تأمُّلات موجزة في
العلاقة بين الأديان
من الحرب إلى السِّلم*
جورج
جبور**
مخطَّط
الورقة
- في منهج التأملات
ومخطَّطها
- ما هو الدين؟
- الحرب في العلاقة بين
الأديان
- السِّلم في العلاقة بين
الأديان
- ختام: من أجل مزيد من
السِّلم في الأديان وفيما بينها
أولاً: في منهج
التأملات ومخطَّطها
إذا
كان من المفيد أن تسود المجاملاتُ لدى الحديث
عن العلاقة بين الأديان – فإبراز المجاملات
أفضل من إشهار الخلافات! – إلا أن من الأفْيَد
قطعًا الوقوفَ بكلِّ موضوعية عند دراسة
العلاقة بين الأديان، كما يقضي بذلك علمٌ
جليل الشأن، قديم قِدَمَ الحضارة البشرية،
متجدِّد على نحو أكثر علمية منذ عصر الأنوار،
هو علم الأديان المقارن. وترجو هذه التأملات
أن تنهج ذلك المنهج.
ومن
متطلبات الموضوعية في علم الأديان
المقارن الإلحاحُ على الدين كظاهرة فلسفية–اجتماعية
تقبل أن يعالجها العقل. وإذا كان علم
الأديان المقارن يتسع لاحترام اللاهوت
الديني – واللاهوت غيبي بطبيعته – فإنه
أيضًا – بل وبالدرجة الأولى، ومن حيث هو علم
– يتعامل مع الواقع الملموس كما تطوَّر عبر
التاريخ، وصولاً إلى ما هو عليه اليوم.
وكلمة
"تأملات"، التي تظهر أولى في عنوان هذه
الورقة، تحمل بمقدار ما معنى الاعتذار.
فالورقة ليست دراسة موثَّقة تستفيد من ثروات
الفكر الإنساني في معالجته موضوعًا قديمًا
متجددًا، خطيرًا في كلِّ حال. فمثل تلك
الدراسة يتطلب جهدًا لست بقادر على بذله، على
الرغم من أنني أتوق إلى بذله منذ عقود، وأتمنى
أن تُتاح لي ظروفٌ أكفي بها توقي هذا. "تأملات"
اليوم ثمرة اجتهادات شخصية، أرجو أن يكون
لكلٍّ منها أجران. ويهمني أن أصرِّح، منذ
البداية، أنني مؤمن بجلال الأديان، مفعم
باحترامها.
وفي
مخطَّط هذه التأملات أبدأ بالوقوف عند تعبير
"الدين"، ثم عند علاقة الحرب بين
الأديان؛ أنتقل منها إلى علاقة السِّلم فيما
بينها؛ أما الجزء الأخير من التأملات فخاتمة
مختصرة.
ثانيًا: ما هو الدين؟
يتألف
كلُّ دين من جذر غيبي يؤمن به كلُّ متديِّن؛
ينبثق منه، أو يُضاف إليه، نظامٌ أخلاقي
تنبثق منه، أو تُضاف إليه، في معظم الحالات،
قواعدُ عملية للسلوك اليومي.
والأصل
في الدين أن يكون الترابط وثيقًا بين الجذر
الغيبي، من جهة، وبين النظام الأخلاقي وقواعد
السلوك اليومي العملية، من جهة ثانية. أي أن
الأصل في الدين أن ينبثق النظامُ الأخلاقي
وأن تنبثق قواعدُ السلوك من الجذر الديني. إلا
أن ثمة مَن ينظر إلى هذه العلاقة على أنها
علاقة إضافة، ليست لازمة بالضرورة. بكلمات
أخرى: يرى البعض أن الجذر الديني إنما يأتي من
عالم ما وراء الطبيعة؛ أما النظام والقواعد
فعالَمُ الواقع مصدرُها.
