الفلسفيّ و الصّوفيّ في ديوان:" مقامات
الوله "
للشّاعر : عبد الله الطني
د مسلك ميمون
استهلال :
ديوان:"مقامات
الوله " للشّاعر عبد الله الطني
جاء،و كأنّه يعيد السؤال القديم ضمنياً ، الذي مفاده:ما علاقة الشعر
بالفلسفة؟ سؤال أثار جدلا منذ القديم . بل مازال إلى وقتنا في نطاق
الحداثة، و بخاصة،حين تنشر أعمال أدبية، شعرية و يكون أصحابها في
صلة بالفلسفة إما ثقافة و مثاقفة ، أو دراسة و تدريساً.كما هو الأمر مع
الأستاذ عبد الله الطني من خلال ديوانه :" مقامات الولـــه "
لقد جاء في تصدير ديوان : "معلقة باريس"1 ما
يزيد هذا توضيحاً ، إذْ قال الشاعر : ( استقبلتني
باريس بحمولتها المشرقة.التي كانت تسكنني منذ كنت طالباً، في مرحلة
التعليم الثانوي إلى اليوم
،مرورا بمحطات الطالب الجامعي ، و أستاذ التعليم الثانوي إلى اليوم
مروراً بمحطــــة الطالب الجامعي، و أستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي، ثم
بالجامعة ، و مفتش تربوي للمادة، و منسق جهوي لشؤون تدريسها
بجهة مكناس تفلالت ، و كان اسم باريس يحيل باستمرار إلى تاريخ حافل
بالإبداع الفلسفي المتميز بأسئلة الذات و المعرفة،و الوجود، و المجتمع،و
السياسة، و التاريخ العام و الخاص، و فلسفة الكينونة، و
الشخصانية ، و الاختلاف، من منتن، و ديكارت، إلى جاك دريدا، و جيل
دولوز، و بول ريكو ، و كريستيفا،مروراً بمونتسكيو، و ما ليرانش، و
دوركايم،و ألان و برغسون ، و ميرلو بوانتي، و سارتر،و مونيه....و
غيرهم من القامات و المواهب الفلسفية التي شغلتني و لا تزال .) 2
هي
فعلا شغلته، و ظهر أثرها دامغاً واضحاً في
كتابته الشّعرية 3 و مسألة بديهية أن يحدث هذا ..بل كان العجب و
التّساؤل إن لم يكن ذلك ..إلا أنّ ديوان "' مقامات الوله " خلخلة في الوعي و
الفكر ، و لا شك سيثير حفيظة الفاصلين بين الشعر و الفلسفة
،الذين قديماً قال بعضهم في شعر ابن سيناء :" إنّه فلسفة في ثياب
الشعر " . و قالوا عن شعر أبي العلاء المعري :" إنّه شعر في ثياب الفلسفة
"
كما أنّ الديوان سيدعم آراء المتحمسين لكلّ ما
هو فلسفي في الفن و الشّعر بخاصّة . و
بين الفريقين جدل كبير، ما دفع الفيلسوف المعاصر هانس غيورغ غادامر أن
يقول في كتابه تجلِّي
الجميل: "إنه ليبدو لي أمرًا لا جدال فيه أنّ اللّغة الشّعرية تتمتع
بصلة خاصة فريدة بالحقيقة."4 ويتساءل غادامير: "مَنْ ذا الذي يريد أن يفصل
بين الشعر والفلسفة؟" ويستطرد:5 "مع ذلك فإنّ هذا القرب
والبعد، هذا التّوتر الخصب بين الشّعر والفلسفة، من العسير أن ننظر
إليه على أنّه مشكلة خاصّة بتاريخنا القريب أو حديث العهد، لأنّه توتُّر
قد صاحَبَ دائمًا مسار الفكر الغربي. كما أنّ هناك
فلاسفة يعتبرون الشّعر أسبق في مقاربة الحقيقة من الفلسفة، ذلك أنّ "
ما يقوله ويعيشه الفلاسفة قد عاشه الشّعراء وعبَّروا عنه"، على حدّ تعبير
الفيلسوف
فرنان
ألكييه 6 الذي يقول أيضًا:" إنّ الشّعر،
في أعلى مستوياته، ليس بخَلق، ولكنّه اكتشاف ووحي، وعودة إلى حقائق
أساسية، وردٌّ واستبعاد لكلِّ المظاهر، لكي نعود إلى الوجود، وتهديم
للعالم المصنوع بعاداتنا ، طموحًا للكشف عن عالم أكثر صحّة،
بحيث يمكن الخوف من أن تصبح الفلسفة هي التي تَنسى مهمَّتَها، في الحين
الذي يظلّ فيه الشّعر وفيًّا لمهمَّته. "7
عموماً، رغم ذلكـ ، فهو جدل مشروع. لأنّه يشكّل
عملية إركيولوجية معرفية أي بحث في الدلالة و التّصور،و التّأثير و الوظيفة في مَنشطين هما أهمّ مَناشط الفكر : الفلسفة و الشّعر و ذلك من خلال ثنائيات: كاللّغة/ الفكر – الجمالي /
المنطقي – الخصوصي / الكوني – الخيالي / العقلي – العاطفي / الصّوري – الحسّي /
الوجودي – الصّورة ..
