب الأوربيين أن الدين الإسلامي خليط من
الأفكار الدينية المستوحاة من اليهودية والمسيحية، والمجوسية، المليئة
بالأفكارالهيلينية، والمتأثرة بالقانون الروماني في جانبها التشريعي. ولم يسلم من ترديد هذه الصورة النمطية
السلبية حتى كبار الفلاسفة العقلانيين ورواد التنوير. فجان جاك روسو يقول
بأن (دينا بهذا القدر من الرداءة لا يمكنه أن يتماسك و يدعم نفسه إلا
بالجهل) كما يرى أن القرآن هو (كتاب محمد الذي لا يتحدث إلا عن النساء)
(3).
تبلغ هذه الصورة النمطية السلبية مداها الأقصى عندما يتم
الحديث عن نبي الإسلام الذي يقدم في صورة محارب عنيف دموي، و يصور كسياسي
متقلب وميال إلى القتال في مقابل يسوع المسالم، الذي يحمل بعناء عذابات
الآخرين داعيا إلى المحبة والتسامح. فدانتي في ( الكوميديا الإلهية ) يتحدث
عن النبي محمد بلفظ استهجاني هو موميتو، ويصوره كتسجيد لركام من الشرور،
ويحشره في الدائرة الثامنة من الجحيم مع محترفي النزاعات ومثيري الفتن. في الثقافة الفرنسية نجد فولتير، رائد
التنوير الفرنسي، يصور نبي الإسلام كنموذج للتعصب الديني و الطغيان
التيوقراطي الذي يستغل مشاعر البسطاء من الناس ومعتقداتهم الساذجة لبلوغ
"غاياته الشريرة "، كما أنه ، في نظره ، متعصب، عنيف، محتال، وعار على
الجنس البشري . فقد انتقل من كونه تاجرا ليصبح نبيا مشرعا و ملكا. (إن
محمد عندي ليس سوى مراء (Tartuffe) بيده سلاح)...(إنه أكبر زير نساء و أكبر عدو للعقل) (4). نفس الصورة السلبية نعثر عليها لدى
تنويري فرنسي آخر هو كوندرسيه صاحب (لوحة تاريخية عن مظاهر التقدم
الإنساني) يقول فيها : إن (دين محمد حكمٌ بالعبودية والبلاهة التي لا شفاء
منها بالنسبة لهذا القسم الواسع من الأرض حيث نشر إمبراطوريته). هذا
بينما يكتب دوتوكفيل بأنه درس القرآن كثيرا وخرج بقناعة راسخة مفادها أنه
ليس هناك ديانة في العالم أكثر شؤما و ضررا للناس من دين محمد. فبلزاك
يعتبر نبي الإسلام (أفاقا)، والقرآن إعادة كتابة للتوراة والإنجيل. وأن
الله لم تكن لديه أية نية في أن يجعل من هذا الحادي (سائق الجِمالَ) نبيا
له. ولا يقف الأمر عند حد تقديم صورة سلبية
عن الإسلام و نبيه بل نجد لدى بعض الأدباء دعوة إلى إبادة الإسلام و
المسلمين كما فعل ألفرد دوفينييه
(Alfred de Vigny)الذي يرى أن )الإسلام هو العبادة الجامدة و المتعصبة أكثر من أية عبادة أخرى ، بحيث يتعين إفناء كل الشعوب التي تبشر و تدين به إذا هي لم تستبدل هذا الدين). من أبشع الصور وأكثرها حقدا التي تقدمها
الثقافة الأوروبية عن النبي هي تلك التي تحكي عن وفاة النبي (ص) حيث تذكر
أن أصحاب محمد وأتباعه انتظروا أن تقوم الملائكة برفع جسده إلى السماء
بعد وفاته ، لكن بدلا من ذلك تأتي مجموعة من الكلاب... ( إلى آخر النص
البشع المشحون بالحقد والكراهية تجاه الإسلام ونبيه ) (انظر الهامش رقم
7).
