يرى المفكّر التقدّمي دييتر
سنغاس أنّ التحديث عملية غير يسيرة ومثقلة بالصراعات، لأنّها تضع موضع
التساؤل الأساس التقليديّ للتكاثر الاقتصاديّ، ولأنماط التوزيع الطبقي
الاجتماعي، وللتوجّهات القيمية الجمعية السائدة. ومن ثمّ، ونتيجة لهذا
كلّه، التساؤل بشأن الأشكال التقليدية للحكم. .. لقد حدث كلّ هذا في تاريخ
أوروبا، ويتكرّر اليوم في كلّ أنحاء العالم أمام أعيننا. إذ ها هي
المجتمعات المهيّأة للتحديث تتصارع في داخلها مع نفسها. ونلاحظ أنّه كلّما
تقدّمت عملية التحديث، ازدادت إمكانية أن تجد الفرق المجتمعية القديمة
والحديثة أرضًا مشتركة لهوياتها ولمصالحها، صعوبة. وإنها يقينًا لن تجد هذه
الأرض المشتركة على المدى الطويل لعملية التحوّلات. ونلاحظ كذلك في
المجتمعات القائمة على التعددية بوضوح لا مراء فيه، أنّ هذا التحوّل يضع
كلّ هيكل النظام العامّ موضع التساؤل والحوار الصريح. وحيث تجرى عملية
التحديث وتنشأ التعددية، يصبح من أهمّ المهام الثقافية وأعظمها، الكشفُ عن
(أو حتى ابتكار) نظام عامّ يتلاءم مع حاجات كلّ فرد. ونظرًا لأنّ الثقافات
التقليدية لا تعرف شيئًا عن هذا الشكل الحديث للتعددية، فإنّ هذه المهمّة
تستلزم حتمًا مجابهة المجتمعات لتراثها التقليدي.
ويشير دييتر سنغاس في كتابه (الصدام داخل الحضارات) إلى العملية سالفة
الذكر باعتبارها "التحوّل إلى الحضارة كرهًا" أو "التحضّر بشقّ الأنفس".
ويعني بهذا أنّ الحضارات تدخل في صراعات مع نفسها. وتتعلق "قضية التحضّر"
بالصراع الحديث. وإنّ قبول الكثرة والتعددية والتسامح وتأكيد أنّ الفرق
المسيّسة تجد حماية موثوقًا بها، ويعتدّ بها من خلال الوسائل المؤسسية، وكل
هذا يجب الاعتراف بأنه إنجاز لا نظير له حققته الحضارة، وبلغت هذه
المشكلات مستوى حاسمًا في أوروبا التي اهتدت إلى حلّ لها بعد فترة طويلة من
الصراع الداخلي. ووجدت هذا الحلّ في فكرة حقوق الإنسان، وفي مفهوم
الديمقراطية الدستورية، وفي دولة الرفاه.
وفي هذا الكتاب الذي ترجمه وقدّم له المترجم المصريّ المعروف شوقي جلال،
وصدر عن دار العين، يرى دييتر سنغاس أنّ الفارق بين الإطار القيمي Value
Profile لمجتمع ذي مستوى تحديثي عال، وآخر أقلّ تحديثًا داخل حضارة واحدة،
قد يكون أكبر كثيرًا من الفارق بين الأطر القيمية لمجتمعات تمرّ بمراحل
تطوير متماثلة داخل حضارات مختلفة. وهذا وضعٌ يمكن يقينًا التحقّق منه
ومستساغ سوسيولوجيًا. إذا حدث هذا فإنّ الحوار الثقافيّ الدوليّ الأحدث
عهدًا سيبدو حوارًا غير واقعيّ. ذلك لأنه مبنيّ على افتراض أطر قيمية نوعية
ومتجانسة لكل حضارة على حدة، وغالبًا ما يكون مستمدًا من ديانته الخاصة
العالمية، ومن صورته الفكرية للذات، والتي يجري تأويلها على أساس أنها
تعبير عن "الروح الثقافي" لكل ثقافة من الثقافات. إذن ماذا ينبغي أن يكون
الفرض البديل؟ إنّ عمليات التحديث في كلّ أنحاء العالم تفضي إلى تحوّل
المجتمعات التقليدية، وتؤدّي إلى ظهور طبقات اجتماعية جديدة وتحالفات قوى
لكلّ منها مطالبها، وتيارات فكرية جديدة لها قواعدها الجماهيرية، ويلاحظ أن
الضغوط الناجمة عن ذلك من أجل التكيّف، وإحداث قطيعة مع الثقافة
التقليدية، تفضي أيضًا إلى المزيد من الاختلاف الثقافي. وإذا كانت هذه
حقيقة الوقائع الأساسية للحالة إذن، فإنّه من الضروري بشكل مطلق أن نلتزم
نهجًا أكثر دقّة وتمييزًا، ويضع في الحسبان التاريخ التطوّري وخلفية السياق
الخاص بالمجتمع. وحريّ أن يتحدّد السياق على أساس الدرجات المتغيّرة
وخصائص التحديث والحداثة؛ بل والأشكال الهجينة من التراث والحداثة ومن
مظاهر التشوّش الناجمة عن التحديث.
