ترجمة: حسين عجة
البحث عن جملة1/ بييار الفيري
01/10/2011
|
بييار الفيري |
1 -
يُصنع الأدب من جمل تعطي نفسها* هي مثلما هي عليه. فالحكاية تُظهرْ بوضوح
كيف أن الجمل، بقولها لشيء ما، إنما تقوم بعمله. كل جملة، هنا، لا ترتبط
أولاً إلاّ بإمكانياتها : ماض متفرد –تجربة، فكرة، لغة- لا يمكن إعادة
العثور عليه في مكان آخر. وهكذا، تمنح كل واحدة منهن نفسها بإعتبارها حركة
أو فعل : إستقبال ذلك الماضي ثانيةً عبر صنع الجمل. يُشكل الأدب إذاً نظرية
عن الجملة. لكنه لا يتطلب عموماً صياغة لها. ذلك لأن الأدب يُصيغ جمل
جديدة، لا تعمل إلا على ما تقوله هي ويتضمن ماضيها الخاص. حينئذ، يمتزج
إنتاج الجملة وماضيها في واقعة القول. تلك الحركة المتفردة هي بمثابة
تشيّيد (إقامة). فالجمل الأدبية ليست توصيفيةً، بل تشيّيديةً.
يأخذ فعل التشييد هذا شكل العودة إلى الوراء. بيد أن ذلك الرجوع لا يعني
التأسيس، فالأصل الذي تبلغه الجمل الأدبية لا يشكل أساساً. إذ يتم كشف
التأسيس إرتدادياً ضمن عميلة فحص. وإذا كان يؤسس، فذلك لأنه كان قائماً
بدءً، بمعزل عن الفحص وعن حركته الإرتدادية. فهو أولوية مطلقة، مادة منفصلة
للتأمل وحكم إستذكاري. (كانت الفلسفة من الأصل أساساً : "تشير على ما كان
موجوداً سلفاً"). فيما يبدع الأدب ماضي جمل. كذلك لا ينفصل الأصل عن العمل
الأدبي، الذي تعيد بنائه تلك الحركة الإستذكارية، وتشتغله. أنه إولاني
مقذوف، ليس مادة لتأمل أو لحكم، ولا موضوع لسؤال أو إجابة، ولكن للتشييّد.
(كان الأدب من البدء حكاية معاصرة دائماً : يؤكد على "المرة الأولى"). ففي
الأدب، يكون الإستذكار بحد ذاته فاعلاً، تشييدياً؛ أنه يبدع مادته بدفعها
نحو الماضي، ينتجها عبر قذفه لها إلى الوراء. لا يشكل الأصل، في الأدب،
شيئاً آخر غير حركة الإنشاء تلك، حركة الإبداع ذاتها، وعبر كل أشكاله.
ومادام الأمر يتعلق بحركة إرتدادية، لذا فأن الأشكال، من الأصل، ما هي إلا
أشكال للإرتداد.
يرمي الأدب بأصله أولاً عبر اللغة. إذ ليس ثمة ما هو أكثر منه قرباً من
اللغة الأم. فقربها هو مقاس لكل قرابة أخرى. لا يقذف الأدب عبر اللغة،
إذاً، أصل ما، من بين أصول ثانية. فهو حتى عندما يستق نبعه من هذه التجربة،
أو تلك الفكرة، يجعلنا نحس بقرب الأصل بفضل قرب اللغة. من المؤكد أن أشكال
الإستذكار تلك تتوزع على حركات متنوعة تماماً- حركات تقذف بتجارب أو أفكار
إلى الوراء، وتقول ما تقوم به. وبأن هذه الحركات تشكل المجموع المنفتح
للجمل الأدبية : غير أن جميع أشكال الإستذكار تلك تتمتع بشيء ما مشترك،
فتمة شكل أدنى لا يكف عن تكرار نفسه : شكل معاودة اللغة.
أن عودة المرء إلى لغته الأم تعني وفاؤه لها. وبالرغم من ذلك، مع تلك
العودة، لا تجد اللغة نفسها أكثر قرباً مما كانت عليه- كانت الأكثر قرباً.
