الطرح الإشكاليمدخل إلى الفلسفة أم دخول في الفلسفة:
لماذا نشرع - على غير عادتنا في المواد الأخرى – في دراسة الفلسفة بطرح السؤال "ما الفلسفة؟"؟
إنطلاقا من هذه الملاحظة يمكن أن نتقدم بالفرضيات التالية حول الفلسفة :
- يبدو أن هناك إختلافا حول تعريف الفلسفة أو أن تعريفها جزء أساسي من الممارسة الفلسفية؛
- يبدو أن السؤال يحتل مكانة مركزية في الفلسفة، وقد يكون أحد أهم أدواتها.
وإذا صح هذا الأمر، نكون بطرحنا لهذا السؤال قد وضعنا أنفسنا ، لاعلى باب
الفلسفة، بل في قلبها !!؛
- يبدو أخيرا أن الفلسفة لاتتوانى عن وضع كل شيء موضع تساؤل بما في ذلك نفسها.لفحص هذه الفرضيات يتعين أولا أن نشرع في محاولة تعريف الفلسفة وتحديد
خصائصها؛ وبما أن تحديد وظيفة الشيء جزء من تعريفه، يتعين علينا ثانيا أن
تحديد دورها ووظيفتها.
محاولات لتعريف الفلسفة التعرف على الفلسفة من خلال الدلالة الإشتقاقية لكلمة "فلسفة" |
"الفلسفة" كلمة يونانية Philosphia تتركب من شقين Philo وتعني المحبة،
الميل، الصداقة... ثم Sophia وتعني الحكمة. وليست الحكمة مجرد العلم: إذ
نجد لها مستويين: مستوى نظري وهو الحكم السديد والعلم الشامل ببواطن
الأمور ومبادئها وعللها؛ ومستوى عملي أخلاقي يتجلى في الفضيلة والسلوك
المسترشد بمبادئ أخلاقية. وإذا كان الفيلسوف يدعو نفسه محبا للحكمة وينأى
بنفسه عن أن يكون حكيما، ففي ذلك دلالة واضحة على التواضع المعرفي الذي
يجعل الفلسفة – كما يقول كارل يسبرزJaspers – بحثا عن المعرفة والحقيقة
وسعي نحو الفضيلة وليست إمتلاكا لهما.
وتجمع أغلب المصادر التاريخية على أن
فيثاغورس في القرن 6 ق- م هو أول من استعمل أو ركب لفظ "فلسفة" في قوله: " من
الناس من تستعبدهم الثروة وآخرون استعبدهم حب المجد، لكن قلة منهم تخلصت من
هذا وذاك وكرست نفسها لدراسة الطبيعة لالشيء إلا حبا للمعرفة. إن هؤلاء هم
الذين سموا أنفسهم فلاسفة"
يتضح من هذه القولة أن موضوع الفلسفة اشتمل في البداية على دراسة شاملة
للطبيعة، لذلك لقبت الفلسفة بـــأم العلوم، بيد أن هذه العلوم استقلت عن
الفلسفةالواحدة بعد الأخرى بدءا بالرياضيات والفلك مرورا الفيزياء
والكيمياء والبيولوجيا.. بحيث أصبح لكل منها موضوعه ومنهجه الخاص. كما
نستنتج بأن الفلسفة بحث عن المعرفة يحركه حب المعرفة لذاتها بعيدا عن كل
إنشغال نفعي براغماتي.
التعرف على الفلسفة من خلال الظروف التاريخية لنشأتها: |
في مجالات علمية كثيرة، تتخد ظروف نشأة الشيء أو الظاهرة مدخلا لفهمه كما
في الجغرافيا أو الجيولوحيا، وبالمثل سنعرض للظروف التاريخية لنشأة الفلسفة
لنكون فكرة عن طبيعتها.
لم تخل الحضارات الشرقية القديمة من وجود تفكير ومفكرين إنشغلوا بالتأمل في
الإنسان والأخلاق والمصير والمعرفة.... بيد أن شروط ظهور الفلسفة لم تكتمل
وتجتمع إلا عند اليونان حوالي القرن السادس ق.م. ومن أهم هذه الشروط:
- توسعهم على حساب الفينيقيين، مما سهل احتكاكهم بالثقافات المجاورة فشجع
عملية المثاقفة أي التفاعل مع ثقافات الشعوب المجاورة في جوانبها العلمية
والدينية...؛
- هزيمتهم اللاحقة أمام الفرس وماأثارته من موجة عارمة من الشك طالت حتى الآلهة نفسها؛
ظهور بوادر النظام الديموقراطي بما يتيحه من حرية التفكير والنقد والجدل
والنقاش العمومي، بحيث يمكن القول أن الفلسفة قد خرجت من قلب ساحة
الأغورا؛
تطور علم الرياضيات التي يشاطر الفلسفة كثيرا من خصائصها كالطابع المنطقي البرهاني الإستدلالي والتجريدي.
