د. إبراهيم خليل
الراوي المُلتبس في رواية " فسوق" لعبده خال
07/08/2011
|
غلاف الرواية |
اللافت للانتباه في رواية " فسوق" لعبده خال تلك اللعبة المحكمة التي
أدارها على مستوى الراوي، فالاستهلال يوحي لنا بأن الراوي العليم هو الذي
يضطلع بدور السارد، ذاكرًا هروب(جليلة) من قبرها، سارداً الأقاويل التي
تؤكد السيرة غير الحسنة للفتاة.ولكنه، بُعيد فقرات محدوة جداً، يفاجئنا
بقوله على لسان الراوي: " استللت من ملف قضيتها أوراقها السرية " وهذه
العبارة لا تخلو، في الظاهر من غموض، ولكنه ينبئ عن أن هذا الراوي سيخلي
مكانه، ويتنحى جانباً، لصالح الراوي " المحقق" الذي سينجلي الغبار عنه في
الفصل الخامس، أي بعد 30 صفحة تماماً، عندما يقول " كلفت بهذه القضية، وكان
عليّ تلبية الأمر، كجندي يذهب إلى ساحة المعركة من غير سلاح" (1).
حتى هذا التصريح من المحقق تصريحٌ غير دقيق، فقد اتضح أن ذهابه لتلك
المعركة كان مدجَّجًا بالأسلحة، يقول " تناولت الملف، ومضيت إلى مكتبي أنقب
في أحشائه. "(2) فهو إذاً أمام ملف ضخم متخم بالكثير من الروايات التي
عليه أن يخضعها لما يسميه في موقع لاحق بالتمحيص. وتلك وظيفة قلّ أن ينهض
بها الراوي العليم، وإنما الذي يضطلع بها، غالبًا، هو الراوي المشارك، الذي
له دور عضوي في مسرح الحوادث، ولذا يطلق عليه، عادة ، وصف الراوي
المُمَسْرحdramatic narrator (3). فعلاوة على دوره في إعادة ترتيب الحوادث،
وفقاً للنسق الخطي، يجب عليه أيضًا أن يتحرّى الدقة فيما يرويه، فيستبعد
ما حقه الاستبعاد، ويبقي ما هو صحيحٌ فعلا. ولاسيما أن الحادثة التي انتظمت
فيها الحبكة حادثة تثير الكثير من اللّغَط، ويحيط بها غير قليلٍ من
الغموض، وعدم التصديق.
شيء آخر يلقي الضوءَ على وظيفة الراوي في الرواية، فهو عندما يكتب
تقريره، وهو على سرير الشفاء في المستشفى، بعد الكُسور، والرضوض، التي
أصابته في اللحظات الأخيرة، يكتشف أنه كتب ما يشبه الرواية " ثمة أعاصير
تعصفُ في مخيلتي، ورغبة ملحّة في تحويل هذا التقرير إلى شهادةٍ ألقي بها
لإحدى دور النشر، وليكنْ ما يكون. "(4)
نحن إذا أمام نوع من الرواية داخل الرواية.
فهذه الشهادة تنتظر النشر باعتبارها المادة الأساسية لرواية " فسوق "
التي يكتبها المحقق خالد، وليس الكاتب عبده خال. فالراوي- وفقاً لهذا- هو
أحد شخوص الرواية، ولكنه لا يكتفي بدور واحدٍ في الحكاية، وإنما يضطلع
بدوْرين اثنين، هما: سرْد الحوادث، ثم حلّ ما يسميه لغزًا(5) ، قاصدًا بذلك
اختفاء(جليلة) من قبرها الذي ظلّ مفتوحًا بعد ليلة واحدة من قتلها على يدي
شقيقها، الذي كان قد شحذ شفرته ليقتل بها زوجته الخائنة، فإذا به يقتل
أخته تحت شجرة السِّدْر الكبيرة، حين رآها مع الشاب(محمود) الذي كانت تعتزم
الزواج به في المحكمة الشرعية بكفالة العُمْدة.(6)
تلي هذه الإشارة، لموقع الراوي، حركة في اتجاه آخر، يتنحّى فيها السارد
الممحّص عن الأنظار، تاركاً لبعض الوسطاء(شهود) ليدلوا بما يعرفونه عن
الواقعة المُحَيّرة. أولا مُحسن الوهيب، والد الفتاة، الذي لا يتهم أحدًا
بتشجيع جليلة على الهروب. والمحقق السابق الذي دوَّن بعض الملاحظ على
الأوراق. بعض تلك الملاحظ ُتعَرّفُ بشخصية جليلة، وبعلاقتها بمحمود، وبعضها
يكتفي بالتنبيه على صعوبة القضية، وتضارب أقوال الشهود، وانتقال التكليف
بها إلى محقّقٍ ثان، مما زاد من عدَد الخطوط الحمر التي كتبتْ تحتَ
الأقوال، التي يبدو عليها التناقضُ، والنّقْص(7).