ثم
إن كثيرًا من الأديان تُسنِد الجذرَ الغيبي
إلى قوى مجهولة، بشرية أو غير بشرية. إلا أن
الأديان الكبرى تُسنِد الجذرَ الغيبي إلى
الله، وتُسنِد معه إلى الله أيضًا النظامَ
الأخلاقي وقواعدَ السلوك اليومي العملية. هذه
الأديان الكبرى هي المعروفة باسم "الأديان
السماوية" و/أو "التوحيدية"؛ وهي ذات
الأثر الأكبر في التوجُّهات الدينية السائدة
في عالمنا. وعددها ثلاث، وهي، بترتيب نزولها
من السماء: اليهودية والمسيحية (أي النصرانية)
والإسلام. وهذه الأديان الثلاثة هي التي تركز
عليها هذه التأملات.
ثالثًا: الحرب في
العلاقة بين الأديان
الدين
السماوي (التوحيدي) الأول تاريخيًّا هو اليهودية؛
وأثرها ظاهر في الدينين السماويين اللاحقين.
ومن حيث إن اليهودية هي الأولى تاريخيًّا فهي
لا تعترف بالدينين الآخرين – على الأقل
بمقتضى ما تراه غالبيةُ المؤمنين بها.
واليهودية، بما أنها الأقدم، فهي بين الأديان
الثلاثة أقلها وضوحًا، وأكثرها خضوعًا
للتفسيرات والتأويلات المتباعدة.
أما
المسيحية فقد كانت ترى نفسها في السابق
على أنها نَقْضٌ تجديدي لليهودية، يغلب فيه
جانبُ النقض على جانب التجديد، بل ويكاد أن
يسحقه. وقد اكتسبت المسيحية صفتَها كدين على
يد القديس بولس في مدينة أنطاكية السورية،
حيث أخذ المسيحيون يُدعَوْن "مسيحيين"
للمرة الأولى. ثم إن علاقة اليهودية
بالمسيحية تطورتْ عبر العصور، حتى انتهى بها
الأمر، ولاسيما في نظر معظم المسيحية
الغربية، إلى تغليب جانب تجديد اليهودية فيها
على جانب النقض. والحديث في هذا الأمر يطول،
وليس مكانه الأمثل هنا.
والمسيحية،
من حيث إنها دين سابق تاريخيًّا للإسلام،
فهي، كما يرى معظم المؤمنين بها، لا تعترف
بالإسلام. ثم إن المسيحية أوضح من اليهودية؛
ولعلها أقل منها خضوعًا للتفسيرات
والتأويلات المتباعدة (والحرف المشبَّه
بالفعل "لعل" هنا أساسي، يشير إلى صعوبة
معيارية).
ثم
إن الإسلام ثالث الأديان السماوية
تاريخيًّا. والمؤمنون به يرون أن "الدين
عند الله الإسلام"، وأن "مَن يبتغي غير
الإسلام دينًا فلن يُقبَل منه". والنظرة
الإسلامية الأساسية ترى أن الإسلام يَجُبُّ
الدينين السابقين، وبه يتجسَّد الكمالُ
الديني؛ وهو الذي يصون الدينين السابقين له
تاريخيًّا ويحتضنهما ويستوعبهما عن طريق
نَزْعِ ما لَحِقَ بهما من "تحريف". وهكذا
فالإسلام يعترف باليهودية وبالمسيحية، ويرى
أن الإسلام كمالهما. وبما أن الإسلام تنزَّل
بعد الدينين الآخرين فهو أوضح منهما، وقد
يكون أقلهما خضوعًا للتفسيرات والتأويلات
المتباعدة (وحرف "قد" هنا أساسي، يقوم
بمهمة حرف " لعل" في الفقرة سابقة).
كيف
كانت العلاقة بين الأديان السماوية الثلاثة
– وهي تمثل معظم مساحة التديُّن في الحضارات
التي لعبت الدور الأول في تاريخ البشرية خلال
ما يقرب من ألفي عام؟
كانت،
في معظمها، علاقة حرب. ولا يخطئ كثيرًا من
يقول بأن الأديان – السماوية منها بخاصة –
كانت المسؤولة الأولى عن سفك كثير من الدماء.