التعرف على الفلسفة من خلال نماذج لبعض الممارسات الفلسفية التأسيسية: |
يمكن أن نتقدم قليلا في تعريف الفلسفة بأن نلقي نظرة على بعض الممارسات
الفلسفية ذات الدلالة التأسيسية لأنها تكشف الآليات التي إعتمد عليها
التفكير الفلسفي في لحظة ميلاده، والتي يمكن لكل تفكير أن يعتمد
هم طائفة من الفلاسفة انشغلوا بمحاولة الجواب على السؤال التالي: " ماأصل
الكون ؟" ذلك أنهم لما نظروا إلى تعدد الموجودات وإختلافها، حاولوا تجاوز
هذا المعطى الظاهري بحثا عن أصل أو مبدأ جوهري واحد لجميع هذه الموجودات.
صحيح أن أجوبتهم على السؤال إختلفت وقد تجاوز العلم المعاصر أغلبها: إذ
يرجع
طاليس هذا الأصل إلى الماء، بينما يرجعه
أنكسمنس إلى الهواء و فيثاغورس إلى العدد... بيد أن المهم هو سؤالهم ذو
الطابع الشمولي الجذري بحيث يتجاوز ظاهر الوجود المتسم بالتعدد إلى الوحدة
الكامنة في جوهره.
وإذا كان العلم المعاصر ينحو نفس المنحى فيرجع جميع الكائنات إلى الذرة،
فذلك يعني أن الحقيقة تكمن غالبا في ماوراء الظاهر، وأن الظاهر لايكون
غالبا إلا مصدرا للوهم، لذلك قال
باشلار : " لاعلم إلا بما هو خفي ".
* السوفسطائيون Sophistes : |
تشتف هذه الكلمة في اليونانية من سوفوس وتعني المعلم. وقد كان هؤلاء فعلا
معلمين لفنون الخطابة والإقناع والجدل مقابل أجر نظرا للحاجة الماسة إلى
هذه الفنون كوسيلة للنجاح في النظام الديموقراطي. لم يعتن السوفسطائيون
بموضوع الإقناع قدر إهتمامهم بكيفيته. فلا يهم عندهم مضمون الخطاب بل
صورته. ومن أشهرهم بروتاغوراس و
جورجياس القائل بأن " الإنسان مقياس كل شيء" إشارة إلى نسبية الحقائق وتعددها.
يعود الفضل إلى السوفسطائيين في تحويل الإهتمام نحو الإنسان عوض الطبيعة
وفي عنايتهم وتطويرهم لأساليب الإقناع والحجاج كشرط محدد لقيمة الخطاب، وهم
بذلك يمهدون لسقرط.
( أنظر الكتاب المدرسي ص: 110 واللوحة ص: )
واحد من أهم الأعلام البارزة والمؤسسة في تاريخ الفلسفة، ولانكاد نعثر على
خاصية للتفكير الفلسفي إلا وقد مارسها سقراط بشكل أو بآخر. يتمثل الإرث
السقراطي في:
- المحاورة كشكل للممارسة الفلسفية: لم يترك
سقراط عملا مكتوبا، وقد خلد تلميذه أفلاطون أفكاره في محاورات تحمل كل
واحدة منها إسم محاور سقراط مثل هيبياس، فيدروس، ليزيس... ومن مميزات
الشكل الحواري أن الحقيقة لاتغدو تلقينا بل نتيجة لبحث مشترك نعترف فيه
للمحاور بدور في بناءها.
- التواضع المعرفي: بخلاف السوفسطائيين الذين
نسبوا لأنفسهم المعرفة والحكمة، رفع سقراط على الدوام شعارا مضمونه: " كل
ماأعرفه هو أني لاأعرف شيئا !!" مما يفيد وجود حس نقدي، وهو ذلك الموقف
العقلي الذي يدفع صاحبه إلى الإحتراس والتردد في قبول المسلمات والمعارف
الجاهزة قبل إخضاعها للفحص والتحليل.