و لكن أن تجتمع أسئلة الفلسفة بعمقها
الموضوعاتي.. مضمّخة بمتعة الشّعر و بعده الأيقوني ... فذاك أقصى ما يراد إبداعياً ..
الديوان يضمّ ست قصائد مطولة، كلّ منها يتكون
من أجزاء و هم :
1 ــ من أناشيد آدم أو تاسوعة الوله .
2 ــ فصوص عذرية من ديوان حي ابن يقظان .
3 ــ مدارات بلورية .
4 ــ أبواب الروح .
5 ــ هلاميات مسافـر .
6 ــ مقامات الوله .
في
هذا البحث سأركز على ما أثارته القصائد من
ملامح أسلوبية، و أسئلة جوهرية ، و أشير أنّ ذلك جاء في صورتين: أشياء
ضمنية تختزنها لغة القصائد و لا تفصح عنها مباشرة . و أسئلة واضحة ،
تعلنها لغة القصائد صريحة . و لكن قبل
هذا يستحسن تحديد مصطلحات وظيفية جاءت في القصائد ، منها ما هو فلسفي ،
و منها ما هو صوفي .
فمن التراث الفلسفي القديم نجد أسطورة( الكهف )الأفلاطونية : الكهف و قد تكرّر في القصيدة الأولى ثماني
مرات و ذلك في التالي :
"هاكم سري: بين الرحلة و الكهف / أول من يكشف عن سر الكهف / كان الكهف ظلاماً/ و أنا في الكهف مسافر/
تسحبني رائحة الكهف / تضوع باب الكهف برائحة / فاشتعل الكهف صلاة / سيعود الأحفاد إلى كهفك يوماً "
و
أسطورة الكهف عند أفلاطون توضيح للعالم
المحسوس و عالم المثل" إنّ حياتنا في هذا العالم المحسوس ،هي حياة
السّجناء في الكهف، فنحن أثناءها مقيدون بجسمنا لا نستطيع أن ندرك إلا ما
هو محسوس. وبالرغم من أنّ هذا المحسوس لا
يمثل
إلا ظلال الحقيقة، فإنّنا مع ذلك نتعامل
معه على أنّه الحقيقة. هكذا فنحن لا نستطيع إدراك الحقيقة في هذا
العالم المحسوس بل يتعين بلوغها في العالم المعقول عن طريق التّحرر من قيود
الحواس والجسد، وهذا ما يفعله بالضّبط
الفيلسوف ."
