جدل الكونية والخصوصية
تقدم النصوص الأساسية (مواثيق – معاهدات –
قرارات - ...) لحقوق الإنسان، سواء منها ما هو صادر عن هيئات دولية
كالأمم المتحدة أو المنظمات التابعة لها، أو عن هيئات إقليمية (الميثاق
الأفريقي لحقوق الإنسان – الميثاق العربي لحقوق الإنسان – الميثاقان
الإسلاميان...)، تقدم هذه الحقوق على أنها حقوق شمولية للنوع البشري،
وأنها، على الرغم من وجود جذور لها في الثقافات الخاصة أو المحلية، هي
حقوق موجهة إلى كل البشر بغض النظر عن اللون، أو الجنس، والعرق، واللغة،
والوطن أو النظام السياسي.
والنـزعة الشمولية أو الكونية لهذه النصوص لا نجد لها سدى في النصوص
الأولى المدشنة لثقافة حقوق الإنسان في العصر الحديث. "فالوثيقة الكبرى"،
التي هي أول نواة قانونية في العالم لحقوق الإنسان، والتي جسدت الحقوق
التي انتزعها البارونات الإنجليز من الملك جان سنة 1215(1 ) ذات طابع خصوصي
ومحلي واضح سواء في أسلوبها أو في نوع الحقوق التي تعترف بها لمن هي
موجهة إليهم، فهي لا تضم كلمة إنسان بمعنى النوع الإنساني بتاتا، بل ورد
فيها الحديث عن بعض الناس فقط (12 من الناس كشهود البند 20). ونفس الشيء
يصدق على إعلان الحقوق الإنجليزي الذي قدم إلى الملك غيوم ومارس دورانج
1688 في جلسة خاصة في البرلمان بهدف الحد من سلطات وصلاحيات النظام الملكي
في إنجلترا آنذاك. فهو يكاد يكون خاليا من الوجه إلى الإنسان عامة أو إلى
عموم البشرية، وهو أيضا خال تقريبا من استعمال كلمة إنسان (بمعناها
النوعي). وهذا يصدق أيضا على النصوص الأمريكية اللاحقة (إعلان استقلال
الأمريكي 1776، دستور الولايات المتحدة الأمريكية 1787).
أما النص الذي تبنى خطابا ذا نزعة إنسانية شمولية فهو
"الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن" (1789). فهو يختلف عن سابقه
بطابعه الشمولي والتجريدي بل والتنظيري، وكأنه موجه للبشرية جمعاء، وذلك
ابتداء من العنوان نفسه الذي يشار فيه إلى الإنسان بإبراز كلمة H
مما سينعكس على النص كله تقريبا. والجملة الأولى من البند الأول من هذا
الإعلان تعكس النـزعة الشمولية التي طالت معظم بنوده إذ تنص على أن "الناس
يولدون أحرارا ومتساوين في الحقوق".
وستنتقل هذه الروح الشمولية إلى النصوص الدولية لحقوق
الإنسان وبخاصة في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" 1948 الذي ينطلق من
مصادرة أساسية هي الكرامة الأصيلة لكل أعضاء الأسرة البشرية وما يترتب
عنها من حقوق متساوية وثابتة. ثم ينص في المادة 2 على أن لكل إنسان الحق في
الحقوق الإنسانية بغض النظر عن "العرق أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو
الدين، أو الرأي السياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة أو
المولد أو أي وضع آخر". ومعظم البنود اللاحقة تتوجه إلى الإنسان عامة أو
إلى جميع الناس أو إلى كل فرد، إذ يبدأ معظمها بالصيغة: لكل فرد، لكل
إنسان، الناس جميعا...
ويمكن أن نلاحظ بأن هذا التوجه الكوني سيترسخ ويتعمق
بالتدريج في المواثيق الدولية حيث نجد أن الجيل الثالث من حقوق الإنسان لا
تكتفي بالحديث عن عموم الناس، بل عن الإنسانية برمتها، وعن حقها في
الاحتماء من مخاطر الطبيعة أو في اقتسام خيراتها.
من خلال ما سبق يتبدى لنا أن ثقافة حقوق الإنسان هي ثقافة
نوعية للجنس البشري برمته، فهي لا تتوجه لإنسان دون آخر أو لأمة دون أخرى،
بل تعكس وعيا نوعيا لحقوق الناس والإنسان. فهي بدرجة أو بأخرى تفترض وحدة
الجنس البشري، وتضع بين قوسين الفروق والاختلافات من مختلف الأصعدة. بل
إنها تكاد تفترض "إنسانية متجانسة وغير متمايزة"(2
)،
وهو مجرد افتراض يكذبه واقع الاختلاف والتباين. كما أن هذا التصور يكاد
يعطي أولوية للفرد البشري، مهما كانت صفاته، على الفرد الملموس وعلى
الجماعة(3
)، وذلك على الرغم من أن هنالك حقوقا للجماعات والفئات.
