عرض وتقييم: د. فاروق أوهان
كتاب الزنج رواية: لورانس هيل
29/10/2011
|
غلاف الرواية |
مقدمة
في سيرة شخصية لأميناتا، بطلة الرواية، ومسيرتها من الحرية إلى التحرر عبر
العبودية كحال، ومسيرتها لمسافات عبر القارات، ومسيرة حياتها من اليفاعة
حتى الشيخوخة كواقع؛؛؛ فإن رواية كتاب الزنج هي رواية سيرة بأكثر من معنى،
وتصور، لهذا فإن الوصف الذي يقدمه لورانس هيل كمؤلف في معاناة أميناتا
مشوق، في أكثر من أمر؛ فمن جهة يتدخل في أمور الحالة الاجتماعية للعبيد من
خلالها، وعبر معاناتها، ومن جهة ثانية يرينا المؤلف الحميمية النادرة، سواء
بعلاقتها بوالديها أو بزوجها، وبالتالي علاقتها بحملها الأول لجنينها
ممادو، والحمل الثاني لمولودتها مي، وحواراتها التي لا تنتهي مع الجنين،
تناغيه كأنه كائن بالغ يستجيب لمحاوراتها وعلى النحو نفسه نراها في حوارها
مع زوجها وحبيبها في غيابه، وحضوره، وبالتالي لم تنقطع محاوراتها مع
والدها، وأمها، وأهالي قريتها الذين غابوا عنها، ولا تدري إلى مصيرهما
شيء؛؛؛ وكذا الحال مع زملاء محنتها، ومن رعاها منهم، من أمثال جورجينا،
والقابلة اللتين ساعدتاها، ليس لكفاءتها في توليد الأطفال الذي مهرته من
أمها وهي طفلة، وإنما لكون هؤلاء يعطفون عليها كشابة صغيرة موهوبة، تتعرض
للابتزاز، والاستعباد؛؛؛ أما تحاور أميناتا مع أسيادها، ومغتصبيها، فنراه
مختلف، وعلى عدة أصعدة، من مستعبد، إلى سيد، إلى عسكري؛ فنخاس؛؛؛ ومن خلال
كل هذه المحاورات، وأثناء الغور في أحداث الرواية يوصلنا المؤلف لنهايات
مفتوحة دائماً، خاصة وإن الرواية تؤكد على خيبات الأمال ليس لأميناتا فحسب،
وإنما لقومها، ولكل من يرتهن لأسياد لا يعتبرونه غير رقم في قائمة؛؛؛
ولكثرة الأحداث، وتنوعها، وتفاصيلها العديدة، والقاسية التي قد تبعدنا عن
سياق عملية النقد العلمية، والموضوعية؛؛؛ لهذا كله فإنني في سياق أحداث
الرواية سوف أركز على المحطات الرئيسة في مسيرة أميناتا من قريتها بايو عبر
ثلاث قارات، وعودتها إلى لوطنها لترى إلى قريتها التي لم تجدها، ومن ثم
إقامتها النهائية في بريطانية.
سير الأحداث في الرواية:
عندما جلست أميناتا دياللو لتكتب سيرة حياتها في لندن البريطانية في نهايات
القرن السابع عشر ، كانت قد خلفت وراءها عالما مضطربا من الخبرة، وبحرا من
المعلومات عن أسواق العبيد، والنخاسة؛؛؛ فقد خُطفت أميناتا وهي طفلة من
قريتها مع كل سكانها، وأجبرت على السير مقيدة لأشهر وصولاً إلى البحر..؛؛؛
وهي تقول: ثمانية كانوا ممن خطفوا من بايو بينهم فومبا، وساروا في سياق
مسيرة العذاب، والشمس تصليهم مرة في ظهورهم، وعندما ما تغيب الشمس، تفك
السلاسل، ولكن القيود باقية، بينما يفك من كان مربوطاً بمقود من الرقبة
كنير الدواب،؛؛؛ ويضيف المؤلف على لسان أميناتا بوصف معاملة المخطوفين،
بالضرب، أو الشوي، والطبخ، وأكلهم؛؛؛ وتعود أميناتا بالقول: يمزقون
ملابسنا، فنلجأ لتغطيتها بأغطية الرأس، أما صنادلنا فمنها ما اهترأ، ومنها
ما ذاب، ومن جانب آخر فإن على كل منا أن يوصم بعلامة، ولكن بعد الوصول إلى
المعسكر الذي سنحط فيه؛؛؛ وتجوس بنا القافلة بأراضي، فنعبر أنهر، ونجري في
وديان، وهضاب، وأراضي قاحلة، وصحارى كلها تتركنا، ولا يبقى إلا السير،
السير، ثم السير بلا انقطاع مواصلاً،؛؛؛ رغم الموتى، والضحايا، والدبيب،
والحشرات التي لا تتقيها الأجساد لتعريها؛؛؛
وعند الساحل، وبعد ركوب الباخرة فإن الوصف هناك اتخذ كثير من التفصيلات،
ليس لأحوال المقيدين في مخازن السفينة، وهم مكدسون فوق بعض، وإنما للحالة
المعيشية والاجتماعية، وتوزع المسؤوليات من جهة، وتكرر الانتفاضات للتخلص
من الحراس، إنما أيضاً بنزع سلاح الحراس، أو بالمعارك غير المتكافئة، ويكون
الغالب هم الحرس، وتُرمى الضحايا في البحر، أسوة بالمحتضرين من المرضى؛؛؛
وفي مزيد من الوصف عن المعايشة اليومية على ظهر الباخرة، وكيف يستهان
بالبشر، وبخاصة المرضى، أما الموتى فمقبرتهم البحر، وأسنان القروش؛؛؛ أما
على صعيد الابتزاز الجنسي، فقد مورس بشكل فاضح، وبخاصة ما لاقته أميناتا من
اعتداءات، مرة من قبل مسؤول الحرس، ثم الاحتماء بالطبيب، ليس إلا للحصول
على قسط من الراحة على سرير للنوم، والحصول على لقمة أكل لسد الرمق، وشربة
ماء لكبح العطش؛؛؛ مقابل منح جسدها له؛؛؛
وبعد الاستقرار في أول جزيرة، وفيها مزرعة اللينديكو، وهو نبات النيل الخاص
لصبغ الأقمشة؛؛ فإن المؤلف يصف كيفية التعامل في مزرعة ساوث كارولينا، مع
العبيد الذي يعملون فيها، ومنها ابتزازهم، وتركهم يموتون لو مرضوا، وانتهاك
أعراض النساء، والفتيات، ومنها أميناتا التي كانت في الخامسة عشرة من
عمرها، فتحتضنها جورجيا المولدة لترعاها، ولتساعدها في توليد الأطفال،
بعدما عرفت أن أميناتا قد مهرت بفن توليد التي اكتسبتها من أمها كقابلة،
وقابليات أخرى حددت معالم شخصيتها، سواء التي ورثتها عن أبويها، أو
بمحاولاتها تطوير مهاراتها تلك.. إضافة إلى عملها في مزرعة نبات النيل،
اللنديكو، وتنظف المراحيض؛؛؛
وفي شريعة الغاب يغتصب إبلبي صاحب مزرعة إبلبي أميناتا، وهو غير آبه بها،
وبما يجرى لها من الآم، وتمر أيام، ولكي تطور نفسها، ترى أميناتا في شخص
ماستر حماية لها، الذي يقوم برعايتها، فتطمئن للعلاقة معه، فيعلمها كثير من
أمور الحياة، وبخاصة في مزرعة عبيد كهذه، ويمنحها الفرصة لقراءة الكتب
التي يحتفظ بها في غرفته؛؛؛ وهو كما يبدو مساعد لإبلبي عند غيابه عن
المزرعة، وله صلاحيات خاصة تؤهله لرعاية أميناتا.