هذه الأحكام السلبية الحاقدة تسري كذلك على العرب الذين
يصورهم البعض بأنهم (شعب مترحل جاهل ، غير قادر تقريبا على إنشاء حضارة) (Maupassant) أو بأ نهم شعب قرصان (Peuple brigand) كما يصورهم مونتسيكو، أو أنهم "أكثر تعاطيا للسرقة والنهب والقرصنة من تعاطيهم لفلاحة الأرض" (Helvetius)أو أن تاريخ العرب هو "تاريخ السيف، التاريخ الذي تجتمع فيه الشراسة بالاستبداد، والعبودية بالتعصب " (Chateubriand) (5). الثقافة الألمانية بدورها مليئة بهذه
الأحكام السلبية عن الإسلام ونبيه وعن المسلمين والعرب وهذه الأحكام
السلبية متداولة لدى الكاثوليك والبروتستا نت معا . فقد أثر عن مارتن لوثر
ذكره للمسلمين بكثير من الازدراء والاحتقار ، ورفض أن يقرأ القرآن،لكنه
مع ذلك تحدث عن خلاعته واختلاله المخجل(6)، حيث نعثر على نص ألماني من
القرن الحادي عشر يقول فيه المدعوامبيرخو رئيس كنيسة مدينة ماينتس
الألماني عن المسلمين ما يلي : "إنهم يحتفلون بكل أشكال الزواج التي
تحرمها الشريعة الإلهية ... فالمرأة تسعى إلى ممارسة السحاق مع مثيلاتها ،
ويمارس الرجل اللواط مع نظيره ، بل وخلافا للتقاليد يجامع الشقيق شقيقته ،
ولا تمانع الأخت المتزوجة في أن يباضعها أخوها الشيطان . الأبناء يهتكون
عرض أمهم ،والبنت تغتصب أباها.وكل ماهو محبب على هذا المـنوال كانت
الشريعة ( يقصد الكاتب : الإسلام ) تحلله" (7) . وهذه الصورة السلبية
نعثر عليها أيضا في كتابات الفلاسفة الأ لمان : هيجل و شبنغلر ، ونيتشه
وفيبر .في محاضراته حول فلسفة التاريخ يبين هيغل انتماء الشرق العربي
الإسلامي إلى العالم الشرقي الذي هو عالم بلا روح ، وبلا كرامة ، عالم لا
يعرف الحرية وبالتالي فإن مآله الحتمي هو الخضوع لأوروبا . فهذه الأخيرة
هي مسقط رأس الروح، وموطن الحرية والتقدم بمقابل الشرق موطن عبودية الروح .
يتسم العالم الإسلامي إذن بنفس صفات العالم الشرقي : العنف ، وغياب الحرية ومن ثمة "هشاشة الإسلام" مجتمعا ودولة. إن الإسلام ، بالنسبة لهيجل ، طريق
تاريخي مسدود . فالمغامرة الإسلامية انطلقت في ظل الحماس ، وتواصلت في ظل
العنف ، وهي تكتمل في ظل الانحطاط والانحراف الخلقي . إن المبدأ الإسلامي
هواكتمال المبدأ الشرقي . وهوكهذا الأخير ، لا يستطيع أ ن يخلق عالم
الحرية(8) . وبعد حوالي القرن من "دروس في فلسفة
التاريخ" لهيجل يعرض "انحطاط الغرب" لشبنيجلر صورة سلبية عن الإسلام
والعرب والثقافة الغربية . فهذه الأخيرة عنده ثقافة سحرية ترى أ ن كل حدث
تعبير عن قوى غامضة تخترق مادتها الروحية الفضاء الكوني برمته(9)
الصورة النمطية العامة المتكونة في الثقافة الغربية عن
الإسلام ، والمرتبطة بشبكة أحكام مسبقة سلبية ، أي بمعتقدات قدحية غير ذات
أساس تجريبي ومنطقي معقول ومقبول ، تمثل صورة رباعية العناصر(10) : أولها العدوانية والعنف : فالدين
الإسلامي عدواني في بنيته الفكرية نفسها من حيث حثه على الجهاد ، وعلى
التعامل العنيف مع الآخر المختلف دينيا ولغويا . ومسألة الإرهاب التي يلح
على إبرازها الخطاب السياسي والإعلامي الغربي المعاصر هي الشكل البارزعلى
هذه الأرضية التاريخية من العنف الذي يضرب بجدوره في أعماق الزمن ، وهي
الأ رضية الفكرية البعيدة المدى للقول بأن الإسلام يشكل إمبراطورية الشر
الجديدة بالنسبة للغرب وما يزال الغرب يجتهد في محاولة إلحاق العنف
والإرهاب والنزعة الدموية بالإسلام ، وهومايشي به مثقفون مقربون من دوائر
القار من أمثال هتنغتون الذي يتحدث باستمرار عن الحدود الدموية للإسلام.