من أهم المصادرات الضمنية لفلسفة حقوق الإنسان النظر إلى
الإنسان، كغاية ذات قيمة عليا وكمركز لكل ما يجري في هذا العالم، بل إن
البعض رأى فيها بعدا نرجسيا نوعيا يعكس إعلاء الإنسان لنفسه ضمن بقية
الكائنات وضمن العالم ككل.
وبالإضافة إلى ذلك فإن منظومة حقوق الإنسان تصادر على الإنسان ككائن مدني، عاقل، وإرادي(4
)، متميز بالكرامة وتواق إلى الحرية.
يبدو أن هذه الكونية والشمولية نفسها تتكون من عدة مقويات:
1.الكونية والشمولية المتمثلة في المضمون
والمدلول ذاته والمتمثل في الكرامة والقيمة، والمساواة، والعدل، وغيرها من
القيم المثالية السامية التي تنادي بها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
2.الكونية المتمثلة في
مقصد الخطاب الحقوقي الإنساني نفسه من حيث أن هذه الحقوق موجهة لكل الناس،
في كل بقاع العالم، لا إلى قوم دون آخرين، أو لثقافة دون أخرى، أو فئة
دون أخرى سواء كانت فئة عرقية أو اجتماعية أو ثقافية أو غيرها. فالناس
كأفراد للنوع البشري وكأعضاء متساوين، وكاملي العضوية في الإنسانية هم
المخاطبون المقصودون في هذا الخطاب.
3.إن هذا الخطاب اتخذ صبغة عالمية قانونية
من حيث أن كل دول المعمور إما أنها قد صادقت أو هي في طور الاتجاه نحو
المصادقة عليه. فهو ليس خطاب معسكر دون آخر أو مجموعة حضارية دون أخرى. بل
إن هذه المصادقة العالمية القانونية والرسمية عليه من طرف دول المعمور قد
اكتسبته بالتدريج قوة القانون، ونقلته من مجرد كونه مثلا جميلة، وقيما
يهفو الجميع إليها إلى كونه إحدى مصادر التشريع في معظم دول المعمور.
والبيان العالمي نفسه (البنود 27 و29) يعلن أن هذه الحقوق كونية شمولية
لأنها تتوجه إلى كل الأمم والشعوب، وكل المنظمات الاجتماعية وكل الأفراد.
- المدارات الداخلية والخارجية للصراع:
إلا أن الإقرار والاعتراف النظري الصريح بكونية هذه الحقوق
-على المستويات الثلاث المذكورة في الفقرة السابقة- لا يحل مشكل الكونيةمن
حيث دلالتها وبعدها المرجعيين.
فعندما تنسب الكونية للغرب ولثقافة الغرب باعتبارها نموذج
كل ثقافة كونية، فإن الأمر يولد جدالا لا حد له، ويثير مآخذ من جانب
الفضاءات الثقافية الأخرى المنافسة للثقافة الغربية. وهكذا تطرح من جديد
صراعات حول المرجعية: هل المقصود بالكونية هو الثقافة الغربية؟ وهل
الثقافات الأخرى لم تسهم في بلورة هذه الحقوق؟ وإذا كانت هذه المرجعية
الغربية شمولية وكونية حقا فلماذا تتجه إلى طمس معالم الخصوصيات الثقافية
عامة وفي موضوع حقوق الإنسان ذاته؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المحرجة.
وبجانب هذا الوجه النظري للصراع حول المرجعيات، هناك شق آخر
عملي وسياسي. إذ لوحظ أن التمسك بالقول بالخصوصية إنما هو قول حق وراءه
باطل لأنه غالبا ما يكون مطية لإخفاء بعض أشكال القمع وعدم احترام حقوق
الإنسان، كما يكون أحيانا "مطية للتحلل من التزامات قانونية وواجبات
إنسانية"(5
).
وعلى المستوى الأول النظري نلاحظ بأن القول بالخصوصية
الثقافية إنما هو محاولة لتبرير التعارضات التي يتم تسجيلها بين ممارسات
اجتماعية خاصة حول المرأة أو الطفل أو الإرث أو غيرها مما يستلزم حماية
هذه الخصوصيات وتحصينها والدفاع عن وجاهتها.
من بين الأمثلة التي يتداولها الدارسون حول التعارض بين
الكونية والخصوصية في مجال حقوق الإنسان بعض تقاليد وممارسات التطهر عن
طريق الإيلام الجسدي في كل من البوذية والهندوسية، وما ماثلها من حدود
وعقوبات جسمية قاسية كقطع اليد، والجلد، والرمي بالحجارة(6
)
وضرب الأطفال والنسوة، وختان النساء؛ وهي ممارسات تتعارض مع بعض مبادئ
حقوق الإنسان كالحق في سلامة الجسم، وحظر التعذيب والإيذاء الجسمي.