أما جيريكو حبيب أميناتا الذي تعرفت عليه في القافلة، أثناء سوقهم من
قريتهم بايو، وحتى وصولهم مزرعة نبات النيل في ساوثكارولينا، فقد كان من
نصيبه أن يعمل في مزرعة لعبيد ثانية غير التي تعمل فيها أميناتا، فيجازف
جيريكو في القدوم في كل مرة إلى حيث حبيبته أميناتا التي تحمل منه؛ ورغم
المصاعب في عبور الحواجز، والتخفي عن أعين الحرس، فإنه في كل مرة يأتي
لأميناتا بنكبة حصلت له، وبخاصة فقدانه لأصابعه، وفي أثناء إحدى غيابات
إبلبي عن مزرعته، يتم عقد قران أميناتا على جيريكو، وبعودته تنتاب إبلبي
نوبة غضب لما يرى بروز بطن أميناتا فيريد أن يتعرف على الأب، ولكن هيهات أن
تبوح أميناتا باسم حبيبها ووالد جنينها، لأنها تعرف مسبقاً مصير العبد
الذي يجرؤ على الزواج من غير أذن سيده، ومباركته التي تذلهم، وتعرف أميناتا
أيضاً أنها لو أباحت باسم زوجها الحبيب فإن سيلاقي الموت المحقق وبطريقة
سادية، ولربما يعذب قبل موته؛؛؛ فتثور ثائرة إبلبي، لرفض أميناتا البوح
باسم والد جنينها، وتصر رغم العنف الذي تلاقيه من ضرب وتبريح؛؛؛ فينتزع
إبلبي عنها ملابسها ليحرقها أمام العبيد، ويحلق شعرها رأسها،،، في مشهد
ميلودرامي يصفه المؤلف بين سادية إبلبي، وردود أفعال العبيد المأخوذين على
أمرهم؛؛؛
وفي محاولة لمقايضات البيع والشراء بين تجار العبيد من جهة، وهؤلاء
المنتفعين من حولهم يحضر اثنان من السماسرة: لانيدو سوليمون، وشريكه الذي
يحاول شراءها، ولكن إبلبي يرفض صفقة البيع لعدم توافق السعر مع طموحاته؛؛؛
ولعدم تفريطه بماهرة فتاة بهذا العمر، ومن جانب آخر فإن سوليمون يقدر
عالياً قيمة أميناتا ومهاراتها رغم أنها حامل بجنين، ويبدو في النهاية أن
المقايضة قد نجحت مع إبلبي؛؛؛ ربما كان محورها التخلص من الطفل؛؛ لكلا
الطرفين، فمن جهة يتخلص إبلبي من الطفل ممادو ببيع أمه أميناتا بسعر مغر،
ويكون سوليمون نفسه قد قايض مسبقاُ على بيع الولد قبل استلام أميناتا لكي
لا يكون الطفل عالة عليه فتلته الأم برضيعها، وتترك مهارتها في فن توليد
النساء التي تدر ذهباً، علاوة على تميز أميناتا بتعلم اللغة بللهجة البيض،
أو "التوباب"؛؛؛ ، وليست بلهجة الزنوج العبيد، وسرعة تثقيف نفسها بقراءتها
الكتب، مما يؤهلها لتعليم العبيد المسموح لهم بالتعلم؛؛؛
إلى جارلستون حيث سيد جديد
بعد أن تضع أميناتا مولودها يأخذ إبلبي ابنها مماودو منها، فتتصور أنه أرسل
ابنها ِإلى مكان غير معلوم، لكن الشبكة المعلوماتية التي تتبع أخبار مجتمع
العبيد، وتقتفي الأخبار، تعطيها بريق أمل بأن ابنها لم يمت، وإنما أودع في
إحدى مجتمعات العبيد؛؛؛ وظل تصور أميناتا أن إبلبي هو المجرم الذي خطف
ابنها ؛؛؛ ولم تكن لتعلم أنه كان جزء من الصفقة التي بيعت بها إلى مالكها
سوليمون نفسه؛؛؛ وهكذا تفاجأ أميناتا في نهاية الفصل بأن سوليمون الذي
اشتراها؛؛؛ وحواها في بيته، وعلمها الكثير من فنون الأدب، وعاونته في
الكثير من أعماله، هو الذي باع ابنها؛؛؛ وتعلم أميناتا فيما بعد من زوجها
جيروكا بأن ابنهما قد مات في موجة وباء شمل العديد من العبيد؛؛؛ ورغم أنه
أمر محزن لها كأم، لكنه وكما يبدو قد أراحها من أحزان فقدان ولد، ستظل تبحث
عنه؛؛؛
في مدينة جارلستون، التي نقل سوليمون أميناتا إليها لتعيش في بيته مع
زوجته، بمستودع خلفي، كانت زوجة سوليمون تتعاطف مع أميناتا، فحاولت ارشادها
لقراءة العديد من الكتب، لكنها توفيت في موجة وفاة جماعية لمرض معدي، هي
والمربية جورجينا، وبقيت "أميناتا، وسيولمون" لوحدهما، هو في البيت
الرئيسي، وهي في البيت الخلفي، ولما كانت أميناتا لا تجيد الطعام، بينما
تبرع بتوليد الصغار، والكتابة فإنه لما سافر سليمون في مهمة لتصفية أمور
شركة لانديكو التي يتعامل معها كخبير، قد قام بجلب أخته لتسكن مؤقتاً في
غيابه، فعاملت أميناتا بسوء، ولما عاد وتركت أخته البيت رجعت الأمور ليس