لكنّ خالدًا، وهو اللاعب الرئيسي في هذه الحكاية، في أثناء تصفُّحه
للملف، يتنحى جانبًا تاركاً لقرينه(العليم) معاودة السرد، الذي يحكي حكاية
اختفاء جليلة بعد الدفْن، ووقع المصيبة – إذا جاز التعبير- على الأهل، ولما
ينتهي العزاء، وإخفاق المحققين، والمعنيّين بالموضوع مباشرة، في الوصول
إلى طرف خيْط يقود لمعرفة الحقيقة. وفي نهاية الفصل الحادي عشر يتضحُ أنّ
الراوي العليم ملتبسٌ بالراوي المُمَسْرح، وإذا هو يقول: " اضطررت لنفي فتح
أي قبر ردًا على تساؤل العميد إبراهيم عامر". ثم: " بتّ على يقين من أنَّ
أحدًا ساعدها على الهرب، أزاح عنها غطاء القبر، وجلب لها الملابس. "(8)
وهكذا يواصل عبدُه خال لعبة الظهور والاختفاء، فبعد أن أعياه- أي
الراوي- النبش في الملف، اضطر للتخلص من " الفوقيّة " التي يتصفُ بها حيال
الآخرين. معنى ذلك أنه لا بُدّ من الإصغاء إلى صوْت العامة، الذي فيه جزءٌ
من الحقيقة(9). وهذا الإنصاتُ معناه أن نتوقع عددًا من الرواة، يتناوبون
على رواية أجزاءٍ من الحكاية. وعلى الراوي الممَحِّص أن يستخلص من هاتيك
الروايات ما يضعه على أول الطريق. والشيء الوحيد الذي يُستخلص من الروايات
هو أنّ محموداً ، الذي يتردد اسمه في الحيّ مثل ماضٍ ملوّث، لا بدَّ أن
تكون له يدٌ في موتها، أو هروبها من القبر. (10) ولهذا لا مفرَّ من
استحضاره، والتحقيق معه، وهذا ما جرى بالفعل: " ها هو يجلس أمامي مباشرة،
بوجهه العابس الذي يشبه وجوه من يُسكّونَ على قطع العملة القديمة" (11) غير
أن تلك المواجهة، بين الراوي ومحمود، لم تسفر عن شيء، إلا عن بعض
المعلومات التي لا تقدم ولا تؤخر في التحقيق، لأنّ محمودًا قالها ببساطة: "
الموتى لا يهربون. ومن يصدق ذلك لا بدّ أن الخرف قد أفقده القدْرة على
التفكير."(12)
ونظرا للإحباط الذي أصاب المحقق، اضطر لما كان يتجنبه أول الأمر، وهو
مداهمة منزل الوهيب، والد الفتاة، وتفتيش حجرة جليلة بدقة. ومع أنّ الطرق
تُسدُّ في وجهه، إلا أنه عثر على دليل يقود إلى شيء، وهنا تختلف رؤية
السارد الممحّص، العضوي، عن السارد العليم، فثمة قارورة عطر نفد محتواها،
وبقيت بلا غطاء، هل لاختفاء الغطاء علاقة بالأدلة التي سيكتشفها لاحقا بعد
أن يقوم بتفتيش المكان الذي يؤوي شفيقا ليعثر فيه على الغطاء، وليعود مرة
أخرى إلى منزل الوهيب، فيتحقق من أن الغطاء الذي عثر عليه في مأوى شفيق هو
غطاء تلك القارورة، كان قد أخذه شفيق معه في آخر مرة دخل فيها غرفة جليلة
قبل أن يطرده أبوها من البيت شر طرْدة؟
مرة أخرى، وقبل أن يلتقي الدليل بالدليل، يخرج الراوي الممسرح من
السياق، تاركًا للعليم أن يقدم لنا عددًا من الشخوص، وهم: محسن الوهيب،