ومن بين نقط التعارض بين الخصوصيات الثقافية والاجتماعية
والمبادئ الشمولية وصاية الأب على ابنته في التزويج أو عدمه(7
)
مما يتعارض مع بعض الحقوق والحريات التي تسندها شرعة حقوق الإنسان إلى
المرأة، ومنها أيضا الحق في الاعتقاد الديني حيث تحرم بعض الديانات كليا
على المؤمن أن يتخلى عن دينه الأصلي ليعانق دينا آخر، مما يتعارض مع
الحقوق العقدية للأفراد التي قررتها المواثيق الدولية وبخاصة ما تعلق منها
بحرية التفكير والضمير والمعتقد، والتي نصت عليها العديد من المواثيق
الدولية وبخاصة في النص النهائي الصادر عن ندوة هلسنكي المنعقدة سنة 1975
حيث "تلزم الدول المشاركة باحترام حريات الفرد في ممارسة وتعليم الدين أو
المعتقد وحقه في أن يتصرف وفق ما يمليه عليه ضميره" (النص الصادر عن ندوة
هلسنكي 1 غشت 1975 المادة 7).
لكن هذه الخصوصيات لا تقتصر على دول الجنوب وحدها بل إن
العديد من العادات والطقوس الاجتماعية في دول الغرب نفسها تقف حجر عثرة في
سبيل تطبيق يومي لشرعة حقوق الإنسان. فبعض مظاهر العنصرية أو كراهية
الأجانب في دول الغرب تتنافى كليا مع المبادئ الحقوقية الكونية. فوضعية
الأكراد والأتراك في ألمانيا مثلا، ومعاداة العرب في فرنسا وفي غيرها من
الدول الأوربية هي بالتأكيد ممارسات خاصة تتنافى مع المبادئ والمثل المعلن
عنها والمتبناة سياسيا.
لذلك يمكن الجزم بأن هذه المسائل محسومة على المستوى النظري
الخالص، لكنها ما تزال من الناحية العملية تطرح عدة إشكالات. بل إن هذه
المسألة الشائكة المتعلقة بالخصوصية والكونية أصبحت أحيانا مصدر خلاف
وصراع سياسي واضح في العديد من المؤتمرات الدولية المعقودة حول الموضوع.
فدول الجنوب تتجه، بدرجات متفاوتة، إلى الربط بين الكونية
والسيطرة. فالكونية المتمسك بها من طرف الدول الغربية، ما هي في نظر
الكثيرين إلا قناع هيمنة وأداة سيطرة ووسيلة استلحاق سياسي واجتماعي
وثقافي لدول الجنوب بدول الشمال. بل هي في بعض الأحيان أداة للتدخل في
شؤون هذه البلدان لتوجيهها في المسار المطلوب. وربما يكون "حق التدخل"
الذي جرى حوله نقاش عالمي مؤخرا ما هو في النهاية إلا حصان طروادة الذي
يعطي للدول القوية في الشمال، بصورة استعمارية جديدة ملطفة، حق التدخل في
الدول الأخرى باسم أهداف إنسانية أو حماية لحقوق الإنسان فيها.
والجدير بالذكر أن مقولة حقوق الإنسان ذاتها قد استعملت منذ
بداية توظيفها السياسي بقوة في الغرب، كأداة إيديولوجية هجومية. فقد سلطت
لفترة طويلة على بلدان المعسكر الشرقي، وعلى الاتحاد السوفيتي السابق، إذ
شكلت رأس الرمح في الهجوم الإيديولوجي على هذا المعسكر. لذلك فليس من
المستبعد اليوم توظيفها واستثمارها ضمن أدوات أخرى لإحكام السيطرة على دول
الجنوب.
وبالمقابل يلاحظ أن دول الشمال تبلور خطابا هجوميا آخر قوامه
أن تمسك العديد من الدول المتأخرة بخصوصيتها الثقافية، ومقاومتها للنـزعة
الكونية لحقوق الإنسان، ليست في المدى الأقصى إلا وسيلة لإخفاء مظاهر
انتهاكها المستمر لهذه الحقوق، وتبريرا ثقافيا لهذه الانتهاكات. والأدهى
من ذلك أن هذا النقاش الحاد حول الكونية والخصوصية أصبح إحدى مدارات
الصراع السياسي في دول الجنوب نفسها.
- هل الخصوصية مجرد تبرير للتجاوزات والانتهاكات؟:
على الصعيد الدولي تبين أن النقاشات
المطولة التي دارت في الأعمال التحضيرية للمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في
فيينا سنة 1993 أظهرت نوعا من التقابل الواضح بين عالمية حقوق الإنسان
وخصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي في الكثير من البلدان، بل تبين أثناء
أعمال اللجنة التحضيرية للمؤتمر، التي استغرقت ثلاث سنوات، أن العديد من
دول العالم الثالث، ومنها العديد من الدول العربية، كانت تميل إلى الدفاع
عن الخصوصية لا فقط من حيث هي "واقع ثقافي واجتماعي وحضاري لا جدال فيه،
بل كانت تعمد إلى استغلال هذا المعطى الثقافي "كقناع يخفي انتهاكات حقوق
الإنسان في بلادها"(8
).