لنفس المستوى، ولكن لحال من التوتر، وهنا قرر سوليمون الذهاب بأميناتا
لمدينة "جارلستون"، وهناك يستقران في فندق، فتتولد لدى أميناتا فكرة
الهروب، وهي ترى إلى زنوج بلا أسياد، ربما يستطيعون تهريبها للخلاص من
العبودية؛؛
بعد أن تتعرف أميناتا على سام فراونس صاحب الحانة التي يلتقي فيها الزنوج؛؛
ويتصادف أن يأخذ سوليمون أميناتا إلى أوبرا في كنيسة الثالوث الأقدس لسماع
كونسرت لباخ، فترى أميناتا في مدخل كنيسة إعلان طلب من يدرس الزنوج، فتضع
ببالها خطة لتهرب من سوليمون؛؛؛ وتقرر أن تستعين بسام لكي يعينها على
الهرب من سليمون؛؛؛ ويحصل ذلك فتسكن أميناتا ضاحية من كانفستاون بعد هربها
من عصمة سليمون؛؛؛ وفي يوم كانت في طريقها من جارلستون إلى الضاحية يلحق
بها أفراد من المردة، فيحاولون اغتصابها، فينقذها ملازم إنجليزي هو ماكلوم
ووتر، ويعرفها بنفسه لما يسمع لكنتها، ويطلب منها أن تساعد فتاته الزنجية
في الحمل بشهرها الثامن،؛؛
وفيما بعد تقوم مشكلة بين الإنجليز، والمردة "الربلس"، يرحل الإنجليز
ويتركوا الزنوج بلا معين، وحارس، ولما يعودون، بعد مضي وقت؛؛ يتناحر
الإنجليز مع عصابات المردة من جديد، وهم المدافعون عن أرضهم من المحتل، قد
يكونوا من أحفاد الغزاة الأوائل من الإسبان، أو البرتغال ويؤدي التناحر في
كانفاستاون: بين الإنجليز والمردة، لقرار تهجير الزنوج معهم لنوفوسكوشيا
الحرة ليصبحوا أحراراً على أن يلتزمون بفلاحة الأراضي؛؛؛ فيقوم الكولونيل
بيكر الذي تعرّف بأميناتا من خلال الجنرال ووتر، بطرح قضية الهجرة إلى
نوفوسكوتشيا، وعلى أميناتا ومن واجبها أن تقنع جماعتها من الزنوج للهجرة
القريبة؛؛؛ وعند التحضير لسفر، يأتي من يخبر أميناتا بأن شخصاً يسأل عنها،
وفي الظلام، وعلى ضوء الفلاش ترى جيروكا زوجها، وللتأكد تتحسس إصبعه
المقطوعة ولكنها تجد هناك إصبعان؛؛؛ وبعودة جيروكا الجديدة تحمل منه
أميناتا من جديد؛؛؛
وعود بلا شروط
وتعبأ عدة سفن من ميناء نيويورك إلى نوفوسكوشا، قاطعة الأطلنطي بأسبوعين،
ست بواخر ذهبت، يغيب على أثرها الكولونيل بيكر، والجنرال ووتر فجأة، ومن
غير إنذار، فتبقى أميناتا بلا عمل، ولا سند، فقط استملت رسالة تأييد تركت
لها، ولن يتح لها ولزوجها فرصة المغادرة قبل الخريف، في باخرة تحمل اسم
جوزيف، وتقول الوثيقة: وفي شهادة تؤرخ في إبريل 1783 تقول: إلى من يهمه
الأمر فإن حاملة الشهادة هذه هي أميناتا دوو، زنجية ماندغو قد عملت لمرات
في الخطوط الإنجليزية، وقد وقعت الشهادة بحضور اللورد دونمور، حاكم
فيرجينيا، وبهذا فإن الزنجية قد منحة الرخصة من سعادة غي كارلتون للسفر إلى
نوفاسكوشيا أو أي مكان تريد أو تعتقد أنه مناسب لها؛؛؛ موقعة: عن السير غي
الجنرال بيرغ؛؛؛
وتطلب أميناتا من الكولونيل أن يكون زوجها جيريكو، ممن يرحلوا إلى
نوفوسكوشا، ولكن لسوء الحظ، فإن أمراً ما يعيقها هي عن الالتحاق بالرحلة،
وتبدأ نفس المعاناة بالتكرار بين أميناتا وزوجها، ويبدو أنهما لن يلتقيا
إلا بالمراسلة،،، (** 312)؛؛؛ فإن إبلبي صاحب مزرعة العبيد في جزيرة سانت
هيلين لانتاج نبات صبغة النيل (**303-311)؛؛ قد أقام دعوة على أميناتا
باعتبارها عبدته، وأنها قد هربت منه، لهذا تستثنى أميناتا من ركوبها
الباخرة إلى نوفوسكوشا بمعية زوجها جيريكو، فتتأخر عنه بناء على استدعاء من
المحكمة، ولما تبيت الليل في الموقف، وتمثل أمام القاضي ترى إلى إبلبي
الذي قدم شكوى بدعوى تملكها، وإن وثقية سفرها باطلة لاعتباره ما يزال
مالكها، وقبل إصدار الحكم يتقدم سام فراوسن بطلب ليقدم الدليل على براءة
أميناتا، وكذب إبلبي، فيغيب ليعود بعد ساعتين بصحبة الدليل، وهو ليندو
سيولمون الذي يقرأ وثيقة البيع بينه وبين إبلبي ويكشف أيضاُ مساومة بيع
الطفل ممادو من خلال بيع أمه؛؛؛ ويقوم بالاعتراف بحرية أميناتا أمام
المحكمة هذه المرة؛؛؛ (** 302).
