الإبحار إلى إيثاكا"... أوديسا مغربيّة
د. مزوار الإدريسي
"الإبحار إلى إيثاكا"... أوديسا مغربيّة
11/12/2011
|
غلاف الرواية |
يعود عمر والقاضي إلى طرق باب الرواية بعنوان جديد هو ”الإبحار إلى
إيثاكا“. إنها روايته الرابعة، وقد سبقتها ثلاثٌ هي: البرزخ 1996، والطائر
في العنق 1998، ورائحة الزمن الميِّت 2000.
مُهِرت ”الإبحار إلى
إيثاكا“ بتقديم لافت لعرَّاب السَّرد المغربيّ أحمد بوزفور، على الغلاف
الخلفي، جاء فيه:” إنَّ لكل واحد منا إيثاكاه. والحياة إبحار نحو هذه
الإيثاكا. ولا ندرك إلا في آخر الحياة أن إيثاكا وراءنا لا أمامنا. إيثاكا
ليست مرفأ نرسو عليه، بل هي الماء الأزرق الذي نبحر فيه.“
واعتبارا لتقصُّد الروائي ترك اسم البطل غفلا، فإني سأمنح
له اسم عوليس، ولصديقته-حبيبته التي تُركَ اسمها غفلا هي الأخرى اسم
بينيلوب، في استعادة صريحة للملحمة اليونانية الشهيرة، إذ في مجريات الرواية ما يُسوِّغ هذا الإسقاط.
يختط السرد في ”الإبحار إلى إيثاكا“ مسارات متمايزة ومتداخلة، في الوقت ذاته؛ إذ يتحوَّل من ضمير
الغائب إلى ضمير المخاطب فالمتكلم، كي يورط القارئ في أتون تجربة نضالية
يعيشها عوليس، وتتقاطع هي الأخرى مع تجربة غرامية راقية جدا مع الحبيبة
لمحامية المناضلة بينيلوب. هكذا يؤكَّد عوليس على” حقه أخذ نصيبه من الحياة. الحياة ليست نضالا خالصا فقط.“
تسكن
الروايةَ تجربةٌ يحكمها هاجس الولوج مجدَّدا إلى العالم، بعد أن عرفَ
عوليس مأساةَ إقصاءٍ من فضاءاته، نتيجةَ محنة اعتقال قاسيةٍ، كلَّفتهُ
سنواتٍ من حياته
في عزلة داخل السجن. العودة إلى العالم (الحياة السياسية والحب) هي عودة
شبيهة بعودة عوليس إلى جزيرته إيثاكا وإلى بينيلوب التي كانت في انتظاره،
وإلى مملكته. إنها عودةٌ يتعالى فيها عوليس عن الدخول في تصفية حساب مع
المرحلة التاريخية التي نالت منه غير قليل. لكنه لا يتردَّد بعد خمس سنواتٍ من الصمت أو الانسحاب من الحياة
السياسية، - ربما ”حفاظا على ماء الوجه أمام جماعة المهرولين الذين
تنكَّروا لكل شيء، وأعلنوا توبتهم. أما الرفاق الذين انصرفوا إلى التجارة
أوالفلاحة فقد فعلوا ذلك ليحافظوا على سمعتهم. لهم أعذارهم. هو لم يفعل لا
هذا ولا ذاك، إنه انسحاب مؤقت.“ - في أنْ يَصْدُرَ عن رغبةٍ أكيدة في
المساهمة في تغيير الواقع، فهو ”الآن يعتقد أن الزمان منفتح على كل الاحتمالات، بما فيه إمكانية التغيير“ . لقد كانت له من التجربة
مع حقائق العالم، بنجاحاتها وإخفاقاتها، ما يؤهله للخوض في مشاريع لبناء
عالم جديد، تُتفادى فيه أخطاء الماضي التي ارتكبها كل من النظام والمناضلون والمواطنون على السواء.
إذن، يعود عوليس الذي” ناضل من أجل الآخرين من البسطاء، وعمل من أجلهم“
، بعد تجربة صمت وتأمل، بأمل جارف في مواصلة العمل على تغيير الواقع، لكن
عبر تغيير الاستراتيجية، هذه المرّة، لأنه يَعلم ” أنه ليس بإمكانه وقف هذا
الانحدار. إنه جارف وتزداد قسوته“ ، لذلك يسعى إلى مواجهة فظاظته عبر
اقتراح ”سيناريو“ على رفاقه في درب النضال، لأنه ”الآن يعتقد أن الزمان منفتح على كل الاحتمالات، بما فيه إمكانية التغيير“ .