كما أن صراعا حادا كان قد حدث في المؤتمر العربي لحقوق
الإنسان الذي عقد في القاهرة قبل ذلك سنة (أبريل 1992) بمبادرة من اتحاد
المحامين العرب والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، وقد حضره ممثلون عن
المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان؛ إذ اتخذ
أعضاء المؤتمر موقفا واضحا معارضا لاستغلال الدول العربية لمفهوم الخصوصية
من أجل تقنيع وتبرير انتهاكاتها لحقوق الإنسان أو لتحللها من للالتزامات
الدولية في هذا الموضوع بل لقد أشار قرار المؤتمر إلى أن "الحكومات
العربية تنظر إلى مفاهيم حقوق الإنسان على أنها إطار جديد لممارسة
المعارضة السياسية"(9
).
كما نص التقرير الصادر عن منتدى المنظمات غير الحكومية
المنعقد على هامش المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا، والذي عكس صدى
الصراع حول المدارات الثقافية والسياسية لمسألة الخصوصية، على أنه "قد تم
التأكيد القوي، وبما لا يدع مجالا للشك، على أن كل الحقوق الإنسانية
عالمية في طبيعتها، وهي تقبل التطبيق بشكل متساو في إطار شتى التقاليد
الاجتماعية والثقافية والقانونية. والادعاءات القائلة بالنسبية لا يمكن
أبدا أن تبرر انتهاكات حقوق الإنسان في أي ظرف من الظروف".
وهكذا يبدو أن النقاش حول مسألة الكونية والخصوصية لم تبق
مجرد نقاش أكاديمي أو نظري خالص، بل أصبح نقاشا ذا أبعاد سياسية محلية
(صراع سياسي وإيديولوجي بين النخبة الحاكمة والمعارضة) ودولية (بين دول
الشمال ودول الجنوب في المنظمات الدولية) وما بينهما.
لكن ذلك لا يعني أنه نقاش مفتعل، بل على العكس، فإن تلك
الصراعات والآثار السياسية المحلية والدولية، إنما تعكس، في زاوية منها،
عمق التعارض والاختلاف بين الخصوصيات الثقافية والنزعة الكونية الملازمة
لمقولة حقوق الإنسان.
وسنكتفي هنا في هذا القسم بملامسة بعض النقط التي يبدو فيها
نوع من التعارض بين المنظومتين، بأمل أن يقود طرح المشكل نفسه بألفاظ
موضوعية إلى فتح إمكانية تلمس بعض الحلول التوفيقية الملائمة، أو على
الأقل إلى إمكانية إيجاد التفسيرات الملائمة على الأقل لهذا التعارض(10
).
ورد في المادة الثانية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن
"لكل إنسان الحق -دون تمييز، خصوصا من حيث القومية أو اللون أو الجنس أو
اللغة، أو الدين أو الاعتقاد السياسي- ... في التمتع بكل الحقوق والحريات
المذكورة في هذا الإعلان".
ويقابلها في الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان مادة ورد فيها:
"جميع الناس متساوين في أصل الكرامة الإنسانية، وفي أصل التكليف
والمسؤولية دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة، أو الإقليم أو
الجنس، أو الانتماء السياسي، أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من
الاعتبارات".
ومن الواضح أن الإعلان الإسلامي يستثني الدين من هذه
الاعتبارات وذلك انطلاقا من النزوع الكوني والشمولي للإسلام نفسه من حيث
هو دين بل آخر دين، يتوجه نحو كل المؤمنين بالله.
ونفس الملحوظة تسجلها الدراسة المقارنة فيما يخص مسألة
الزواج. يرد في المادة 16 للإعلان العالمي أن "لكل رجل وامرأة بالغين الحق
في الزواج وتشكيل العائلة، دونما تحديد عرقي أو قومي، أو من حيث الجنسية
أو الدين". بينما تنص المادة الخامسة من الإعلان الإسلامي على أن "للرجال
والنساء الحق في الزواج، ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق
أو اللون أو الجنسية" وذلك دون ذكر للدين لأن للدين الإسلامي الحنيف يضع
قيودا واضحة على الزواج من غير المسلمات إذ يشترط عليهن إعلان إسلامهن حيث
يرد في سورة البقرة: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن" (الآية 221).
من مظاهر التعارض الواضحة كذلك ما تعلق بمسألة حرية أو حق
تغيير المعتقد. تنص المادة 18 للإعلان العالمي على أن "لكل أحد الحق في
التمتع بحرية الفكر والوجدان، والدين، وهذا الحق يشمل حرية تغيير الدين أو
العقيدة". في حين تنص المادة 22 من الإعلان الإسلامي على أن "لكل إنسان
الحق في حرية التعبير والرأي، بكل وسيلة، وفي حدود المبادئ الشرعية"، وهذه
المبادئ تقوم على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
والشريعة الإسلامية تقف مسألة تغيير الدين موقفا مناهضا كما يعبر عن ذلك
الحديث النبوي الشريف كما ورد في صحيح البخاري "من بدل دينه فاقتلوه".
ويبدو أن تحريم مسألة تغيير الدين، وبخاصة الإسلام، ترجع إلى
حرص الدولة الإسلامية على حفظ الدين وحمايته من الانحراف أو الارتداد
الذي يمكن أن يسبب ضررا أو خللا في المدينة الإسلامية مما أوجب منعه
وإقامة حكم المرتد ضد كل من جاهر بالخروج منه والكفر به.