وثانيها الشبقية والنزعة الغرائزية : يقدم الإسلام والثقافة العربية
الإسلامية كبنية فكرية ذات نزعة شبقية تتجلى في كيفية التعامل الاحتقاري
مع المرأة كجسد هو موضوع دائم للرغبة الجنسية فقط وفي القبول بتعدد النساء
في الزواج ومن ثمة التركيز الدائم على مسألة قبول الإسلام نتعدد الزوجات
والحريم والجواري وكذا الإلحاح الستمر على تعدد زوجات النبي ومن ثمة قبول
القائلين منهم بأن الثقافة العربية الإسلامية هي ثقافة متعة جسدية بدون
حب وثقافة انحراف ولواطة (11)
أما فكرة الاستبداد السياسي وغياب الحرية ، فهي تنويع على فكرة
الاستبداد الشرقي الشا ئعة في الثقافة الغربية عموما وفي
الثقافة الألمانية على وجه الخصوص والتي يوظفها هيجل في تحليله للدولة في
العالم الإسلامي. ففكرة الحرية نشأت حسب هيجل لدى اليونان والرومان
وتدرجت عبر المسيحية لتسم العالم الغربي الحديث وتميزه عن غيره فيما سمي
بالنزعة الإنسانية والذاتية كحرية وعقل وإرادة وذلك في مقابل عالم لا وجود
فيه لفرد حر، ولا لحرية الاختيارالفردي. وأخيرا الوثنية: فالمحمدية كما يسميها
الغربيون أقرب ما تكون إلى الديانة البشرية الوثنية فنبوة محمد مشكوك فيها
بالنسبة لهم ، والقرآن ليس علامة على النبوة بسبب تناقضاته وامتلائه
بحقائق تتعارض مع ما ورد في التوراة والإنجيل اللذين يدعى تكميلهما .
يوجز الباحث السوفييتي جرانوفسكي في كتابه الإسلام و <المسيحية>
عناصر هذه الصورة النمطية السلبية للإسلام في الوعي المسيحي بقوله "إنه
عقيدة ابتدعها محمد، وهي تتسم بالكذب والتشويه المعتمد للحقائق, إنه دين
الجبر والانحلال الأخلاقي، والتساهل مع الذات، والشهوات الحسية. إنها
ديانة العنف و القسوة " (12). ب-بعض ملامح الصورة النمطية السلبية للمسيحية
في الوعي العربي الإسلامي
الصورة النمطية العامة للغرب الأوروبي المسيحي في الثقافة و
الوعي العربيين هي أيضا صورة سلبية و عدائية و إن بصورة أقل. فهي تطال
الموقف من عيسى و من الأناجيل ، و من المرأة في المجتمعات الأوروبية و
العنف.
دأب المسلمون على تسمية ماعداهم بالنصارى أو الكفار أو
الإفرنج أو الأعاجم، أو بأهل الكتاب في أحسن الأحوال، وكانت صورة أوربا في
القرون الثمانية الأولى للإسلام غامضة يشار إليها أو تندرج ضمن "ممالك
الكفار" أو "دار الكفر" . ولعل صورة الأوربيين أو الغربيين لم تأخذ في
التبلور في الفكر العربي الإسلامي الحديث إلا ابتداء من القرن السابع عشر
(13) . و إذا كانت الشعوب الأوربية تعتبر ما عداها بربريا أو وقحا و
همجيا، فإن العرب بدورهم كانو يعتبرون ما عداهم أعاجم (14) ، و العجمة
تعني في معناها المباشر اللكنة ، و الإبهام و عدم الإفصاح في الكلام ، و
الخرص لكنها تعني أيضا انعدام اللياقة في الكلام و قلة الأدب وما يماثل
الهمجية .
فالصورة القدحية هي صورة متبادلة . فإذا كان المسيحيون
ينعتون المسلمين "بذرية قابيل" أو "عبيد سارة" أو "أبناء الجارية" أو
"المحمديين الملعونيين" ، فإن الثقافة العربية الإسلامية لا تعد مصطلحات و
تسميات قدحية من قبيل "عبدة الصلبان" و"الجنس
الملعون" وأصحاب"العقل الظلماني" (15) و"الكفرة بالله"والإفرنج لعنهم
الله وأخذلهم ( 16) ودمرهم لضلالاتهم وكفرياتهم ( 17) .وفى المغرب اعتبر
المسيحى الاوروبى النصرانى إلى حدود متأخـرة جيفة (Charogne) ودنسا.
