طوَّر إريش فروم، في عودته إلى كلٍّ
من ماركس وفرويد، مفهوم الاغتراب
alienation ورَبَطَه بخبراته ومعالجاته السريرية، منطلقًا من نقطة مركزية
أكدت على الترابط الجدلي بين الإنسان ومحيطه. ربط فروم ذلك كلَّه
بتوجُّه أخلاقي ونفسي، ليس وليد الصراع
الاقتصادي (كما قال به ماركس)، وليس نتاج
الصراع الجنسي
(كما نظَّر له فرويد)، بل هو نتاج أمور وجودية، شخصية الطابع، اجتماعية
المنشأ، وَضَعَها في إطارها الإنساني الأوسع.
والاغتراب، كمفهوم ذي دلالات،
يمثل نمطًا من تجربة يشعر فيها الإنسان بالغربة عن الذات: فهو لا يعيش ذاته
كـ"مركز" لعالمه أو كصانع لأفعاله ومشاعره. ومعاني الاغتراب متعددة، اجتماعية
ونفسية واقتصادية؛ ويمكن إجمالُها في انحلال الرابطة بين الفرد والمجتمع، أي العجز المادي عن
احتلال المكان الذي ينبغي للمرء أن يحتلَّه وشعوره بالتبعية أو بحسِّ
الانتماء إلى
شخص أو إلى آلية أخرى، فيصبح المرء مرهونًا له/لها، بل مستلَبًا
alienated. وهذا ما يولِّد شعورًا داخليًّا بفقدان الحرية والإحباط والتشيؤ والتذرِّي والانفصال
عن المحيط الذي يعيش فيه.
ثمة في تاريخ الفكر الاجتماعي
والفلسفي إرهاصات في الأديان الكبرى، كاليهودية والمسيحية وغيرهما، تفسِّر
الاغتراب بكونه انحلال الرابطة بين الإنسان وربِّه. غير أن تفسير مفهوم
الاغتراب في العصر الحديث يعود إلى روسو وهيغل وماركس وفروم. من جهته، أكَّد
هيغل على مفهوم
الحرية كتحديد لماهية الإنسان، التي تعني المصالحة
بين الإنسان ومحيطه، وكذلك بين الإنسان والطبيعة. ويعود هذا المفهوم
إلى الفلسفة اليونانية. فالدولة الرومانية، مثلاً، جعلت الدولة فوق الأفراد الذين
يخضعون لها، وهي بداية الاغتراب. كما تكلَّم هيغل على انفصال
الإنسان عن ثقافته: فالثقافة
بما هي حياة للروح، لما لها من أهمية في تحديد موقع
الفرد من ذاته،
فإن الإنسان، بينما يعيش ثقافته مع ذاته، يزداد الاغتراب عنده؛ أي أن
الروح تفشل في التعرف
إلى ذاتها في عالمها الموضوعي.
أما ماركس، فقد ربط الاغتراب
بالعمل المأجور وتَمَوضُع الإنسان بالنسبة له. فالإنسان ينتج عملاً لكنه يصير
عبدًا له، بمعنى أنه يشعر بالغربة عما تنتجه يداه. وتتفاقم هذه الغربة إذا
علمنا أن في العمل إمكاناتٍ حقيقيةً لتفتِّح طاقات الفرد وتطوُّره. وهكذا حوَّل
ماركس الاغتراب من ظاهرة
فلسفية ميتافيزيقية، كما كان عند هيغل، إلى ظاهرة
تاريخية لها أصولها التي تنسحب على المجتمع والعلاقات الاجتماعية
والاقتصادية. وبهذا استعمل ماركس مفهوم الاغتراب
لوصف اللاأنسنة
dehumanization
التي تنجم عن تطور
علاقات الإنتاج
في المجتمع
الرأسمالي.
يستعيد مؤلِّفون كُثُر، بينهم
هربرت ماركوزي
ورايت ميلز وإريش فروم، ثيمة الاغتراب عن الذات في صور عدة. فمافتئ الإنسان يخضع
لأنواع من الصنمية والتشيؤ تُبعده عن ذاته وترميه فريسةً في أشداق الآخرين.
وهناك اغتراب سياسي يعود إلى تسيُّد إيديولوجيا ثابتة
وتقديسها أو الإذعان لكاريزما زعيم بعينه: إذ تتمحور القيم حول عبادة الشخص
وتقديسه أو تقديس السلطة واعتبار الحياة الفردية وهمًا. وهذا النمط من الحياة
يحوِّل الإنسان إلى أداة همُّها الأساسي الكد لنيل رضا السلطة فقط؛ فيفقد
الإنسان حريته ويصير مغتربًا عن ذاته. بذا تنتفي الحرية ويزداد
الاغتراب.