من القضايا التي تطرح بصددها العديد من التعارضات مسألة حق
التربية والتعليم، وهو حق يعترف به الإعلان العالمي مثلما يعترف به
الإعلان الإسلامي إلا أن الإعلان الأول يعطي الأولوية للوالدين فيما يخص
نوع التعليم والتربية المقدم للأبناء (المادة 26 فقرة ح من الإعلان
العالمي) في حين تنص المادة المماثلة من الإعلان الإسلامي على "حق الآباء"
في اختيار نوع التربية التي يريدونها لأبنائهم.
وهناك العديد من القضايا التي يبدو فيها التعارض كمسألة
الحاكمية أو الحق الإلهي في الحكم من المنظور الإسلامي مقابل الشرعية
الانتخابية والدستورية في النظام السياسي الحديث.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينص في مادته 29 (الفقرة ب)
على أن "كل فرد في مجال الحقوق والتمتع بالحريات لا تحده إلا الحدود التي
يضعها القانون في إطار مجتمع ديمقراطي" بينما نجد الإعلان الإسلامي يقيد
كل الحقوق السياسية بأحكام الشريعة الإسلامية باعتبارها "المرجع الوحيد
لتفسير أو توضيح" مواد الإعلان.
وكثيرا ما تظهر بعض أشكال التعارض بين القوانين المدنية
والجنائية المصطلح على تسميتها بالقوانين الوضعية والقوانين والتشريعات
الدينية(11
).
ولعل دور الاجتهادات الإسلامية والعربية والأفريقية
والأسيوية وغيرها هو بالضبط تكييف الشرعة العالمية مع التشريعات الخصوصية
أحيانا، والحد من غلوا الأولى أحيانا، وإضفاء شرعية ثقافية عليها أحيانا
أخرى وفي إطار نوع من الحوار الدائم بين الثقافتين، وذلك لأن هذه المسائل
هي قضايا خلافية وحضارية عميقة قد لا يتيسر حلها على المدى القصير بل
يتطلب حلها اجتهادات وغربلات وتكييفات مستمرة.
هذه التعارضات إذن ليست مجرد خلافات مفتعلة أو صراعات يتم
استغلالها سياسيا وإيديولوجيا بل هي بالفعل قضايا يبدو فيها نوع من
التعارض القوي، قد يتسع وقد يضيق، بين مرجعيتين مختلفتين.
في مستوى أول تدخل المرجعية الخصوصية في عملية مزايدة
وتنافس لإثبات قدرتها وتفوقها في مجال التنصيص على حقوق الإنسان، ممارسة
نوعا من الاجتهاد والتأويل والحفر في تراثها للتكيف مع السياق العالمي
الذي تفرضه هذه الإيديولوجيا والثقافة السياسية الجديدة. لكنها في مرحلة
ثانية تجد نفسها مدعوة إلى تحصين نفسها والدفاع عن ذاتها تجاه حقوق بلا
ضفاف وبلا حدود، فتنخرط في عملية غربلة للقيم الكونية وتسييج لذاتها في
نوع من الدفاع عن الذات والذود عن الأصالة وترسيخ الخصوصية.
هكذا يبدو وكأن الثقافات المدافعة عن الخصوصية تستعمل
معيارين مختلفين بنوع من المرونة الفريدة. فعندما يتعلق الأمر بمزاوجة
القيم الحقوقية الكونية تتجاوز الخصوصية اختلاف الأنسجة الثقافية
والمقدمات الفكرية، وتباين العصور والبنيات الفكرية؛ أما عندما يتعلق
الأمر بمقاومة الإلحاق والتذويب، بالنسبة لقضايا كالمرأة والجنس والطفل
وغيرها فإن الثقافة المقاومة تستنفر كل قواها الدفاعية لتحصين ذاتها والذود
عن خصوصبتها مستثمرة معايير كانت قد أرجعتها في المرحلة السابقة إلى
مرتبة ثانوية، مما يعكس مرونة فائقة في كلتا الحالتين، لدرجة أنه عندما
يبلغ التعارض أشده فإن المعايير تتداخل وتشتغل الآليات الانتقائية
والدفاعية بشكل كثيف، ويحل الصراع والتمايز الذي كان مستبعدا في مرحلة
أولى محل التوفيق والتكييف الذي كان المعيار الأساسي في مرحلة سابقة.
- الخلفيات الفلسفية والإيديولوجية للكونية:
ظهرت في العقود الأخيرة، خلال مناقشة الأوجه والأسس
المختلفة لثقافة حقوق الإنسان، اتجاهات تجتهد في إبراز الخلفيات
الإيديولوجية المختلفة لهذه الثقافة ولنزعتها الكونية.