كذلك
نجد من المصطلحات الفلسفية : ( الهيولي )
أو الهيولا كلمة يونانية تعنى الأصل أو المادة، وتسمى الهيولى :الجوهر
المادي. وفي فلسفة أرسطو فإن الشئ، بما له من هيولي وصورة. أطلق عليه أرسطو
كلمة الجوهر. ومن الجواهر المختلفة، تتكون الحقيقة. و
نجد هذا المصطلح في قول الشاعر : [ حيث كنا في البدء، متعانقين،/ بلا
شكل / و لا حلم / غير حلمٍ بالخروج / من هيولانا متولهين ] ص 118
و نكتفي بهذا و نشير لباقي المصطلحات
الفلسفية وفق مظانها في الديوان :(
التّكوثر 26/57 ) ، ( العدم ـ 35 ) ،( الذات 39/40/54) ، ( جوهر 49/56) ، ( العلة
59) ، ( جواك 64) ، ( الأنا 111/112 )
أمّا المصطلحات الصّوفية الواردة في الديوان و
التي حققت السّياق الصّوفي فهي : الوحدة ، و الكشف ، و المقامات ، السكر و الإشراق ، و الفيض 8
فبالنسبة ( للوحدة ) : وردت في أقوال الشاعر :
[ " الوحدة جوهرُ كلّ الأشياء " / كيف توحّدت في شرودكَ الجميل ؟] ص 32/33 و كذلك [ يا عاشق التوله / و أصل
البياض / انسكبْ للتّوحدِ ] و [ عانق زوبعة الجهات بصدري/ توحّدْ يا صنو القمر[ .. ] توحدْ ببؤرة الضّوء/
فالتّوحّد أصل الأشياء / و الواحدُ تاجُ الأسماء ] ص 52/54
أمّا مصطلح ( الكشف):فإنّ الصّوفية يعتمدونه
كمصدر وثيق للعلوم والمعارف،بل و تحقيق غاية عبادتهم . و نجده في الديوان في قول الشّاعر: [ استوقفني الفجر قليلاً / و طلوع الكشف رماني/ بضوء حيّرني ] و كذلك قوله [ فها قد برعم دخّان الكشف
طيوفاً ] ص 18/54
أمّا
مصطلح ( المقامات ) فنجده كعنوان للديوان
: ( مقامات الوله ) و هو نفس العنوان للقصيدة الأخيرة التي قسّمها إلى
: 1 ــ عتبة الوله ، و التي بدورها قسمها إلى خمس عتبات هي : (عتبة الصورة
، و الدخان، و الماء و الهباء ) 2 ــ و له
الوجود، 3 ـ وله السفر، 4 ــ و له الرجوع، 5 ــ وله الاحتمال، 6 ــ و له السديم ، 7 ــ و له
الشجر .
أمّا مصطلح ( السّكر ) فنجده في قول الشاعر : [
ها كم شطحاتٍ من سكري / هذا الكون نشيدٌ / و أنا أسكرني الشدو/ فغنيت كثيراً ] ص 11
أمّا ( الإشراق ) و يعود لمدرسة السّهروردي
فنجده في قول الشاعر : [ أكملْ طريقك نحو الشّروق / فذاك بحركَ في انتظارك ] و قوله في باب الشّروق [ و إذا أشرقتَ بقلبي / يا منبع الأضواء / و منتهاها [.. ] و إذا أشرقتَ يا وضّاءَ الجبين / بواحة
عينيّ الظامئتين / و كتبتَ بضوئك َآيات طريقي/ اعلم أنّي/ سأحيا عيدَ شروقك في صبحي ] ص
34/55/56
و
هناك مصطلح ( الفيض) و هو أيضاً من المصطلحات
الرائجة في مدرسة السّهروردي و يعني الظهور المستمر ، و نجده في قول
الشّاعر [ هاكم دوري :ناداني صوتٌ/ من حدس الفجر / يلمع ثم يفيض ] ثم [
فاضت أساميك يا ابن المخاض العسير ] ثم [ اسقني من لغة فاضت ]
ثم [ عندما فاض كأس الوجود ]
و نكتفي بهذا و نشير لباقي المصطلحات الصوفية
في أماكنها من الديوان : ( التّجلي 28/100/ 101
) ، ( الاتحاد52) ، ( البعث85) ، ( الوجد 38) ، ( السّديم 47/ 97
/103 / 113 / 118/119 )
، ( الشيخ " بمعنى شيخ الطريقة الصوفية " 54/70/72)
هكذا اجتمعت المقامات الصّوفية ببعض مصطلحاتها
، و المنطق الفلسفي بجملة من مصطلحاته لبناء قصائد الديوان . بغية تحقيق نسق شعري يتّسم برؤية إسلامية خاصّة، بتنا نفتقدها في الشّعر الحديث ،وسط صخب الحداثة الكاسحة ...
