ختان اللغة
خلدون عبد اللطيف
تسليماً بأن التكنولوجيا المعولمة شقَّت طريقها في ظلّ الانفجار
الإعلامي وثورة الاتصالات نحو تكريس لغتها الخاصة والأكثر توتاليتارية،
فلنا أن نتوقف برهة ونتساءل بمشروعية: مَن وما الذي يقوى على تغيير اللغات
البشرية عموماً والعربية خصوصاً، أو بشكل أدق على تنظيم قواعد «عصرنتها»
إجرائياً في هذا الظرف التاريخي، وبالتالي إعادة قولبة كل ما يمت لها بصلة
من قريب أو بعيد، بما في ذلك الشعر؟ وهل للكتابة الشعرية تحديداً حصانة
وامتياز لا يتوفران لغيرها ضدَّ احتمالات كهذه؟ ليس مقصوداً هنا الخوض في
مغامرة البحث عن أسرار الطاقة الكامنة وغير المستنفدة داخل اللغة على
امتداد شجرتها العائلية، ولا حتى بالكيفية التي نستطيع من خلالها الحكم على
استمرار تألق لغة دون سواها، والاستفهام حول أسباب انقراض العديد من
اللغات عبر العصور بينما لم تتكفل ذخيرتها الأدبية والشعرية بحمايتها من
آفة الانقراض على الرغم من كونها لغات تدوينية وليست شفوية. المقصود في جزء
كبير من هذه التساؤلات يتمحور حول القدرة على تطهير اللغة شفاهةً وتدويناً
من عوالق العصر وأدرانه، في حمَّى تسليعها وتحولها إلى مُعطى استهلاكي،
وما قد يتطلبه تحقيق ذلك من جهد ألسنيّ استثنائيّ، وتضحية من نوع خاص قد
تكون على حساب ثوابت ومتغيرات ليست الآن في الحسبان.
ضمن السياق ذاته،
لا يبدو الاقتراب من أيقونة اللغة بطريقة صدامية هيّناً، كما لا يمكن ضمان
نتائجه أو الوثوق بها جرياً على البديهيات. الكلام هنا على نظام يشبه
السحر، تطوّر منذ 1500 عام وأوشك على بلوغ حدود الكمال، بما لا يترك مجالاً
لكسر قواعده أو تجاهلها أو حتى العبث بجيناته الوراثية. كذلك، من المؤكد
أن الشعر الذي حافظ خلال قرون طويلة على قداسته اللغوية - لا الشكلية -
الصارمة لن ينقاد بسهولة إلى أي اختبار لا يأخذ في معادلته جملة من
الاعتبارات، أبرزها عامل مقاومة التغيير الذي يعتري عادة كل فعل جديد،
ويجذب نحوه عناصرَ ممانعة ذات أرضيات مشتركة ومتباينة، بحيث يحتكم الصراع
في نهاية المطاف إلى شريعة البقاء للأقوى. من تلك الاعتبارت كذلك، ضرورة
التسليم مسبقاً بأن الظرف الزمني لن يكون ضمانةً وحيدة لتوفير أجواء من
التأقلم والتبنّي للتجديدات الحاصلة والتي تتناوب على مقاطبتها قوى الجذب
والطرد، خصوصاً بعدما أسهمت سيرورة الحياة وإبدالاتها الجذرية المتراكمة في
تعميق الهوَّة بفداحةٍ بين الإنسان ولغته.
رغم ذلك، باستطاعتنا القول
إن الاجتهادات التي دارت رحاها سابقاً لم تكن إلى حدٍّ ما مهولةً لتتمكن من
كسر شوكة التقاليد اللغوية أو هدم موروثها، بالقدر الذي ساهمت نسبياً في
تكييفها ضمن مساحات محدودة لموائمة التحوّلات المعاصرة، فنحن لسنا بصدد
التعاطي مع لغة أولية أو لغة بكر في الطور الأول لتكوُّنها ولم تتعرَّض بعد
لغارات التغيير، الأمر الذي قد يبدو للبعض أشبه بمقامرة غير مدروسة أو
مغامرة مضمونة الخسائر. بيد أن حصر الكلام هنا في إطار القصيدة العربية
الحديثة وتحديداً قصيدة النثر، التي أولت اللغة اهتماماً خاصاً عبر
مواجهتها مباشرةً والدعوة الى الانعتاق من تقليديتها، سوف يكون أكثر ملائمة
وتحديداً عبر النظر إلى تلك القصيدة من زاوية كونها الأكثر اشتباكاً مع
اللغة، إن لم تكن بؤرة هذا الاشتباك، وذلك بالسعي نحو الاستفادة من أسرار
لغة إيقاعية وموسيقيةِ الصوت لخلق إيقاع جديد أو ربما موازٍ لتلك اللغة،
إيماناً بأن التأسيس لقصيدة مغايرة يحتِّم بالضرورة أن يقابله تأسيس كذلك
للغةٍ مغايرة.