وبعد انتظار عدة أشهر تكون أميناتا قد ركبت على الباخرة المفترض أن تكون
وجهتها بريجتاون عام 1783، من نيوريورك، ولكن أميناتا تفاجأ بأن الوجهة هي
إلى شيلبرون؛؛؛ وتكون مع مئات من الزنوج، وستة ممن تأخروا مثلها، لكن الكل
أجمعوا على نيل الحرية. وفكرت أميناتا: لعل جيروكا زوجها قد علم وجهة
الباخرة جوزيف الجديدة، ولربما يكون باستقبالها هناك في الميناء لكن أي شيء
من هذا لم يحصل إذ أن معاناة جديدة ستحصل، وأناس جدد ستلتقيهم أميناتا في
دوامة جديدة من البحث عن الزوج، واللقمة، والعمل؛؛؛ فتلتقي أميناتا بأول
الناس في شليبرون وهو العم موسى "المقعد" وزوجته الإنجيلكانيين، فيمنحوها
مسكن في مأواهم الصغير المقسم بستار نصفه الخلفي لمنامهما، والثاني
لاستقبال المتعدبين ولمنام اميناتا، وتتعرف أيضاً على ثيو مكاردل الذي
يوظفها لديه في كتابة إعلانات متجره، ويعطيها ما يكفيها للأكل، ولكنها قامت
من جديد بتوليد الحوامل (**317-321)؛؛؛
في هذه الأثناء تلد ابنتها مي، وتتعلق عائلة وابترسبون بالطفلة، بناء على
علاقة الزوجين بأميناتا التي عملت لديهم لفترة، فصارا مع موسى مشاورها،
أصدقاء يعينونها، لهذا تكفلت عائلة "وايترسبون" بالطفلة مي طالما تكون
أميناتا في عملها بين برجتاون، وهالسبرغ، ولخطورة الطريق بين المكانيين،
وقتل الزنوج بلا مبرر، تلجأ أميناتا مع ابنتها إلى بيت معيليها، بابنتها مي
المريضة بالاسهال؛؛؛ وفي كل مرة فإن على أميناتا أن تجتاز الطريق ذهاباً،
وإياباُ لتضمن لها ولابنتها لقمة العيش، والكساء؛؛ ولكن الأمور تتعقد،
وتزداد الهجمات، والاعتداءات مما تضطر عائلة وايترسبون الهرب، ومعهم مي
ابنة أميناتا إلى بوسطن، كما قيل لأميناتا من قبل ثيو مكاردي، ولربما
اتجهوا إلى أماكن أخرى، ولفقدان أميناتا ابنتها بعد زوجها جيروكا، وابنها
ممادو لم يعد لديها أمل، ولا وازع للعمل، والأكل، ولولا تشجيع موسى،
وجانسون لفقدت الأمل في كل الأمور؛؛؛ وعللوا لها الأمر بكونه أقل خطورة من
الاستعباد، وأكثر اطمئنان على مستقبل الفتاة مي، فهي متعلقة بالسيدة
وايترسبون، ولم تنزعج عند رحيلها، ولم يكن هرب عائلة وايترسبون بمي خطفاً
بقدر ما كان خشية على ترك البنت بلا معيل، وقد تقتل كغيرها في موجة العداء
ضد الزنوج، ومنه الكثير الذين وجدوا قتلة، بطرق مختلفة؛؛؛ ولكن إحساس
الأمومة غريزة لا يمكن تجاوزها، ومع هذا فقد بدأت أميناتا تبحث من جديد عن
أمل في الحياة، والبقاء؛؛؛؛ وبعد أربع سنوات من فقدان البنت مي؛ بلغت
أميناتا سن الخامسة والأربعين، وظهر الشيب في رأسها، واحتاجت للقراءة أن
تلبس النظارات التي ساعد مكارديل الحصول عليها من إنجلترا؛؛؛
إلى العالم الحرّ
في ربيع 1790 حصل تجمع في كنيسة الآب موسى القاعدية فقد وصل وفد من أنابولس
الملكي برئاسة توماس بيتر للحديث؛؛؛ ليجمع الناس للرحيل إلى سيراليون، وفي
البلد الإفريقي الجديد سوف يمنح كل رجل 20 إيكر، وللزوجة عشرة ولكل ولد
خمسة إيكرات، وبالطبع فإن توماس بيتر قد اختار أميناتا لتكون مساعدته،
لكنها ورغم المساعدة رفضت فكرة الذهاب في البداية، لأن ابنتها وزوجها هنا
في كندا؛ وقد وعدها جون كلاركسون بأن يفتش عن الزوج جيريكو، فسافرت أميناتا
مع كلاركسون على هذا الأساس، لتجمع الزنوج في هاليفاكس؛؛؛ وهو أن يسجل كل
منه في كتاب الزنوج، وبعضهم ربما يحضون بالقبول في إنجلترا؛؛ وفي السفن
توفي عدد كثير في الطريق، بسبب الاسهال حتى كلارسون نفسه وصل لحدود الموت،
ولكنه تعافى؛؛؛
وعلى ظهر السفينة قام كلارسون بجلب خارطة، ليبين أين تقع سيراليون - جبل
الأسد؛؛ ويرى المبحرون الأرض الموعودة، على شكل ظهر أسد، أو جبل، وعند
الاقتراب يرون مجموعة سفن ترحب بهم، ولكنها تبدو لغير عسكر بريطانية؛؛؛
ويناقش بيتر كلاركسون مسألة انتقال الزنوج من كندا البيضاء، إلى أفريقيا،
إذ أن عليهم أن يخدموا البيض هناك أيضاً، ولما يستفسر الزنوج عن سبب ذلك،
يقول لهم كلاركسون بأن البيض سيحمونهم من لصوص العبيد، بقيادة الملك جيمي
الذي يأتي لاستقبالهم عند رسو السفن على ساحل سيراليون، ويبين الملك جيمي