– هل الكونية مجرد إيديولوجيا للسوق:
يرى العديد من الباحثين أن الصفة الكونية الملصقة بحقوق الإنسان هي مجرد نزعة عالمية (Mondialisme )
وربما عولمية مرتبطة بتوسع السوق الرأسمالية على المستوى الكوكب، وإن
استثمار الغرب لحقوق الإنسان هو استثمار إيديولوجي. فإلحاح الغرب على
تطبيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (حق الملكية – حق الشغل، حق
السكن...) ينطوي على مصدر خفي هو تحويل مواطن بلدان الجنوب إلى مستهلك
عالمي في عالم تسوده وتحكمه الشركات العابرة للقارات. فتطبيق الحقوق
الاقتصادية والاجتماعية، وهو تطبيق ذو تكلفة مرتفعة -على عكس تكلفة الحقوق
السياسية التي تظل محدودة في كل الأحوال-، معناه تحويل هذه الكتل البشرية
الهائلة إلى كتل استهلاكية لمنتجات الشركات الغربية الكبرى. وهكذا تتخذ
منظومة حقوق الإنسان طابع إيديولوجيا حافزة على استهلاك وعلى الاندراج في
السوق الرأسمالية العالمية فإذا كانت اتفاقيات الغات التي عقدت في مراكش
قد استهدفت تكسير الحواجز الجمركية والقانونية التي تعوق تدفق السلع
والرساميل عبر العالم، فإن إيديولوجيا حقوق الإنسان ستكون هي الغطاء
الإيديولوجي المناسب الحافز على تحويل مواطني الجنوب إلى مستهلكين لمنتجات
السوق الرأسمالية العالمية. لقد سعت الرأسمالية دوما إلى أن تجعل الإنسان
كائنا اقتصاديا Homo Economicus بالدرجة الأولى أي كائنا تكون الدوافع الاقتصادية هي محركه الأساسي.
كانت إيديولوجيا حقوق الإنسان في القرنين 18 و19 تعبر عن
الآمال الكونية والفردانية لليبرالية الغربية، وعن النـزعة الكوسمويوليتية
لدول الغرب. بل "إن البورجوازية الغربية كما يقول الباحث J.Touchard . تخلط قضيتها بقضايا الإنسانية برمتها". وقضيتها هي قضية الاقتصاد. سعادة السوق والمثالية الأخلاقية، الإنجيل والمال(12
).
– هل الكونية أداة هيمنة؟:
يبين بعض الدارسين أن الطلب
الإيديولوجي لحقوق الإنسان لا يقف عند حدود إيديولوجيا السوق بل يتعداه
ليتحول إلى إيديولوجيا للهيمنة. فحقوق الإنسان من حيث منشؤها الداخلي في
دول الغرب تعود إلى الصراع بين القوى السياسية المختلفة، فأول وثيقة لحقوق
الإنسان في الغرب (الماغنا كارتا 1215م) جاءت نتيجة صراع سياسي داخلي في
إنجلترا أدى إلى الحد من صلاحيات السلطة والاعتراف بحقوق النبلاء. بل إن
البعض يرى أن إعادة ترتيب الوضع السياسي الداخلي بهذا الشكل وتعبئته إنما
كان خدمة للعملية الاستعمارية الخارجية لحساب الطبقة البورجوازية في
إنجلترا(13
).
وقد أدى هذا الصراع السياسي الذي تولد عنه مفهوم حقوق
الإنسان لأول مرة في التاريخ الأوربي إلى الحد من امتيازات السلطة الملكية
في إنجلترا، مع الحفاظ على وجودها وعلى عدد من امتيازاتها بعد تحديد
صلاحياتها، وعلى عدد من الامتيازات بالنسبة للوردات، وكل ذلك في أفق
الاندماج في المشروع الرأسمالي الإمبراطوري.
وفي الوقت الذي تطور فيه مفهوم حقوق الإنسان لصالح الشعوب
الأوربية، كان الاتجاه الفكري السائد يبرر إبادة الشعوب الأخرى واصفة
المتخلفة والبدائية منها باسم الرسالة التحضيرية التي يمارسها الإنسان
الأبيض عبر عمليات الاحتلال والاستعمار المباشر، مما جعل خطاب الحقوق منذ
البداية خطابا مزدوجا وثنائي المعايير. وقد صاحب ذلك تمييز واضح بين حقوق
الإنسان في مجالها الغربي، وحقوق الإنسان في مجالها العالمي. بل إن فلسفة
حقوق الإنسان في الغرب سارت جنبا إلى جنب مع عمليات استعمار الشعوب لاسيما
عمليات إبادة الهنود الحمر في الأمريكيتين وشحن العبيد من أفريقيا إلى
أمريكا الشمالية(14
)
واستعمار البلدان الأخرى والهيمنة عليها ونهب ثرواتها. تذكر الفيلسوفة
السياسية، حنة أرنت في كتابها "الإمبريالية" بأن الدول الأوربية لم تكن في
القرن 19 قادرة على ضمان حقوق الإنسان لأفراد لا ينتمون إلى أوطانها إذ
لم تكن هذه الحقوق مضمونة إلا بالنسبة إلى المواطنين (Avents : L’impercalisme, Paris 1982, p.275 ).