بعد هذا نعـــود إلى نسق البناء الشّعري في
الدّيوان :
1 ـ اللّغـة :
في
معظمها تجمع بين شاعرية البناء ، و سردية
الحكي . بمعنى تقاطع ما هو شعري ، و ما هو سردي ، في تركيب لغوي ،
يعمد إلى التّلميح ، إلى درجة الغموض ، الذي أحسبه نتيجة المصطلحات
الصّوفية و الفلسفية الموظفة في ثنايا المتن
الشّعري . و أبلغ مثال على مسحة السّرد نجده في نشيد العبور: ( هاكم
دوري: /ناداني صوت/ من حدس الفجر/ يلمع ثم يفيض/ بربك اقرأ / فكتاب الغيب
بصدع بالآيات / قلت له : قرأت قرأت قرأت / بلساني هذا/ كان
الكون كتاباً ، و كنت أنا / بوصلة الكون إلى المعنى / و بي يقرأ هذا
الكون كتابيه : تلاخيصَ الغابرِ من ماضيهْ ، و تباشير الآتي / تزفّ إليه / استوقفني
الفجرُ قليلا / و طلوع الفجر رماني / بضوءٍ حيّرني ، فقلت لهُ : أيُّ طريق
أسلكه يا مولاي؟ / همسَ الفجرُ بأذني: اتبعني / فتبعت الفجر أغني / و غنى
بي الكون نشيده / و لوّح بي
المقطع تلو المقطع / ركبت براق الوصل / و سافرت بفجري ..ص17/18/19
2 ـ الرّمــز :
لقد جاءت قصائد الديوان طافحة بالرّمز و إيحاءاته و تنوع مصادره :
فمن الرمز البابلي نجد (عشتار ) و ذاك في قوله
:[ مزامرُ عشتار الولهى ] ص11 و هي إلهة الجنس والحب، والجمال والحرب عند البابليين.
كما نجد من الأسطورة طائر( الفينيق
Phoenix) الذي هو في التراث الأوروبي (نقلاً عن الأساطير الإغريقية ) . و في الديوان جاء قول الشاعر : [ سأُرمَى
حَطباً / يتَقوزحُ دخانُ بَقاياي / و أبعثُ مثلَ طائرِ الفنيقِ/ يغشاني ولهٌ أخضر ] ص65
كما نجد من الأعلام (الخنساء) في قوله:[ فناحت
بي و بكتْ/ بعضُ دموع الخَنساء] ص 12 و
هي تماضر بنت عمرو بن الحرث بن الشريد السُلمية المعروفة بالخنساء كانت
شاعرة رثاء و كذلك نجد (
ربيعة العدوية ) وتكنى أم الخـير، عابدة ومتصوفة ، و مُؤسّسة أحد
مذاهب التّصوف الإسلامي، وهو مذهب العشق الإلهي. و نجدها في قوله:[ أنفحةً من عبير المواعيد/ أمْ كأس شعر/ من حرف ربيعة العدوية ] ص 88
و من الرمز الإسلامي نجد : ( البُراق ) في قوله
: [ ركبتُ براق الوصل ] ص19 و( الطوفان ) في قوله : [ تجرّد لبعض اللحظات / عن أدمكَ الغاثي / بالبحر و الطوفان
] ص53
و كذلك ( الطين ) إشارة إلى قوله تعالى ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ
مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ
مِنْ طِينٍ ) الإسراء 61 و في الديوان تكرّرت كلمة (الطين)
كرمز اثنى عشر مرة منها : [ فأنا منذُ دخولي جسد الإنسان/ و رائحة
الطين الأول تَهديني ] ص14 و كذلك : [ منذ دخولي أزمنة الطين / صرت أنا و
الطينُ العاشق شيئين / شيئا للفرح الآتي من ولهي/ و شيئاً
للحزن الأتي من عمايْ ] ص15
و فضلا عن هذا نجد:(سورة ياسين) ص53 و(سورة طه
) ص 64 و (آيات الكرسي) ص96 كما نجد التناص ( قدّ قميصي) ص58 و ( اللّوح الأعظم ) إشارة للوح المحفوظ ص 96