”السيناريو“ أسلوب سلمي جديد لمواجهة الانحدار، إنه ليس استسلاما، ولا انهزاما، ولا مناورة،
وإنما مقاومة وتحدّ، ولو أنَّ ”بعض الرفاق يقرون علانية بغلبة المخزن. لم
يعد
لهم ما يفعلونه. كم هو صادم رفع الراية البيضاء. أراح زمن الحلم؟“ ، وهو
قبل كل شيء كتابة عن الناس ومن أجلهم، فيه رفض لموقع المتفرج الذي اتخذه
كثيرون، وتعبير عن رأي، أي أنه فعل.
تمثل الكتابة صيغة عملية
”للعودة“، فبواسطتها سيفلح في” أن يُعلن عن رأيه[ ] لم يحبّذ كلمة العودة،
لأنه لم يكن منفيا. كان داخل ما يروج في المجتمع. إنه لم ينسحب نهائيا.“
الكتابةُ إقرارٌ بقدرة المعرفة على تزويد الناس بحقائق تعنيهم، وهي شهادةٌ
تاريخية، وأسلوب للحوار الرصين، حيث تحضر الأسئلة والأجوبة والاقتراحات،
وفق استراتيجية تتبنى أن ”كل شيء يجب أن يكون واضحا. لا مجال للتستر. تلك
مرحلة انتهت. لماذا لا يبدأ في الكتابة؟. بدأ!“ لأن” الرواية كلها
ليست إلا استجوابا طويلا“ ، فقد كان المدخل إلى تفعيل ”السيناريو“ هو أن
”أبحث عن الرفاق وأتصل بهم، أستعيد علاقتي بهم. السيناريو جعلني صاحب كتاب
يبحث عن أنصاره وأتباعه!“
هكذا شرع عوليس يتحرَّك متَّصلا برفاق الأمس، عبر مدن مغربية عديدة،
مسجِّلا ملاحظاته عن الناس والأمكنة، وعن التشوُّه الذي طال المعالم
والعوالم بفعل الانتهازية والإهمال وسوء التدبير وفقر الخيال، مما يُدني
هذه
الرواية من أدب الرحلة، بل إنها رواية رحلة رُفقةَ الحُبِّ الذي يكنه
لبينيلوب، الحاضرةِ دوما بطيْفِها الفاتن، وبفكرها وموقفها. بينيلوب التي
يستمد من استحضارها القوة والإصرار على مواصلة الحياة والعمل. والرواية
رحلةٌ أيضا صُحبةَ مرضٍ مفترض، تمَّ تشخيصه من قبل
الطبيب، لكن عوليس أبى الرضوخ له. لقد تمَّ التشخيص ذاك في اللحظة التي
كان عوليس فيها قد تهيَّأ للترويج ”للسيناريو“، فقد قال له الطبيب” خاتما
كلامه بحسرة: لا أستطيع فعل شيء. أما هو فقد قرر فعل شيء بعد هذه السنوات
الخمس.“
تتضافر في هذه الرواية-الرحلة،
اللغةُ المباشِرة الدَّقيقة والدينامية والصياغة الإيحائية التي ترافق
تأملاتِ عوليس وآراءه، في غير ما مرة، مُلامسةً الوضع السياسي، والفني،
والأدبي، والاجتماعي، إلخ... الشيءُ الذي يضعها في صلب التجربة
الفنية-الفكرية التي لا تعزل نفسَها عن تاريخها، والتي ترى الإبداع الأدبيّ
”حاملا لرسالة فكرية، غالبا ما يُنْقلُ مضمونها الفلسفيّ إلى مستوى
التواصل الإيديولوجي.“
”الإبحار
إلى إيثاكا“ رواية منخرطة بجرأة عالية في لحظتها التاريخية، نجحت بفنية
رصينة في التعبير عن زمانها، والقبضِ على كثير من معيشه، إذ” ليس ثمة في
الظاهر ما هو أكثر وضوحا وواقعية وقابلية للمس من اللحظة الحاضرة، ومع ذلك
فإنها تفلت منَّا كلِّيَّة“ ، وقلَّةٌ هم الذين يفلحون في رسم معالمها،
منهم عمر والقاضي دون ريب. وهي رواية لا
تقف عند حدِّ الشهادة على واقعها، بل هي تتويج درامي متفائل لصراع تعيشه
ذات البطل الواقعيَّةُ بسيناريوها والحالمةُ بتغيير يتجاوز اليأس،
والأمراضَ الاجتماعية، والموتَ، وغيرَها من المثبطات.
إنها انتصارٌ للحلم، إذ يَخْلُص عوليس- بعد أن انتصر ”السيناريو“ الذي
روَّج له- إلى أنه كان” كَمَن يحلم داخل رَحِم أمه. أصحيح كنتُ أحلم داخل
رحم أمي؟“