ولعل أهم مظهر لعلاقة الحرب بين الأديان كانت
الحروب الصليبية التي دعاها العرب والمسلمون
باسم "حروب الفرنجة". صحيح أنه كانت لهذه
الحروب أسبابُها السياسية والاقتصادية؛ إلا
أن من الواجب دائمًا أن نتذكر أن هذه الحروب،
كان أوَّلَ من دعا إلى شنِّها البابا
أوربانوس الثاني.
ثم
إن المنطقة العربية تشهد، منذ نهاية الحرب
العالمية الأولى، حالة مستمرة من سفك الدماء.
في بلاد الشام، على نحو خاص، كان ثمة جنرال
بريطاني هو أللنبي، رأى أن احتلال جيشه للقدس
وضع نهاية لحروب الفرنجة؛ في حين أن زميله
الجنرال غورو الفرنسي كان يفتخر دائمًا بأنه
ينجز مهمة الصليبيين. كذلك فإن العدوانين
اللذين يهيمنان على الأخبار في أيامنا هذه –
وهما العدوانان على فلسطين والعراق – إنما
ينظر إليهما عديدٌ من العرب والمسلمين على
أنهما عدوانان مترَعان بكُرْه دينيٍّ يهودي
ومسيحي غربي ضد الإسلام.
وللحرب
في العلاقة بين الأديان مبرِّرُها الديني
المُحْكَم: فالمؤمن بدين معيَّن يرى أن دينه
هو الحق – بل الحق الأوحد. ومما يترتب على
إيمانه بأن دينه هو الحق الأوحد واجبٌ يقع
عليه، مؤدَّاه أن نَشْرَ دينه مهمةٌ دينية
وإنسانية معًا، وأنه، إذ يقوم بهذه المهمة،
فهو يقوم بها لصالح غير المؤمن كي يوصل إليه
الإيمان، على الرغم مما قد يتعرَّض له هذا
المضطَّلِع بالمهمة من أذى. وفي المسيحية
والإسلام – وهما دينان للحياة الآخرة مكانٌ
رفيع في بنيانهما – كان إنقاذ الآخر غير
المؤمن من عذاب النار عن طريق الحرب حجة نبيلة
جدًّا. ولعل أهم آخر مؤمن بهذه الحجة هو
الرئيس جورج بوش الذي يفتك بشعب العراق رغبة
في "تحريره"، لكي ينال حياة أخرى
ديموقراطية! وأكتفي بهذا القدر من جزئية
دعتْني الهيئةُ الداعية لأعالج نقيضها.
رابعًا: السِّلم في
العلاقة بين الأديان
ينبثق
السِّلم في العلاقة بين الأديان من جذرين
متكاملين: الجذر الأول داخلي في كلِّ دين،
مؤدَّاه احتفاءُ كلِّ دين، على حدة، بالسِّلم.
حتى إنه يمكن القول إن الدين والسِّلم
مترادفان، وإن السِّلم قيمة دينية، على
الرغم من اختلاف بيِّن في مفهوم السِّلم. يتيح
الدين سلمًا داخليًّا في نفس المؤمن، ويتيح
السِّلمَ بين المؤمنين. أما السِّلم مع غير
المؤمنين فأمر ملتبس في معظم الحالات. وهنا
نأتي إلى الجذر الثاني.
مؤدَّى
هذا الجذر – وهو خارجي في طبيعته، إذ ينصرف
إلى علاقة دين ما بدين آخر – أن الأديان
كلَّها من عند الله، وأنها تمثل رسالة واحدة
اختلفتْ أساليبُ إيصالها إلى الناس،
فتعدَّدت الأديان، أو بالأصح، "تعدَّدت
الرسل والدين واحد". هذا الجذر الثاني إسلامي
بالدرجة الأولى؛ وهو كذلك لاهوتيًّا
وتاريخيًّا. وجاءت إليه المسيحية – أو إلى
معظمه – بعد فترة من ولادتها. ولعل اليهودية
لم تبلغه في الغالب من اتجاهاتها.