-الفضيلة كغاية للممارسة الفلسفية: إذا كانت
غاية الممارسة الفكرية عند السوفسطائيين هي التعليم أي التمكن من وسائل
الإقناع بغض النظر عن مضمون الإقناع، فإن غاية الفلسفة عند سقراط هي "
تدريب النفس على إكتساب الفضيلة" بحيث لاينفصل تعليم المعرفة عن الغاية
التربوية الأخلاقية.
- الفلسفة بحث عن الماهيات الكلية: تلح
محاورات سقراط على التساؤل بشكل متكرر عن ماهيات الأشياء وتعريف المفردات
بحثا عما هو جوهري كلي خلف الجزئيات المتعددة على مستوى الظاهر. لذلك نجده
مثلا يسأل
هيبياس عن الجمال و يذكره بشكل مستمر بأن المطلوب تحديد ماهية الجمال لا القيام بجرد للأشياء الجميلة !!
- المنهج السقراطي: إضافة إلى أفكاره السالفة الذكر، تميز سقراط بمنهج خاص
في البحث عن الحقيقة أثناء المحاورة، ويعتمد هذا المنهج على مرحلتين:
* التهكم: حيث يصطنع سقراط
الجهل بداية، ليدفع محاوره إلى إلقاء وعرض معارفه وأجوبته التي لايلبث
سقراط أن يخضعها لإمتحان دقيق وأسئلة محرجة تظهر تناقضها أو عدم كفايتها
وملاءمتها، فلا يجد المحاور بعد عدة محاولات بدا من الإقرار بجهله؛
* التوليد: بعد المرحلة السلبية الهادفة إلى
تحطيم الإعتقاد البديهي بإمتلاك المعرفة، تصبح النفس قابلة لإكتشاف المعرفة
التي يكون مصدرها الذات نفسها، وبعبارة أخرى لم يكن سقراط يلقن المعرفة
بقدر ماكان يساعد المحاور بواسطة أسئلة مرتبة بعناية على استخراج المعرفة
الكامنة في نفسه. فإذا كانت أمه تساعد الناس على وضع حملهن، فهو يساعد
العقول على إخراج معرفتها الكامنة !!
التعرف على الفلسفة كتجربة وكمغامرة فكرية: ماذا يعني أن أخوض تجربة التفكير الفلسفي؟ |
تحليل نص: " التفلسف والعودة إلى الذات" إدموند هوسيرل |
العودة إلى الذات شرط لخوض تجربة التفلسف.
الأسئلة التي يثيرها فينا النص: |
السؤال الأول:كيف تكون هذه العودة إلى الذات ممكنة ؟
تقتضي العودة إلى الذات خطوتين حسب النص:
- العودة إلى معارفنا السابقة ومسلماتنا لمساءلتها وفحصها أو قلبها أحيانا، أي وضع المعرفة بين قوسين وتعليق الحكم؛
- محاولة إعادة بناء المعرفة من جديد على أسس جديدة.
الإستشهاد بمثال من تاريخ الفلسفة: يسوق
هوسيرل مثال
ديكارت في
كتابه "التأملات" كنموذج مجسد لتجربة العودة إلى الذات: ففي المرحلة
الأولى، عاد إلى معارفه فشك فيها بأكملها، بل شك حتى في وجوده ذاته؛ ثم بحث
في المرحلة الثانية عن منهج يسمح له بتأسيس المعرفة على أسس متينة، مثبتا
أولا وجوده الخاص من خلال الكوجيطو (أنا أفكر إذن أنا موجود)، لينتتقل بعد
ذلك إلى إثبات وجود الله والعالم وخلود النفس بأدلة عقلية.
-
السؤال الثاني: ألا يوجد تناقض بين الدعوة للعودة إلى الذات وشمولية الخطاب الفلسفي؟
يؤكد النص على وجود إرتباط وثيق بين الفلسفة وشخص الفيلسوف، إنها أمر يهم
شخص الفيلسوف بالذات. فعلى عكس العلم الذي تتميز مواضيعه بطابع لاشخصي وغير
ضروري للجميع( مثال: يتكون الماء من جزيئات هيدروجين وأكسجين)، فإن
الفلسفة – كما يقول ياسبرز- تتناول قضايا حيثما لمعت مست الإنسان مسا أعمق
من أية معرفة علمية، لأنها بحث نقدي يساهم الإنسان فيه بجميع كيانه ( مثال:
الجمال، الموت، الخير، الشر...)