ويمثل كتاب "الصدام داخل الحضارات"، في جانب هامّ منه، ردًا ونقدًا
حاسمين ضدّ دعاوى المحافظين الجدد الأمريكيين. وحيث يقدم سنغاس ردّه بالغ
الأهمية، ضدّ هنتنجتون ومن سار على دربه، التزامًا بالمنظور الأوروبيّ،
مؤكّدا أنّ ما تعانيه بلدان المستعمرات السابقة عانته بلدان الغرب في
الماضي. معنى هذا أنّ مظاهر التخلّف الثقافي ليست حكرًا على مجتمع دون آخر
في التاريخ. وليس صوابًا الزعم بالماهية الثابتة لثقافة اجتماعية ما. وإنما
تطور المجتمعات ونهضتها كفيلان بإعادة صياغة البنية الثقافية وتجديدها
وتطويرها، بما يتلاءم مع حضارة العصر. ويؤكد كذلك أنّ خطوط المنازعات، بين
وداخل الثقافات / الحضارات، هي خطوط منازعات اجتماعية اقتصادية في الجوهر
والأساس. ويدفع بأن خطوط المنازعات هذه عرفها الغرب والشرق ويعرفانها على
السواء.
ويدعو سنغاس إلى ما يسمّيه فلسفة الحوار التفاعلي بين الثقافات. وتعتمد
هذه الفلسفة مبدأ مراجعة تاريخ الغرب المثقل بالنزاعات (علاوة على النهج
الإمبريالي) وأثرها الراهن على الاقتصاد السياسي الكوكبي. معنى هذا أيضًا
أنّ المجتمعات المختلفة مطالبة بالحوار مع ذاتها، ومراجعة نقدية لذاتها في
التاريخ والحاضر، والكشف عن العوائق التي تتخفّى وراء مزاعم أيديولوجية
تحول دون الحركة والتقدّم. وتقضي هذه الفلسفة بالمواجهة عبر الحوار الصريح
لحقيقة أزمة الغرب (وأزمة أي مجتمع) في داخله، بدلاً من اختلاق خصوم من
خارجه، هم أعداء وهميون. وهذه دعوة تصدق على بلدان الغرب والشرق معًا.
ويقول دييتر سنغاس إنّ الجدل الراهن بين النزعة الكلية والنسبوية
الثقافية سوف يبقى لسبب واحد فقط، هو افتقاره لمنظور تاريخيّ وإغفاله
لتزامن مراحل التطور الاقتصادية – الاجتماعية والثقافية غير المتزامنة.
وثمّة سببٌ ثانٍ، وهو أنّ الجدل يدور صراحة أو ضمنًا (كما نشهد كثيرًا)
تأسيسًا على الفرض القائل بالنزعة الجوهرية الثقافية. هذا رغم أنّ الأمر
الضروريّ هو التزام نهج موقفيّ Situative Approach يضع في الحسبان كلًا من
السياق والتاريخ التطوّري .