3 ــ التّـكــرار:
كعامل
فنّي يلعب دوراً هاماً في مَوسقة النّص . و يشكل و جَرْس الحروف، و
التقديم و التّأخير و التّضاد
.. هرمونية الموسيقى الدّاخلية . إلا أنّه في الديوان جاء التّكرار
علامة واضحة ،بل لافتة للانتباه : لنتأمل هذه المقاطع على سبيل المثال لا
الحصر :
[ انهمرت أمطار مفاتنها / زخات زخات ] ص9
[ قلت له : قرأت قرأت قرأت ] ص17
[ رحتُ أعاقرُ طيفي / ُنتفاً نتفاً ] ص22
[ و تعودُ على رحم المرآةِ / تلاخيصُ الأشياءِ/ فلا تحزن يا آدمُ / لا تحزن ] ص24
[ العراءُ حقيقتي/ العراءُ طريقتي/ العراءُ بدايتي/ و العراءُ نهايتي / و ليس بين
العراءِ و العراء / إلا سلاسلُ من كلّ الجهات ]
ص29
[ أرى الشاهدَ يلبسهُ المشهودُ / و أرى الموجدُ يلبسهُ الموجودُ / و أرى ما تراهُ
و ما لا تــراهُ ] ص 42
[ عانقني أكثر أكثر / يا جدعَ الفرع و فرعَ الغصن ] ص62
[ أكاد أراه بعين البياض/ و لهي بالضوء أكاد أراه [ ..] أكادُ أراه ، أكادُ أراه ]
ص98
[ وله/ وله/ وله / آه كم من ولهٍ / يشفع لي أن أتجلى ] ص 101
[ من فجٍ إلى فجٍّ [..] و من شراكٍ إلى شراك ] ص 106/ 107
4 ــ الجمل الإنشائية :
و بخاصّة الأمرية . و هي أيضاً من الأشياء اللافتة في الديوان فمثلا في " فص الإبحار " نجد الأفعال
الأمرية التالي و كلّها تتصدر الأسطر الشّعرية [ قمْ (
وقد تكررت ثلاث مرات ) انتفضْ ،أكملْ ، قاومْ ،
أبحرْ ، عانقْ ،أفقئْ ، عانق ، حلقْ ، أطلقْ ] ص 34/35/36/37
و في نص ( باب الاتحاد ) نجد التالي : [
واصلْ ، تعطرْ ، تجرّدْ ( مرتان )، سمّ ،اصعدْ ،اخرجْ ، اقرأْ ، ارمِ ، عانقْ ، توحّدْ ، (مرتان) ] ص52/53/54
و في نص ( باب الاخضرار) نجد التالي:[ عانقني
(مرتان) ، ضُمّه، التقطها ، اجمعْ ، اقرأْ (مرتان) ، لملمْ (مرتان) ، اعفني ،اسقني ،ارقص ، دعني ، تضوعْ ] ص 62/63 /64/65/66/67
5 ــ أسئلة التّصوف و الفلسفة في الدّيــوان :
إن قارئ الديوان ، و بخاصة من له بعض الإلمام
بالفلسفة الوجودية ، لسوف يقف وقفات متتالية متأملا متسائلا :
ــهل الكتابة الشعرية عند عبد الله الطُني
عملية إثارة و تجسيد للقلق الوجودي؟
ــ هل يتلبس عنده ، نبض الشعر الانفعالي نبض
الفلسفة العقلية ؟
كلّ
هذا يحقّق استفهاماً وجودياً عميقاً، يشعر
بالحركة الوجودية في صيرورتها نحو أهدافها ، الشاعر يرسم و يشكل
بأسئلته الغربة الوجودية ، التي يعاني منها الإنسان المعاصر، و بخاصّة من
معاناة ما بعد الحداثة و إنتاج نظرية هدم الواقع، وبزوغ الواقع
الجذري في مقابل الواقع النقدي كما يرى الفيلسوف الفرنسي جان بودريار. فالمأزق الوجودي معرفي أساساً، و السؤال الوجودي دال على المعنى، وأساس المعنى هو
العقل،
و كما هي العادة ، بداية السؤال فضول معرفي، و
بحث عن الحقيقة الغائبة ،و حيرة و دهشة .. سجلتُ بعض هذه الأسئلة ، التي جاءت في بعض نصوص الديوان ، تعكس الحيرة ..