ليس لأن الإقتراب يكشف هنا عن إستحالته، ولكن لأن الوفاء، إذا ما كان
المراد البقاء ضمن ذلك القرب المتفرد، قد لايطاق. إذ لا يمكن الأتيان بتلك
العودة، المعذبة، إلا بحركة اللغة التي تقذف بها نحو الماضي: عملية إخراج
لعودة غير منفصلة بأية مسافة. آنئذ، يكون الإستذكار فاعلاً حقاً- حركة تجعل
اللغة تتراجع. يبدء الأدب عندما يتم الإبتعاد عن الإلتصاق بلغة الأم، عن
محايثتها. لأن هذا الإنفصال يرتكز على عاطفة لاذاتية، تشكل مادتها خاصية
اللغة : الخاصية الغريبة للماضي الذي يمكنه لوحده الإحتفاظ بالإقرب. (فـ
"رقة اللغة"، إذا ما إبتعدت قليلاً عن نفسها، هي أيضاً وضوحها). فحينما
نفهم بأن النصوص تمنح نفسها أصلاً عبر اللغة، وتتعامل معها بإحترام، نشعر
بالماضي المحضِ. هنا يكمن الوفاء الوحيد الممكن، فحين يبعد المرء اللغة،
آنذاك يمكنه منحها صوتاً. (للتقاليد القديمة، في الأدب، آثراً معاكساً لما
نتوقعه). ذلك الصوت مصطلح أدبي، ولغة مفهومة بإعتبارها صدى. فإذا ما صنع
المرء جملاً ضمن هذه اللغة، يكون قد جعل اللغة تتراجع. وعندما يعمل جملاً
ضمن تلك اللغة والتي هي ليست لغة، بل نوع من العلاقة الإستذكارية باللغة،
يكون قد أبدع جملا.ً
يختزل الأدب أصوله إلى الأشكال الإستذكارية للتشييد. لكن هل يرد على "سؤال
الأصل"؟ إذا كانت الإجابات الجذرية منحرفة، فذلك لأن الأصل هو اللغة عموماً
: إقتراب لا يعادله شيء، بيد أنه شكل مقدس للإقتراب. حينئذ، يستنفذ السؤال
نفسه : يقوم الأدب بحل الأصل ضمن كل جملة متفردة يبدعها، يحل السؤال –
لكنه لا يجيب عليه – بفضل عملية الجملة. أسئلة الأصل أفخاخ).)
2 –
الجملة هي مادة الأدب. ليس هناك من شكل مشترك لكل الجمل، ومع ذلك يمكننا،
في كل جملة جديدة، التعرف على الجملة. ذلك لأن الجملة هي، أولاً، عملية كل
جملة جديدة، فلكي تخلق نفسها، كان لا بد لها من إجراء تلك العملية على
نفسها : فعل صياغة الجمل ذاته. فكل جملة كانت فد صُيرت جملة – مبتدعة، قبل
أن يجري إستخدامها – وتم تناولها ثانية. الجملة هي تلك اللحظة التي تتشكل
بها جملة جديدة، بشارة قدوم فرادتها. (بإعتبارها عملية، الجملة نفسها من
يقرر نوع العلاقات التي تتمتع بها ضمن قرينتها الإلسنية، البرغماتية،
والأدبية). ولأن الأدب يُبدع جملاً، لذا فمكانه ضمن الجملة. وبالرغم من
ذلك، ليس لهدذه الأخيرة من كيان عام؛ إذ يمكن الكلام عنها أكثر مما يقال عن
تكرار أو إستخدام جمل اللغة اليومية، لكن أقل مما يقال عن هذه الجملة
الجديدة أو تلك. إذا كان لا بد من الحديث عن الجملة المفهومة بهذا المعنى،
لكن ليس من أجل وصف شكلاً مشتركاً، بل لكي نكشف كيف نتكلم، من أجل صنع
الجمل.