لهم مكانته، وحجم مملتكته، وتعدادا الناس الذين يستعبدهم، ولا يخفي الملك
جيمي اعجابه بأميناتا فيطلب منها أن تكون ملكته، فتتستغرب من كلامه، وهي
التي تبدو الآن أم، وأنها متزوجة؛؛؛
وتبدأ مرحلة جديدة من المعاناة بمدينة فريتاون في سيراليون نفسها، ويبدو أن
الشركة المدعوة باسم سيراليون هي التي تزود المدينة بالغذاء، والمعدات
التي يطلبونها لبناء بيوتهم، بل كانوا يزودونهم بما لا ينفعهم، ويطلبون
أشياء فتصل إليهم أشياء غيرها؛؛؛ وعلى صعيد آخر فإن الزنوج الأحرار في
فريتاون سيراليون، ليسوا بآمان من عصابات تهريبهم، واستعبادهم من جديد،
لولا الحراسة القائمة من قبل الإنجليز، فلطالما يمر ركب بمحاذاة البلدة
يقاد فيها زنوج من قرى أفريقية للاستعباد، وتحت أبصار الإنجليز، ولصالح
الملك جيمي، ومن دون اعتراض؛؛؛؛
ويبقى في نية أميناتا هاجس أن تعود إلى قريتها بايو، وإلا لما هي في
أفريقية، قريبة بعيدة عن قريتها التي ولدت فيها، لهذا لم يكن يثني اصرارها
حتى التعامل مع تاجر العبيد أرمسترونغ؛؛ وهي تعرف أي وغد هو، فبعد أن تعرفت
على الضابط الإنجليزي عسكري النادم، فالكونبربغ الذي كان حارس لقوافل
العبيد، وقد بدأ ضميره يؤنبه؛؛؛ قام بأطلاع أميناتا على كتاب يقوم بتأليفه
عن تجربته في اصطياد العبيد، فتقوم أميناتا بمساعدته على انجاز الكتاب، وفي
تعاطف مع القضية، وبمباركة زوجته التي تتعاطف مع أميناتا، هذا الضابط
تشرخه شخصيتان، فهو ودود، ورسمي في حالات الصحو، ولما يسكر تنطلق
عدوانيته؛؛؛؛
وطن السراب
وقد جرت في مرات عديدة كثيرة بين أميناتا، وفالكونبريغ، حول أمور
الاستعباد، وخطورة مجازفتها في العودة إلى قريتها بايو؛؛؛ وفي موجة غضب
تطلب أميناتا منه الاستدارة لكي يتاح لها فرصة تعرية الجزء الهام من جسمها
الموسوم بحرفي "جي وأو" بالإنجليزية، وهي شعار شركة تصدير العبيد باسم
"غرانت أوزوالد" التي استعبدتها، ووسمتها بشعارها كأنها دابة، فيعرف
فالكونبريج الشركة، ومن يمتلكها؛؛؛ وبهذا يقتنع بأخذها في رحلة العودة، على
أن تتعامل مع تاجر العبيد أرمسترونغ، وحذرها من عدم الاطمئنان له، وأن
تكون على حيطة من أن يقوم أرمسترونغ، أو قائد القافلة، بإعادة بيعها من
جديد؛؛؛ ومع هذا تسافر أميناتا في الباخرة لوكريشيا؛ في رحلة العودة إلى
بايو؛؛؛؛ وهناك يسلمها أرمسترونغ لقائد قافلة يبدو في عينيه، وتصرفاته نهم
السمسرة، والنخاسة، وحب المال كيفما يأتي؛؛؛ وهنا يكون ثمن اصطحابه
لأميناتا بضع براميل من النبيذ؛؛؛ وتبدأ رحلة العودة إلى بايو قريتها التي
ولدت فيها، وهي قرية لم يكن يتجاوز تعداد سكانها عن عشرين عائلة، وتسير
أميناتا على الأقدام مع قائد القافلة ألأسان، أو ربما اسمه الحسن، وهو تاجر
عبيد أفريقي؛؛؛ تجتاز القافلة الوديان، والقفار، والأدغال، وبعد أكثر من
شهرين تسمعه يكلم معاونيه بأنه يسعى لبيع أميناتا نفسها، فتهرب ليلاً،
وتبقى في الفلاة حتى تلقى راعي يأخذها لقريته، فتحكي لأهل القرية روايتها
لشهر أوشهرين؛؛؛ ولأنها لم تصل إلى قريتها، لعدم معرفة من التقلتهم لا باسم
القرية، ولا بموقعها، ولخشيتها من وقوعها في الأسر بأيدي صيادي العبيد من
جديد؛؛؛ تبدل زيها، وتسعى من خلال مرشد إلى الساحل، وبعدها نراها في
إنجلترا.
بعد أن تصل لندن بريطانيا، وتقابل كلاركسون، وأخيه توماس، وهذا الأخير عضو
في جمعية "لا" للاستعباد تدور أمور كثيرة حتى تصل للقاء أعضاء البرلمان
البريطاني، وتعرض لهم، وعليهم قصتها، وتشير للوشم، فتتلقفها الصحف، وتأتيها
رسالة من الملك جورج الثالث المتزوج من أفريقية ليقابلها في البكنغهام
بلاس، ومن ورائها تصبح مشهورة، وتفاجأ بابنتها مي، وتعرف أنها تدّرس مثلها
في مدرسة لتعليم الزنوج، ومن ثم أضيف إليهم البيض، وتعتري أميناتا موجة
مرض، ولكنها تقاوم، مادامت مع ابنتها، ولها أمور كثيرة لسوف تنجزها، وهي
تحاضر على طلاب المدارس بأسلوب الرواية "دجليلي" كما فعلت مع مواطنيها في
سيراليون، يوم التجأت إليهم هاربة من الحسن تاجر العبيد، وتنتهي الرواية من
حيث بدأت بنهاية سطور مذكرات أميناتا.