ومن
الممكن، بالطبع، أن نردَّ إلى التاريخ
الاختلافَ بين الأديان السماوية في تراتبية
تبنِّيها لهذا الجذر. فمن البديهي – تقريبًا
– عدم اعتراف الدين السابق بالدين اللاحق؛
ومن البديهي – تقريبًا أيضًا – اعتراف الدين
اللاحق بالدين السابق.
بمقتضى
الجذر الأول، يمكن القول إن كلَّ دين يسعى إلى
السِّلم. فمن الواضح أن احترام الحقِّ في
الحياة إنما هو اللبنة الأولى في كلِّ دين.
ومؤدَّى هذه البديهية أن قتل النفس البشرية –
وهي التي خلقها الله – محرَّم على كلِّ مؤمن
في تعامُله مع أيِّ ابن من أبناء البشر، سواء
كان هذا الابن مؤمنًا بدين المؤمن ذاته، أو
مؤمنًا بدين أخر، أو غير مؤمن بأيِّ دين.
وتتناقض
هذه البديهية مع بديهية أخرى لا بدَّ لكلِّ
مؤمن من أن يؤمن بها، وهي أن من واجب المؤمن
هدايةَ غير المؤمن بكلِّ سبيل ممكن، بما في
ذلك الإكراه الذي قد يصل إلى حدِّ القتل،
المتناقض حتمًا مع السِّلم. من هنا، إذن، يعود
الجذر الأول إلى التكامل والتناقض مع الجذر
الثاني.
لكن
كيف يمكن التوفيق بين الجذرين، ولاسيما على
الصعيد اللاهوتي؟ وما هي الخبرة التاريخية في
هذا المجال؟
لليهودية
إله قاسٍ، قَبَلي، يأمر بتدمير الآخر. ورغم
كثرة التأويلات التي يزداد تداوُلها للتخفيف
من قسوة ذلك الإله، إلا أن من الشائع أن
اليهودية، في معظم اتجاهاتها، لا تقبل ما
يمكن له أن يُدعى بأنصاف الحلول. ولعل آخر
دليل على صحة هذا التحليل ما أثاره كتابٌ
لحاخام بريطانيا الأكبر قبل أشهر من ضجيج
بسبب محاولته التخفيف من شعور معظم اليهود
بالاستعلاء على المؤمنين بأديان غير
اليهودية.
أما
المسيحية فهي، لاهوتيًّا، دين سلم بامتياز،
على الرغم من إشارة السيد المسيح – عليه
السلام – إلى "السيف" في بعض ما نُسِبَ
إليه من حديث. وقد استمر السِّلم ميزةً مسيحية
عبر حِقَبها الأولى، وقبل أن تصبح دينًا
للدولة. ثم هجر الحكمُ المسيحي طبيعةَ
المسيحية السِّلمية منذ ذرَّ الخلافُ
السياسي (المتلفِّع بلباس لاهوتي) قرنَه بين
مذهبَي الطبيعة الواحدة (الإلهية) للمسيح
والطبيعتين (الإلهية والبشرية) – وكلا
المذهبين مسيحي بامتياز. ثم كانت، بعمل
مسيحي، أطول حروب دينية في التاريخ، وهي
المعروفة في الغرب باسم "الحروب الصليبية"
وعند العرب والمسلمين باسم "حروب الفرنجة".
كذلك عرفت المسيحية في تاريخها عنفًا شرسًا
في فترة حروب المذاهب المسيحية، منذ "احتجاج"
لوثر – تلك الحروب التي تُوِّجَتْ في العام
1648 بصلح وستفاليا؛ وهو صلح يمكن لنا اعتباره
تعايشًا سلميًّا بين الإيمان بمذهب مسيحي
معيَّن وبين قبول شرعية وجود مذهب مسيحي
مختلف.