كل جملة هي جملة موسيقية. ومع ذلك، تظل محاكاة الموسيقى الصوتية شيئاً
ثانوياً. (تظل التقفية لعبة فقيرة من فوق الظلال، إذا ما قورنت بالممكنات
الخاصة للموسيقى، الترخيم لعبة فقيرة من فوق الإجراس، الحركات لعبة فقيرة
من فوق الإرتفاعات، والعروض لعبة فقيرة من فوق الإيقاعات). الأشكال
الموسيقية الأشد وضوحاً ليست أكثرها أهميةً : فالموسيقى الصوتية للجملة لا
تفلت من تفاهة التجميل إلا بإصطحابها لموسيقاها الداخلية، عندما تضع نفسها
في خدمتها. تكمن هذه الأخيرة في إيقاع صامت جوهرياً. النحو بذاته هو ذلك
الإيقاع. نظام إيقاعي في الحقيقة، تراتبية تعاقبية. من الواضح أن البناء
النحوي للجملة إيقاعي- أنه يُقَطع بتدريجيته. لكن هناك أيضاً علاقة دقيقة
بين هذا الطرف وذاك أبعد من تحديد المكونات الرقمية للجملة، وبغض النظر عن
تركيبها القواعدي : صدى، ظل، تعارض، إستعارة، علاقة بين هذا الطرف وذاك،
يَتركُ غيابه فراغاً أو نشعر بذلك الغياب في مكان آخر، الخ... ومع ذلك،
تشكل علاقات المعنى هذه، غالباً بإستقلاليتها عن البناء، بنى إيقاعية –
تجعل خيط الجملة يهتز، محددةً بذلك سعة ذبذباته. نحوية هي، إذاً، قبل أن
تكون قواعدية بطبيعتها. (فما بين العلاقات "السمونتيكية" الثابتة التي
تدرسها المعجمية والعلاقات "السمونتيكية" المتغيرة التي تقوم البلاغة
والإسلوبية بدراستها، الجملة هي من يقرر الحد الفاصل). تُشييد الجملة
إيقاعاً خاصاً بها، بيد أنه لا يختزل في بنائه. نحو أكثر غنى من قواعده.
فكل ما هو توازن، سرعة، ترخيم ينتج عن النحو. إذا ما فُهم هكذا، سيكون
النحو أكثر من مجرد عمود فقري للجملة، أنه نظامها الحلقي : ما هو إيقاعي في
المعنى.
من أجل الإحساس بالإيقاع والتأثير عليه،لا بدّ من إحترام النحو. فالكلام
اليومي يسبح هو الآخر في العنصر النحوي، يدع إيقاعه يهزهزه؛ لهذا يكفيه
إعادة أخذ أشكال جمل متهرئة. بالمقابل، في الشعر، المُعاضلةِ هي العلامة
الصوتية على أزمة ضرورية في النحو للقيام بإبداع الجمل. (ينتج عن تراجع
اللغة "شعوراً موسيقياً"). لذا فالشعر هو المجال النقدي لإبداع الجمل :
البيت الشعري والعروض، الوحدة والإيقاع اللانحويان، تدخل النحو في أزمة.
لكن يمكن للشعر الإستغناء عن المصاحبة الصوتية، عن الموسيقى العمودية : ليس
ثمة ما هو جوهري بالنسبة له غير المُعاضلة. كذلك يمكن أن تكون الأزمة
النحوية التي تشكل المُعاضلة أكثر علامتها وضوحاً، قائمةً، لكن بصورة أكثر
تخفياً، في النثر أيضاً، أي بوضع أيقاع نحوي خالص. (في الشعر كما في النثر
شخير النحو هو ما يفضح الإكاديمية). ومن دون مزج الأنواع ولاخلطها مع
إستخدامتها العملية، يمكن للمرء تحديد الأدب بقلق النحو.