وتخلص الباحثة من ذلك إلى أن المفاهيم الغربية لحقوق الإنسان
لا تصلح للتعميم على المستوى الإنساني العالمي لأنها جزء عضوي من الحالة
الغربية المعاصرة ومعادلاتها الداخلية والخارجية. لذلك نراها اليوم خاضعة
للمعيار المزدوج كما نلمس استخدامها الفظ في خدمة سياسات الدول الكبرى
للهيمنة على مصائر الشعوب الضعيفة(15
).
– هل هي انتقادات للكونية ذاتها أم لاستثماراتها؟:
عند فحص الانتقادات الموجهة لمنظومة حقوق الإنسان باعتبار
أنها أولا إيديولوجيا للسوق وثانيا إيديولوجيا للهيمنة، يتبين أن معظم هذه
الانتقادات لا يطعن في الطابع الكوني لهذه الحقوق بقدر ما يوجه نقده إلى
التوظيفات والاستعمالات والاستثمارات التي خضعت لها سواء باستعمالها كأداة
صراع سياسي داخلي، أو ضمن صراع سياسي دولي، أو بتوظيفها كإيديولوجيا
توحيدية للسوق أو كأداة للهيمنة السياسية على المستوى العالمي. ففي كل هذه
المراحل نجد أن الأمر يتعلق بتوظيف مقولة حقوق الإنسان، وباستثمار سمتها
الكونية دون المجادلة في الكونية ذاتها، اللهم إلا بالقول بأنها كونية
غربية أو مقاسة وفق مواصفات الغرب.
ولعل أهمية الانتقادين السابقين تعود إلى أنهما يكشفان فعلا
عن بعض الخلفيات السياسية في استثمار مبادئ حقوق الإنسان، وفي أنهما، دون
وعي منهما، لا يجادلان في الطابع الكوني لهذه الحقوق وإن كانا يدينان
الاستثمارات التي تتعرض لها.
- عودة إلى الطابع الكوني: عود على بدء:
كشف لنا الجدال القائم بين الكونية
والخصوصية عن الاستثمار الخاص لمبادئ حقوق الإنسان في المنظورين معا: تسخير
المثال كأداة لتبرير الهيمنة السياسية للغرب وكإيديولوجيا لتوسيع السوق
الرأسمالية من طرف الغرب، ولتسخير المثال لإخفاء الانتهاكات باسم
الخصوصية. إلا أن النقد المتبادل بين الطرفين لا يكاد يجادل في مدى كونية
حقوق الإنسان بقدر ما يتطرق إلى استعمالها وتوظيفها في هذا الاتجاه أم
ذاك. فالطرفان معا يتمسكان بالكونية، إلا أن أولهما يوظفها للهيمنة
السياسية والتوسع التجاري بينما يحيل الطرف الثاني إلى الدفاع عن الخصوصية
تحصينا للذات ضد التحديات الكونية التي يحملها خطاب حقوق الإنسان بمضمونه
الكوني وإخفاء لبعض مظاهر انتهاكها.
فالأمر في العمق ليس مجرد مجادلة في الطابع الكوني لهذه
الحقوق بقدر ما هو كشف عن الاستعمال والتوظيف الإيديولوجي والسياسي
لمنظمومة الحقوق، مما يجعل الكونية أمرا لا جدال فيه ولا غبار عليه حتى
وإن كان استعمالها محط نزاع وموطن نقاش.
ولعل هذه الكونية المتعددة المستويات سواء من حيث مقصدها
ومضمونها أو من حيث مخاطبيها أو من حيث "عالمية" المصادقين عليها، هي
كونية تترسخ يوما عن يوم وتكتسب مدلولا يكتسي كل يوم مرونة أكبر تجعله غير
مصادق للخصوصيات الاجتماعية والثقافية.
ويبدو أن مجال التعارض مهما بلغت قوته، يظل محصورا في قضايا
محددة يمكن حصرها والقيام باجتهادات وتأويلات للتوفيق بينها. كما أن
الطابع الكوني لهذه الحقوق يتعزز أكثر فأكثر بتكاثر وتناسل وتنوع هذه
الحقوق (التي بلغت الآن ما يفوق 150 حقا). إن هذا الطابع يتعزز كل يوم مع
ظهور الأجيال الجديدة في الحقوق وخاصة الجيل الثالث الذي جاء يعزز الطابع
الكوني للجيل الأول (الحقوق الفردية).
فإذا كان الجيل الأول ينص على حقوق الفرد الكوني المتماثل
في كل الفضاءات الثقافية والاجتاعية، وكأن الأمر يتعلق بمواطن عالمي، فإن
الجيل الثالث من حقوق الإنسان تنص على ضرورة تضامن البشرية كلها تجاه
المخاطر التي تتهدد بقاء النوع سواء تمثل ذلك في الحرب أو في التقدم
العلمي الذي يتهدد النوع البشري وبخاصة في ميدان الاكتشافات المتعلقة
بالحياة والوراثة والتكنولوجيات الحيوية، وتجاه الخيرات والمكاسب المشتركة
بين البشر في امتلاك الفضاء وخيرات البحار وغيرها من الثروات الطبيعية
والبشرية التي تدخل ضمن نطاق "المصدر المشترك والتضامن بين أفراد الجنس
البشري" من أجل توفير أسباب أفضل لحياة النوع برمته وهذا يشكل نوعا من
العدل لاتجاه الأجيال الحاضرة فقط من بني البشر بل يشكل نوعا من العدل
تجاه الأجيال القادمة(16
).