لايعني ذلك أن الفلسفة تأملات ذاتية في قضايا ذاتية، إننا نعود إلى الذات
للنطلق نحو الآخرين ونحو الكونية. وذلك بالتأسيس العقلاني لقناعاتنا وبمنح
تأملاتنا قوة إقناعية حجاجية لتخاطب جميع العقول. وقد عبر
بول ريكور عن هذه الحركة المزدوجة المتراوحة بين الذاتية والكونية قائلا:
"
أريد إكتشاف المعنى الخاص لوجودي الفردي الذي لن يستطيع أحد بلوغه أو قوله
نيابة عني. صحيح ان مشروطية ومحدودية وضعي الخاص تجعل نزوعي نحو الحقيقة[
والكونية] متناهي الأفق، ومع ذلك فإن بحثي عن الحقيقة يجعلني أطمع في أن
أستمد من عمق وضعيتي الخاصة إمكانية قول شامل وصالح للجميع"
نستنتج إذن أن خطاب الفيلسوف مشروط أي صادر عن شروط ومحددات تاريخية
إجتماعية وذاتية، لكن المجهود الفلسفي يتجلى بالضبط في التعالي والإنفلات
من هذه المحددات، وإضفاء الطابع اللازمني واللاشخصي على ماهو زمني وشخصي.
هكذا نجد أن التساؤل السقراطي لايستوقف فقط سقراط أو محاوره أو حتى الإنسان
الأثيني، كما أن تجربة الشك الديكارتي ليست مجرد تجربة ذاتية لصيقة بشخص
ديكارت وحده.
تحليل نص "الدهشة الفلسفية" آرثر شوبنهاور |
نشأة الفلسفة والقدرة على التفلسف متوقفان على القدرة على الإندهاش من المألوف والمعتاد والبديهي كوجود الإنسان ووجود العالم.
الدهشة: الدّهشة عامة هي انفعال و رجّة وجدانيّة شديدة و عنيفة، و هي أيضا ذهول
أمام شيء خارق للعادة و غير مألوف، إنها حالة نفسية مصحوبة بالتوتر والحيرة
وشيء من الألم أحيانا، تحصل للفكر عندما يعجز عن إستيعاب وتمثل ظاهرة أو
معطى وتصنيفه ضمن البنيات والمقولات السابقة فينشأ صراع وتحد معرفي داخلي؛
الدهشة الفلسفية: مختلفة عن الدهشة
الطبيعية أو العادية من حيث أن هذه الأخيرة تحصل أمام الغريب وغير المألوف،
بينما تحصل الأولى أمام المألوف والمعتاد ( مثال تقريبي لدهشة علمية: دهشة
نيوتن- مكتشف الجاذبية – من ظاهرة جد مألوفة تتمثل في سقوط التفاحة إلى
الأسفل وعدم سقوطها نحو الأعلى !! (
الأسئلة التي يثيرها فينا النص: |
** السؤال الأول: كيف تكون الدّهشة، التّي هي تعبير عن الذهول و ذهاب
العقل، علامة على بداية التّفكير الفلسفي، الذّي عرف على أنّه بالأساس،
ممارسة عقليّة واعية ويقِظة ؟
لإثبات العلاقة التأسيسية بين الدهشة والفلسفة لجأ النص إلى:
- الحجاج بالسلطة: متمثلا في قولة أرسطو : " الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف"
- تقنية التعريف: " الإنسان حيوان ميتافيزيقي" لايتوقف عن البحث والإنشغال
بما وراء الطبيعة، وماوراء الطبيعة محتجب ومتخف ، وكل متخف يثير الدهشة
والفضول.
يمكننا أيضا توضيح علاقة الدهشة بالتفلسف كالتالي :
الدهشة --------< عجز---------- < حالة من الجهل والفراغ المعرفي، نعترف
وحيرة أثناءه بعدم كفاية معارفنا السابقة -----------
---------< توتر وألم -------< ضرورة خفض التوتر ----
محاولة المعرفة عن طريق البحث والتساؤل.->----------
** السؤال الثاني: كيف يمكن فهم قول النص : " لو كانت حياتنا أبدية وخالية
من الألم (...) لكانت كل الأشياء مفهومة من تلقاء نفسها " ؟
بعبارة أخرى:لولا الموت والألم لما كانت الأشياء أو بالأحرى الوجود غامضا
غير مفهوم، ومن ثم لغزا يولد الحيرة والدهشة . كيف ذلك؟
إن وجود الإنسان من أكثر الظواهر والمعطيات ألفة وإعتيادية، فكيف يغدو
ياترى، بفعل الموت والألم، مصدرا للدهشة؟ إن وجود الموت يضع حول الوجود
علامات استفهام: حول قيمة الوجود، معناه، حول المصير والخير والشر وماوراء
الموت أي ماوراء الطبيعة...