غالبا ما يذكر العرب القدماء النصارى أو
الإفرنج مصحوبين بالدعوات عليهم باللعنة والخذلان . فكتاب "الاعتبار"
لأسامة ابن منقذ على سبيل المثال ، وهو كتاب يعكس رد الفعل الإسلامى على
الحروب الصليبية ،لا يكف عن تسيطر الشتائم للإفرنج خذلهم الله، ولعنهم .
يقول ابن منقذ "سبحانه أنه الخالق الباري الذي إذا خبر الإنسان أمور
الإفرنج. و رأى بهائم فيهم فضيلة الشجاعة فضيلة القوة و الحمل إنهم لعنهم
الله، جنس ملعون ، لا يالفون لغير جنسهم ، فالله تعالى يطهر الدنيا منهم
.... إلخ (18). وفى العصر الحديث نجد أن الرحالة وكتاب
المذكرات السفارية وغيرهم ممن احتك بالأوربيين يتحدثون عنهم وعن مجتمعهم
وحضارتهم ومخترعاتهم بإعجاب كبير ، لكن كل ذلك مصحوب بتحقير وحقد وشتائم
فى حقهم .
في رحلته إلى باريزسنة 1860 يصف المبعوث السلطانى المغربي محمد ابن
إدريس العمراوى حفلة راقصة شاهدها فى باريز ، حيث يقول في رحلته "تحفة
الملك العزيز" "تعاطوا كؤوسا أمر من الحنظل يسيغونها بنتن ذلك الدخان ،
وخرجوا يعربدون كالخنازير ويرقصون كالقردة ، وينهقون كالحمير، وجوههم
بالحلاق مشوهة وحديثهم صفير ونفير وقهقهة". ويقول عن النساء الاوروبيات
"فقد بلغنا أن جلهن يتعاطين الفواحش. والغيرة في أزواجهن نادرة جدا،
والزنى في الرجال غير معاب" (19). إلا أن ما يميز الكتابات العربية
الإسلامية هو اعترافها بنبوة عيسى ابن مريم وعدم المجادلة فيها ، واحترام
شخص المسيح. وبعكس المسيحية فإن الإسلام والمسلمين، بمختلف مللهم ونحلهم ،
لم ينكروا نبوة عيسى ولم يسخروا منه أو يباذؤوه أبدا ، بل إنما يجادلون
في قضايا معروفة هي ألوهية المسيح ، والتثليت وصحة الاناجيل، والفداء
والصلب....
5- نحو تجاوز الصور النمطية السلبية و شروط إمكانية حوار تواصلي في أفق سلمية
مثلما أن الأحكام المسبقة تتولد، على الرغم من تسميتها
كذلك,عن احتكاك ، وصراع ، وعناء تاريخي، فإن التخلص منها أو الحد من
غلوائها، أو على الأقل وضعها، منهجيا أو مؤقتا ، بين قوسين ليس مسالة
يسيرة ، بل هو مسعى يتطلب الكثير من العناء و المراجعة و النقد المزدوج
للذا ت كما للآخر.
فالصراعات الحالية، و اصطدام الثقافات، الذي هو على الرغم
من كل كلام إيدلولوجي ، واقع حي , تفرض اليوم، بالدماء و الدموع ، ضرورة
الفحص النقدي لهذه الأحكام من لدن الطرفين كليهما.
ولعل أول إيجابيات هدا الوضع التقابلي هو الوعي بمسبقية
الأحكام ، وبالركام الكثيف من التصورات التحقيرية، والضباب المتلبد من
الأحكام السلبية التي تكونت عبر القرون، وبأن إقامة حوار ثقافي عميق
بين الثقافات، أي حوارا تواصليا و تفاهميا لا مجرد حوار شكلي ، يتطلب :
أولا : الوعي بالطابع المسبق أو القبلي للكثير من المواقف و الأحكام الجاهزة.
ثانيا : تشخيص كتل السلبيات و الأوهام و الأوهام المضادة.