أو لنقل بعبارة أخرى، إنّه رغم أنّ القيم الأوروبية نشأت وتطوّرت داخل
سياق خاص مميّز (هو أساسًا في أوروبا الشمالية الغربية، وفي بعض المستعمرات
الإنجليزية التي تشكّلت منها فيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية)،
فإنّها متلائمة بوجه عامّ ليس لأنها تملك التبرير الفلسفي المحكم المطلق
الذي يدعمها (وليس ثمة شيء كهذا)، بل لأنّ السياق الذي ظهرت فيه أصبح الآن
كونيًا شاملًا. وهذا السياق هو الانتقال من المجتمعات التقليدية إلى
المجتمعات الحديثة مقترنًا بالتفكك التدريجي للتوجهات القيمية الجمعية
التقليدية ونشوء نزعة قيمية تعددية. وأدّى هذا إلى تحوّل القضية الأساسية
إلى قضية كلية عالمية شاملة، بحيث تواجهها جميع المجتمعات التي تمرّ بعملية
التحديث، ألا وهي كيفية تيسير التعايش رغم التعددية والتسييس واسع النطاق .
ويؤكد ديير سنغاس أنّ الجدل أصبح أكثر حدّة واحتداما، حيث جرت عمليات
تحديث داخلية – أي اجتماعية واقتصادية نابعة من الداخل، أو جرى عن عمد
تقسيمها إلى مراحل نتيجة تحدّيات من الخارج. إذ أنّ هذه العمليات، وإن كانت
في أوّل عهدها هشّة للغاية في غالب الأحيان، إنما تمثل تكرارًا للتجربة
الأوروبية؛ أعنى استحداث إطار مجتمعيّ حديث بدلًا عن التقليديّ، وبخاصة
الهيكل الزراعي، ويلاحظ أنه حيثما عانى المجتمع من انهيار كمّي دراميّ طويل
الأمد في الزراعة – يبدأ أولًا بكميات صغيرة، ولكنه في بعض الحالات يزداد
بمعدل مثير – تظهر طبقات اجتماعية حداثية مطابقة للمجتمعات الصناعية أو
مجتمعات الخدمات: الإدارة العامّة، وطبقة موظّفي الدولة، ومنظّمي المشروعات
الخاصة والطبقات الوسطى والطبقات العاملة الصناعية، والآن حديثًا جدًا
الطبقات المهنية التي ظهرت مع عملية التقدم الصناعي. وتتوافق هذه الطبقات
الاجتماعية الجديدة مع قطاعات اجتماعية مختلفة لا تختلف كثيرًا عمًا هو
حادث في أوروبا؛ حيث لكلّ طبقة مصالحها وهويتها الخاصة. وتقترن هذه العملية
مباشرة بالتباين الثقافي. ونرى هذا التباين الثقافيّ، مثله مثل المجتمعات
الأوروبية، مجسدًا في مجتمع يحظى بحراك اجتماعي متزايد مع تقدم عملية
التحديث ويكتسب زخمًا خاصًا به.
ويشير سنغاس إلى أنّ هذا الزخم، مقترنًا بالنتائج المترتبة على عملية
التدويل المتزايدة للمعلومات والاتصالات، من شأنهما معًا أن يفضيا إلى موقف
من موقفين محتملين. إذ نجد أنهما من ناحية، وحيث تنجح عملية التطوير،
يفضيان إلى تحديث ثقافي حتى داخل المجتمعات غير الغربية، وكذا وعلى المدى
الطويل إلى ظهور اتجاه عامّ نحو "ما بعد الحداثة" Postmodernity. ونجد من
ناحية أخرى، حيث بدأ التطوير عملية أكثر إشكالية، يتصاعد الاثنان معًا
ليبلغا ذروتهما في أزمة تطوير اجتماعي مع تفاقم حدة الصراع الثقافي. ويمكن
أن نشهد الموقف الأول ماثلًا اليوم خاصة في شرق وجنوب شرق آسيا، بينما نشهد
الآخر على وجه التحديد في المنطقة العربية الإسلامية. إذ تتشكّل في كثير
من الحالات جبهات للقوى السياسية، كما يتفاقم الصراع الثقافي ليصل إلى
مستوى الحرب الأهلية. ويحدث هذا نتيجة عملية تحديث مفككة وغير مترابطة
وانطلاقًا من وقائع أزمة تطوير حادة. ونشهد في حالات منفردة، مثل حالة
الجزائر، كيف أن المعارك التي خططت لها الجبهة قد تحولت في النهاية إلى حرب
أهلية دموية امتدت سنوات.