وإذا كان البشر متساوون أمام الموت، فهم غير متساووين حيال الألم ( الألم
هنا بمعنى كل مظاهر النقص: كألم الجسم، الحاجة، الفقر، الكوارث، الشر...)
الأمر الذي يثير بدوره أسئلة حول سر ومغزى هذه اللامساواة،فأكثر ضروب الألم
تحل بشكل مفاجئ غير قابل للتفسير . دون أن ننسى أن أكثر الناس إنغماسا في
تيار الحياة وأكثرهم غفلة عن التفكير في الحياة والوجود، لايضطرون للإنتباه
لقضايا القضاء والقدر والمصير وقيمة الحياة إلا عند النكبات والآلام !!!
في مرحلة الطفولة، يكون الإنسان أشد رغبة في المعرفة وأكثر قدرة على
الإندهاش، بيد أن هذه القدرات تتلاشى بفعل التعود والعادة لتبدو الأشياء
بعد ذلك مألوفة واضحة تحمل في ذاتها تفسيرها. فإذا كانت العادة إذن تقتل في
الفكر الرغبة في المعرفة وتخمد جذوتها، فإن الدهشة أشبه ماتكون بمضاد
يقاوم مفعول العادة وينزع عن الأشياء ألفتها وبساطتها وبداهتها الخادعة،
لذلك عرف البعض الفيلسوف بأنه " شخص يرفض التعود على العالم" !!
التعرف على الفلسفة من خلال بعض خصائص التفكير الفلسفي: |
بسبب إرتباط الفلسفة بشخص الفيلسوف – كما رأينا مع
هوسيرل-
فلايمكن للممارسة الفلسفية ولتعريف الفلسفة إلا أن يختلفا من فيلسوف لآخر،
بيد أن هذا الإختلاف لايمنع من وجود قواسم مشتركة نعبر عنها بخصائص
التفكير الفلسفي.
أولا- الخاصية التساؤلية الإشكالية: |
تحليل نص " الفلسفة تساؤل " آلان جيرانفيل |
يضع النص التساؤل كأهم خصائص التفكير الفلسفي، مميزا في نفس الوقت السؤال الفلسفي عن غيره من أنماط الأسئلة الأخرى.
الأسئلة التي يثيرها فينا النص: |
مالذي يجعل الفلسفة تساؤلا؟
بالإشتغال على الدلالة الإشتقاقية للفظ: يذكرنا جيرانفيل بأن الفلسفة رغبة
في المعرفة والحكمة وحبا لهما. لنستنتج من جهتنا أنه إذا كان الفيلسوف أكثر
الناس أسئلة، فلأنه أكثرهم رغبة في المعرفة، وأكثرهم إقرارا بجهله وبغرابة
الأشياء والوقائع حتى لو بدت واضحة مألوفة، ومن المتوقع ممن هذه حاله ألا
يتوقف عن السؤال.
لكن ماأكثر الأسئلة وماأكثر السائلين، فمالذي يميز سؤالا فلسفيا عما ليس كذلك؟
//
القصدية: ومفادها أن للسؤال الفلسفي قصدية
أو غاية خاصتين به. فإذا كان السؤال العادي يطرح بهدف تحصيل معرفة مجهولة،
فإن السؤال الفلسفي يستهذف إختبار المعرفة لأنه يحمل شكا قبليا في الجواب
وفي المعرفة مفترضا ان المعرفة مستحيلة أو على الأقل مزعومة. وبعبارة
أخرى،
نوعية السؤال سؤال عاديـ | سؤال فلسفي |
نموذجهأين توجد المحطة؟ | مالجمال؟ |
موضوع الإستفهام موضوع أو محتوى أو معرفة مجهولة | فعل المعرفة ذاته أو إمكانية إمتلاك المعرفة |
المستهدف معرفة وضعية: مكان وجود المحطة | فعل المعرفة ذاته الذي يدعيه هيبياس |
الإستشهاد بمثال من تاريخ الفلسفة ( التجربة السقراطية)
لتوضيح أطروحته، استدعى النص التجربة السقراطية: فأسئلة سقراط تستهدف
اختبار المعرفة وتحمل شكا قبليا وتنتهي غالبا بتحطيم الإعتقاد البديهي في
إمتلاك المعرفة.وكأن السؤال ليس اختبارا للمعرفة فحسب، بل اختبار للامعرفة
أيضا.