ثالثا :شحذ إرادة التواصل و التفاهم وإقرار إرادة الحوار وآلياته وطرائقه.
رابعا: الوعي بأن ثقل الحاضر ، المتمـثل في تفاوت توزع
القوة والمعرفة على مستوى العالمي اليوم، لا يقل تأثيرا في الأحكام و
المواقف، عن ثقل الماضي و تصوراته و أحكامه السلبية المتراكمة.
خامسا: تنقية مفهوم الحوار ذاته من المسبقا ت المترسبة من
التصورات و الأحكام المضمونية المسبقة. فالحوار يجب أن يكون من أجل
التفاهم، والتفهم، والتبليغ، والتواصل.وبالتالي فهو يتطلب إصاخة السمع من
كل طرف للآخر، والإصغاء العميق لدلالات ومكنونات ألفاظ، الحوار والابتعاد
قدر الإمكان عن محذرين رئيسيين قاتلين :
أ-الحوار من حيث هو هداية ووعظ و إرشاد بهدف العودة إلى
الطريق المستقيم أو إلى جادة الصواب أو إنقاد من الضلال أو من التيه في
ليل عالم التقنية واللامعنى وإنكار القيم .
ب- الحوار من حيث هو تقويم ، وتنوير ، ومحاولة لإخراج
المحاور من بداوته، وفواته، وتخلفه، ومن انغلاقه في أوهامه الألفية .
فكلا الموقفين يعكس سطوة وهيمنة واستمرارية الأحكام المسبقة
السلبية كما يشي بمواقف متعالية ومتفوقة إما من منظور تراثي عتيق أو من
منظور حداثي استعلائي. وبالتالي فهذان الموقفان معا ، يمكن أن يؤديا إلى
نقيض مقاصدهما، ويتحولان من جسور إلى عوائق .
سادسا: تكمن خلف هذه المواقف مسالة فكرية وفلسفية في غاية الأهمية وهي ضرورة الاعتراف أو واجب الاعتراف (La reconnaissance)بالآخر.
وهذا الاعتراف ذو شقين : الا عتراف الوجودي أو الاعتراف بحق الوجود أو
بالحق في الوجود، والاعتراف الاختلافي أي الاعتراف بالحق في الاختلاف
والتميز على كافة المستويات، وذلك ردا على إرادة الصهر والطمس والتسوية
إما باسم نموذج أثرى أو في إطار ديناميكية كونية للصهر والمجانسة والتوحيد
. إن الإقرار بفكرة الاعتراف فى بعدها
الوجودى والاختلافي ، يقوم بدوره على مسلمة أولية هى المساواة والندية ،
في إطار وحدة الجنس البشرى .
وأخيرا فإن الحوار التواصلي يجب أن يندرج في إطار منظور
جيوا سترا تيجي قوامه تلافى الحروب وفرض السلم. فقد بلغت البشرية درجة من
التطور والنمو العلمي و التقني الذي شاعت وتعممت نتائجه، كما بلغت من
تلاحم المصير درجة أشبه ما تكون بتوازن الرعب ، و هو الأمر الذي يفرض
اليوم بقوة وحدة المصير ووحدة المخاطر ، وضرورة التضامن المصيري والوعي
بالمسؤولية تجاه الأجيال القادمة. إن إقامة حوار وتفاهم بين هذين
الثقافتين المتصارعتين منذ القديم يقتضي قبل كل شيء التعرف على طبقات
الأحكام السلبية المتراكمة عبر العصور والتي تعود إلى صراع قديم بين
المنظومتين الثقافيتين، وهو الصراع الذي تجددت واستفحلت شروطه في العالم
المعاصر حيث أصبح الصراع بالإضافة إلى خلفياته الميتافيزيقية والثقافية
صراعا استراتيجيا، صراع مصالح وخاصة بعد أن أصبح الغرب في شقيه الأوروبي
والأمريكي هو القطب المهيمن كليا على العالم العربي الإسلامي في توقه إلى
تحقيق التقدم والنهوض وإدراك الحداثة بينما يجد نفسه مؤطرا بأغلال الغرب
الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، وبالتالي يجد نفسه مدعوا أولا
إلى التحرر من هيمنة الغرب وقوته وغزوه الاقتصادي والتكنولوجي والفكري
كمقدمة لنهضته الحضارية المأمولة.