وتتوافق العمليات الدينامية الداخلية في أيّ من الحالتين مع تأثيرات
البيئة الدولية التي باتت مقاومتها أكثر فأكثر صعوبة. ونلاحظ في الحالات
الإيجابية سالفة الذكر تسارع عملية التحديث الثقافي بفعل هذه التأثيرات،
نظرًا لأنّ لها أساسًا ماديًا حديثًا صلبًا يمكن أن تبني عليه. ونلاحظ في
الحالة الثانية أنّ هذه التأثيرات الدولية تسبّب اضطرابًا اقتصاديًا –
اجتماعيًا عميقًا وكذا تشوشًا ثقافيًا. ولكن رغم اختلاف نقط انطلاق كل من
الحالتين، إلا أن الأساس في كليهما الذي ترتكز عليه الثقافة التقليدية قد
تآكل أكثر فأكثر، ولم يعد بالإمكان القول بأنه سليم على حاله لم يمسّ.
ويظهر بدلًا منه واقع مجتمعي تصوغه عملية التحديث التي قد تتباين من مجتمع
إلى آخر، ولكنه يتداخل ويغشى الأنماط الثقافية التقليدية خاصة الأعراف
والعادات اليومية. وثمّة احتمال بأنه قد يؤدّي على المدى الطويل إلى
تفكّكها.
وفي ضوء ذلك يشدّد سنغاس إلي ضرورة أن يكون منطلق الحوار الثقافي الدولي
هو عمليات الاختلاف والتباين التي تجري بالفعل داخل الثقافات التقليدية،
وتشمل عمليًا العالم كلّه. بيد أنّ عمليات الاختلاف الثقافي الحقيقية، بما
في ذلك ما يجري في الثقافات غير الغربية، هي نتيجة تحديات خارجية المنشأ،
ومحاولات التلاؤم معها ومرحلة التحديث المترتبة على هذه المحاولات. وسواء
شئنا أم أبينا، فإنّ هذه الضغوط الخارجية والداخلية تؤسّس لعملية تحوّل
ثقافي. لذلك ليس لنا أن ندهش إذ نجد أنّ الدراسات الدولية عن الإطار القيمي
Value-Profile للمجتمعات، تؤكد أن التصدعات الثقافية البارزة حاليًا هي
بالفعل تصدّعات داخل الحضارات موضوع الحديث الآن، وكذا داخل كل مجتمع على
حدة، وليست يقينًا فيما بينها. وتكشف الدراسات بخاصة عن أنّ الأطر العامّة
لقيم المجتمعات المتماثلة من حيث مستوى التطور في جميع الحضارات أميل إلى
التشابه وليس الاختلاف. ويفيد هذا أن العامل الحاسم في كل إطار عام لقيم
المجتمع، ليس ميراث الحضارة موضوع البحث، بل مستوى التطوّر الذي بلغه
المجتمع. ونتيجة لهذا فإنه كلّما اطرد تقدم عملية التحديث ازدادت صعوبة أن
نستنتج من التوجّه القيمي التقليدي للثقافة المهيمنة أصلًا ما إذا كانت
القيم الفردانية أم الجمعية هي التي لها الغلبة والسيادة في مجتمعات
الحضارات المختلفة. ومن ثم فإنّ الأصوب هو أن نضع في الاعتبار درجة التحديث
والنتائج المترتبة عليها وكذا نمط مرحلة التحديث الجارية.
الكتاب : الصدام بين الحضارات .. التفاهم بشأن الصراعات الثقافية