//
الطابع الإشكالي: الإشكالية غير المشكل.
فهذا الأخير مجرد صعوبة تنتظر حلا؛ أما الإشكالية فهي قضية تنطوي على
مفارقة أو أكثر، تعبر عن نفسها في مجموعة مترابطة من الأسئلة لايمكن معالجة
أحدها منعزلا عن الآخر. والطابع الإشكالي للسؤال الفلسفي يجعل منه تساؤلا
لامجرد سؤال منفرد. قد نعثر على سؤال منفرد من قبيل " مالجمال؟" بيد أن
إنفراده أمر ظاهري لأنه يحيل على أسئلة متعددة يكتسب منها كامل قوته ومعناه
مثل: مالفرق بين الجمال والجميل؟ هل الجمال في الشيء أم في نظرتنا إلى
الشيء؟ هل الجمال واحد أم متعدد؟... وكل سؤال يتأسس على زوج تناقض او
مفارقة.
ينتج عن ذلك أن الجواب على السؤال العادي أو حل المشكل ينهيه ويفقده مبرر
وجوده، بينما لانتحدث عن جواب السؤال الفلسفي أو حل الإشكالية وإنما عن
معالجتها. الأمر الذي يفسر إستمرارية الأسئلة الفلسفية عبر الزمان، فعوض أن
يمتص الجواب السؤال، يصبح منطلقا لسؤال جديد كما قال كارل ياسبرز. وقد عرف
إتيان سوريو الفلسفة بأنها فن طرح السؤال وتأجيل الجواب بإستمرار !!
//
الطابع الجذري: يرى
جيرانفيل ضرورة تكرار السؤال الفلسفي واستعادته للوصول إلى مبدأ أول. بمعنى أنه
أداة لإختراق حجاب الظاهر لبلوغ أسس الأشياء وأصولها ومبادئها الأولى، على
غرار سؤال الفلاسفة الطبيعيين " ماأصل الكون؟". ومن ثم، يحمل كل سؤال فلسفي
طابعا ميتافيزقيا، أي أنه دائما بحث " عما وراء".
( سنعتمد فيما يلي على الخصائص المستخرجة من
رسائل إسبينوزا الفلسفية حول الأشباح والأرواح)
في الوقت الذي يندفع
بوكسيل متحمسا لإثبات وجود الأرواح والأشباح مقدما حشدا من الروايات والقصص وشهادات المفكرين ذووي المكانة والسلطة المعرفية، يواجهه
أسبينوزا بموقف نقدي لايعرف التساهل. رافضا أن يأخد المعرفة الشائعة المتداولة مأخد التسليم والإعتقاد دون جدل أو نقاش.
والنقد لغة يفيد التقويم. فنقول نقد العملة أي فحصها ليتأكد من صلاحيتها.
وبذلك يتضح أن الموقف النقدي يقوم أولا على تعليق الحكم (الشك) فالفحص
والتحليل، إنتهاءا بإصدار الحكم. ولأن فحص الأشياء والقضايا عن قرب يكشف
بعض الصعوبات وعيوب الإستدلال المتخفية، فإن النقد لايخلو من إزعاج عبر عنه
سقراط قائلا : " الفيلسوف يسبب الإزعاج ويوقظ من النوم العميق".بل إن
النقد يتضمن قدرا من المخاطرة الفكرية: إذ قد يفضي إلى إظهار أوهام المعرفة
وتهافتها محدثا فراغا معرفيا رهيبا، ومع ذلك فإن الفيلسوف كما قال
ياسبرز " يفضل الإخفاق على الشعور بسعادة الوهم" !! كتلك السعادة التي يمنحها الموقف الدوغمائي لصاحبه.
عرفنا الحجاج سابقا عند السوفسطائيين كتقنيات بلاغية وإستدلالية لتحقيق
الإقناع وتمرير الخطاب بغض النظر عن مضمونه أو حقيقته. وقد تجلى لنا الحجاج
واضحا في
رسائل إسبينوزا أثناء
إثبات القضايا أو تفنيدها. ومن بين الأساليب الحجاجية الفلسفية نذكر
الأساليب الإستدلالية الجدلية: كالإستنباط، المقارنة، التفسير، البرهان
بالخلف، المماثلة، التهكم، الحجاج بالسلطة... إضافة إلى الأساليب البلاغية
كالأسئلة الإستنكارية والمجاز والتشبيه والإستعانة بالدلالة الإشتقاقية
للكلمات.