تطرح الجملة قوة عبر الإيقاع. ولا يعبأ الأدب لا بأصل ولا بطبيعة تلك
القوة. فالقوة لا تعنيه إلا بالقدر الذي تتوجه به نحو الوفرة. فهي لا تتولد
عن هذه الرغبة أو تلك، ولن تدع نفسها تتحدد "بمواضيع الرغبة"- حالة
للإثارة، أشياء أو كائنات يتم الحصول عليها. وهي لا نتتج عن المعنى، فهي لا
تريد أن تقول شيئاً أيضاً. فلكي يرغب المرء بقول شيء ما، عليه أولاً
الحصول على الجملة التي تتمفصل بفضلها تلك الرغبة، أو يجري عبرها تسمية ذلك
الشيء.(ليس هناك من رغبة في القول إلا بغتةً). القوة المتضمنة في صياغة
الجملة هي إندفاعة الفراطة.
تضع الجملة الإندفاعة في المشهد، عندما تُنضم إيقاعها. لكنها لا تمثلها،
ولا تحاكيها، لأنها غير قابلة للتمثيل. (يخفق التعبير دائماً). تُقيسها.
فإلاندفاعة بحدّ ذاتها مُفرَطةً، مُغاليةً. مغالتها تكمن في عدم تحديدها.
إندفاعة لا نهائية، إيجابية محضة، تقترب من الفراغ : فراغ رغبة في كلام لن
يشبعه شيء، كلام لا يستطيع قول شيئاً، لا يطاق. حينئذ، تسقط الإندفاعة
تلقائياً في القياس. القياس هو معاودة السقوط تلك؛ وليس إرغام خارجي، بل
الشكل المنطفي الذي تعرض فيه الإندفاعة نفسها بكل عرامتها، المقطع الوحيد
الذي بمقدوره نشر مفارقتها. لا يتعارض القياس، إذن، مع مغالاة الإندفاعة :
أنه قياس تلك الفراطة. (الرغبة بالإحتفاط بالمغالاة بإعتبارها لحظة مستقلة،
يعني الإنتقال مما غير مصاغ بعد إلى ما هو مفكك، أي الرطين). بهذا تبني كل
جملة تمفصلاً داخلياً للإندفاعة. وكل واحدة منهن تؤكدعليه بطريقتها
الخاصة، تفسره، توقفه، وتطلقه من جديد. تلد الجملة، عندما تكون الإندفاعة
وفراطتها، مغالاتها وهبوطها ثانية قد تحولت إلى نبض، حينما تكون هناك عدة
أيقاعية ترفع تلك الإيجابية. كل جملة هي وحدة قياسها الخاص، وذلك بتشييدها
له.
تتميز الجمل عن بعضها أولاً بعدتها الإيقاعية، أو بالقياس من جوانبه
المتنوعة. فحينما تتعثر إندفاعة المنطوق، تأخذ أولاً صورة ثنية، ومن ثم
تتسارع على شكل قوس. كل قوس يمنح صوتاً، قد يتناظر مع طبقة صوتية لأبداع
بلاغي.
في التهكم، تنعكس الإندفاعة، في القطع الناقص، تتوقف، في المفارقة تبتعد،
في التصحيح تعاود القبض على نفسها، وفي التنازل تنحني، الخ...أقواس كهذه لا
يمكن أن تقوم في مكان خارج الجملة، ولا تتشكل قبلها. ومع ذلك، فهي ليست
بعد أشكالاً للجملة. أنها أشكال تقذفها الجملة، وهي في طريقها للولادة
إستذكارياً، على إندفاعة النطق نفسها. لذا تفترض الجملة إبداعاً إستذكارياً
للقوس وللصوت معاً. أنها تفرض على الإندفاعة هذا القوس أو ذاك، وفي ذات
الوقت تقذفه نحو الماضي بإعتباره أصل الجملة. هكذا يأتي تفرد كل جملة ضمن
تشييد إستذكاري.