والد جليلة، وأمها سلمى، وإخوتها الثلاثة: زهير، وخالد، وسامح، كلٌّ منهم
يروي الساردُ العليمُ جزءًا من سيرته، لكن الراوي المشارك لا يختفي تمامًا،
بل يحتل موقعًا في لعبة الأدوار هذه، فهو ينفرد بكل واحد منهم، محققاً
مستجوبًا، والشيء الوحيد الذي أفاده من ذلك كله أنّ الاحتمال الذي يتقبله
المنطق، هو: أنْ يكون أحدهم قد اختلس الجثة للاستفادة من أعضائها، ولا سيما
أن الاتجار بالأعضاء البشرية بات تجارة رابحة في هذا الزمن.(13)
وهذه الفكرة التي استخلصها المحقق تضع التحقيق على طريق جديدة تزيد
الأمر تعقيداً. وعلاوة على هذه الأجزاء من سير عائلة جليلة، ثمة محاضر ضبط،
وشهادة وفاة، كتبها طبيب شرعي، وتتبع مزدوج لأخبار محمود، المتهم الأول في
القضية، فقد اختفى، ولا يعلم أحد من ذويه أين هو، وإن كانت الشكوك تومئ
إلى أنه قد يكون في العراق.(14)
والملاحظ أنّ الراوي كلما توغل في التحقيق، واقترب من الهدف، توارى
السارد العليم، واختفى. وتحول الهدف من هدف ثانوي- وظيفة، إلى هدف شخصيّ.
فقد أصبح واحدًا من الأفراد المعنيّين باختفاء الفتاة المتوفاة، شأنه في
ذلك شأن الأب، والأخ، وأيّ واحدٍ من أبناء الحي. يريد أن يعرف سرَّ
اختفائها بأي ثمن. وهكذا لم يعد وجه جليلة يفارق مخيلته، لا في منام، ولا
في يقظة. مثل وجه زوجته الذي يشبه علبة مفتوحة تبحث عن غطاء كيْ لا تتعفّن،
في حين أن وجه جليلة يشبه علبة مختومة.(15) ولهذا شرع يحرك القضية في غير
اتجاه. بدأ بمراقبة المقبرة يساعدُه في ذلك(عطية) عريفٌ من الأمن. وانصبَّت
المراقبة على شفيق، الذي وجد في منزله غطاء قارورة العطر المذكورة.. "
ملامح زجاجة عطر جليلة تتراقصُ في مخيلتي.. "(16) يجتمع إلى ذلك دليل آخر:
سلك كهربائي تعثر به الراوي عندما عاد إلى غرفة جليلة، سلكٌ يمتد من الغرفة
إلى المقبرة. وتتكرر لعبة الظهور والاختفاء، لأنّ الراوي العليم هو الذي
يعيد سرد حكاية شفيق الذي كان اسمه(داود) قبل أن يغيّره عمُّه الذي ورّثه
حراسة المقبرة. غير أن الراوي العليم، لخفّة ظلّهِ، لا يديمُ حضورهُ، إذ
سرعان ما يتنحى جانبًا تاركاً لشفيق نفسه متابعة الحكاية" اسمي الحقيقي
داود.. سأروي لك لاحقا سبب تغييره..(17)
تتصل هذه الحكاية (المونولوج المباشر) بحكاية جليلة لأنّ (داود) لم يجدْ
من يستقبله في الحي كله إلا بيت العم محسن الوهيب. ثم تتوالى مقتطفات
قصيرة من حكاية الوله الذي أصابه، وجعله متيّمًا بحبّ الفتاة التي جاملته
من باب الإشفاق على معتوه لا يعرف ما يفعل أو يقول. تنفتح هذه السيرة عن
أسباب جديدة لتشديد المراقبة، والاقتراب من لحظة الحقيقة. فقد سمع (عطية)
