مؤسسة المنتدى الثقافي العراقي
مرة سُئل ميشيل فوكو: ماذا ستكتب بعد
الانتهاء من شرح تاريخ الجنسانية؟ أجاب: سأهتم بذاتي! مع أن فوكو في
الحقيقة، لم يهمل ذاته يوماً، وكانت همه الأكبر.
لقد
بدأ فوكو مبكراً حفرياته العميقة في المعرفة الإنسانية. كتب "تاريخ
الجنون" و"مولد العيادة" و"الكلمات والأشياء" و"المراقبة والمعاقبة"، وفي
هذه الكتب كلها، حاول فوكو التوصل إلى اكتشاف الذات، وتحولاتها.
ناقش
فوكو حداثة التنوير، ووضع السؤال الكانطي في الواجهة: ما الأنوار؟ ليمارس
عملية حفر على الحفريات الموجودة أصلاً في قلب الإشكال الكانطي. أراد أن
يتعمق أكثر في الحفر، فربما يجد جزءاً من الحقيقة، ولكنه، في الواقع، وجد
نقطة انطلاق نحو ما يسميه موقف الحداثة.
وأثناء
قراءته لنص كانط "الأنوار"، يعترف: "يبدو لي أننا لم نعرف قبل اليوم
فيلسوفاً مثل كانط في نصِّه هذا، حيث ربط بإحكام معنى تأليفه بالمعرفة..
يبدو لي التفكير بالراهن، بوصفه اختلافاً في التاريخ وسبباً لمهمة فلسفية
خصوصية، بمثابة العامل الجديد في هذا النص". ومع تفاؤله بالكانطية وما
قدمته، إلا أنه يعلن: لا أعرف إذا كنّا سنصبح راشدين ذات يوم. أشياء عدّة
في تجربتنا تؤكِّد لنا أن حدث "الأنوار" التاريخي لم يجعل منّا راشدين،
وأننا لم نصبح كذلك بعد؟!
هل
الحداثة موقف أو مرحلة من التاريخ؟ في الرد على هذا السؤال يرى فوكو أننا
نتحدث عن الحداثة بوصفها سمة عهد، أو مجموعة من الصفات المميَّزة لعهد ما
ونثبتها على هذه الصورة في روزنامة تكون فيها مسبوقة بـ "ما قبل حداثة" شبه
ساذجة أو بدائية، ومتبوعة بـ"ما بعد حداثة" مريبة وملتبسة.. وأعرف أننا
نتساءل عندها إذا كانت الحداثة تشكِّل تتمة "الأنوار" أو تطورها، أو أنها
قطيعة أو انحراف بالنسبة إلى المبادئ الأساسية للقرن الثامن عشر.
أثّر
ميشيل فوكو تأثيراً كبيراً في فلسفة مع بعد الحداثة، واشتهر بتحليله
للتقديم التاريخي للانحرافات العقلية والإجرامية والجنسية. وهذا التحليل،
يوحي بمدى تأصل علاقات السلطة في التاريخ الذي أفرزته الحداثة. ولم يفترض
فوكو - سلفاً - وحدة خطاب معين، طالما أن هذا ربما يكون افتراضاً لدوام
الهدف. ويقول أوليفر ليمان: "فالذات ما بعد الحداثية - ومثالها فلسفة فوكو -
هي ممارسة واعية بضرورتها وافتراضاتها؛ ممارسة واعية بحدة نظامية، تدرك
كيف أن وجودها هو الذي يسلط الضوء على المعنى داخل التاريخ". إن التاريخ
عند فوكو، يكتب دائماً في ضوء الاهتمامات المعاصرة، وهو لذلك فعال ومؤثر،
بالمعنى الحرفي للمصطلح، من حيث أنه يحدث تغييراً في زمنه الخاص. ويقول
فوكو معرفاً التاريخ: "التاريخ له مهمة أكثر من أن يصير وصيفاً للفلسفة، أن
يتراجع عن الميلاد الضروري للحقيقة والقيم، ينبغي أن يصبح معرفة فارقة
للنشاطات والقصور، للسمو والانحطاط، السموم والترياق. فمهمة التاريخ هي أن
يصبح علماً شافياً".
حاول فوكو -
حسب علي حرب - تفكيك أنظمة المعارف لتوسيع نطاق العقل والفكر. وكان غرض
فوكو من وراء نقده للحقيقة تمديد حقل المعقولية. ويتابع حرب: "إن فوكو فتح
الفلسفة على مناطق كان يرذلها العقل الفلسفي من قبل، كالجنون والسجن.. وهو
إذ تناول العقل من خلال الاشتغال على هذه المؤسسات والممارسات والخطابات،
التي كانت خارجة عن نطاق التفكير من قبل، فقد أتاح لنا أن نفكر فيما كان
يستعصي على التفكير، وأن نعرف ما لم نكن نعرفه من أمر عقلنا. بذلك قدم فوكو
مفهوماً جديداً للعقل، أقل تعالياً ونسقية أو أقل منطقية ومعمارية، ولكنه
أكثر فاعلية وأقوى مفهومية". وبهذا يكون ميشيل فوكو - من خلال تنقيباته في
خرائط الخطاب وعتمة الممارسات - قد حاول رؤية ما لم يره أهل الحداثة، وأن
يفكر فيما استبعدوه من نطاق التفكير.
هناك
ثلاث منظومات للإبعاد تمس الخطاب: الممنوع، وقسمة الحمق، وإرادة الحقيقة.
وقد تحدث فوكو مطولاً في المنظومة الثالثة، لأنها تخترق السابقتين عليها،
في مقابل أنها تتدعم وتتجه إلى أن تصبح أكثر عمقاً وأقل قابلية للإحاطة.
ويقول فوكو: "هكذا لا تظهر أمام أعيننا سوى حقيقة واحدة، ستكون عبارة عن
ثورة وخصوبة وقوة عذبة وشمولية بصورة ملتوية. ونحن في المقابل نجهل إرادة
الحقيقة، كمجموعة آليات هائلة تستهدف القيام بعمليات الإبعاد كل أولئك
الذين حاولوا تطويق الحقيقة ووضعها موضع سؤال ضد الحقيقة.. كل هؤلاء من
نيتشه إلى أرتو إلى باتاي"