إن الخاصية الحجاجية للقول الفلسفي هي التي تقف وراء الطابع الحواري لرسائل
لإسبينوزا وللفكر الفلسفي بصفة عامة، لأن الأمر لايتعلق بإنتاج تأملات أو
إنطباعات ذاتية أو إلقاء أفكار حرة متحللة من كل منطق أو صرامة و نظام،
بقدر مايتعلق بأفكار لاتراهن سوى على تماسكها المنطقي وإنتظام حججها لإقناع
المتلقي وفرض نفسها على العقول.
يقول الأستاذ
طه عبد الرحمان معرفا الحجاج :
"
حد الحجاج أنه فعالية تداولية جدلية: فهو تداولي لأن طابعه الفكري مقامي
إجتماعي يأخد بعين الإعتبار مقتضيات الحال من معارف مشتركة ومطالب إخبارية
وتوجهات ظرفية. ويهدف إلى الإشتراك في إنشاء معارف عملية؛ وهو جدلي لأن
مقامه الإجتماعي قائم بلوغه على إلتزام صور إستدلالية أوسع وأغنى من
البنيات البرهانية الضيقة"
إذن فبين الحجاج ومفهوم قريب هو البرهان فرق سنبينه في الجدول التالي:
النموذج الموضوعالمقدماتالنتائجالعلاقة مع المتلقي
الحجاجالفلسفة | كل مايتعلق بالإنسان في وجوده الفردي والجماعي | مقدمات مشهورة، تحظى بنوع من القبول | إحتمالية | ذو طبيعة تداولية تراعي خصوصيات المتلقي |
البرهانالرياضيات | الأعداد والأشكال... مواضيع صورية | مقدمات تتمتع بالإجماع لكونها تعريفات أو مسلمات أو بديهيات | يقينية | ذو طبيعة غبر تداولية ولاشخصية يخاطب الإنسان بغض النظر عن محدداته |
في معرض رده على بوكسيل، لايتوقف
إسبينوزا عن
مطالبة هذا الأخير بتوضيح وتدقيق دلالة بعض الكلمات والعبارات التي
يوردها؛ مما يعني أن التفكير الفلسفي يقتضي استخداما خاصا للغة يقوم على
الحصر الدقيق لمعاني الألفاظ وماهيات الأشياء. إن ضبابية معاني الكلمات
لاتزيد الفكر إلا ضبابية وقصورا. مما يلزم الفيلسوف بالإعتناء باللغة، على
عكس الإستخدام العادي للغة الذي يتسم بالبراغماتية بحيث يتخد اللغة مجرد
أداة للتواصل.
هكذا نقرأ مثلا في
رسائل إسبينوزا عرضا وتوضيحا لمفاهيم كثيرة كالجمال، المتناهي، اللامتناهي، الرغبة...
الفلسفة والحياة:قد لاتشفع للفلسفة كل خصائصها التي أتينا على ذكرها. فحتى لو أجل فيها
البعض عمق أفكارها وقوة إستدلالاتها، فإنه يأسف لكونها شاغلا عديم الفائدة،
منقطع الصلة بواقع الإنسان وحياته. أما الآخرون فلا يرون فيها سوى ترف
فكري موغل في التجريد ومغرق في جدالات عقيمة لايحسم أمرها أبدا.
لكن، لئن كانت الفلسفة حقا دعوة للتخلص ولومؤقتا من التيار الجارف لليومي
والمباشر بهدف مساءلته وتقييمه بروح نقدية، فإنها ليست أبدا دعوة للإنسحاب
من الحياة إلى أبراج التأمل الخالص !! كيف ذلك؟
الوظيفة الأخلاقية والتنويرية للفلسفة: |
لنذكر أولا بأن الفلسفة محبة للحكمة، وأن الحكمة لاتقتصر على العلم
والمعرفة بل تشمل الفضيلة الأخلاقية أيضا.وعليه فالفلسفة لاتنشد الكمال
النظري المعرفي بل والكمال العملي الأخلاقي حسب عبارة
إبن مسكويه؛ ولقد فهم
الرواقيون الفلسفة على أنها " فن الحياة" الهادف إلى تحقيق سكينة النفس وسط الإضطراب المحموم اللامنتهي للرغبات والإهواء والإنفعالات.
هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الإجتماعي فالروح النقدية المميزة
للتفكير الفلسفي تكسب الفرد إستقلالية الشخصية وتنأى به عن الإمتثالية
والخضوع للوصاية و الدوغمائية التي تميز أولئك الذين لم يسافروا قط إلى
منطقة الشك المحررة.