مساقات الرواية كما ارتآها المؤلف:
يدور سياق الرواية بضمير الأنا المباشر، حيث تبدأ بعبارة: والآن أنا عجوز،
لندن 1802، في لندن اعتبرت حالة خاصة جعلوني أزور المدارس لأروي لهم حكايتي
عن الاستعباد، فسألتني إحدى الصغيرات، هل كنت أنا "مينادي" الشهيرة التي
كتبت عنها كافة الصحف؛؛ فقلت لها نعم، ولكن يمكن أن تدعوني أميناتا
دياللو؛؛؛؛ وتضيف البطلة: أنا أميناتا دياللو ابنة آماندو دياللو سيرا
كويبالي، ولدت في قرية "بايو" ثلاثة أقمار "أشهر" سيراً على الأقدام عن
ساحل غرين في غرب أفريقيا؛؛؛. وتضيف: أنا "بامانا"، و"فولا" وأنا كلاهما؛؛
أعتقد أنني ولدت عام 1745 تقريباً وأكتب هذا السجل؛؛ وفي وصفها لحياة في
القرية الوادعة في أفريقيا يقول المؤلف على لسانها: كانت يداي صغيرتان
جداً، وما تزال رائحة شاي النعناع تنتشر في الأجواء، أتذكرها في طفولتي،
وفي القرية متاجرون، منهم والدي الذي يتاجر بالمجوهرات، وفي أحد الأيام
استبدل والدي قلادة ذهبية بقوري شاي، وقال له التاجر بأن القوري قد قطع
الصحارى ليجلب لكل من يشرب منه الحظ.
ويعود بناء المؤلف لورانس هيل للماضي من خلال مستويات التذكر باسترجاعات
أميناتا لطفولتها، فتتذكر أمور كثيرة قبل أن تهجم عليهم عصابات مافيا خطف
الزنوج، وتكبيلهم في سلاسل، ليسيروا ألاف الأميال عبر الصحارى، تحت جلد
سياط الحراس؛؛؛ ولعل وصف البطلة أميناتا لأحوال القرية التي خطفت وأهلها
منها، ينقلنا إلى وضعها ضمن عائلتها، فكثير ما كانت تسأل والديها عن أمور
الدنيا التي وعت عليها، ومنها: أين تقع "كيمبوكتو" هل بعيدة، ويقول والدها:
إنه كان هناك، إنها تقع على نهر "جوليبا" العظيم، وقد رحل إليها والدها
ليصلي، ويتعلم، وليثقف نفسه، وتضيف أميناتا: نصف أهالي "بايو" من المسلمين
لكن أبي هو الوحيد الذي كانت لديه نسخة من القرآن الكريم، وهو الوحيد الذي
يقرأ ويكتب بالعربية. سألته: كم يستغرق عبور نهر جوليبا، هل هو مثل الجدول
القريب من بايو، قال: والدي إنه عشرة أضعاف المسافة لرجل يرمي حجر؛؛؛ ولكم
أن تتخيلوه من نهر...
وتعيد أميناتا وصف خصائل والدها فتقول: كان والدي من كبار القرية حجماً،
وكان يمكن أن يصارع أي واحد فيها، وأمي كذلك، وكنت أساعدها في توليد
الأطفال؛؛؛ وتضيف: عندما جلب والدي أمي إلى القرية كان قد صنع لها حلي من
أسلاك الذهب والفضة، ويذهب ليجلب البضائع من الأسواق، ويصلي في الجامع، كان
في بعض الأحيان يعود ليقرأ، وفي أحيان أخرى يقرأ الكتب، وقد اعترض أكثر من
مرة على رغبتي في تعلم القراءة والكتابة، لكنه لما رأى خطي للحروف، ورسمها
على رمل حوشنا بالعصا، لم يستغرب، ومن وقتها حتى الآن أحفظ كلمات مثل
"الله أكبر. أما عن أمها فتقول: كانت أمي تتكلم لغتها الأصلية "بامانانكان"
وتكلمني بها عندما نكون سوية؛؛؛ فقد كانت والدتي تمتهن القبالة، وفي كل
مرة توّلد ة طفل كانت تحصل على الهبات، مثل الصابون والزيت واللحوم، وقد
تأكل أمي مع العائلة قبل عودتها؛؛ وبدأت أمي تعلمني كيف يتغير جسد المرأة
عند مرحلة البلوغ. كما كان في قريتنا رجل قوي يدعى "فومبا" كنا نلاحقه،
لكنه لم يغضب منا؛؛؛ وتصف أميناتا كيف كان فومبا يشوي الدجاج، ويوزع لحمه
المشوي عليهم، كما تصف كيف تناولت فخذ الدجاج وسالت العصائر على ذقنها لما
لاكت العظم لتمتص النخاع؛؛؛ وتضيف: كانت زوجته فانتا تشجعه على ضرب الناس
فيرفض؛؛؛
ولعل المفاجأة التي حصلت لأميناتا، وللقراء في كيفية اكتشافها، لسطو لصوص
الاستعباد على القرية، فقد وصلتنا المعلومة كأنها من شخص آخر يطل من بعيد
على أحوال القرية، ولربما يكون هذا نوع من فنيات المؤلف لتسليط الضوء على
حادثة السطو على القرية من خارجها، ولكن من خلال شخص من أهلها، فقد تصادف
أن يكون هذا الراوي "هنا هو أميناتا" خارج الحدث لفترة، ولسوف يقع ضمنها
على حين غرة، فيما بعد بقليل؛؛ وهكذا نقرأ عبارات أميناتا وهي تصف المشهد
عن بعد بقولها: في الطريق المُقمر إلى القرية عندما كنت أذهب مع أمي لتوليد
النساء الحوامل، وفي آخر مرة ونحن نعود،؛؛؛ وعند اقتربنا من قريتنا
"دياللو" فوجئنا أنا وأمي بلصوص الاستعباد، ومافيا خاطفي البشر قد أغاروا
على قريتنا، وأخذوا أهالينا؛؛؛
وسرعان ما تقعا في الفخ هما أيضاً؛؛ وتكبلان، وتساقان مع أهالي القرية،
فترى الكثير من أهالي قريتها، ومنهم والدها، وفومبا فتقول: كان فومبا
قوياً، وهو أول من دافع عن القرية لكنهم طرحوه أرضاً، وبكيت عندما رأيت حال
فومبا وقد كبل، ثم كبلونا جميعاً، وسيرنا في أرتال من العبيد لا ندري إلى
أين:؛؛؛
ويصف المؤلف على لسان أميناتا حال العبيد بشكل دقيق "استقاه المؤلف من