يتحكم تشييد كهذا بالجوانب الأخرى من القياس في الجملة أيضاً. ففي حركة
لاحقة تقوم هذه الأخيرة بحث إندفاعة المنطوق ضمن شكل نحوي ملموس. تُثَبتْ
الجملة إستذكارياً ينبوع المنطوق عبر أشكال المخاطبة : السرد على لسان
الشخص الأول أو حتى إستعراض الكتب اللاشخصي، المحاورة، الأسلوب الحر غير
المباشر، الخ...تُثَبتْ الجملة إستذكارياً غائية المنطوق بفضل أشكال
الفصاحة : حظ المُرسل، نداء ألإنفعال، لقبولهما، أو رفضهما، الإيحاء بحضور
الأشياء وتأثير الواقع، أو اللاواقع، الخ... في النهاية، تُثَبت الجملة
إستذكارياً المعنى الذي تتجشم عناء إنتاجه، عبر العلائق الإيقاعية التي
تقيمها مفردة بمفردة في قاموسها وعبر المجانسة الإيقاعية لكل العناصر
السابقة : قوس أو صوت، ينبوع منطوق قائم هنا أو هناك، نفعية مكشوفة (في
الإيقاع، وحدة الشكل والمضمون معطى ملموس : معنى الجملة هو التأثير العام
لإيقاعه). تشترك تلك العناصر كونها ما تفترضه الجمل وفي ذات الوقت ما ينتج
عنها؛ لهذا كان ينبغي عليها أن تكون نتاجاًً إستذكارياً. فالجملة تحصل على
جسمها، أو معناها، عبر علاقتها الإستذكارية بقوة غير محددة تبعث بها
الحركة.
تقذف الجملة بأصلها داخل إندفاعة المنطوق. تحضه إستذكارياً بقياس، وبهذا
تشييد عدة إيقاعية متفردة- شكلها النحوي الخاص. لكن ألاّ تمتلك كل جملة،
حتى قبل إكتسابها لشكلها، مؤلف سوف تستخدم كلامه؟ ففكرة الذات المُعبرة
وفكرة الرغبة المنفعلة بالأشياء وحتى فكرة وجود شيء يًقال ما هي إلاّ نتائج
ثانوية للجملة، لشتييدها الإستذكاري؛ فهي تتشكل فجأة. ذلك لأن وهم تلك
الذات، وهذه الرغبة وإشتهاء-القول التي تسبق الجملة ما هي سوى الصورة
المشوهةِ، التي يتم تأملها سلبياً بعد الإستذكار الأولي الفاعل. ما يبدو
وكأنه يحدد الجملة من الخارج يشكل جزءً منها. تشييد الجملة هو الجملة.
3 -
تضع الجملة الأشياء في إيقاع. أنها تجربة. فكل ما ندعوه "تجربة" يفترض
تعاقباً وتراتبية- أي إيقاع، نحو. فأن يقوم المرء بتجربة ويذهب بها إلى
شوطها النهائي، هو أن يقولها. توفر الجملة الشكل النحوي الذي تتحدد به
التجربة، وهي تقوم به بهذه الطريقة، إستذكارياً، فعند إنتاجها له تقذفه في
ماضي حاضراً دائماً. (التجربة أصل معاصر، شكل من أشكال الإستذكار). في
إبداعها لأيقاعاتها، تعثر الجملة بإعتبارها تجربة على الأشياء.
تبدء التجربة بظهور شيئاً وبالإستخدام الأول لمفردة. في الشكل الأبسط
للظهور، شيء يسقط. فقبل أن يستقر، يتموضع في تمثيل، ويمنح للإستخدام، يسقط
الشيء أمام النظر، تحت الحاسة؛ يجد له مآوى، يحط. "مرته الأولى" لم يكن
توقعها، معلقةً بصدفة اللقاء. فعرضية أو نعمة ظهوره لا تشير على أصل بعيد،
لامرئي. أنه بالأحرى علامة ما يقدم في مكانه الخاص خالياً عن أي أصل : من
شيء لم يصبح بعد مادة، معطى قبل أن يُقدم. في العلاقة الإبسط ما بين الكلمة
والشيء، الكلمة تسمي الشيء. قبل أن تربط بصورة، وتشد لنطاق التمثيل، تكتفي
الكلمة بالإحالة على الشيء، تشير على الشيء في محل تواجده الخاص به.