وهذا الصنف الأخير من الحقوق يحقق نقلة نوعية في مجال
الكونية لأنه ينقل حقوق الإنسان من مستوى كونها حلما وأملا كبيرا لأفراد
النوع إلى كونها واقعا يفرض نفسه على النوع إذا ما أراد البشر أن تستمر
خاصة الحياة على ظهر هذا الكوكب.
وإذا كان تطور منظومة حقوق الإنسان قد اتجه بالتدريج قدما
نحو اكتساب طابع أكبر الشمولية والكونية كما يتجلى ذلك بوضوح في الجيل
الثالث من الحقوق، فإن المنطلقات الأصلية لهذه المنظومة ظلت مطبوعة بهذه
الروح الكونية المنحدرة من فلسفة الأنوار في كل من فرنسا وإنجلترا
وألمانيا.
وقد استحضر ممثلو الدول وهم يناقشون بنود الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان سنة 1948 هذه الروح، وخلاصة في مناقشتهم للديباجة والبندين
الأول والثاني، وهي أكثر المقاطع التي يتجلى فيها البعد الشمولي الكوني
لشرعة حقوق الإنسان، حيث ينبري ممثلو مختلف الدول إلى مناقشة مفهوم
الطبيعة الوارد في النص وهو المفهوم المرتبط بمسألة أسس هذه الحقوق
وببعدها الكوني(17
).
لذلك يبدو من الملح التأكيد على هذا البعد الكوني كما عكسته
لا فقط النصوص الأممية، أو المضامين الكونية المبثوثة في النصوص، ولا فقط
المصادقة العالمية عليها، بل كما تمثل أيضا في الروح الفلسفية الكونية
الضمنية المؤسسة لهذه الحقوق.
فقد عمد الفلاسفة الأوربيون، في محاولتهم لبلورة منظومة حقوق
الإنسان إلى الاستناد إلى مرجعية فكرية عقلية مستقلة عن سلطة الكنيسة.
وهذه المرجعية تتألف من ثلاث فرضيات رئيسية هي: 1- النـزعة الإنسانية، 2-
حالة الطبيعة والحق الطبيغي، 3- العقد الاجتماعي(18
).
لقد أرست نظرية الحق الطبيعي مفهوم الحق على أساس الطبيعة.
فالحقوق تضرب بجذورها فيما قبل وجود المجتمع والسلطة، إنها مرتبطة بظهور
الإنسان كنوع، وكأنها مسجلة في طبيعة الأشياء وفي الطبيعة الإنسانية
ذاتها. ومن ثمة كونية هذه الحقوق لأنها سابقة على تشكل أي مجتمع أو ثقافة
أو دولة بل هي مرتبطة في نشأتها بالنوع البشري. وهذا هو مصدر القول بأنها
حقوق جبلية، نوعية وليست مجرد مكاسب تاريخية.
وربما كان هذا هو التصور الذي قاد العديد من الفلاسفة إلى
إرساء الحقوق على أساس العقل سواء بمعنى أن العقل هو جوهر الكائن البشري
أو بمعنى أن هذه الحقوق الموكولة للإنسان لا يمكن التعرف عليها إلا
بالعقل.
الجذر الفلسفي الثاني لمفهوم الحق هو نظرية العقد الاجتماعي
التي مؤداها أن المجتمع والسلطة ينشآن، عند الانتقال من الحالة الطبيعية
إلى الحالة الاجتماعية، بفعل تعاقد الناس واتفاقهم جميعا على تنظيم شؤون
المجتمع وتقنين مسألة السلط وضبط مسألة الحقوق. فالتعاقد في العمق هو رسم
للحدود وتعيين للواجبات وترسيم لحقوق كافة الأطراف. وبما أن لنظرية
التعاقد قيمة رمزية، أكثر من أية قيمة تاريخية، فإنها تشير إلى أن لكل فرد
الحق في جملة من الحقوق التي يبدو في النهاية أنها ناتجة عن تعاقد بين بن
البشر. وبالتالي فإن هذه الحقوق ليست هبة من المجتمع أو من أي كان، بل هي
نتيجة اتفاق ضمني بين بني البشر، وهذا هو أساس كونيتها.
أما الجذر الفلسفي الثالث فهو النـزعة الإنسانية المؤسسة
لتصور معين للإنسان قوامه: تميز الإنسان عن بقية الكائنات ومن ثمة مركزيته
وفاعليته وحريته. وهذه الحرية لا ترتبط بنظام أو بفترة أو بعصر بل هي صفة
طبيعية للإنسان كنوع تميزه عن بقية الكائنات.
والخلاصة أن الجذور الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسانـ بغض النظر
عن السياقات التاريخية لنشأتها، تنطلق من مسلمة كونية حقوق الإنسان من
حيث أنها مرتبطة بالذاتية وبالإنسان كفرد ينتمي إلى النوع البشري برمته