والمحقق كلاهما شفيقاً هذا يتحدث إلى الفتاة قائلا " هل تأخرت عليك يا
حبيبتي؟(18) بذلك يقترب اللغز من الحلّ، وتدنو الأسرار العميقة من الكشف،
والذيوع. كان الفتى قد استخرج جثة جليلة من القبر، وأودعها جانبًا من حجرة
تأويه في المقبرة، في ثلاجة أحضرها لهذا الغرض، مستخدما سلكًا كهربائيًا هو
الذي تعثر به المحقق في غرفة جليلة. وبعد أن يُخيّم الظلام، ويغرق السكان
في نومهم العميق، يخرج الجثة من الثلاجة، ثم ينْضَحُها بالعطر، ويغازلها
كما لو أنها حيّة " انتظري كي أهيئ لك المكان. " و " جلبت لك فستاناً
رائعًا. أعرف أنّ الهندي الجشع بالغ في الثمن ". و" ما أجملك فيه! " حوارُه
مع الجثة غير جلّ التوقعات. فقد كان السارد يظن أن جليلة تظاهرت بالموت،
ثم خرجت من قبرها، وهي تقيم لديه، لكنّ المُراقبيْن صُعقا: " صرخ عطية :
الكلب.. يضاجعها وهي ميتة. "(19)
ويحاول الراوي الذي صعقته المفاجأة أنْ يلتمس المساعدة من العريف عطية،
لكنه اختفى فجأة.. فيما راح فضاء المشهد السردي يتسع لمتابعة (المونولوج
المباشر) لشفيق، راويًا ما يشبه الاعتراف عن ولهِهِ بالفتاة، التي طرده
والدها حين تقدم لها خاطبا، وتطيرت الأم من ذلك لاحقاً، وظنت أن تلك الخطبة
كانت فألا سيئا ووبالاً عليها، عجّل في موتها المفاجئ(20). وعندما اقتحم
السارد المشارك غرفة شفيق، بمسدسه، ارتجَّ الفتى، لكن المشهد يتسع ثانية،
وينفتح، على اعتراف شفيق، ليروي هذه المرة شطرًا من حكايته، وهي سيرة لا
تخلو من ضوء أراقه السارد شفيق على علاقته بالفتاة، يقول: " أول مرة
أحتويها بين ذراعيّ يوم الدفن " و" الآن هي لي أنا قبرُها وهي قبري.. " لكن
العريف عطية، الذي اختفى، كان قد أفسد المشهد، فسرعان ما هاجمت العامة
المقبرة، غرفة شفيق هي الهدف الذي انهالت عليه النعالُ، والأحذية،
والحجارة، ولم يسلم المحقق الذي تورط في الحكاية من بعض الرضوض، والكسور،
فلم يصحُ إلا ليجد نفسَه على السرير في المستشفى. وعلى مقربة منه كانت ثمة
باقات زهور ٍعليها بطاقاتٌ باردة تدعو له بالشفاء القريب.
ما الذي فعله عبْده خال بهذا الراوي؟
عليمًا كان في البدء، ثم عليمًا ملتبسًا بالمحقق، الذي كلف بالكشف عن لغز
الجريمة، الغريبة، التي تقع في مقبرة. فمحققاً متماهياً بدور الراوي
المشارك، الذي لا يكتفي بالسرد، ولكنه يتحول، شيئا فشيئاً، إلى أحد الشخوص،
ويتحول، بسبب ذلك، الكشفُ عن اللغز، إلى هاجس لا يفارقه، لا في يقظته، ولا
في منامه. ثم يتعرض لما يتعرض له الشخوص من وقائع، كما لو أنه أحد
المتورطين في الاعتداء على (جليلة) حيّة أو ميتة.. جرى اختطافها من لحْدها
الذي ظل مفتوحًا مثل جرح متقرّح يُفرزُ عفونة، وصديدًا، هو الفسوق بعينه.