فالمرجع مكان ممسوك به بقوة أكبر من قوة التمثيل المرتبط بمادة مُمثلةً :
مجرد إلتصاق كلمة بشيء، من دون عنف التملك، بلا عرضيته. للمرجع مكانة، لا
يمكننا لا تقويتها، ولا تعريضه للخطر. (لا يحور الأدب لا المرجع ولا
الأشياء؛ يتخذ حيالها فعلاً.)
يتزواج الظهور والمرجع. حركتان تقيس كل منهما الأخرى وبهذا يشكلان خلية
إيقاعية : إيقاع شيء متجهاً نحو اللقاء، أيقاع كلمة تشير بإتجاه الشيء.
والأشكال الأبسط للتجربة تلك تدع الشيء سالماً، لأن الشيء نفسه، بالنسبة
لنا، ما هو إلاّ النبض القائم ما بين المرجع والظهور. (في نبضها الحميمي،
لا تقدم التجربة أية علامة على "عدم المطابقة" اللغة، ولا حتى عن
"مطابقتها". هناك نبض ببساطة لأن كل شيء له عدة إسماء ولكل كلمة، عدة
مراجع). لكن، عندما يسلم ذلك النبض البدائي إلى روتين الإدراك الحسي، يضيع
الشعور به. يقيم الحضور ضمن حاضر معين: يصبح الشيء مادة للتمثيل. المرجع
يُثقل بالبسيكولوجيا : تربط الكلمة بالصور.
الجملة وحدها من يستطيع الإحتفاظ بنض الشيء. إندفاعة النطق تسحب في قوسها
الكلمات ومرجعياتها؛ فالكلمات لم تعد تكتفي بالإحالة على الأشياء، بل أصبحت
كل واحدة منهن تنادي على الأخرى. حينئذ، تجد كل خلية إيقاعية أولية نفسها
مأخوذةً ضمن لعبة تعارضات، إستباقات، نداءات. بيد أن هذه العلاقات الداخلية
التي تصنع إيقاع الجملة لا تخلع الكلمة عن الشيء، ولا تمس المرجع. (الجمل
الأدبية هي ترسيمات على الخارطة المرجعية : لا تُحُورَ النقاط، لكنها تصطفي
من بينها تلك التي سترسم بها الخطوط الإيقاعية). ومع ذلك، يفرض هذا
الإيقاع النحوي على المرجع، الذي يجعله يتحرك، ضغطاً يجعل الأشياء تنهض
بخفةً، تقتلع برقة نفسها من محلها، محمولةً هي الأخرى بذلك الأيقاع.
فالحضور الهادىء الذي أستقرت به، مكان اليقين ذاك الذي سبب نسيان عرضية
ظهورها، هذا الحضور يُعلق وقتياً. يُنَشطُ النحو ثانية خلايا الإيقاع
البدائية تلك. والجملة تجعل المرجع يتألق : بهذا تخلق تموجاً في الأشياء.
(نقل الأشياء بواسطة اللغة ليس مجازاً). بيد أن إنعدام الثقل ذاك لا يدوم
أكثر من زمن الجملة. يَضْمنُ المرجع تعلق الكلمات بالأشيياء في أماكنها
الخاصة. لكن عندما يجري تحريكها برقة، تسقط هذه الأخيرة حيثما كانت، ويهيمن
ثانيةً هدوء الإقامة حيث يتعرف عليها الإدراك المألوف. كانت الجملة حظ
الأشياء بالقفز قليلاً.في الجملة، سقوط الأشياء مموسق ضمن جوقة. فبعدما
جعلت المرجع يَلْمَعُ، ورفعت الأشياء، تنتهي الجملة بتركها تستقر من جديد،
مانحةً نفسها كما في المرّة الأولى. كلما شدت الجملة على حبل المرجع- كلما
أبتعد إيقاعها عن أيقاع الإدراك المألوف، كلما ظهرت الأشياء ذاتها
بعرضيتها. يمكن للإدراك المألوف إعادة تناول حقوقه، فالدورة التي فرضها
كانت، للحظة، قد إنقطعت. تدل الجملة، حينئذ، على درب العودة إلى الأشياء
ذاتها- ليس عبر المحاكات، ولكن بطريقة التخلي. لذلك، فهي غير مطالبة حتى
بوصف التجربة : تنتجها. لأن إيقاع الجملة، بخلقه للتموج في الأشياء، يثبت
ضمن منطق زمنه شروط الظهور البسيط، ويترك له الكلمة الأخيرة، السقوط. (هناك
القليل من الوفاء بحيادية الملاحظة عما هو عليه بالفاصل الشعري). هكذا
تشير الجمل الأدبية، فيما وراء مناطق البلاغة، على المكان الوحيد الذي تسقط
فيه الأشياء. يعيد الأدب وضع الأشياء في حالتها؛ أنها تخض فيها مقياسها هي
بالذات.