مؤلفات عديدة بحثت في أمور سوق العبيد، وبعضها سير ذاتية؛؛؛ كما مدون في
مراجع الرواية ذاتها": وأنواع القيود فتقول: كنت اراقب أبي وأمي المكبلين
مع غيرهم وأنا في أثرهم، بعضهم من الأيدي والبعض الآخر من المشاكسين بنير
من الأعناق؛؛؛ وتصف حالها في كثيرمن الأحيان لتعبر عما يصيب المكبّل، وما
تكون نفسيته وقتها فتقول: قدماي في الأرض، صارتا كالخشب، أما معدتي فقد
أثقلت صدري بوجعها، ومن الصعب علي أن أتنفس؛؛؛ (**28) وتصف الرتل الطويل،
والقيود في الأيدي، والأرجل، والأعناق، ولكل حالة خصوصيتها، الرجال غير
النساء، والأطفال غير؛؛؛ بعضهم المشاكس، يقيد ليس بالأيدي والأرجل فقط،
وإنما بلجام العنق مثل لجام الحيوانات؛؛؛ بحيث لا يستطيع المقيد الاستدارة
إلا بكامل طوله، وجسده؛؛؛ أما عند الراحة من المشي والمبيت فهناك نوع من
الحرية، ولكنها مقيدة برقابة الحرس، وبخاصة للخطرين، وبعضهم ممن يصابون
بمرض، أو يستعصي عليهم السير، يتركون للوحوش؛؛؛ وكثير ما تمر القافلة على
مستنقعات، وأماكن آسنة، والجوس في محال لضحايا توفوا، أو قتلوا، وتعفنة
جثثهم؛؛؛
وقد حرص المؤلف أن يبين للقارئ أنه مهما كانت ظروف البشر المعيشية، وتحت أي
مستوى من العبودية، والأنظمة الاقتصادية، فإنه لا بد للجماعة الاجتماعية
أن تكون لها علاقات، ومستويات من الوعي الاجتماعي والفكري، ومتداولات حيوية
تستقر عليها الجماعة كأعراف، ونظم معيشة، وطرق تواصل، وأهمها هنا طريق
تواصل العبيد في مستعمرات متعددة، وكيفية تناقلهم أخبار بعض، بمرموزات،
وطرق لا يفهمها غيرهم، وهنا فإن شبكة مواصلات، ونقل الأخبار مجتمع العبيد.
ولا يكتفي المؤلف في متابعة أمور الاستعباد واستمراره حتى بعد عودة أميناتا
إلى أفريقيا، وفي مدينة فريتاون بسيراليون، فنجده يصف حالة ركب العبيد على
أطراف فريتاون: ولكنه يشير لاختلاف الأمر، لأن العسكر الإنجليز يعترضون
على ما يجري، فتقع معركة بيتر وحرس القافلة، يصفها لنا المؤلف، كأنما ليعيد
إلى أذهاننا مآسي الأطفال في القوافل، ومنها منظر الفتاة الصغيرة المكبلة،
وهي لا تعرف لغة غيرها، صراع بين الواقع واليقين، وبين الحقائق الدامغة؛؛؛
لعله نوع من أنواع إعادة التذكير بمجريات الرواية، وكأنه يقول؛؛؛ تذكروا
ولا تنسوا فالاستعباد قائم بمختلف أشكاله؛؛؛
تقييم عام:
إن أهم الاسترجاعات في الرواية، هو ما له علاقة بتذكر أميناتا الرحلة
المأساوية بين قريتها وأول محطة على البر في أمريكا، والسير في الصحراء، ثم
ركوب البحر في عنابر مكتضة بركاب من زنوج، وحرس، وتجار العبيد؛؛؛ وللخلاص
من العطش والجوع، والزحام، والمرض ترتضي أميناتا للنوم في غرفة الطبيب،
والسيد، فيغتصبها كل على طريقه لتبقى هي في أمان، بينما ترى إلى والديها
ومعاناتهما، ومن تعرفهم من أهالي قريتها، من بين الكثير من العبيد الأسرى
من قرى أفريقية أخرى؛؛؛
على أن هناك أمور أخرى تتعلق بعلاقة أميناتا بجيركو، كيف بدأت وإلى ما
تنتهي؛؛؛ فجيريكو كان شاب ملتحق بهؤلاء الجلاوزة للاصطياد العبيد، وجرهم في
أرتال إلى مصيرهم للاستعباد من خلال عقد جائر بالتأكيد، يلفه بحبال
استعباد من نوع آخر، أو من خلال عدم وعي، أو ربما للتخلص من الاستعباد، أو
أنه هو الآخر كان عبداً ارتضى أن يقوم بمهمة سوق الأسرى العبيد، ولكنه
وبتعلقه بأميناتا الصبية الجميلة، والصغيرة صار واعزوه أن يتحرر من قيود
جلد الأسرى كجلاد، وسائق رتل، وهو أحدهم، فيلاقي الأمرين خصوصاً بعد أن
يفترق عن أميناتا، كل في جزيرة، ومزرعة بعد وصولهم أمريكا، ويتزوجان في
السر بعد علم الأسياد، وبعلم شبكة العبيد، وأهلها؛؛؛ وما تزال الأوضاع
تفرقهما، حتى بعد الحمل، وولادة ممادو، وبيعه خارج نطاق أمه، وتفرقهما من
قبل إبلبي، ومع هذا فقد كان يعود لزوجته مرة بعد أشهر، ومرات بعد سنيين
إحداها ثلاث عشر سنة، حتى يشيخ كلاهما، وعندما يتصادف أن يعود جيريكو إلى
زوجته أميناتا تتفقده، ولا تتعرف عليه لا من خلال رائحته، ولا من قسماته،
وإنما من خلال الأصابع التي فقدها في حالات هروبه، أو محاولته النجاة من
الغرق، أو الالتحاق بباخرة؛؛ حاولوا رميه في الماء منها وقد تقطعت أيدي
أحدهم، بينما يتصادف أن عرفه بحار على متن السفينة كان هو قد أسدى له
عمل؛؛؛ فينقذه؛؛؛ هذا الترصد لسوء حظ أميناتا، وخيبات أملها ليس في تصديق
المستعبدين، والمحررين الوهميين، ودجلهم، وإنما في إبراز قضية غاية في
الإنسانية وهي تفريق زوجين، ومحبين طوال حياتهما، فيبقيان بعيدان عن بعض،
ولا يلتقيان إلا بالمصادفة؛؛؛ وكأنما يريد المؤلف أن يبين أن فقدان الزوج
والابن والبنت، ليس باقل من فقدان الوطن.