والحال، لا شيء يحول دون
استعمال مفهوم الاغتراب لوصف الشعور بالعجز والإحباط الذي يتملَّك
الفرد، كما في
المجتمعات الصناعية التي تستلب الإنسان، فلا يعود قادرًا على وعي شقائه. وهذه
الفكرة لا تنفصل عن صيغتها المعروفة، وهي فكرة "الوعي الخاطئ" وبدائلها
الوظيفية. مثال على ذلك التعارضُ بين البصير وجمهور العميان، الذي يحمل فكرة
حُبلى بكلِّ ما هو توتاليتاري. يقول فروم:
تعتقد أنك سعيد، وذلك نتاج وعيك الخاطئ. لديك انطباع بأنك حر، وهذه
إشارة لا تخطئ أبدًا: فأنت مستلَب. أنت ترى أبدًا القيود التي تخنقك، وذلك
برهان على دقَّتها وفعاليتها.
ومن فكرة الوعي الخاطئ تُشتَق
فكرة الاغتراب.
يشعر الفرد بأن إيجاد معنى
لوجوده أشق عليه في المجتمعات الصناعية منه في مجتمعات أخرى. لذا فإن
الامتثال
conforming
يشكل قاعدة
الاغتراب التي تُمْليها شروط، تتصدَّرُها الشروط الاقتصادية من الخارج
والشعورُ بوجوب الامتثال من الداخل. وقد تكون الفلسفة
الوجودية أمْلتْ مثل هذه الأفكار بما روَّجت له
من تأثير الجماهير أو فكرة "الحشد" أو حتى الرأي العام، الأمر الذي
جَعَلَ الأفرادَ أسرى الجماعة.
وعلى المستوى النظري، لا تختلف
نظرية هيدغِّر كثيرًا عن ذلك:
الذات لا تتعرف
إلى نفسها إلا من خلال ذات أخرى تُماثلُها من خلال صراعهما. لكن اللافت، على
الرغم من وجود تيارات دينية واجتماعية ونفسية تتنازع الذات، أن الدعوة إلى
الانصياع باتت هي الأقوى، بحيث صار الإنسان أسير موقعه وما يفرضه عليه هذا
الموقعُ من الخارج، فصار "ذا بُعد واحد" one-dimensional (ماركوزي).
وإذا كانت المساواة حلمًا قديمًا دعت
إليه تيارات فلسفية ودينية واجتماعية، فإن معناها تغيَّر الآن: صارت
المساواة "مساواة"
بالنسبة إلى الآلة وإلى آلية العمل وتوجُّهات السوق وتسلُّط العلم التطبيقي والتقنية التي باتت تقوم الآن
مقام السلطة،
وتحوَّل النشاط المُذعِن إلى نشاط آلي ينساق عبره الفرد لاغترابه بشعور داخليٍّ
غير موعيٍّ.
وهكذا فإن النظام الرأسمالي أسهم مباشرة
في تعزيز الشعور بالغربة، إذ صنع مجتمعًا استهلاكيًّا يجتث الإنسان من جذوره
ويُخضِعُه لنظام لا علاقة له به. فهو لا يقف عند حريات الأفراد أو قناعاتهم
وحسب، وإنما يسوقهم جميعًا بعصًا واحدة، فيحوِّل الأفراد إلى "جماهير"، أي
إلى جماعة غير واعية. وعلى الفرد، وسط هذا الحشد، أن
يمتثل ويطيع فقط من دون تساؤل ولا إعمال نظر.
وفي هذا المجتمع الاستهلاكي، يصير
الحب آليًّا،
مثله في ذلك كمثل العمل الآلي، وبذلك يفقد الإنسانُ الشعورَ الجميلَ بالحب؛ إذ إن أنانيته وسعيه
إلى الامتلاك يجعلان من حبِّه مسعًى إلى الامتلاك هو الآخر، فيتعامل مع شريك
حياته وصديقه وقريبه كما يتعامل مع مجتمع آلي. بذا يتحول حبُّه إلى "مخدر"
لتأمين استمرارية حياته؛ كما يتحول الاغتراب من قضية فردية إلى ظاهرة
اجتماعية عامة.
وعلى الرغم من تشاؤم
فروم
عمومًا، فقد آمن بقدرة الإنسان الفرد على صنع حياته
ومصيره والتأثير في مجتمعه وتغييره إلى حدٍّ ما. غير أن إرادة التغيير لا
تكفي لصنع التغيير، بل لا بدَّ من الوعي
بالذات والتصعيد
sublimation والتحول
إلى الإنتاج غير الاستهلاكي، بما يتيح إمكانات للانتصار على الاغتراب، مع
التأكيد على الجانب النفسي عند الأفراد. ذلك أن وعي الأزمة هو جزء من
حلِّها.