إجمالاً، تحيل اللغة الشعرية في القصيدة القديمة على
المعنى دون مراوغة أو تعقيد، أما القصيدة الحديثة فهي بطبيعتها دلالية
وإيحائية وتأمُّلية، وهذا لا ينفي كون القديمة محمَّلة بجرعات من الإيحاء،
إنما بدرجة أقل. بيد أن اللغة في القصيدة الحديثة ذات منظومة جدلية تقف
فيها كمَّاً وكيفاً على طرفَي نقيض: الإخفاء أو الغموض والإظهار أو الوضوح،
إذ أن كل خفاء ومجهول تُسطِّره الحياة اليومية على امتداد العصور
المتلاحقة يتطلَّب بالضرورة تحقُّق لغة جديدة تتكفَّل باختراقه والالتحام
به، كما أن سلسلة التغيُّرات الذي تطرأ على العالم والمجتمع تستوجب لغة
متلازمة ومطَّردة لا تكف عن الاقتراح، وهذا بالنسبة إلى الشاعر العارف لا
يُقلل من شأن اللغة قدر ما يُعليه درجات، إذ يُلقي على كاهله تعهُّداً
إضافياً فوق استخدام اللغة السائدة في حقل الكتابة كما هي، يتمثَّل في مهمة
تطويعها بوعي تام وجهد فردي خالص لاستكشاف طاقتها الكامنة في اختصار ما
تضطلع به الحواس، سواء تعلَّق ذلك بالثورة على كيان ومسلَّمات اللغة من
داخلها لمصلحة المقولة الكامنة، أو حتى بنسف مركزية الوجود اللغوي من خلال
التقنين الكتابي والإفراط في زرع فواصل الصمت، والمراهنة على مفعولها
البصري لتفجير الإدهاشات.
الفضيلة العظمى لأي لغة حيَّةٍ أنها مجانية في
إطارها العام، لكنها ضمن حيّز شعري أضيق تغدو علامة مسجّلة بأسماء من
تفرَّدوا بكتاباتهم من خلالها. اللغة أيضاً قيدٌ وسجن كبير و«ليست بريئة
على الإطلاق» حسب تعبير بارت، لكن القصيدة الحديثة ومن ورائها الشعراء
الحقيقيون أسهموا جميعاً في خلق امتيازهم على مستوى خصوصية تلك اللغة، وبات
بالإمكان التعرُّف إلى صاحب القصيدة من لغتها، خصوصاً إذا تجسَّدت إبان
فترة ترسيخ الشاعر لمكانته الشعرية وصوته المتفرد، بما يؤكد العلاقة
التكاملية بين اللغة والنص، إنما دون إغفال حقيقة أن اللغة وحدها لا تصنع
المكوِّن الشعري في القصيدة.
في أكثر حالاتها طرافةً، لم تكن قصيدة
النثر بمنجاةٍ من التنافر - لا التصارع - مع اللغة رغم التماهي فيها،
خصوصاً لدى بعض الشعراء المستمسكين بعرى اللغة المقدّسة كما هي في وضعيتها
الكلاسيكية، بحيث يسهل تلمُّس ذلك التنافر الجوهري والصارخ داخل النص،
وانفصال بنية لغته عن تعيّن الزمن الحالي، مما يفقد ذلك النص ولغته
مصداقيتهما جرَّاء ذلك، ويطرح كلا منهما خارج راهنيته، مُسقِطاً عنهما أيَّ
أبعادٍ ومحمولات ميتافيزيقية. هذه اللغة المقدَّسة تُضخِّم وتُمجِّد نفسها
بنفسها، ثم لا تلبث أن تمكر بصاحبها حين تعود به وحيداً من حيث بدأ،
فالتسليم بأن موضوعات الحياة صالحة للاشتغال الشعري لا يعني بالضرورة
صلاحية ذلك وانسحابه بالمطلق على اللغة حين يتعلَّق الأمر بها.
لا مراء
أن في أغوار اللاوعي الإنساني خليطٌ مشوَّش من التداعيات والأحلام التي
تحتشد بصور معقدة ورموز مشوّشة ومشحونة بالتأويلات، ومن ثم لا يغدو منطقياً
تقبُّل فكرة أن اللغة فقط كفيلةٌ في مثل هذا الوضع بنقل وتوصيل - لا توصيف
- التوهُّجات الشعرية بكل أمانة وصدق وإنسانية. حينئذٍ، وللحيلولة دون
تحوُّل القصيدة الحديثة على وجه الخصوص إلى مجرّد هذر لغوي، تحتاج اللغة
إلى ما يشبه عملية الختان؛ لتحريرها من تقليديتها، وتخفيف صخبها البلاغي،
وكسر حدَّتها الخطابية لحساب التكثيف الشعري دون إخلال بأيّ من وظائفها
التوصيلية - التفاعلية أو الجمالية، والتخلص بالمحصلة من زوائد الكتابة
التي تَسبَّبَ في طفحها فائضُ الشهوة ليس إلا.