أمر آخر فهو: إن وعود المستعمرين الذي يدعون أنهم سيحرروا العبيد من
أسيادهم لم تكن إلا لتوظيف هذه العمليات لصالح أي طرف يمتلكهم، ولم يكن
قانون التحرير غير مشروط، فالرحيل إلى نوفوسكوشا كان مشروطاً بالعمل في
الحقول للتحرر، لكن تلك الحقول لم تكن لتغنيهم، ولا تكسيهم، أو تشبع
جوعهم؛؛؛ وعلى صعيد آخر فكلما انتهى واجب، ومهمة للبريطانيين، أهملوا
وعودهم، وتجردوا منها، بل وهربوا بغير علم من وظفوهم، ؛؛؛ ويبقى الحال لدى
القانون العام متعلق بوثائق الاستعباد، والتملك نافذة وربما فاعلة حتى ولو
حصل العبد على قرار حريته لو خدم سنة لدى الإنجليز، كما حصل قبل رحيل
أميناتا إلى نوفوسكوشا، أن إبلبي أحضر أمراً بتوقبف أميناتا قبل مغادرتها
ميناء نيويورك، كانت كلها مدعاة غدر وتزوير حتى حررها ليندو سيولمون، عن
طريق سام فرانسوس صاحب الحانة الزنجي؛؛؛
الخاتمة
ولنا أن نخمن فيما بعد لنقول: هل حقاً زال نظام الاستعباد بعد التطورات
الاجتماعية، والعلاقات الإنسانية عبر أكثر من ثلاثة قرون، هذا الخاطر طرحته
على بعض ممن قرأ الرواية فاستغربوا، بعد أن فكروا قليلاً بالسؤال، فقالوا
لي: وهل يعقل أن يكون هناك في هذا العصر من يكبل الناس، ويقودهم في أرتال
ليسوقهم للعمل في مزارعه أو يمتلكهم، فلم تعد القيود لغير المساجين،
والأكفال، والمقاود لغير الدواب؛؛؛ ولكنهم يصمتون فجأة، فيقول أحدهم: ماذا
تقصد بسؤالك؛؛؛ فأقول: أجل فإن فلكل عصر عبيده وأسياده، وللسيد والعبد
الجديد قيود من نوع آخر، حريرية، ألماسية، قيود من ورق هي عقود أمانات،
وعقود ارتهان، ورهائن، قيود مشروطة للعمل لدى السيد، لا تحتاج لقيود بأيديك
وأرجلكِ، فقيود الأعناق، وقيود النفوس، وقيود الأفكار هي سمات العصر،
البنوك، وأصحاب رؤوس الأموال يغرونك بالكلام المعسول، لما تستدين منهم،
وتقترض ما يقيك الجوع، والبرد، وسقف تسكنه، تظل تدفع فوائد القروض طوال
عمرك، وتبقى مدين لهم أنت وورثتك، أنت حر في بيتك، وفي غذائك، وملبسك، ولكن
عليك أن تعمل ساعات طويلة لكي توفر ذلك لأولادك؛؛؛
وفي الختام فإن رحلة التيه بين الهجرة القسرية من الوطن أفريقيا، عبر
أمريكا الشمالية، والعودة إليها، بكل احباطاتها، وصرف العمر يوماً بعد يوم
؛؛؛ والخيبات المتكررة في فقدان الوطن، والزوج، والأولاد، والعجز في تلبية
الآمال؛؛؛ لا تختلف عن رحيل الجياع في عالم الرسمال، الذي لا يسطو على
الأموال بلا شبع فحسب، وإنما على العقول التي يوظفها لمآربه، وتحت الكثير
من المسميات، والمظلات التي يبتكر لكل عصر مصطلحاته لها؛؛؛ جل اهتمامه
استغلال الفرد العادي، وجعله مرتهن له طوال عمره؛؛؛
إنها رحلة عذاب أميناتا الكبيرة مسافة، وعمراً وتاريخ سياسي، واقتصادي،
رحلة متعاكسة بين الماضي الحي في مخيلة البطلة، وبين الرحلة في الواقع،
والعودة بهاجس البحث عما تبقى، وعن تلك الذكريات التي لا تمحى من ذاكرة
طفلة، ومخيلتها، بين اصرار امرأة لا تمثل ذاتها، وإنما تمثل جيلها، وطبقتها
ليس من النساء حسب، وإنما أيضاً من كل فئات مجتمعها الزنجي من عبيد،
وأحرار، مقيدين بقوانين، ومعاهدات وقع عليها من لم يكن له حق، ولا
بالتخويل؛؛؛
ولعل المفارقة هي أن منطق المستعبدين هو هو لا يتغير قوله: لو لم يكن
الابيض قد امتلك العبد الزنجي، ولربما العبد الأبيض في هذه الأيام لكان
زنجي من المجتمع نفسه من المتسلطين على رقاب أبناء جلدته قد باع أقرانه؛؛؛
بهذا المنطق عبر المؤلف على لسان التاجر "أرمسترونغ" ليبادر أميناتا، وهي
ترى إلى العبيد في الساحة الخلفية على نفس حالتها التي كانت فيها، لا كساء،
عطش، وجوع، ومع كل هذا مكبلين، منطرحين على الأرض ككومة رمم، أسوأ من حال
الحيوان، بل إن الجلاد يعتني بالكلاب بشكل كلبي، لفقدان كل مشاعره
الإنسانية؛؛ فيعجب أرمسترونغ من حزن أميناتا، ولربما دهشتها من أن عملية
الاستعباد لا تتوقف عن تكرارها في كل مكان، وزمان فيشير بالقول: نحن ندفع
ثمن كل رأس نشتريه، ولا يهمنا ممن، إنها تجارة لأنني سوف أبيع الرأس مفتول
العضل بأحسن سعر يعوضني عن المريض، والذي مات، ويضيف بقوله: لم نكن لنصطاد
العبيد من غير مساعدة من هو منهم، ومتأمر عليهم، ولربما هو سيدهم، هذه
شريعة الاستعباد، ومهارة التجارة، على الرغم من التكاليف الباهضة في ترحيل
هؤلاء لمسافات، وقارات، واطعامهم، ومداواتهم،،، وفي النهاية عليهم أن
يدفعوا ثمن كل هذا في العمل، في مزرعة، أو منجم، أو سرير؛؛؛!!!!