ثم
إن المسيحية دين "مرتاح"، لأنها الدين
الأول في العالم من حيث عدد الأتباع، ولأن
الحضارة التي يمكن وصفُها بأنها "مسيحية"
هي الحضارة الأولى امتدادًا في العالم؛ وقد
تماهت مع الحضارة الغربية التي هي – بنظر
كثيرين – مرجعية أولى قوةً وتقدمًا. وبما أن
المسيحية دين "مرتاح" فقد أصبحت مثالاً
للسِّلمية وللتسامح في سياق تاريخي منسجم مع
أفقها اللاهوتي الأصلي – لولا ما يفصح عنه
اتجاه أقلَّوي فيها، بدأ بالبروز منذ نحو من
ثلاثة قرون، واشتد خاصة منذ نحو من ثلاثة
عقود، يرى في إيمانه المسيحي رسالة سماوية
يجب فرضُها على العالم. وهذا الاتجاه
الأقلَّوي خطير جدًّا الآن لأنه مسلَّح
بأسلحة الدمار الشامل، وهو غير متصالح مع
الاتجاهات المسيحية الأخرى، ولا مع الأديان
الأخرى. ولعل بطله الراهن شخص يقال إنه يؤمن
بأنه يتلقَّى وحيًا مباشرًا من السماء! يبدو
هذا البطل كأنه يصنِّف قداسة البابا – رمز
السِّلم والمسيحية الأول في العالم – رأسًا
للإرهاب، بموجب قوله الشهير (الهاء عائدة
للبطل) الذي نطق به لأول مرة غداة الحادي عشر
من أيلول 2001 بأن "مَن ليس معـ[ـه] فهو مع
الإرهاب"، وكرَّر إصراره على ذلك التصنيف
مرات عدة منذئذٍ، آخرُها قبل بضعة أسابيع.
آتي
آخرًا إلى الإسلام. يمتاز الإسلام بأن جذره
اللاهوتي توضَّح في مكة إبان اضطهادها
الدعوةَ السماوية. في ظلِّ تلك الظروف، كان
نصارى مكة (و/أو المكيون المتأثرون
بالنصرانية) هم الحلفاء الطبيعيين للدعوة
النبوية. ثم إن الإسلام تحالَف في المدينة مع
اليهود على أساس "جبهة" يقودها النبي (صلى
الله عليه وسلَّم). وما تزال "صحيفة المدينة"
فتحًا رائعًا في تاريخ الفكر الدستوري. ومن
وجهة نظر إسلامية، يتضمن الإسلام كلاً من
اليهودية والمسيحية. صحيح أن اليهودية
والمسيحية المتضمَّنتين في الإسلام ليستا
بالضبط اليهودية والمسيحية كما ترى
اليهوديةَ أكثريةُ اليهود والمسيحيةَ
أكثريةُ المسيحيين؛ إلا أن بُعد الفهم الإسلامي
لليهودية والمسيحية عن اليهودية والمسيحية
ليس أكثر من بُعد ذلك الفهم عن بُعد بعض
الفئات اليهودية فيما بينها وعن بُعد بعض
الفئات المسيحية فيما بينها.
ونظرًا
لأن الإسلام يعتبر نفسه تعبيرًا عن اليهودية
الحق والمسيحية الحق، واعتمادًا على ما
وَرَدَ في آيات كثيرة من تسامُح في سبيل نشر
الدعوة ("لا إكراه في الدين"، "وجادلْهم
بالتي هي أحسن"، إلخ)، وانسجامًا مع التفتح
الفكري الذي أتى به علمُ الكلام (وأصله من
القديس يوحنا الدمشقي، كما يرى البعض)، فقد
تطورتْ في الإسلام التاريخي ظاهرةٌ فريدة من
نوعها، هي ظاهرة المناظرات الدينية (ولاسيما
بين المسلمين والمسيحيين)؛ وهذه قد تميزتْ
بهامش حرية كبير، يكاد، في أحيان كثيرة، أن
يحجب حقيقة أن هذه المناظرات إنما كانت تتم في
ظلِّ سيطرة إسلامية. ومن اللافت للنظر أن
المأمون – الخليفة الفيلسوف – كان أكثر
تسامُحًا مع المسيحيين في مناظراته منه في
مناظراته مع خصوم المعتزلة من المسلمين.