تبدع الجملة تجربة. وتقذف داخل كل شيء خلية إيقاعية صغرى؛ تمسك على نبضها
بضمه لشكل إيقاعي ثابت حيث لا يكف الشيء عن السقوط ثانية، بعرضيته الحتمية.
الأمر يتعلّق بالتشييد. لكن إلاّ تستخدم الجمل في وصف الأشياء المعروفة،
التلميح بتجارب ماضوية؟ لذات السبب يجري الخلط، فجأة، ما بين المرجع
والمحاكاة، الأشياء والمواد المتطابقة مع نفسها، الجمل مع التوصيفات. فجأة،
كل شيء يتواصل في الواقع وكأن تجربة قائمة سلفاً تعبر عن نفسها، ضمن
الجملة. تفرض الجملة على التجربة كتجربة شكلاً؛ و، لنفس السبب، يبدو وكأن
الشكل قد فرض نفسه بدءً على الجملة التي تبتدعه. (النداء الذي يجعلنا
نتلمس في جملة تجربة مستحيلة قبلها هو مصدر العاطفة ذات الحساسية). لكن
التجربة لا تمرّ إلاّ عبر الجملة : الجملة هي من يفرض نفسه بإعتباره تجربة،
كونها الشكل الوحيد القادر على إحتضان ماضيه الخاص.
الفكرة جملة ممكنة. الجملة تستدين من النحو الإيقاع الذي يسحبها وإيقاع
المرجع الذي تسحب فيه هي الأشياء. بيد أن الفكرة تتمفصل أولاً بطريقة
نحوية؛ لذا فهي جزء مكون من الجملة إذا ما تم التعامل معها بإعتبارها
عملية، أي إدخال الإيقاع في اللغة. (لا علاقة للفكرة بالمعادل البسيكولوجي
لمفردة معزولة- فكرة أو تصور). لكن اللغة هي شيء أكبر من مجموع الجمل
المُصاغة، وتعثر الأفكار على مكانها الخاص بالدقة في تلك الزيادة. فالفكرة
ليست إمبراطورية داخل إمبراطورية اللغة، لكنها السبق الذي تأخذه اللغة على
نفسها : على اللغة الممكنة. (فهو مجرد وهم إسترجاعي، قفا نظري وسلبي
للإبداع، ذلك المعتقد الذي يُظهر الفكر بمثابة إمبراطورية إنطلاقاً منها
يكون السبق اللغوي وكأنه تأخر دائمي). فقبل أي حدس، كانت هذه الإمكانية
موضوعاً لقرار. الجملة الجديدة ممكنة وذلك بالقدر الذي يجري البحث عنها
فعلياً. التفكير يعني : البحث عن جملة.
*النص مترجم عن كتيب لـ"بييار الفيري" Pierre Alferi
والعنوان الاصلي للكتيب هو:
A la recherche d’une phrase
وهذا هو الجزء الاول من النص وننشر قريبا الجزء الثاني
حسين عجة
كاتب وروائي وشاعر عراقي يعيش في باريس
hussainagah_010744@yahoo.fr More Sharing Servicesشارك|
Share on facebookShare on emailShare on favoritesShare on printأضف تعليقك