وإذا كانت الدوغمائية طريقا معبدا إلى التعصب وإقصاء الآخر وإلغاء
الإختلاف، فإن عقلانية ونقدية الفكر الفلسفي دعوة دائمة للحوار والإنصات
والإعتراف بالآخر المختلف... أي التسامح. وإذا كان التسامح فضيلة أخلاقية
فإنه لايوجد دون قاعدة فكرية تتيح التجرد والنزاهة والقدرة على تصور
العوالم الأخرى والأصوات المخالفة. ألا نرى ذلك الود والإهتمام الذي مافتئ
إسبينوزا يعبر عنهما تجاه بوكسيل رغم إختلافهما في الرأي !! وللنظر إلى قولة
فولطير التي
تعبر عن الدفاع المستميت عن الإختلاف وحرية الرأي حين يقول: " إنك تختلف
معي في الرأي لكني مستعد لتقديم حياتي دفاعا عن حقك في التعبير عن رأيك هذا
بحرية"
لقد قيل بأن العنف هو التصرف كما لو كنا وحدنا في ميدان الفعل وأن الآخر
لايوجد إلا ليتقبل فعلنا، بيد أن الفلسفة لايمكنها إلا أن تحث على الإعتراف
بوجود الآخر بحقه في الإختلاف لأنها أصلا مسكونة في داخلها بالإختلاف في
النظريات والمذاهب والمناهج !! وإعلاؤها من قيمة العقل ليس سوى رفض للاعقل
والعنف والإلغاء وتكريس لقيم الإختلاف والتعددية التي تعد اليوم شرط
الديموقراطة وقاعدة المواطنة في المجتمع المدني. بل إن الفلسفة تنشد في
الواقع مواطنة كونية قوامها كونية العقل تتجاوز خصوصيات العرق والمعتقد
والمجتمع.
الفلسفة ورهانات المجتمع المعاصر: |
لاتنتهي التحديات المطروحة على الفلسفة أبدا !! فهاهي قيمتها توضع من جديد
اليوم موضع تساؤل بسبب تطور العلوم وتقدم التقنيات وتزايد قدرات الفكر
البشري على السيطرة على الطبيعة وسبر أغوارها وأسرارها، بحيث تبدو الفلسفة
أفكارا عتيقة من زمن غابر !!
الواقع أن تقدم العلم والتقنية لايلغي الحاجة إلى الفلسفة بقدر مايبرهن على
أهميتها ويمدها بموضوعات جديدة للتفكير والتأمل لاتقل تعقيدا عن المباحث
التقليدية للفلسفة، من قبيل: طبيعة الإنسان وحجم نزعاته التدميرية، خطر
الفناء مع أسلحة الدمار الشامل،غائية التقدم وعلاقة الإنسان بالطبيعة على
ضوء الإستنزاف الذي تتعرض له، حقوق الأجيال المستقبلية في كوكب سليم نظيف،
مشكلة الهوية على ضوء الإستنساخ،أوهام المجتمع الإستهلاكي وإحباطات
الفرد... وغيرها من القضايا ذات البعد الفلسفي الواضح لتعلقها بالإنسان.
خلاصة للدرس: الفلسفة والتجربة الشخصية |
هل يمكن أن نطمع في معرفة الفلسفة وإدراك ماهيتها بعد قراءة هذا العرض حول الفلسفة، وتاريخها، وخصائصها وأدوارها؟
يجيب
كارل ياسبرز بالنفي: فالفلسفة ليست في
مكان محدد يمكن الإشارة إليه وتعيينه. " إن كل فلسفة تعرف ذاتها بتحققها.
أما ماهي الفلسفة، فهذا مالايسع المرء معرفته إلا بــالتجربة الشخصية. إن
التجربة الشخصية وحدها [ أي خوض مغامرة التفكير الفلسفي والعودة فعلا إلى
الذات والتجرؤ على إستخدام العقل] هي التي تتيح للإنسان أن يدرك مايمكن أن
يجده في العالم من فلسفة !!" ( نص: " الفلسفة بحث عن الحقيقة" ص: 15) وكما
يقول
إيمانويل كانط: " لايمكن تعلم الفلسفة، وإنما التفلسف"، أو كما قال
مالبرانش: " سواء قرأنا
أرسطو أو
ديكارت، فإنه لاينبغي في البداية تصديق أي واحد منهما، وإنما ممارسة فعل التفكير كما مارساه أو كما كان عليهما أن يمارساه".