ما
هو الوضع الراهن للسِّلم بين الأديان في عالم
اليوم؟
رغم
رسوخ جذر لاهوتي (غيبي) في كلِّ دين، ثابتٍ في
يقين المؤمنين به بأنه الدين الأفضل، وبأن من
الواجب الإعلان عن ذلك ودعوةُ الآخرين إلى
الإيمان به، سواء عن طريق التبشير أو الجهاد،
إلا أن الأديان السماوية كلَّها (وغير
السماوية أيضًا) تتفق على نقاط كثيرة ذات
علاقة بالنظام الأخلاقي وبقواعد السلوك
اليومي. وهي أيضًا تتفق على تقديس الحقِّ في
الحياة وما يعنيه هذا الحقُّ من مناهضة للحرب
والتزام بالسِّلم. وثمة اتجاه ثابت بارز
جدًّا في المسيحية والإسلام – ولعله أقل
بروزًا في اليهودية – يؤكد على تغليب
المشترَك وإضعاف غير المشترَك.
ومن
الممكن دائمًا، في تبيان أهمية السِّلم في
الأديان وفيما بينها، الاستشهادُ بالآيات
الكثيرة التي تحفل بها الكتب السماوية
للدلالة على ما سبق. بل إن هذا الاستشهاد أصبح
"رياضة" يومية في الحوارات بين الأديان.
ونظرًا لشيوع هذه الظاهرة المفيدة أكتفي في
حديثي هذا بمجرد الإشارة إليها.
باختصار:
فيما عدا أقلية لا يُعتَد بها عدديًّا، تبدو
علاقة السِّلم بين الأديان على أحسن ما يرام،
وتبدو على أتمِّ انسجام مع مبادئ حقوق
الإنسان. وتقف رموزٌ مسيحية وإسلامية كثيرة
أنموذجًا في الدعوة إلى السِّلم – وفي
الطليعة منها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني.
إلا أن الأقلية العددية قد تكون خطيرة في بعض
الأحيان؛ ويأتي خطرُها مما يُدعى بـ"أصوليَّتها"،
سواء كانت أصولية يهودية أو مسيحية أو مسلمة.
خامسًا: ختام: من أجل
مزيد من السِّلم في الأديان وفيما بينها
يبدو
لي أن معظم المؤمنين منشَدُّون إلى السِّلم
في الأديان التي يؤمنون بها، راغبون في إقامة
العلاقة بين أديانهم على أساس السِّلم. ولعلي
لست مخطئًا إذا قلت إن معظم المؤمنين يركزون
في العلاقة المتبادلة بين أديانهم على تماثُل
النظام الأخلاقي وعلى تماثُل قواعد السلوك في
كلِّ الأديان، ولاسيما في المسيحية والإسلام.
وفي حياتنا اليومية، كما أراها في سورية وفي
البلاد العربية التي أعرفها، بل وفي العالم
الذي أعرفه، يكاد يستحيل التمييز بين المسيحي
الجيد والمسلم الجيد والمواطن الجيد
والإنسان الجيد. وإذا كانت بعض المسائل
اللاهوتية ما تزال غير محسومة – وهي في
المنطق الجادِّ غير قابلة للحسم – فإن الرغبة
في بناء العلاقة بين الأديان على أساس
السِّلم تتقدم في مرتبة الأهمية لدى المؤمنين
على كلِّ أمر آخر.
وإذا
صحَّ لي أن أوجز في كلمتين كلَّ ما وددت
التعبير عنه من خلال هذه الورقة لقلت: إنني
أشهد مزيدًا من التماهي بين الديانات وبين
مبادئ حقوق إنسان؛ وهو تماهٍ من الواجب
دعمُه بكلِّ وسيلة ممكنة، لِما فيه خير
الإنسان قبل كلِّ أحد.
*
ورقة مقدَّمة إلى الندوة الدولية عن "الإسلام
والسلام" (تونس، 15-17/4/2003)، بتنظيم وزارة
الشؤون الدينية، بالاشتراك مع منظمة
المؤتمر الإسلامي، برعاية الرئيس زين
العابدين بن علي.
**
عضو مجلس الشعب السوري ومحاضر في الدراسات
العليا، كلية الحقوق، جامعة حلب.