فمن نص " نشيد العبور المضمّخ بعبق التّصوف ،
نقرأ: [ استوقفني الفجرُ قليلا /و طلوع الكشف رماني/ بضوء حيّرني / فقلت له : أي طريق أسلكه يا مولاي ؟ ]ص 18
و من نفس النص نقرأ : [ كان الحلمُ طويلا/ أطول
من عمري / فكيف لي أن أحياه ؟ و كان الأفق بعيداً ، أبعد من بصري / فكيف لي أن أراه؟ ! ص 20
و في نص " فص الدخول" [ أن تدخل عُجب المدائن
عارياً/ إلا من وله الحقيقة / فأي الحقائق تحملُ حلمك الآن /و تلف أذرعها / مثل هذا التجلي/ و هذا العراء ؟ !] ص28
و
في نص "وله الرجوع " مصادف هذا التساؤل : [
هل حقا / يا أناي الغريبْ /نسيتَ أصلَ الأصل / و شقشقة البداية / و
حنين المكان إليك ؟ و من أي معدن / تشكل نجمك يا أناي/ و من أي معجمٍ /
جاءت أساميك ؟ ] ص109
خلاصة
:أعتقد أن ديوان :" مقامات الوله " فتح
الباب من جديد أمام جدلية الشّعري و الفلسفي ..و إن كان الجدل الشّعري
الصّوفي خمد منذ زمن . و أصبح التلاؤم و التجانس سمة الوضع بينهما . إن
تهميش و إقصاء الخطاب الشّعري البلاغي من جمهورية أفلاطون لم
يدم إلى الأبد . لقد أعاد كلّ من شيلر ، و شلينغ ، و شليغل الاعتبار
إلى الشّعر و الشّعراء ، فظهر ما عُرف بالشعر المعقلن، أو عقلنة الشّعر ، و
اكتمل ذلك مع نتشه الذي عاد إلى الفترة ما قبل السقراطية
حيث كان التناغم قائماً بين الشّعر و الفلسفة، و الأمن و السّلام مستتب
بينهما. و دعّم آراء نتشه الفيلسوف هيدغر الذي ذهب إلى أنّ "الشَّاعر
ينطقُ بالمقدَّس الذي ينكشف للمُفكِّر وأنّ الشِّعر والفكر
يحيل كلٌ منهما إلى الآخر." إلا أنّ الفكرة لم ترق الفيلسوف الحداثي
العقلاني هابرماس، الذي رأى في ذلك تجنٍ على العقل الذي هو قوام الفلسفة ،
فعمل بدوره على طرد فلاسفة الشّعر من كلّ ما هو حداثي
معتبراً إياهم مناقضي العقل l’autre de la raison لكنّ ديريدا بيَّن أنّ المنطق لا يمكن أن يتحدّد بدون البلاغة ،وأنّ الفكر لا يمكن أن يدرك بدون الشّعر،
وأنّ العقل لا
يمكن
أن يفعل بدون نقيضه، فكلّ ثنائية من هذه
الثنائيات هي قدر الأخرى ومصيرها.9 و كأنّي بثنائية دريدا المنطقية،
هي التي أضاءت السّبيل للشاعر عبد الله الطني أن يغرق في الوله ، و يغرقنا
في أقيانوسه ، الذي زاوج فيه بين ما هو صوفي و
ما هو فلسفي في تناغمٍ شاعري .. و إن كان قد أثار الجدل من جديد ـ و
لو بصورة غير مباشرة ـ و لا غرو في ذلك .. فكذلك شأنُ الفلسفة و الفلاسفة،
عبر العصور